أول القصيدة سؤالها
ماالذي يصلُنا بالقصيدة؟ وأي مأمول يمكن تبيّنه أو توقعه في أصل القصيدة؟ وهل في مقدور القصيدة الصامتة، الخرساء، البكماء، والعمياء، أن تمنحنا مقدرة على أن نسمع، أن نستنطق، وأن نرى ما بداخلنا؟ أتراها وجَدت نفسها مخلوقة من كلّية الإنسان، وليس من " ضلع " له، كما هو التصور الميثولوجي للديني لأصل التكوين، لتُعطى مثل هذه المكانة، أو الرتبة الجامعة المانعة؟
إنها القصيدة التي لا بد أن يكون لها طعم خلوديّ، وصدى لروح تترجم معالم الجسد من الداخل، وهي التي تكون متمتعة بميزة الخصوبة، لتكون " منجبة " لكل ما يشغلنا روحياً ووجدانياً !
هي وحدها ما يخوَّل لها لأن تعرَف بالماسة التي تشكر النار مراراً لأنها منحتها صفتها المعتبَرة.
بالصيغة هذه يكون " التانغو " بتنوع مكوناته، أو روافده داخلاً وخارجاً، هو مستوحى القصيدة هذه، ومعتمدة عصباً مركزياً لها، وهي تجمع بين الحركي والفكري في الصميم.
لمن السؤال الذي يطرح نفسه،هو: ماالذي يسوّغ مثل هذا الحديث، وبعد مقدمة، تعتبَر، متناسبة معه، عنه، وما يمثّله من أهلية دلالات ومعان، وبيننا مسافات شاسعة واسعة ؟
ثمة ما هو إنساني صلةَ نسَب، حيث من الصعب إدعاء تمثيل أي جانب من جوانبه، إنما هو تمثيل المشترَك الروحي الذي يشغل الكوني فينا من خلال ما يعرَف برقصة التانغو، وما يجعل القصيدة عينها جسداً راقصاً، كما هو الحديث عن قصيدة" الهايكو " اليابانية وكما هو الحديث عن ذلك الكردي الذي يغني بطريقة لا يعرف عمق مأثورها سواه أي " dengbêj " الكلمة التي لا تترجَم إلا إلى ذاتها، صوتاً وحركة تعبيراً عن معاناة لها محليتها ونسبها الفني الخاص.
من هنا، فإن الاهتمام بالتانغو، يتمثل في تلك الروح المقاومة وجودياً، وهي التي ترتد إلى تاريخ شائك وصعب ومعنىًّ من العلاقات الإنسانية ، وانجراحاتها اجتماعياً وسياسياً.
ولا بد أن كتاب " تانغو فضة الكلام " يقدّم لنا أشبه بالبانوراما للكثير مما يكوّن عالم التانغو في التمثيل الفني المقروء: الشعر الأرجنتيني في مختارات منه.
ولأهمية هذا الموضوع، أتوقف عند التانغو، وكيف يمكن تنويره بعناصره الرئيسة، ليكون أكثر تعبيراً عما يشغلنا في وجود يوحّدنا معاً، ويفرّق فيما بيننا، في ثقافاتنا الإنسانية المختلفة.
ماذا في سجل " تانغو " كتعريف قبل بلوغه شعراً ؟ " 1 "
ما يلفت النظر في التقديم للمختارات، هو أن المعدّة والمترجمة لها، تسلط الضوء، وبكثافة، على القصيدة الأرجنتينية، نشأة وترعرعاً وسمات، وعلى مدى عشر صفحات" 7-16 " تقريباً، دون التطرق إلى " التانغو " ودلالة " التانغو " مباشرة وما يلي العنوان كتوضيح " فضة الكلام " وخاصية الجمع بين ما هو معدني وما هو لغوي، شعري هنا، والبعد التأسيسي في العلاقة بينهما، محيلة القارىء إلى سرد تاريخ موجز عما تمثّله القصيدة الأرجنتينية تاريخياً للروح الأرجنتينية.
من ذلك ( سأسلّط الضوء على مراحل أساسية في تطور القصيدة الأرجنتينية وشكلها وأسلوبها والعوامل التي أثَّرت فيها بدءاً من فترة الاكتشاف ...ص 8 ...مروراً بحقبة حكم التاريخ الإسباني..ثم مرحلة ثورة مايو وما بعدها ضد الغزو الإسباني..ص 9 ).
لتضعنا في الطريق الذي يخرجنا من القرن التاسع عشر، لخبرنا بـ ( ولادة ظاهرة شعرية لا مثيل لها، فمن هذه الأميركا التي كانت قد بلغت للتو سنَّ الرشد، وانعتقت من الوصاية الإسبانية انطلقت لأول مرة نهضة شعرية موضوعية ورسمية داخل اللغة الإسبانية اتخذت من بوينس آيرس مركزاً لها..ص 9 ).
ولتتوقف عند الحداثة في هذا الشعر، حيث ( عبَّرت الحداثة عن الرغبة في التغيير، وكانت لها ردة فعل تجاه التعبير السهل مقابل ميولها نحو البراعة..ص10)..
وتضيء صورة بورخيس الشاعر الأرجنتيني الكبير في هذا المضمار، في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ( ابتكر أسلوباً ريادياً خاصاً به، أتاح من خلاله فرصاً ريادية للشعراء الشباب في الأرجنتين. ص 11).
تالياً، كما هي الحياة في متغيراتها( فترة الأربعينيات من القرن العشرين تميزت بالتقاء الشعر والشعراء والشعرية التي غيَّرت منحى الغنائية في ذلك الوقت. ص 12 ).
وما يجعل من المعاناة البوتقة الكبرى لتفجير طاقات شعرية، إذ ( من عمق الحاجة إلى شاهد، إلى ترك أثر والرغبة الحتمية في فتح الباب للمشاعر المتعددة واستعادة حرية الكلام ولدت النصوص الشّعرية داخل السجن..ص 14 ) .
لتنوه تالياً، إلى مسار تحوُّلي في القصيدة الأرجنتينية حيث إنها ( تجلَّت في طابع مقاوم حيوي في المكان يميل بالأحرى إلى تعقيم الإبداع وسلب الإنسان إنسانيته وقدرته على تحديد موقعه في اللحظة التاريخية التي وجد نفسه فيها. ص 15)
وما يصلنا بنقطة بارزة حيث ( حملتْ أعوام التسعينيات الشعرية اسم القصيدة الموضوعية التي تصنّف على أنها ذات لكنة قومية بما يسبّب الدوار..ص 15)..
وما يبقي الباب مفتوحاً، فـ( في كل حال مازال القرن جارياً، ومازال العمل الذي نوّه إليه خليمان في العبارة التي تتقدَّم هذا المدخل إلى القصيدة الأرجنتينية قائماً ومستمراً..)، ما يمكن الخلوص إليه حيث القصيدة ( هي الذاكرة فحسب، قيامة الماضي، استحضار المستقبل..ص16).
يظهر من خلال هذا المدخل، أن " العوض " استعارت مفردة التانغو، تعبيراً عما هو حيوي وحامل بنيوي وواسع الطيف لمفهوم الشعر، وليس ما يضيء الكلمة تاريخاً وحياة، كما توحي الكلمة عنواناً، وما يجعل العنوان محفّزاً على تقديم فكرة ولو مبسّطة عنها معنى ودلالة، وحتى قابلية تمثيل للكثير مما هو أرجنتيني، ولبورخيس نفسه، كتاب قيّم بهذا الخصوص، حتى في تنوير الشعر الأرجنتيني على خلفية تانغوية. ثمة ما يشغل القاع الاجتماعي والسياسي، تبعاً لمقولة " جماليات المكان " لباشلار، الأس المعبّر عما هو أرجنتيني وكيف تشكل تاريخياً.
عندما يشير إلى أصل الكلمة( يتهيأ لي أن أصلها إفريقي، أو شبه إفريقي، مثل كلمة " ميلونغا..) " 2 "
إنما الولادة أين تمت؟ ( حسب الجميع، فقد برز التانغو في الأمكنة نفسها التي سيظهر فيها لاحقاً الجاز، في الولايات المتحدة. بمعنى أن التانغة قد خرج من البيوت " سيئة السمعة" ..ص34) .
