معابر ومسابر
هل يمكن للشّعر أن يصبح محسوساً، عبْر فاصل بين جسمنا والأرض، من نوع سجّادة فارسية؟ ماذا لو أصغينا إلى الصوت المقدَّر لسجادة فارسية مشهود لها بعراقة المنعَّم والمفخَّم ؟ ماذا لو كان الطرْس نفسه نظير السجادة، التي تحتضن خريطة كوكبية وفق شعرية السجادة هذه/ تلك؟ماذا لو كانت السجادة هذه ذاكرة لا يحاط بأغوارها التي لا يستشعر قاعها إلا من تجاوز مرئيها؟ أليس الشعر في روعة تكوينه، هو أن يحرّر الكائن من حسيته المتقلبه ويبثه ديمومة روحية؟ متى كان ، وحصل، طلاق، بين كل من الكائن" العاقل " هذا وما يعرَف به من ثبوتيات الروح والتي تظهِر إلى أي متى، يكون الشعر ضرورة وجودية له، ويؤكد فذاذة تكوينه؟
هل جرّب أحدهم الانغماس في الشعر الناعم، العميق، الملوّن، المتماوج، وما يصله بالمخيال الأثير، وادعاً طيَّ النعومة جسداً مقروءاً بالشعر، وما يرتقي به إلى ما هو روحي صُعُداً؟
في العودة إلى السجادة ونباهتها، واعتبارها شاهدة تاريخ حضارة، هناك ما يسوّغ النظر فيها داخلاً وخارجاً، ما يجعل من الشعر معرَّفاً بها، في بدعة فنونها، ولسان حال لها في جنون مداها.
في مجرد التذكير بـ" السجادة " حتى نحضر المحدّد لها زماناً ومكاناً وأبهة تكوين" الإيرانية " في عموم المعنى الجغرافي وثراء المعنى، ولـ"الفارسية " حضور آخر جهة التنسيب الثقافي،إذ لا تعود السجادة كما هو المستخلَص من أية تسمية في معلوم المتردد عنها، بمقدار ما تكون ما تعنيه عبارة " مفرد بصيغة الجمع " حيث الشكل المعروض للنظر يحيل إلى اللامحدد جمالياً وفنياً.ما أن نقول السجادة الفارسية، حتى تنبسط جغرافية بكامل حمولتها الطبيعية والكائنية، ويكون المرئي فيها أرشيفاً لونياً يُقرَأ برموزه، وهي خطاب المتشكل المنسوج بتنوع أبعاده!
البدء سجادة
من هنا، أقرأ في كتاب " سجادة فارسية: مختارات من الشعر الإيراني المعاصر ""1" ما يصلنا بالنوع القائم في مأثرة المعنى، وما يكونه الشعر في صلة قرباه بالسجادة وجلاء أمرها مفهوماً .
أي بدء يتمثل في السجادة هذه بخاصية العجيب الغريب؟
يمكن القول أنه إذا أردتم معرفة حضارة إيران فإليكم بالسؤال عن سجادتها، أرضيةً وتعكس سماء، مرئية وتترجم بعضاً مما هو لامرئي. تنبسط وتعلق لجعل العين قارئة عامودية لها. يا للروح الصوفية الرحالة التي تنبض بكل جسدها في ثناياها خارج كل إطار يمكن تصوره.
سجادة تمثّل روحاً شعرية، وهي ما أن يجري التأمل فيها، حتى يتناغى المخيال المأهول بما هو عميق الأثر، الروح القلقة والمتشبثة بالوجود في آن. سجادة هي نص لا يكف عن التذكير بتلك الأنامل التي أبدعت في إبراز صورتها، وجعْل الصورة ناطقة بأثرها، وما أكثره هذا الأثر تنوعاً واحتفاء داخلياً بالمختلف، حيث النسيج المحبوك يتكلم جانب المحسوس، ويستولد نصه البصري.