لماذا الأصول التي تكون من الخارج، هي التي تشكل الذاكرة المكانية للأرجنتين، وفاعلة محورية لها؟ ثمة نطاق قهري يمثّل جغرافية حية وطافحة بالمكابدات لهذا البلد، وكيف انتظر وقتاً طويلاً، وهو يعيش نزفاً استعبادياً واستعمارياً، ليشهد حضوره إنسانياً، دون أن يشهد طلاقاً بين ما هو عليه وما كان عليه تاريخياً، ذلك مهم، في استبقائه ليكون أقدر على البقاء.
ثمة ما يؤثر ويستوجب إشارة مركَّبة بصدد " تانغو " وفي أكثر من إحالة، إفريقية النسَب:
(التانغو. نقطة انطلاق Tango Negro ، الجذور الأفريقية للتانغو الأرجنتيني هي لغوية.
من خلال تقريب كلمة "Ntangu" بلغة Kikongo من كلمة tango ، ظهرت الفكرة بوضوح للمخرج. ثم اشتق مصطلح "تانغو" أصله من مملكة كونغو القديمة. "منذ فجر التاريخ ، كانت كلمة Ntangu تعني دائمًا الشمس والساعة والوقت والمكان والزمان والعصر والفترة وما إلى ذلك ، اعتمادًا على السياق الذي تستخدم فيه. هذه اللغة ، Kikongo ، كانت اللغة الرسمية للكونغو ، سكان مملكة كونغو السابقة التي امتد تأثيرها إلى ما وراء وسط إفريقيا ، يشرح دوم بيدرو إلى Point Afrique.
قد يأتي أصل كلمة "تانغو" من المحاكاة الصوتية. شهدت أحياء بورتو (في مدينة بوينس آيرس) تطور اتجاهات وأشكال معينة من رقصة التانغو بخصائص محددة تطورت بعد الحرب العالمية الأولى. بعد ذلك ، انتشر التانغو في جميع أنحاء العالم كرقصة رقص.
.. افترضت أن كلمة "تانغو" مشتقة من "نتانغو" والتي تعني بالتالي الشمس ، فترة .. ومن "نتانغو" قطعت لأصل إلى رقصة التانغو. مع العلم أننا في اللينجالا نتحدث أيضًا عن التانغو وهذا يعني الشيء نفسه.) " 3 "
و(قد يأتي أصل كلمة "تانغو" من المحاكاة الصوتية.) " 4 "
وما يصل بين ثقافات متعددة، كانت الأرجنتين وعاءها الأكبر(الرقص والموسيقى والشعر ، تعود جذور التانغو الأرجنتيني إلى الأحياء الشعبية في ريو دي لا بلاتا حيث اندمجت العديد من الثقافات من جميع أنحاء العالم خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. قبل تعميمها وتسجيلها من قبل اليونسكو في "التراث الثقافي غير المادي للبشرية" ، عرف مسارها عدة مراحل من النمو والتحولات والاكتئاب وفقًا للتطورات الفنية والتشنجات في العالم.)" 5 "
ثمة ما يبقي النص راقصاً، ومع الزمن يزداد حيوية وجاذبية رؤية وبراعة مشهد.
سيم تانجوفيل
سيم (جورج جورسات) ، تانغوفيل سور مير ، "أيام الجمعة من ماجيك سيتي ، كل جسد يفعل ذلك الآن" (الألبوم رقم 19 من سلسلة الألبومات الباريسية ، آب 1913).
(الصورة من صفحة مخصصة لتاريخ التانغو الأرجنتيني
l'histoire du tango argentin ,xn--rpubliquedeslettres-bzb.fr )
الاهتداء بالراقص تمثيلاً لمأثرة القصيدة
يعني أن هناك ما يصل القاع الاجتماعي ومخاض الألم فيه،بما هو خارجي، حيث الكلمة شاهدة على كل ما هو مشغول جسدياً: جِلداً، وأدمة، وأعضاء داخلية وروحاً، وليظهر الرقض معيناً لا ينضب، وهو يتوسع تعبيراً عن أهليته لأن يستقطب ما هو عالمي، في عميق معناه إنسانياً، كما هو الملموس في حرص اليونسكو عليه، تراثاً إنسانياً، أي ما يخص ضراوة المشهود له هناك.
وربما هذا ما أفصح عنه بورخيس في مختتم محاضرته الرابعة( التانغو يقدّم لنا جميعاً ماضياً متخيلاً، وأنه باستماعنا إلىالتانغو، وبصيغة سحرية، أننا متنا " متعاركين عند ركن للضاحية ".. وأن التانغو كان، خصوصاً الميلونغا، رمزاً للسعادة،. وبافتراض أن هذا يكون خالداً، أعتقد أن هناك شيئاً في الروح الأرجنتينية، شيئاً أنقذَه أولئك المتوضعون، وأحياناً المجهولون، من ملحّني الضفاف، وهو شيء سيعود ..ص 137) .
إنها " ميثولوجيا العود الأبدي " التي تمارس باسمها ومن خلالها فذاذة التانغو حضورَها الذي لا يحتكم إلى الزمان، وإنما يكون الزمان، على وقْع الرأسمال الرمزي الكبير للاسم، محوَّلاً إليه.
كما لو أن التانغو، كاسم، كعرّاب أثر، كقابلة بيو- سوسيولوجية، تاريخ فاصل بين مجموعة مراحل، تتقابل، ولكل مرحلة ما يجلوها، وللتانغو لسانه المتعدد، كما لو أن الصادر باسمه شعرياً، وقد تعدّى حدود البلد، وغزا مناطق مختلفة من العالم: أمريكا، أوربا، خاصة، ليكون الصوت الذي لا ينقطع عما تعرّضت له الأرجنتين " الفضّية " من فظائع، في ماض لا يُنسى.
لتكون القصيدة بطريقتها، وهي تحمل الختم النافذ في الجسد الشعري، حركة وصوتاً متماوجين.واستغرب كيف أن المعدة والمترجمة لم تشِر إلى مأثرة بورخيس، وهي التي توقفت عندها في النقطة السالفة الذكر، إنما دون الاستضاءة بحديثه" الرباعي " عن التانغو مغزى ارتباطه بالقصيدة، أو" بالأصح " ما يجعل القصيدة الأرجنتينة الحية فضيلة تانغوية جلية .
والأغرب بالمقابل، عدم وجود أي أثر شِعري لبورخيس، ضمن قائمة " مختاراتها " ؟!
في القصائد المختارة
من الظاهر أن العوض اعتمدت خيارات ذات مِدد زمنية في تنوعها، دون ترتيبها. كما هو ملاحَظ في التمهيد المتعلق بالقصائد المختارة.
إن ما أفصحت عنه، جهة التعبير عن دور الشعر بداية، وهو ما يخص قول الشاعرالأرجنتيني خوان خيلمان ( هناك الملايين من الأشياء التي ما تزال بلا أسماء. هناك حدود من كل الأصناف تحول دون أن يكون لها أسماء... مهمة الشعر العظيمة إذاً هي أن تمنح الأسماء لكل ما لا اسم له بع، ومن أجل هذا أمامنا قرون من العمل.ص 8 ) .
وهذا التعبير عن الأشياء والحدود والأسماء التي تم إسنادها إلى الشعر، لا يتوقف، لأنه مع ولادة كل قصيدة، يكون على موعد مع كل من " الأم- القابلة- المولود المنتظر "، وليكون هناك تجديد لما تقدَّم، تأكيداً على أن عملية الخلق، وإن تمت مرة واحدة، فإن الخلق الفني دائم ومتنوع .
ثمة ذائقة للعوض، وليس ما يخص العدد القائم من النصوص، حيث فعل الاختيار، يمكن تبيّنه انطلاقاً من قراءة معينة، لقائمة النصوص، وإيجاد ما يكون الأنسب في هذا الجانب.
في قصيدة " صور " للشاعر إدواردو إشبوزيتو" 1965- .." ما يصلنا بمأثرة المعبَّر عنه:
الصور ثقوبٌ في الزمن
دوامات خطِرة تعجُّ بالذكريات
ليست أوراقاً جافة
لا تغرنّكَ
صورة ُواحد ٍ في غرفتك
تقلب حياتك رأساً على عقب
صورةٌ واحدةٌ بحِملها الثقيل من الشياطين
يمكنها أن تثقب هذا الذي نسمّيه بكل سذاجة . ص 18 .