أي سجادة هذه بنوعيتها، بأصولها وفصولها المتعدّية لإطار ما هو مفهرس بين دفتي كتاب؟
أحيل في هذا السياق إلى المقتطف من مقال مركَّب بمهارة رؤية شعرية:
(عندما نتحدث عن بلاد فارس ، فإننا نفكر بالضرورة في سجادها. إن التعبير عن الثقافة الفارسية ، مثلها ، يُثري باستمرار بمرور الوقت من خلال مساهمة العناصر الجديدة التي تميز زمن التاريخ ، فإن النسيج هو بالفعل فن "فارسي" بامتياز، لأنه حتى لو كان بإمكان العديد من الحضارات أن تعتبر فن النسيج من بين حرفها ، لا يمكن لأي منها أن تدعي أنه عمل فيه بقدْر الحضارة الإيرانية. وبالفعل ، فإن البساط الفارسي هو ثمرة فن متعدد الأجيال لم يتوقف عن الكمال على مر القرون، ليثبت نفسه أكثر فأكثر في بعده الخفي والأرستقراطي والصوفي الفارسي ، وإنما أيضًا في حيويته التي استمد منها النساجون، البدو أو القرويون ، الذين عرفوا كيف يتطورون في هذا الفن اليومي، مساهمة علاقتهم بالطبيعة، المستأنسة أو البرية. هذه العناصر ، بدورها ، تطورت على مدى التطور العام للفنون في الحضارة الفارسية.).
أورأيتم كيف يكون المردود في الحال، ما أن يحدث إنجاز المخطَّط له سجادياً، وفي حيّزه اليومي طبعاً، وبأنامل لا تخفي فناء أهليها، حتى يستحيل المنجَز شاهد إثبات على ديمومة الصانع هنا أو هناك، وما على الناظر إلا أن يتصورمن وراء هذا المصنوع ببراعة، وقد استحق بقاء..!
أحيل إلى مسوّغ نشأة هذا المكون الهائل الجمال، وتأكيده لكينونته دفعاً لأي خطر، أي ما يجعل من صنعة السجادة فعْل مقاومة، وفعل تمسك بالوجود، وتأكيد أهلية المقاوم في الوجود لما هو إلهي فوق زمني، أي مطلق، وما فيه من تمثيل للفن في وجه من وجوهه المثلى:
( ربما كان جفاف الأرض والوعد بالخصوبة الذي قدمته هو الذي دفع هؤلاء السكان الجدد في الهضبة الإيرانية إلى دمج زراعة الأرض في حضارتهم ، حتى لو ذهبوا إلى أبعد من ذلك لإضفاء أهمية دينية مهمة عليها.).
أحيل من خلال المقال نفسه إلى ما تفرضه اليد الصانعة والبارعة من حضور مكاني، حيث:
(تعتبر الشجرة أيضًا عنصرًا أساسيًا في التصميم الإيراني. في هذا البلد القاحل إلى حد ما من إيران ، كان دائمًا رمزًا مهمًا جدًا لتمثيل الحياة. يختلف شكله من منطقة إلى أخرى. وعدم تقديم نموذج نموذجي في سجاد البدو الذين يعيشون في تعايش دائم مع الطبيعة، هو، في المدن، عنصر أساسي في الديكور في السجادة ، سواء كانت سجادة حديقة أم لا. في سجاد الحدائق، غالبًا ما تكون مورقة ومغطاة بالورود والطيور وتملأ زخرفة المحراب حيث ، في زخرفة متناسقة تمامًا ، تحيط بها مزهريتان. في فكر القدماء، شجرة الحياة هي محور المراسلات بين المستويات الثلاثة للعالم: الجنة السماوية ، الجحيم تحت الأرض والعالم الأرضي ، لذلك فهي الشيء الذي يربط هذه العوالم الثلاثة الواحدبالآخر. ويشمل المعنى الكامل للحياة.) " 2 "
الرؤية الفردوسية للسجادة، إحالة لا تتوقف إلى ما هو ماض في البقاء، إلى فكرة الجنة التي تكون مشتهاة، ويجري " خلْقها " بمراميها الغاية في الرهافة، واستحقاق الإقامة على وقْع هذه المتابعة، جنة لا تكون بمفردها، ثمة الجحيم، ليكون الاشتغال بهذا التجاذب عامل إثراء للاسم وتفعيل أثره.
البعد المنمنماتي في السجادة يغذّي المخيال ويبقيه دائم التحول والتطور والتجاوز لاسمه ومسمّاه، فثمة تاريخ مقروء، ثمة أيد شاعرة وإن خلت حياتها اليومية من الشعر، إنما تسطّر بصرياً ما يمد في عمر الشعر، ما يبقيه رضيعها وصنيعها وبديعها، إن جاز التوصيف، أيد تتنافس فيما بينها، وهو التنافس الأكثر براعة في تأهيل كل يد تمتلك موهبة نسْج تخرج السجادة عن سجاديتها، لنكون إزاء " سجدنة" التكوين برمّته، ما يخرج الجسد الصانع، أنى كان نوعه وجنسه إلى الأكثر احتواء بالمقاومة لما هو موجود، وجعْل الوجود حاضرة بجدارة، أيد تخرج المكان من مكانيته، وهو دأب الخيال لدى الشاعر، في تنوع رؤاه، ولكل شاعر تاريخه في معايشة قصيدته.
في السجادة الفارسية، تكون الأنامل صانعة إبداعية، وتاركة بصمتها ناطقة بحضورها، وهو الحضور الذي يقاربَ تفسيرياً، بينما تخيل الأنامل الصانعة، وهي في وضعية غياب، فهي تقارَب تأويلياً، لأن هناك ما يستمر في التنوع. بالطريقة هذه يصبح اللون والملمس توأمي شعر من نوع خاص، تكون السجادة ذاكرة استقطابية للحواس، وللشعر مقامه العالي في إضاءة الأثر. شعر مع لون وملمس، وبالتناوب، ما يغيب عن البصر يعانق البصيرة، لنكون إزاء بصمة حضارة فاعلة!
لقد " طهَّرت" الآلهة القدماء السماء من وجود شريك إنسيّ العلامة ضمن أولمبها، وأقصته بإنزاله إلى الأرض، لماذا؟ ليؤكد نظيراً ألوهياً فيه وتأكيد أنه لا يستهان فيه، فكان الفن حيلتَه.
لا تعود السجادة الفارسية مقتصرة على لونها، شكلها، بهاء صورتها، إنما ما يعمّق التشوق القائم للاستزادة، بالطريقة هذه تكون اليد السجادة شاعرة. تصوروا يداً تفرز عصارة إبداعها شعرياً في النسيج الحي، النسيج الخطاب البصري، النسيج الذي يتكلم وجوداً لكائنات تقيم فيه ؟
لقد مارست الآلهة قديماً قوتها بالكلام الخاص بها، بينما الإنسان كانت يده دالة على هذه القوة!
في رحابة السجادة الفارسية شعراً
ماالذي أهّل السجادة الفارسية لأن يُقرَّر من خلالها ما هو شعري؟
شهادتها في ذاتها، وذاتها في تدفق ينبوع حياتها. فالشعر ليس ما يدعونا إليه، إنما ما نمضي إليه، ونعوّل عليه، لأننا نكون قد أكّدنا أنه ينبعث فينا، وفيه نجّذر شهادتنا حياة وموتاً وأثراً باقياً .
ما كان الشعر يوماً طريد حياة، بالعكس تماماً كان مطلوب حياة، مشتهاها لحظة تمثّلها بتلك الصور التي تنمّي في مفهومها المركَّب ما هو أكثر نقاء مما هو حياتي حسي بالتأكيد .