الصورة ليست جامدة، إنما وسيط روحي، إنها روح تبحث عمَّن يتفهمها، من يريد معاينتها، ومن يتوقف عندها، ليعرفها في الكثير من وجوه حقيقتها في الداخل. الصورة هنا لا تدع الزمن يتحرك كما هو المعروف عنه، إنما ما يُقتطَع منه ليكون شاهداً على وفورة القوة والخصوبة في القصيدة التي تتآنس وتتفاعل مع المعالم المتصورة، وهي التي تستمد أبديتها المقرَّرة تالياً منها، نوعاً من ذلك التفاوض الصامت، أو المقايضة وجموح المعنى في الصور التي تبيّن خلْقية الشاعر، حيث يقول ما ينبغي أن يفعل ما يقوله، وما يفعله هو ما يميّزه في زمنه المأهول عن زمان سواه.
أليس الذي يقوله جاك لويس ديفيد " 1748-1825 " في قصيدة " وفاة مرات( 1793)، يعزز ذلك، وما في اعتبار التعبير الشعري عن قيمومية الشاعر الفنية على اللغة:
الملَكية جعلتني أعرف شيئاً عن نفسي:
الكراهية
الثورةُ حملتْني إلى قمة تناقضاتي
قلة هم مَن يختارون دوافع معاركهم
الريادةُ هي أن تقود الفوضى
القائدُ مروّض الفوضى
اغتالوا مارت " مارات، كما هو الاسم المكتوب في العنوان "
اكتبْها بالحبر الأحمر في حوض الاستحمام . ص 23
الملَكية مولّدة الكراهية، لأنها لا تقوم إلا على سلعنة العالم، والإنسان ضمناً، والثورة من جهتها تعتمد منطق من هنا وليس هناك، أو بالعكس، فليس من ثورة إلا لأن هناك المرفوع من شأنه باعتباره الجدير بأن يقود المرحلة الجديدة، ومن يقرَّر لأن ينتهي أمره، والدم في الواجهة، حيث الفوضى تفصح عن فقدان السيطرة على العالم القائم، وإيذان بما يجب القيام به لاتجاوزها.
دون كراهية لا مجال للحديث عن العنف ضد الآخر، والإطاحة به، وسفك دمه.
وما يذكّر بالاستحمام هو تعميد من نوع خاص، وتبشير بولادة جديدة .
ثمة اهتمام بما كان يجري، وما يجري في إثره بناء عليه، وهو مشيَّد على تناقضات، ولعبة الحياة والموت في العملية هذه. إنها ذاكرة الأسماء المتعادية وورثتها المتخاصمين، كما يعلمنا الشاعر أليخاندر شميدت " 1955-2021 "، في قصيدة " ميراث "
وأسأل نفسي
أين هي إمبراطوريتكَ الآن
وأنت تنام في مركز الأرض
الآن وقد أظهرتْ لك السماء جذورَها
ستكون دائماً بيتي المكتوبَ
النافذة التي تطل على هاويتي ..ص 31
الميراث ثقيل، مخيف، مرهوب الجانب، حيث العداوة مفصل حركي وعنيف. حيث الحديث عن السلطة التي تمركز الاسم، العالم في الاسم، الناس في خانة الاسم الواحد، ومآل ذلك. ثمة ما هو منطقي في مفهوم المقول الشعري هذا، وبحكم الواقع لمرصود ومفارقاته: ما يكون إمبراطورية يعني بلبلة العالم وإحداث فوضى فيه ، والاستعداد الضمني لما هو آت في فظاعته. إذ إن إطلالة النافذة على الهاوية، لا تعدو أن تكون مكاشفة للموت حصيلة لسريان فعل موجه في الأشياء.
ما يقوله الشعر يكون على العكس مما يقوله صاحب سلطة كهذه، فهذا يستبد بالزمان والمكان، بالطبيعة العالم، ويعمى عن حقيقة فعله، والقصيدة هنا، تعيد الأمور إلى نصابها وجوهر فعلها.
وفي مكان آخر، هناك ما ينوّه إلى الإبداع، إلى طرب القصيدة على يد كاتبتها وشاعرتها، عند الشاعرة والرسامة أولغا لوناردي " 1959-.."، حيث تعرَف بتعدد مهامها عدا الاشتغال في ضوء موهبتها في الأدب والفن، وفي " السيرة الذاتية للدوار " ما يخص عمل الشعر:
من هذا الفراغ
فراغي
أرى كل شيء يتحول
إلى خيط من الضوء
الأيامُ
الليالي
المدنُ
الكائنات التي عبرتْ
كوني الصغيرَ في رحلة الأجنحة
والغائبين الذين قيّدوني بحبْل خفي
ووضعوني في مواجهة اللغز
هناكَ
كل شيء ساكن
الصمتُ مازالَ على حاله
ملعب طفولتي المرتعدُ كاملاً ص 46 .
الفراغ يسمح بالرؤية النافذة إلى قلب الأشياء، العبور إلى ماوراء صمتها، رؤية الموتى وماذا يفعلون في قبورهم، رؤية أعماق الأرض، ميكرفيزياء الصغائر بعينيّ الشاعر كيف تكون.
الفراغ موطن المبدع في إتاحته الفرصة له لأن يرى ما لا يراه الآخرون، المسافة الممتلكة لتلك القوى الكامنة والتي يكون في مستطاع المبدع وحدها اعتمادها لتحيل " عدَماً " إلى وجود له.
الفراغ هو هذا الطفل الذي يلعب بالنجوم وهي في سمائها، مداعبة الأشباح وأنسنتها والدفع بها لأن تكون أكثر حيوية ، معايشة اللامرئي والتعرف تخيلياً على ما يهذب الروح أكثر.
في قصيدة " قتلتُ كانط " للشاعرة والكاتبة بيلين سيانفيروني " 1987 " ما يضع القارىء في مواجهة فعل القصيدة في العالم بعكس شهادة الفلسفة في العالم كما كان كانط الألماني ومعرفته بذلك الالتزام الفلسفي بالمعتبَر قانوناً أخلاقياً، والخروج إلى العالم، حيث الفعل لافت بداية، ومن لدن كاتبة وشاعرة ماتزال صغيرة في عمرها وفيما أرادته، لكنها القصيدة الخارجة عن قانن العمر، لأنها نقيض الفلسفة معنية بهوية الإبداع فيها، والمبدع هو المرجع في ذلك:
أقتلُ كانط في داخلي
أتركُ الغضبَ يغادرُ
أوقفُ العالمَ
أتنفس للحظة
أقضي على الحاجة المستمرة
لأن أكونَ دائماً على صواب ٍ
أنتزع نفسي من مركز دوران الأرض
أحبّك
/ حتى لو كانَ المنطق ينكرُ ذلك علي /
حباً لا عزاء له..ص66
الاستهداء بهوى الحب تقدير من نوع مائز، وما يخرج من دوران الأرض، هو ما من شأنه بناء جاذبية ضد أرضية تجاوباً مع الحب المسمى، دون ذلك يصعب التعرف على هوية المحب، على عالمه، وتلك المسافة الفعلية وجدانياً بينه ومحبوبه. ولهذا يراهن الشعراء على القصيدة لأنهم يكونون أقرب إلى نفوسهم تلك التي تغذيها المشاعر، ويحتضنها المخيال المحلّق هنا وهناك.
ولنكون أكثر معايشة للتنوع، فإننا نجد في قصيدة للشاعر دانيال رافالوفيتش " 1958-.."ما يخص الطبيعة، ما يجعل للمناظر روعتها، وخميرة المكتشف في الأشياء كذلك في زمن معلوم:
للغروب سحرٌ فريد غامض
النظر خلسة من نوافذ مواربة
واكتشاف شخص يشاهد نفسَه في مرآة بيضاوية
يعدل من تصفيفة شعره
أو من ملابسه
يتأرجح بخفة على كرسي هزاز
عيناه الرماديتان
غائمتان بالذكريات...ص89
أهو الموجود بين الموجودات الأخرى؟ هناك ما يشغله، وهناك من يراقبه وينشغل به، وهناك ما يشغل سواه إذ يتواجد هناك، وما يجعل لكل ذلك مشهداً حياً، يكون الموصوف هنا كائناً له موقعه في الطبيعة كأي كائن، وما يحركه، ثمة ما يحرك سواه، وما يحركهما يمنحهما جمالاً آخر، لتكون القصيدة لوحية فنية وفي الوقت نفسن منبنية على غواية الوصف ودور الوصف جهة الدقة في تحويل الداخل في الوصف إلى موضوع تأمل، يعلّم ويغذّي الروحي فينا.