أكثر من ذلك، في كل مبحث عن " لعنة " الشعر، يكثر الشهود الدالّون على أنه مع كل " لعنة " مرسومة، أو موجَّهة، أو معتمَدة، أو راصدة، ثمة اعتراف بفعل المقاومة الخاص المتوقف عليه!
إيران غنية في تاريخها، في جغرفيتها في أصواتها التي تكوّنها، في أطلسها الإبداعي.
علينا أن نعترف بهذا الدور المأساوي والمولّد لطاقات تبقي الوجود طوع النظر، تجنباً لأي يأس جانبي، يأس يكون هو المقيم في الواجهة، والتاريخ أكثر من مجرد الإصابة باليأس، وليس من يأس هو وجه متصدر التاريخ، إنما لحظة قائمة فيه، ومؤقتة، ودون ذلك لا يكون هناك تاريخ أصلاً، ولا عبْرة من التاريخ، في أسباب ضعفه وقوته الفولكلورية، فـ (في مواجهة خيبة الأمل في العالم ، هل يمكن للشعر أن يوقظ تهمة تخريبية ، رؤية تحمل أفقًا مختلفًا؟ بالنسبة لأولئك الذين يعرفون كيف يلقون آذانهم أو ينظرون إليها ، فإن الشعر، بجميع أشكاله ، لديه القدرة على فتح مسارات الإحساس التي تعيدنا إلى أساسيات الوجود. وبالتالي ، فهي تعارض الوحشية - تلك التي تهاجم الأجساد والتخيلات ، تلك التي تقيد المساحات الصالحة للسكن. في حين أن كل شيء يتحدث إلينا عن المنطق التجاري والنفعي ، فإن السكن الشعري للأرض هو بمثابة دعوة ، وحتى بوصلة أخلاقية يمكن أن توجهنا للتصرف فيما يتعلق ببيئاتنا ، وأكثر انتباهاً لما يحيط بنا. في الأساس ، العيش بعيون وعقل الشاعر ، أليس هذا العيش أكثر إنسانية؟) " 3 "
هذا اليأس المذكور، لا يمكنه أن ينعم بسطوة الإقامة، كما تقدَّم، ونشوة العلامة فيه، فالشعر يبقيه كائناً من كائناته الروحية، مادة تعنيه ولا تبقيه وحده، بمقدار ما يواجَه بسواه، هو فعل وجود، أي إنه (يمكننا أن نسأل أنفسنا ، بحق ، عما إذا كان الشعر ممكنًا حتى اليوم ، عندما يزحف الوجود النبوي apoétique l’existence من جميع الجوانب ، عندما نعيش في مجتمع "مبتذل" ، كما قال إدغار موران بجدارة. ) " 4 "
الشعر بالطريقة هذه، ذاكرة حية، وأكثر منها، لأنها لا تبقينا أسرى ما كان، فالذاكرة ما أن نقبل على قراءتها حتى سرعان ما تمنحنا " شرف " الانتقال إلى رتبة وجود أمضى، وتتوسع هي. هي ذي ذاكرة الشعر المفتوحة على المختلف والمجهول خلاف أي ذاكرة أخرى، وهاهو الشعر الذي يعلّمنا بالكثير مما يشوّقنا إلى احتضانه ليكون تعبيراً عن ألم نقيم به حداداً على وجود، كي ندفع عنا بلاء لا قبَل لنا به، كما لو أننا ندفع ضريبة ما نكابد ونقاوم من أجله (نحن نفخر بإخراج الشعر ، بالمعنى الذي نفهمه به ، من نص نعلم جيدًا أن معنى الشعر ليس معنا. نرى فيه علامة على براعتنا وحساسيتنا بقدر ما هي سمة الجودة الشعرية الجوهرية للنص. نحن نستمد متعة كبيرة منه. نحن ممتنّون للنص للسماح لنا بإظهار صفات البراعة والحساسية هذه.) " 5 "
هو ما يواجهنا بأنفسنا، هو ما يخرجنا من أنفسنا، وهو ما يعزز وجودنا في أنفسنا، حيث نواجه تلف الموجود بشغف الوجود الآخر الذي نودَعه حضورنا العصي على الاندثار، وللشعر " لوحه المحفوظ " المعلوم والدال على ذلك، وللسجادة الفارسية مثل هذا التجلّي بمعاني الشعر ومبانيه.
في الشعر الإيراني ثمة ما يبقينا مأهولين بنشوة المصاحبة والمعايشة لأثرياته .
إن ما سعت إليه معدة الكتاب ومترجمته مريم الحيدري، لا يخفي ذائقتها في اقتفاء أثر هذا الشعر، في خطوط ناعمة، رقيقة، شْعراتية، أو شريانية، وهي تضيء تاريخاً شهد انعطافات في مفهومه الاجتماعي والسياسي، وأفصح عما يردِف ذلك بما هو ثقافي. إنه سرد تاريخي يتوازى ويتداخل مع سرد ثقافي، ما أن تتم تهجئته حتى يتقدم بنثره وشعره، حتى يكون للشعر ما يهذّب الوجود به.
خلال صفحات عدة" خمس صفحات " تقدّم حيدري، بما يعبّر عن توازن الفكرة التاريخية لما هو شعري في إيران، وهي تكثف هذه الفكرة على أرضية التعامل مع هذا الكائن الشديد التحول: الشعر، ، وما يأتي سياسياً واجتماعياً، هو الخميرة الغنية بكيميائيتها في إنضاج العجينة إيرانياً، والشعر له نفْسه ونفسه ( مع بداية الثورة الدستورية في إيران 1905- 1911، شهدت البلاد تطورات ملحوظة لا سيما على الصعيد السياسي والثقافي، ما جعل هذه الحقبة التاريخية نقطة عطف في الحياة الإيرانية ومختلفة عن كل الحقب السابقى. العلاقات التي بدأت مع الغرب في نهايات حكم القاجار لا سيما طيلة حكم ناصر الدين، شاه القاجار وابنه مظفّر الدين شاه في بدايات القرن العشرين، تركت أثراً لا يستهان به في الأوساط الثقافية والحركات السياسية التي كانت تطالب بالحرية والعدالة، غيَّرت ملامح الشارع الإيراني إلى حد كبير، إذ اهتم المثقفون الإيرانيون بمكافحة الاستبداد السياسي ودكتاتورية الشاه، وتطلَّعوا لمثل تلك التطورات في المجال الثقافي .ص 7).
هوذا التاريخ المقرّر بعلامات مكثفة له، والذي يواجه به لامعقولَه الذي كان واستبد به، بمعقوله الذي يحين أوانه زماناً ومكاناً، ولا يعود التاريخ ذاك نفسه، لا تعود الخيمة التي تحتوي المكان، أو الجغرافية هي عينها، إنما ما يمضي بالتاريخ إلى المغاير لما كان عليه سابقاً، وما تمثّله قاطرة الثورات أو الحركات المقاومة للطغيان، هو ما يعدُ بالمنشود، ما يعطي للحياة معنى، والافتداء من أجلها قيمة دامغة لماحة، وما يشكّل مهماز القول الشعري بحصانه الجامح والصاهل.