إنما ماذا عن شاعرة تقدم قصيدة تخص أمها، وهي غابرييلا يوك " 1968-.."؟:
بمرور الوقت كانت
تبدّل ألوانها
ليسَ بسبب الفصول
ولا المد والجزر
ولا نسيج ريح ما
ولم يكن السبب حتى عيونَ الرجل
الذي كان بإمكانه أن يهز كيانها
لا
أمي كانت تغيّر ألوانها
كأنها مشكال عمودي من الغضب
كما لو أن حيواناً حرباوياً يسكنها
كانت أرضاً هناك/ في المنشأ
تفككت إلى أخضر حاد ٍ
أو إلى بنيّ..ص118.
إنها تمضي بالمشهد من الخارجي إلى الداخلي، إلى عمق الكائن والشيء، إلى البعيد داخلها، إلى ما يتعدى ظاهر المرئي، وما يمكن التأكد منه حسّياً، إنه العمق المكين لشواغل المعنى نفسياً. إلى الجاري حدوثه في الداخل وهو أساس التغير أو الحركة في الشيء، ومنه وفيه تكون العبرة .
في قصيدة " رايموندو لوليو يحلم " للشاعر كلاوديو أرشوبي" 1971 - .."مفارقات العمر تتكلم:
عندما كنتُ صغيراً
أردتُ أن أخترع آلة
عندما كنت صغيراً
لم أكن أعرف أن العالم أنتجته آلة
وأن الآلة معطلة
عشتُ حياتي منزلقاً
على الأسطح المعدنية
الملساء
الفارغة
هناك حيث الزمن والدوار والراحة
صدى لإشاعة تدفع المنعطف المتغيرَ
من القشرة السخيفة
مرات كثيرة سقطت..ص 162
إنها إقامة علاقة مع العالم، وفي نقاط محددة تمثّل عناصر القصيدة بالذات، وإشعار بالتغيرات التي تحصل في أصل المرئيات، وهو ما يبقي الموصوف في الذاكرة، ليكون الشعر معروفاً بكل ما يجعله حاضراً في الزمن،وما يضفي على الشعر قيمة ائتمانية من منظور جمالي وفني. إن كل ما يشغل المرء في مدى عمري هو الذي يكون جديراً بلقب الرابطة الشعرية والإقامة فيها.
ولأن الشعر داخل في كل شيء دون أن يأخذ إذناً منه، وخارج عنه، دون أن يعلمه بذلك، أو يتصرف به على طريقته دون أي ترخيص، لأن في ذلك عمراناً مغايراً لعالم شعري، في قصيدة " ابتهالات اليراع " للشاعر ليوبولدو كاستيلا " ما يخص هذا المعنى:
عاد الأب والأم
يتجولان الآن بين اليراعات
بناءُ البيت التائه
سيكون دائماً هكذا
من الموت إلى الضوء
من الضوء إلى الموت
مثل اليراعات
بينما نتماوج كمياه غريزية
بين الغرف...ص185 .
ربما هي حالة الصيرورة في قلب كل شيء، ربما هي العلامة الفارقة للشيء من خلال شيء آخر، ربما هي السمة الثلاثية الأبعاد لشخص ما في تفاعله وعلاقته مع محيطه الخارجي. هوذا دور أو مقام كل من الأب والأم، وما يجعلهما في الصورة المتشكلة، ما يقضي بالعمر لأن يظهر هكذا في ثنائيتهما، ما يجعل التماوج بمفهومه المائي شاهداً على حركات قائمة في العمق.
ولأننا تحدثنا عن الأم، عن الوالدين، فإن الشاعر الأرجنتيني الذائع الصيت هوغو فرنسيسكو رفيللا " 1948-.." وصاحب أعمال شعرية كثيرة، له ما كتبه في قصيدته" أمّي الواهية جداً " ما يرفع من شأن الاسم ويضعه أمام ناظرينا أبعد من كونه مجرد الاسم المتداول:
واهية جداً
أمّي
تتمزق في الظل
تبحث بعينيها الشاردتين عنّي
وتبحث
آه !
وتبحث
تنظر إلى الأرض
تنبش بأظافرها وراء السراب
تجمع ورود المياه العطرة
وتسأل
وتسأل
من هم؟
إلى أين أخذوه؟...ص229 .
القصيدة مهداة " إلى المفقودين " وفي الإهداء ما يجعلها أكثر حمولة بالمعاني، بمآسي الواقع، وما تعنيه الأم دون غيرها من الكائنات الأخرى، في انشغالها بأولادها، بمن يهمها أمرهم، لتكون الأم في مركز التكوين، مركز العالم، مركز القصيدة، وأن مركزيتها دون أي مركزية أخرى تكون مجازة لأنها في وضعيتها هذه لا تحيل ما عداها إليها، إنما تحيل ما فيها إلى ما عداها، كما لو أنها تترجم الكوني، الطبيعة عنها في روحها، موجزة، ملخصة، مشكّلة صورة أكثر تكثيفاً بشكل غير مسبوق عما ينعطف عليها، وهي في ضعفها وهي في قوتها بالمقابل، وهي تجعل العالم نهب أسئلتها ذات الصلة بما يعنيها جرحاً في روحها الأمومية. كما لو أن القصيدة ذاتها هي هذه الأم، هذه الخصوبة التي تتجدد شبوبية، وهذه الشبوبية التي تعرَف بالقصيدة.
وقفة
كما حاولت، ومن خلال نماذج مختارة، من جهتي، من القصائد المختارة، وفي صفحات متفرقة، فإن المتضمَّن بين غلافيّ الكتاب يعطي فكرة حية، وجميلة عن القصيدة الأرجنتينية، عن " فضة الكلام " أي عن المقابل الحرْفي لكلمة الأرجنتين، وقد استعيرت لتكون صفة أخرى للقصيدة وهي تمثّل بُعداً تاريخياً، وهي في مرجعيتها لمن يحاول الإحاطة ببعض مما هو أرجنتيني.
وما انشغلتْ به المعدة والمترجمة كراسيا العوض، أفصح عن ذائقة حوارية مركّبة، عن عشق لغتين بينهما ذلك الأفق المفتوح والذي يجيز لكل لغة لأن تجد صورة حية في مرآة الأخرى، وما يجعل من القصيدة من موقع الخصوبة، لأن تثري اللغة، وتثري العالم، وتثري الكوني فينا، أي حيث كل من الرقص، والشعر والموسيقا، أي حيث يتوحد الكوني في كل منا، وليكون في مقدور الشّعر أن يثبت أنه فن كان، وفن يكون، وفن سيكون، وليس في الإمكان الاستغناء عنه، إلا إذا افترض أحدنا أنه يعيش بروح رهينة جسمه فقط، وليس من صلة بينها وبين الأرواح الأخرى في أجسام من كانوا ومن سيكونون، وحتى من غير البشر طبعاً....
مصادر وإشارات
1-تانغو وفضة الكلام " مختارات من الشّعر الأرجنتيني "، إعداد وترجمة: كراسيا العوض، دار المحيط، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2022 ، في " 244 " صفحة، من القطع الكبير نسبياً، وكانفة الإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة.
2-خورخي لويس بورخيس: التانغو " أربع محاضرات، ترجمة: د. مزوار الإدريسي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد، ط1، 2019، ص33.
3- Tango Negro : et si les racines du tango étaient (aussi) africaines ?