تقدّم لنا حيدري ما يشبه الخريطة الأدبية عما هو شعري لقائمة مختاراتها،ومن خلال تلك التي أسمّيها جرّاء وزنها وحيوية مقامها بـ" الإحداثيات الشاغلة لسرد التاريخ " أي رموز هذا الشعر بالذات، وفي متتاليات تشغل تاريخاً مشهوداً له بالتحول، وعلامات الاختلاف، بعد التأثر بما هو أوربي، وما يجعل المقروء أوربياً جهة الثقافة، فعلَ المذنَّب النجمي وشرارته في الليل، فيتقدم لنا اسم عظيم الأثر الشعري " نيما يوشيج والذي، وكما تقول حيدري( خرج عن الأطر والمعايير الشعر التي حكمت الشعر الفارسي لألف عام ..ص8 ).وما يجعل منه " لوغو " لا يجارى في إدخاله تصورات ومن ثم مفاهيم وحداثة رؤى في المشهد الشعري الفارسي، وحتى سرديته الكبرى تاريخياً. إن مجرد تخصيص أكثر من صفحة لهذا الشاعر الأكبر من كونه مجرد شاعر، من بين خمس صفحات تخص تاريخاً طويلاً للشعر بأسمائه وألقابه وأسماء تياراته وعلاماته التجديدية اللافتة، يشكل شهادة حية على مدى تأثيره، ومأثرة الاعتراف واستثنائيته، مثلاً حين يشار إليه بأنه في دوره الأدبي الشعري في الشعر الإيراني المعاصر يذكّر بما أبدع فيه إليوت البريطاني في قصيدة " الأرض اليباب "، ذلك مثال لا يستهان به هنا طبعاً.
وما جاء في أعقابه يعزّز هذا التحفيز بغية المزيد من التحويل في مفهوم قول الشعر ودوره، وهناك الكثير ممن تركوا بصماتهم الصوتية في هذا السياق، ومن أهمهم( احمد شاملو، فروغ فرُّخ زاد، مهدي أخوان ثالث، سهراب سِبهري، منوتشهْر آتشي..ص9).
هناك تواريخ، ولكل تاريخ علامة مائزة، من ذلك ( الموجة الجديدة ) العائدة إلى (حركة مهمَّة في الشعر الفارسي..ص9)، وهي تستدعي علماً شعرياً، هو: أحمد رضا أحمدي، وتأثير ذلك على عموم جوانب الثقافة الإيرانية " ص 10"، وتلك التغيرات التي شهدتها سبعينيات القرن الماضي، وبشهادة منبر أدبي يتمثل في مدلة ( تماشا ) مع قصائد لشاعر غير معروف ( آريا آريا بور) مطلقاً عليه صفة أحد شعراء حركة ( الشعر النقي)..ص10).
ومن المؤكد أن الشعر، شأنه في ذلك شأن أي جانب أدبي، أو ثقافي، يؤذِن بظهور مجهول، وصدمته للمألوف، وانتظار بعض الوقت ليفعّل أثره ويصبح رمزاً وقدوة تالياً .
وما يخص ثمانينيات القرن الماضي، وما هو معروف عن هذه الفترة العصيبة، ناحية الحرب، سوى أن ذلك لا يعني أن الحياة توقفت، حيث ( لا يمكن عدم الالتفات إلى أسماء مهمة في الشعر الإيراني)، كما في مثال ( فرشته ساري، فشعرها ( حمل ثيمة إنسانية تتعلق بتجارب الحياة اليومية التي كانت تعيشها الشاعرة كمواطن عادي. ص 11).
وما أتت به تسعينيات القرن الآفل، في أعقاب الحرب، وما يخص كيفية لملمة الجراح المغطية للجسد المجتمعي، ومن ثم الاستعداد للحياة بصورة أكثر كثافة قوىً، ولهذا ( ربّما يمكن اعتبار التعددية الشعرية في التسعينيات أهم مميزات المحاولات الشعري في إيران..ص12).
وما تعيشه المرحلة الجديدة في مطلع القرن الواحد والعشرين، من محاولة البحث عن المختلف، والذي يظهر هو أن المعايشة هنا تكون مكْلِفة ومؤلمة، كما يُستخلَص من كلام حيدري، إذ ( يمكن اعتبار شعر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين حتى الآن عودة غير سريعة إلى مواكبة الشعراء للحياة الاجتماعية والسياسية وأحداثها، وابتعاداً عن مركزية التيار النخبوي الذي كانت تلاحظ بشكل كبير في العقد المنصرم..)، واللافت فيما تقوله حيدري تالياً، وهو في( عدم ظهور شعراء يمكن اعتبارهم عمالقة الشعر كما كانوا في العقود السابقة . ص 12).