تانغو نيغرو: ماذا لو كانت جذور التانغو أفريقية (أيضًا)؟
4- Origines du Tango : de l’Argentine à l’Europe en passant par l’Afrique
أصول التانغو: من الأرجنتين إلى أوروبا عبر إفريقيا
5-Brève histoire du tango argentin
تاريخ موجز للتانغو الأرجنتيني
ماالذي يصلُنا بالقصيدة؟ وأي مأمول يمكن تبيّنه أو توقعه في أصل القصيدة؟ وهل في مقدور القصيدة الصامتة، الخرساء، البكماء، والعمياء، أن تمنحنا مقدرة على أن نسمع، أن نستنطق، وأن نرى ما بداخلنا؟ أتراها وجَدت نفسها مخلوقة من كلّية الإنسان، وليس من " ضلع " له، كما هو التصور الميثولوجي للديني لأصل التكوين، لتُعطى مثل هذه المكانة، أو الرتبة الجامعة المانعة؟
إنها القصيدة التي لا بد أن يكون لها طعم خلوديّ، وصدى لروح تترجم معالم الجسد من الداخل، وهي التي تكون متمتعة بميزة الخصوبة، لتكون " منجبة " لكل ما يشغلنا روحياً ووجدانياً !
هي وحدها ما يخوَّل لها لأن تعرَف بالماسة التي تشكر النار مراراً لأنها منحتها صفتها المعتبَرة.
بالصيغة هذه يكون " التانغو " بتنوع مكوناته، أو روافده داخلاً وخارجاً، هو مستوحى القصيدة هذه، ومعتمدة عصباً مركزياً لها، وهي تجمع بين الحركي والفكري في الصميم.
لمن السؤال الذي يطرح نفسه،هو: ماالذي يسوّغ مثل هذا الحديث، وبعد مقدمة، تعتبَر، متناسبة معه، عنه، وما يمثّله من أهلية دلالات ومعان، وبيننا مسافات شاسعة واسعة ؟
ثمة ما هو إنساني صلةَ نسَب، حيث من الصعب إدعاء تمثيل أي جانب من جوانبه، إنما هو تمثيل المشترَك الروحي الذي يشغل الكوني فينا من خلال ما يعرَف برقصة التانغو، وما يجعل القصيدة عينها جسداً راقصاً، كما هو الحديث عن قصيدة" الهايكو " اليابانية وكما هو الحديث عن ذلك الكردي الذي يغني بطريقة لا يعرف عمق مأثورها سواه أي " dengbêj " الكلمة التي لا تترجَم إلا إلى ذاتها، صوتاً وحركة تعبيراً عن معاناة لها محليتها ونسبها الفني الخاص.
من هنا، فإن الاهتمام بالتانغو، يتمثل في تلك الروح المقاومة وجودياً، وهي التي ترتد إلى تاريخ شائك وصعب ومعنىًّ من العلاقات الإنسانية ، وانجراحاتها اجتماعياً وسياسياً.
ولا بد أن كتاب " تانغو فضة الكلام " يقدّم لنا أشبه بالبانوراما للكثير مما يكوّن عالم التانغو في التمثيل الفني المقروء: الشعر الأرجنتيني في مختارات منه.
ولأهمية هذا الموضوع، أتوقف عند التانغو، وكيف يمكن تنويره بعناصره الرئيسة، ليكون أكثر تعبيراً عما يشغلنا في وجود يوحّدنا معاً، ويفرّق فيما بيننا، في ثقافاتنا الإنسانية المختلفة.
ماذا في سجل " تانغو " كتعريف قبل بلوغه شعراً ؟ " 1 "
ما يلفت النظر في التقديم للمختارات، هو أن المعدّة والمترجمة لها، تسلط الضوء، وبكثافة، على القصيدة الأرجنتينية، نشأة وترعرعاً وسمات، وعلى مدى عشر صفحات" 7-16 " تقريباً، دون التطرق إلى " التانغو " ودلالة " التانغو " مباشرة وما يلي العنوان كتوضيح " فضة الكلام " وخاصية الجمع بين ما هو معدني وما هو لغوي، شعري هنا، والبعد التأسيسي في العلاقة بينهما، محيلة القارىء إلى سرد تاريخ موجز عما تمثّله القصيدة الأرجنتينية تاريخياً للروح الأرجنتينية.
من ذلك ( سأسلّط الضوء على مراحل أساسية في تطور القصيدة الأرجنتينية وشكلها وأسلوبها والعوامل التي أثَّرت فيها بدءاً من فترة الاكتشاف ...ص 8 ...مروراً بحقبة حكم التاريخ الإسباني..ثم مرحلة ثورة مايو وما بعدها ضد الغزو الإسباني..ص 9 ).
لتضعنا في الطريق الذي يخرجنا من القرن التاسع عشر، لخبرنا بـ ( ولادة ظاهرة شعرية لا مثيل لها، فمن هذه الأميركا التي كانت قد بلغت للتو سنَّ الرشد، وانعتقت من الوصاية الإسبانية انطلقت لأول مرة نهضة شعرية موضوعية ورسمية داخل اللغة الإسبانية اتخذت من بوينس آيرس مركزاً لها..ص 9 ).
ولتتوقف عند الحداثة في هذا الشعر، حيث ( عبَّرت الحداثة عن الرغبة في التغيير، وكانت لها ردة فعل تجاه التعبير السهل مقابل ميولها نحو البراعة..ص10)..
وتضيء صورة بورخيس الشاعر الأرجنتيني الكبير في هذا المضمار، في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ( ابتكر أسلوباً ريادياً خاصاً به، أتاح من خلاله فرصاً ريادية للشعراء الشباب في الأرجنتين. ص 11).
تالياً، كما هي الحياة في متغيراتها( فترة الأربعينيات من القرن العشرين تميزت بالتقاء الشعر والشعراء والشعرية التي غيَّرت منحى الغنائية في ذلك الوقت. ص 12 ).
وما يجعل من المعاناة البوتقة الكبرى لتفجير طاقات شعرية، إذ ( من عمق الحاجة إلى شاهد، إلى ترك أثر والرغبة الحتمية في فتح الباب للمشاعر المتعددة واستعادة حرية الكلام ولدت النصوص الشّعرية داخل السجن..ص 14 ) .
لتنوه تالياً، إلى مسار تحوُّلي في القصيدة الأرجنتينية حيث إنها ( تجلَّت في طابع مقاوم حيوي في المكان يميل بالأحرى إلى تعقيم الإبداع وسلب الإنسان إنسانيته وقدرته على تحديد موقعه في اللحظة التاريخية التي وجد نفسه فيها. ص 15)
وما يصلنا بنقطة بارزة حيث ( حملتْ أعوام التسعينيات الشعرية اسم القصيدة الموضوعية التي تصنّف على أنها ذات لكنة قومية بما يسبّب الدوار..ص 15)..
وما يبقي الباب مفتوحاً، فـ( في كل حال مازال القرن جارياً، ومازال العمل الذي نوّه إليه خليمان في العبارة التي تتقدَّم هذا المدخل إلى القصيدة الأرجنتينية قائماً ومستمراً..)، ما يمكن الخلوص إليه حيث القصيدة ( هي الذاكرة فحسب، قيامة الماضي، استحضار المستقبل..ص16).
يظهر من خلال هذا المدخل، أن " العوض " استعارت مفردة التانغو، تعبيراً عما هو حيوي وحامل بنيوي وواسع الطيف لمفهوم الشعر، وليس ما يضيء الكلمة تاريخاً وحياة، كما توحي الكلمة عنواناً، وما يجعل العنوان محفّزاً على تقديم فكرة ولو مبسّطة عنها معنى ودلالة، وحتى قابلية تمثيل للكثير مما هو أرجنتيني، ولبورخيس نفسه، كتاب قيّم بهذا الخصوص، حتى في تنوير الشعر الأرجنتيني على خلفية تانغوية. ثمة ما يشغل القاع الاجتماعي والسياسي، تبعاً لمقولة " جماليات المكان " لباشلار، الأس المعبّر عما هو أرجنتيني وكيف تشكل تاريخياً.
عندما يشير إلى أصل الكلمة( يتهيأ لي أن أصلها إفريقي، أو شبه إفريقي، مثل كلمة " ميلونغا..) " 2 "
إنما الولادة أين تمت؟ ( حسب الجميع، فقد برز التانغو في الأمكنة نفسها التي سيظهر فيها لاحقاً الجاز، في الولايات المتحدة. بمعنى أن التانغة قد خرج من البيوت " سيئة السمعة" ..ص34) .