هذا يستدعي الكثير من مفاتحة ما يعيشه الشاعر وضعاً اجتماعياً وتفكيراً، والذاكرة المنقسمة على نفسها، أو الوجع الدفين والمؤثر الصادم الشغال لمفهوم الذاكرة الجماعية، كما أفصح عن ذلك هالبواكس، وذلك اليأس الذي يستحكم في قوة المخيال الفردي والاجتماعي، لتكون المأساة أكثر من كونها مخاض ولادة باعثاً على الأمل، وما في ذلك من انكفاء على الذات جرّاء ذلك.
وما تنوه إليه المعدة والمترجمة يؤخَذ به، جهة قائمة المختارات، فالشعراء كثْرٌ هنا، ولا بد من اللجوء إلى تلك الذائقة الشعرية ومعايشة المتحول التاريخي، والوفاء الزماني- المكاني، وإيراد ما يسلسِل هذه المراحل، ويعطي فكرة موجزة ومعبّرة عما تم اختياره. والخيار نفسه مقرَّر ثقافي!
وأنوّه إلى البعد الأكاديمي لجهد حيدري، وقد مرْحلت مختاراتها، وما لكل مرحلة من " مدحلة " شعرية، وكيفية تسوية الأرض الاجتماعية، أو ترْك أثرها في الجغرافيا الاجتماعية تلك أدبياً.
وإذ أقول ذلك، وقد انتهيت من قراءة المدخل، وقد تشكلت لدي فكرة عن مختارات الكتاب، فثمة صورة تشكلت في ذهني بصدد جهة حيدري، تذكّرني بمقولة تخص الأدب في عمومه والشعر داخل فيه بامتياز، وهي تخص المفكر الفرنسي جان لوك نانسي (يمكن للمرء أن يقول أن الأدب هو كائن خارج نفسه: فانتفاخه المكاني يسمح له بالوجود فيما وراء نفسه ، في الفنون والفكر ، علاوة على ذلك ، أن يتواجد ليس بطريقة غير قابلة للتغيير ، ولكن في كل مرة بطريقة مختلفة في التفرد. من عمل أو فعل فكري. ) " 7 " ، حيث الحياة التي تمهر كل شيء بطابعها تغيراً وتحولاً، وما يكون جديداً، ينفي تطابقه مع سلفه، وليس من نسخية في التاريخ، إذ لكل نوع شعري جادٌّ سلف ذاتي في العمق، وما يميّزه عن سواه هو ما يجعله مرئياً بعلامته الفارقة، فيكون له نسيجه المختلف، وسرده القائم على الاختلاف، وخطابه الروحي المختلف، وحيث القارىء لا يغفل عما تعنيه حركية " المقاومة " شعرياً، وما يعنيه تنوع الشعر وتمرحله من إيمان بالحياة، وما يُعزى إلى الحداثة في تنوع مقاماتها أو مراتبها وتباين أجوائها، من تأكيد أن الحياة تقوم وتستمر في التنوع، دون ذلك يستحيل علينا النظر إلى جمالية المنظور في " السجادة الفارسية ".