لماذا الأصول التي تكون من الخارج، هي التي تشكل الذاكرة المكانية للأرجنتين، وفاعلة محورية لها؟ ثمة نطاق قهري يمثّل جغرافية حية وطافحة بالمكابدات لهذا البلد، وكيف انتظر وقتاً طويلاً، وهو يعيش نزفاً استعبادياً واستعمارياً، ليشهد حضوره إنسانياً، دون أن يشهد طلاقاً بين ما هو عليه وما كان عليه تاريخياً، ذلك مهم، في استبقائه ليكون أقدر على البقاء.
ثمة ما يؤثر ويستوجب إشارة مركَّبة بصدد " تانغو " وفي أكثر من إحالة، إفريقية النسَب:
(التانغو. نقطة انطلاق Tango Negro ، الجذور الأفريقية للتانغو الأرجنتيني هي لغوية.
من خلال تقريب كلمة "Ntangu" بلغة Kikongo من كلمة tango ، ظهرت الفكرة بوضوح للمخرج. ثم اشتق مصطلح "تانغو" أصله من مملكة كونغو القديمة. "منذ فجر التاريخ ، كانت كلمة Ntangu تعني دائمًا الشمس والساعة والوقت والمكان والزمان والعصر والفترة وما إلى ذلك ، اعتمادًا على السياق الذي تستخدم فيه. هذه اللغة ، Kikongo ، كانت اللغة الرسمية للكونغو ، سكان مملكة كونغو السابقة التي امتد تأثيرها إلى ما وراء وسط إفريقيا ، يشرح دوم بيدرو إلى Point Afrique.
قد يأتي أصل كلمة "تانغو" من المحاكاة الصوتية. شهدت أحياء بورتو (في مدينة بوينس آيرس) تطور اتجاهات وأشكال معينة من رقصة التانغو بخصائص محددة تطورت بعد الحرب العالمية الأولى. بعد ذلك ، انتشر التانغو في جميع أنحاء العالم كرقصة رقص.
.. افترضت أن كلمة "تانغو" مشتقة من "نتانغو" والتي تعني بالتالي الشمس ، فترة .. ومن "نتانغو" قطعت لأصل إلى رقصة التانغو. مع العلم أننا في اللينجالا نتحدث أيضًا عن التانغو وهذا يعني الشيء نفسه.) " 3 "
و(قد يأتي أصل كلمة "تانغو" من المحاكاة الصوتية.) " 4 "
وما يصل بين ثقافات متعددة، كانت الأرجنتين وعاءها الأكبر(الرقص والموسيقى والشعر ، تعود جذور التانغو الأرجنتيني إلى الأحياء الشعبية في ريو دي لا بلاتا حيث اندمجت العديد من الثقافات من جميع أنحاء العالم خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. قبل تعميمها وتسجيلها من قبل اليونسكو في "التراث الثقافي غير المادي للبشرية" ، عرف مسارها عدة مراحل من النمو والتحولات والاكتئاب وفقًا للتطورات الفنية والتشنجات في العالم.)" 5 "
ثمة ما يبقي النص راقصاً، ومع الزمن يزداد حيوية وجاذبية رؤية وبراعة مشهد.
سيم تانجوفيل
سيم (جورج جورسات) ، تانغوفيل سور مير ، "أيام الجمعة من ماجيك سيتي ، كل جسد يفعل ذلك الآن" (الألبوم رقم 19 من سلسلة الألبومات الباريسية ، آب 1913).
(الصورة من صفحة مخصصة لتاريخ التانغو الأرجنتيني
l'histoire du tango argentin ,xn--rpubliquedeslettres-bzb.fr )
الاهتداء بالراقص تمثيلاً لمأثرة القصيدة
يعني أن هناك ما يصل القاع الاجتماعي ومخاض الألم فيه،بما هو خارجي، حيث الكلمة شاهدة على كل ما هو مشغول جسدياً: جِلداً، وأدمة، وأعضاء داخلية وروحاً، وليظهر الرقض معيناً لا ينضب، وهو يتوسع تعبيراً عن أهليته لأن يستقطب ما هو عالمي، في عميق معناه إنسانياً، كما هو الملموس في حرص اليونسكو عليه، تراثاً إنسانياً، أي ما يخص ضراوة المشهود له هناك.
وربما هذا ما أفصح عنه بورخيس في مختتم محاضرته الرابعة( التانغو يقدّم لنا جميعاً ماضياً متخيلاً، وأنه باستماعنا إلىالتانغو، وبصيغة سحرية، أننا متنا " متعاركين عند ركن للضاحية ".. وأن التانغو كان، خصوصاً الميلونغا، رمزاً للسعادة،. وبافتراض أن هذا يكون خالداً، أعتقد أن هناك شيئاً في الروح الأرجنتينية، شيئاً أنقذَه أولئك المتوضعون، وأحياناً المجهولون، من ملحّني الضفاف، وهو شيء سيعود ..ص 137) .
إنها " ميثولوجيا العود الأبدي " التي تمارس باسمها ومن خلالها فذاذة التانغو حضورَها الذي لا يحتكم إلى الزمان، وإنما يكون الزمان، على وقْع الرأسمال الرمزي الكبير للاسم، محوَّلاً إليه.
كما لو أن التانغو، كاسم، كعرّاب أثر، كقابلة بيو- سوسيولوجية، تاريخ فاصل بين مجموعة مراحل، تتقابل، ولكل مرحلة ما يجلوها، وللتانغو لسانه المتعدد، كما لو أن الصادر باسمه شعرياً، وقد تعدّى حدود البلد، وغزا مناطق مختلفة من العالم: أمريكا، أوربا، خاصة، ليكون الصوت الذي لا ينقطع عما تعرّضت له الأرجنتين " الفضّية " من فظائع، في ماض لا يُنسى.
لتكون القصيدة بطريقتها، وهي تحمل الختم النافذ في الجسد الشعري، حركة وصوتاً متماوجين.واستغرب كيف أن المعدة والمترجمة لم تشِر إلى مأثرة بورخيس، وهي التي توقفت عندها في النقطة السالفة الذكر، إنما دون الاستضاءة بحديثه" الرباعي " عن التانغو مغزى ارتباطه بالقصيدة، أو" بالأصح " ما يجعل القصيدة الأرجنتينة الحية فضيلة تانغوية جلية .
والأغرب بالمقابل، عدم وجود أي أثر شِعري لبورخيس، ضمن قائمة " مختاراتها " ؟!
في القصائد المختارة
من الظاهر أن العوض اعتمدت خيارات ذات مِدد زمنية في تنوعها، دون ترتيبها. كما هو ملاحَظ في التمهيد المتعلق بالقصائد المختارة.
إن ما أفصحت عنه، جهة التعبير عن دور الشعر بداية، وهو ما يخص قول الشاعرالأرجنتيني خوان خيلمان ( هناك الملايين من الأشياء التي ما تزال بلا أسماء. هناك حدود من كل الأصناف تحول دون أن يكون لها أسماء... مهمة الشعر العظيمة إذاً هي أن تمنح الأسماء لكل ما لا اسم له بع، ومن أجل هذا أمامنا قرون من العمل.ص 8 ) .
وهذا التعبير عن الأشياء والحدود والأسماء التي تم إسنادها إلى الشعر، لا يتوقف، لأنه مع ولادة كل قصيدة، يكون على موعد مع كل من " الأم- القابلة- المولود المنتظر "، وليكون هناك تجديد لما تقدَّم، تأكيداً على أن عملية الخلق، وإن تمت مرة واحدة، فإن الخلق الفني دائم ومتنوع .
ثمة ذائقة للعوض، وليس ما يخص العدد القائم من النصوص، حيث فعل الاختيار، يمكن تبيّنه انطلاقاً من قراءة معينة، لقائمة النصوص، وإيجاد ما يكون الأنسب في هذا الجانب.
في قصيدة " صور " للشاعر إدواردو إشبوزيتو" 1965- .." ما يصلنا بمأثرة المعبَّر عنه:
الصور ثقوبٌ في الزمن
دوامات خطِرة تعجُّ بالذكريات
ليست أوراقاً جافة
لا تغرنّكَ
صورة ُواحد ٍ في غرفتك
تقلب حياتك رأساً على عقب
صورةٌ واحدةٌ بحِملها الثقيل من الشياطين
يمكنها أن تثقب هذا الذي نسمّيه بكل سذاجة . ص 18 .
الصورة ليست جامدة، إنما وسيط روحي، إنها روح تبحث عمَّن يتفهمها، من يريد معاينتها، ومن يتوقف عندها، ليعرفها في الكثير من وجوه حقيقتها في الداخل. الصورة هنا لا تدع الزمن يتحرك كما هو المعروف عنه، إنما ما يُقتطَع منه ليكون شاهداً على وفورة القوة والخصوبة في القصيدة التي تتآنس وتتفاعل مع المعالم المتصورة، وهي التي تستمد أبديتها المقرَّرة تالياً منها، نوعاً من ذلك التفاوض الصامت، أو المقايضة وجموح المعنى في الصور التي تبيّن خلْقية الشاعر، حيث يقول ما ينبغي أن يفعل ما يقوله، وما يفعله هو ما يميّزه في زمنه المأهول عن زمان سواه.
أليس الذي يقوله جاك لويس ديفيد " 1748-1825 " في قصيدة " وفاة مرات( 1793)، يعزز ذلك، وما في اعتبار التعبير الشعري عن قيمومية الشاعر الفنية على اللغة:
الملَكية جعلتني أعرف شيئاً عن نفسي:
الكراهية
الثورةُ حملتْني إلى قمة تناقضاتي
قلة هم مَن يختارون دوافع معاركهم
الريادةُ هي أن تقود الفوضى
القائدُ مروّض الفوضى
اغتالوا مارت " مارات، كما هو الاسم المكتوب في العنوان "
اكتبْها بالحبر الأحمر في حوض الاستحمام . ص 23
الملَكية مولّدة الكراهية، لأنها لا تقوم إلا على سلعنة العالم، والإنسان ضمناً، والثورة من جهتها تعتمد منطق من هنا وليس هناك، أو بالعكس، فليس من ثورة إلا لأن هناك المرفوع من شأنه باعتباره الجدير بأن يقود المرحلة الجديدة، ومن يقرَّر لأن ينتهي أمره، والدم في الواجهة، حيث الفوضى تفصح عن فقدان السيطرة على العالم القائم، وإيذان بما يجب القيام به لاتجاوزها.
دون كراهية لا مجال للحديث عن العنف ضد الآخر، والإطاحة به، وسفك دمه.
وما يذكّر بالاستحمام هو تعميد من نوع خاص، وتبشير بولادة جديدة .
ثمة اهتمام بما كان يجري، وما يجري في إثره بناء عليه، وهو مشيَّد على تناقضات، ولعبة الحياة والموت في العملية هذه. إنها ذاكرة الأسماء المتعادية وورثتها المتخاصمين، كما يعلمنا الشاعر أليخاندر شميدت " 1955-2021 "، في قصيدة " ميراث "
وأسأل نفسي
أين هي إمبراطوريتكَ الآن
وأنت تنام في مركز الأرض
الآن وقد أظهرتْ لك السماء جذورَها
ستكون دائماً بيتي المكتوبَ
النافذة التي تطل على هاويتي ..ص 31
الميراث ثقيل، مخيف، مرهوب الجانب، حيث العداوة مفصل حركي وعنيف. حيث الحديث عن السلطة التي تمركز الاسم، العالم في الاسم، الناس في خانة الاسم الواحد، ومآل ذلك. ثمة ما هو منطقي في مفهوم المقول الشعري هذا، وبحكم الواقع لمرصود ومفارقاته: ما يكون إمبراطورية يعني بلبلة العالم وإحداث فوضى فيه ، والاستعداد الضمني لما هو آت في فظاعته. إذ إن إطلالة النافذة على الهاوية، لا تعدو أن تكون مكاشفة للموت حصيلة لسريان فعل موجه في الأشياء.
ما يقوله الشعر يكون على العكس مما يقوله صاحب سلطة كهذه، فهذا يستبد بالزمان والمكان، بالطبيعة العالم، ويعمى عن حقيقة فعله، والقصيدة هنا، تعيد الأمور إلى نصابها وجوهر فعلها.
وفي مكان آخر، هناك ما ينوّه إلى الإبداع، إلى طرب القصيدة على يد كاتبتها وشاعرتها، عند الشاعرة والرسامة أولغا لوناردي " 1959-.."، حيث تعرَف بتعدد مهامها عدا الاشتغال في ضوء موهبتها في الأدب والفن، وفي " السيرة الذاتية للدوار " ما يخص عمل الشعر:
من هذا الفراغ
فراغي
أرى كل شيء يتحول
إلى خيط من الضوء
الأيامُ
الليالي
المدنُ
الكائنات التي عبرتْ
كوني الصغيرَ في رحلة الأجنحة
والغائبين الذين قيّدوني بحبْل خفي
ووضعوني في مواجهة اللغز
هناكَ
كل شيء ساكن
الصمتُ مازالَ على حاله
ملعب طفولتي المرتعدُ كاملاً ص 46 .
الفراغ يسمح بالرؤية النافذة إلى قلب الأشياء، العبور إلى ماوراء صمتها، رؤية الموتى وماذا يفعلون في قبورهم، رؤية أعماق الأرض، ميكرفيزياء الصغائر بعينيّ الشاعر كيف تكون.
الفراغ موطن المبدع في إتاحته الفرصة له لأن يرى ما لا يراه الآخرون، المسافة الممتلكة لتلك القوى الكامنة والتي يكون في مستطاع المبدع وحدها اعتمادها لتحيل " عدَماً " إلى وجود له.
الفراغ هو هذا الطفل الذي يلعب بالنجوم وهي في سمائها، مداعبة الأشباح وأنسنتها والدفع بها لأن تكون أكثر حيوية ، معايشة اللامرئي والتعرف تخيلياً على ما يهذب الروح أكثر.
في قصيدة " قتلتُ كانط " للشاعرة والكاتبة بيلين سيانفيروني " 1987 " ما يضع القارىء في مواجهة فعل القصيدة في العالم بعكس شهادة الفلسفة في العالم كما كان كانط الألماني ومعرفته بذلك الالتزام الفلسفي بالمعتبَر قانوناً أخلاقياً، والخروج إلى العالم، حيث الفعل لافت بداية، ومن لدن كاتبة وشاعرة ماتزال صغيرة في عمرها وفيما أرادته، لكنها القصيدة الخارجة عن قانن العمر، لأنها نقيض الفلسفة معنية بهوية الإبداع فيها، والمبدع هو المرجع في ذلك:
أقتلُ كانط في داخلي
أتركُ الغضبَ يغادرُ
أوقفُ العالمَ
أتنفس للحظة
أقضي على الحاجة المستمرة
لأن أكونَ دائماً على صواب ٍ
أنتزع نفسي من مركز دوران الأرض
أحبّك
/ حتى لو كانَ المنطق ينكرُ ذلك علي /
حباً لا عزاء له..ص66
الاستهداء بهوى الحب تقدير من نوع مائز، وما يخرج من دوران الأرض، هو ما من شأنه بناء جاذبية ضد أرضية تجاوباً مع الحب المسمى، دون ذلك يصعب التعرف على هوية المحب، على عالمه، وتلك المسافة الفعلية وجدانياً بينه ومحبوبه. ولهذا يراهن الشعراء على القصيدة لأنهم يكونون أقرب إلى نفوسهم تلك التي تغذيها المشاعر، ويحتضنها المخيال المحلّق هنا وهناك.
ولنكون أكثر معايشة للتنوع، فإننا نجد في قصيدة للشاعر دانيال رافالوفيتش " 1958-.."ما يخص الطبيعة، ما يجعل للمناظر روعتها، وخميرة المكتشف في الأشياء كذلك في زمن معلوم:
للغروب سحرٌ فريد غامض
النظر خلسة من نوافذ مواربة
واكتشاف شخص يشاهد نفسَه في مرآة بيضاوية
يعدل من تصفيفة شعره
أو من ملابسه
يتأرجح بخفة على كرسي هزاز
عيناه الرماديتان
غائمتان بالذكريات...ص89
أهو الموجود بين الموجودات الأخرى؟ هناك ما يشغله، وهناك من يراقبه وينشغل به، وهناك ما يشغل سواه إذ يتواجد هناك، وما يجعل لكل ذلك مشهداً حياً، يكون الموصوف هنا كائناً له موقعه في الطبيعة كأي كائن، وما يحركه، ثمة ما يحرك سواه، وما يحركهما يمنحهما جمالاً آخر، لتكون القصيدة لوحية فنية وفي الوقت نفسن منبنية على غواية الوصف ودور الوصف جهة الدقة في تحويل الداخل في الوصف إلى موضوع تأمل، يعلّم ويغذّي الروحي فينا.
إنما ماذا عن شاعرة تقدم قصيدة تخص أمها، وهي غابرييلا يوك " 1968-.."؟:
بمرور الوقت كانت
تبدّل ألوانها
ليسَ بسبب الفصول
ولا المد والجزر
ولا نسيج ريح ما
ولم يكن السبب حتى عيونَ الرجل
الذي كان بإمكانه أن يهز كيانها
لا
أمي كانت تغيّر ألوانها
كأنها مشكال عمودي من الغضب
كما لو أن حيواناً حرباوياً يسكنها
كانت أرضاً هناك/ في المنشأ
تفككت إلى أخضر حاد ٍ
أو إلى بنيّ..ص118.
إنها تمضي بالمشهد من الخارجي إلى الداخلي، إلى عمق الكائن والشيء، إلى البعيد داخلها، إلى ما يتعدى ظاهر المرئي، وما يمكن التأكد منه حسّياً، إنه العمق المكين لشواغل المعنى نفسياً. إلى الجاري حدوثه في الداخل وهو أساس التغير أو الحركة في الشيء، ومنه وفيه تكون العبرة .
في قصيدة " رايموندو لوليو يحلم " للشاعر كلاوديو أرشوبي" 1971 - .."مفارقات العمر تتكلم:
عندما كنتُ صغيراً
أردتُ أن أخترع آلة
عندما كنت صغيراً
لم أكن أعرف أن العالم أنتجته آلة
وأن الآلة معطلة
عشتُ حياتي منزلقاً
على الأسطح المعدنية
الملساء
الفارغة
هناك حيث الزمن والدوار والراحة
صدى لإشاعة تدفع المنعطف المتغيرَ
من القشرة السخيفة
مرات كثيرة سقطت..ص 162
إنها إقامة علاقة مع العالم، وفي نقاط محددة تمثّل عناصر القصيدة بالذات، وإشعار بالتغيرات التي تحصل في أصل المرئيات، وهو ما يبقي الموصوف في الذاكرة، ليكون الشعر معروفاً بكل ما يجعله حاضراً في الزمن،وما يضفي على الشعر قيمة ائتمانية من منظور جمالي وفني. إن كل ما يشغل المرء في مدى عمري هو الذي يكون جديراً بلقب الرابطة الشعرية والإقامة فيها.
ولأن الشعر داخل في كل شيء دون أن يأخذ إذناً منه، وخارج عنه، دون أن يعلمه بذلك، أو يتصرف به على طريقته دون أي ترخيص، لأن في ذلك عمراناً مغايراً لعالم شعري، في قصيدة " ابتهالات اليراع " للشاعر ليوبولدو كاستيلا " ما يخص هذا المعنى:
عاد الأب والأم
يتجولان الآن بين اليراعات
بناءُ البيت التائه
سيكون دائماً هكذا
من الموت إلى الضوء
من الضوء إلى الموت
مثل اليراعات
بينما نتماوج كمياه غريزية
بين الغرف...ص185 .
ربما هي حالة الصيرورة في قلب كل شيء، ربما هي العلامة الفارقة للشيء من خلال شيء آخر، ربما هي السمة الثلاثية الأبعاد لشخص ما في تفاعله وعلاقته مع محيطه الخارجي. هوذا دور أو مقام كل من الأب والأم، وما يجعلهما في الصورة المتشكلة، ما يقضي بالعمر لأن يظهر هكذا في ثنائيتهما، ما يجعل التماوج بمفهومه المائي شاهداً على حركات قائمة في العمق.
ولأننا تحدثنا عن الأم، عن الوالدين، فإن الشاعر الأرجنتيني الذائع الصيت هوغو فرنسيسكو رفيللا " 1948-.." وصاحب أعمال شعرية كثيرة، له ما كتبه في قصيدته" أمّي الواهية جداً " ما يرفع من شأن الاسم ويضعه أمام ناظرينا أبعد من كونه مجرد الاسم المتداول:
واهية جداً
أمّي
تتمزق في الظل
تبحث بعينيها الشاردتين عنّي
وتبحث
آه !
وتبحث
تنظر إلى الأرض
تنبش بأظافرها وراء السراب
تجمع ورود المياه العطرة
وتسأل
وتسأل
من هم؟
إلى أين أخذوه؟...ص229 .
القصيدة مهداة " إلى المفقودين " وفي الإهداء ما يجعلها أكثر حمولة بالمعاني، بمآسي الواقع، وما تعنيه الأم دون غيرها من الكائنات الأخرى، في انشغالها بأولادها، بمن يهمها أمرهم، لتكون الأم في مركز التكوين، مركز العالم، مركز القصيدة، وأن مركزيتها دون أي مركزية أخرى تكون مجازة لأنها في وضعيتها هذه لا تحيل ما عداها إليها، إنما تحيل ما فيها إلى ما عداها، كما لو أنها تترجم الكوني، الطبيعة عنها في روحها، موجزة، ملخصة، مشكّلة صورة أكثر تكثيفاً بشكل غير مسبوق عما ينعطف عليها، وهي في ضعفها وهي في قوتها بالمقابل، وهي تجعل العالم نهب أسئلتها ذات الصلة بما يعنيها جرحاً في روحها الأمومية. كما لو أن القصيدة ذاتها هي هذه الأم، هذه الخصوبة التي تتجدد شبوبية، وهذه الشبوبية التي تعرَف بالقصيدة.
وقفة
كما حاولت، ومن خلال نماذج مختارة، من جهتي، من القصائد المختارة، وفي صفحات متفرقة، فإن المتضمَّن بين غلافيّ الكتاب يعطي فكرة حية، وجميلة عن القصيدة الأرجنتينية، عن " فضة الكلام " أي عن المقابل الحرْفي لكلمة الأرجنتين، وقد استعيرت لتكون صفة أخرى للقصيدة وهي تمثّل بُعداً تاريخياً، وهي في مرجعيتها لمن يحاول الإحاطة ببعض مما هو أرجنتيني.
وما انشغلتْ به المعدة والمترجمة كراسيا العوض، أفصح عن ذائقة حوارية مركّبة، عن عشق لغتين بينهما ذلك الأفق المفتوح والذي يجيز لكل لغة لأن تجد صورة حية في مرآة الأخرى، وما يجعل من القصيدة من موقع الخصوبة، لأن تثري اللغة، وتثري العالم، وتثري الكوني فينا، أي حيث كل من الرقص، والشعر والموسيقا، أي حيث يتوحد الكوني في كل منا، وليكون في مقدور الشّعر أن يثبت أنه فن كان، وفن يكون، وفن سيكون، وليس في الإمكان الاستغناء عنه، إلا إذا افترض أحدنا أنه يعيش بروح رهينة جسمه فقط، وليس من صلة بينها وبين الأرواح الأخرى في أجسام من كانوا ومن سيكونون، وحتى من غير البشر طبعاً....
مصادر وإشارات
1-تانغو وفضة الكلام " مختارات من الشّعر الأرجنتيني "، إعداد وترجمة: كراسيا العوض، دار المحيط، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2022 ، في " 244 " صفحة، من القطع الكبير نسبياً، وكانفة الإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة.
2-خورخي لويس بورخيس: التانغو " أربع محاضرات، ترجمة: د. مزوار الإدريسي، منشورات الجمل، بيروت- بغداد، ط1، 2019، ص33.
3- Tango Negro : et si les racines du tango étaient (aussi) africaines ?
تانغو نيغرو: ماذا لو كانت جذور التانغو أفريقية (أيضًا)؟
4- Origines du Tango : de l’Argentine à l’Europe en passant par l’Afrique
أصول التانغو: من الأرجنتين إلى أوروبا عبر إفريقيا
5-Brève histoire du tango argentin
تاريخ موجز للتانغو الأرجنتيني