في ظلال المختارات
أتحدث هنا عما يقرّب الشعر من الروح، وعمن يقيم علاقة مع الشعر ودرجة تفاعله معه، حيث يكون الاسم مريم حيدري، ولا بد من إضاءة صفحتها الثقافية، ولو ضمن رقعة تستحقها، فهي أهوازية من إيران، ولازال دم الشباب ساري المفعول في كيانها، لحظة النظر في عمرها، إنها من مواليد " 1984 "،وهي شاعرة ومترجمة وكاتبة صحفية،هي (شاعرة وصحفية ومترجمة من إيران، الأهواز. ممّا صدر لها في الترجمة إلى الفارسية: "أثر الفراشة" لمحمود درويش، وإلى العربية: "ذكرياتي، مذكرات بنت ناصر الدين شاه القاجاري". وقد صدر لها ديوان "باب موارب" عن منشورات المتوسط بإيطاليا. تكتب مقالات في الثقافة والفن وأدب الرحلة مع صحف ومجلات عربية وفارسية، ولها اهتمامات في السينما والطبخ والأدب الصوفي...) " 8 "
سوى أن الأهم هو ما يخص الجانب المؤثر والمندرج في نطاق " مصلحة " الشعر، في سيرتها، وما ورد عنها في مقابلة معها،وصِلتها بهويتها وموقعها الثقافي وموقفها من الترجمة، حين تقول عن نفسها، جهة العلاقة بين الفارسية والعربية وجواباً على سؤال(– بين العربية والفارسية تتوزع مريم حيدري شاعرةً .. أيُّ اللغتين تجدين أنها تتسع لما تودين قوله شعراً؟
-تعرف أن لغتي الأم هي اللغة العربية لكن علاقتي مع الفارسية جيدة جدا. أنا أكتب بالعربية والفارسية.. في بعض الأحيان أشعر انه علي أن اكتب بالفارسية قصيدة ما مثلاً وأحيانا أجد أن العربية فتحت أحضانها لما أريد أن أكتبه. القصيدة تأتي اليَّ بلغتها.. هي تختار لغتها وتعرِّج نحوي.. بالفارسية أم العربية.. أنا كتبت أول ما كتبت بالفارسية.. ثم بدأت بالكتابة بالعربية.. الفارسية قريبة جدا الي.. أفكر في كثير من الأحيان و أحدِّثُ نفسي بالفارسية.. هي أعطتني تجارب لم يمكن من السهل أن أجدها في لغة أخرى.. أنا كنت منذ صباي مغرمة بالصوفية.. وقرأتها بالفارسية.. قرأت جلال الدين الرومي و حافظ و شمس التبريزي وسعدي والعطار كلهم بالفارسية وعشقتهم.. لا استطيع أن أتصور أن يكون جلال الدين الرومي ليكتب كل تلك القصائد الجنونية المذهلة في لغة أخرى.. ربما أقول هذا لأني اعتدت عليه بالفارسية.. لا اعرف.. لكني الآن اشعر أني لن استطيع يوما أن أتخلى عن الفارسية واتركها.).
تلك فضيلة اللغة التي تمنحنا حضوراً بلسانها، وتفتح لنا مسارات وممرات نمارس عبرها تكوين شخصيتنا الأكثر مما هو عابر أو عرَضي فيها، وما هو مذكور في متن القول هو ما يصعد بإبرة الشخصية لأن تطرّز نسيجها الحيوي، أن تسحب وراءها خيط حياتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وما من شأنه إضاءة مفهوم اللغة كفاعل وجودي، وخزّان معرفي، ومحفّز على الانبناء.
وفي السياق نفسه، ما يصل أحدنا باللغة الأخرى ترجمة، وهي تجيب على سؤال:
(-يقال إن الترجمة خيانة للنص .. ماتعليقك على ذلك وأنت اشتغلت على ترجمة الكثير من النصوص الإبداعية؟
لا أعتقد أن الترجمة هي خيانة بالمعنى الحقيقي وإن تكن خیانة فلتكن. فماذا نفعل من أجل أن نقرأ الآخر ومن أجل أن نتعرف على الأدب العالمي وحتى على آداب جيراننا مثلاً.
في كثير من الأحيان عندما أترجم نصاً شعرياً أو غير ذلك، لكم أتمنى لو كان القارئ يستطيع أن يقرأ ذلك النص بلغته الأصلية ولكن ماذا نفعل؟ على المترجم فقط أن يبذل كل جهده ليصب روح النص الأصلي في ترجمته لتكون نسخة أخرى من النص الأصلي في اللغة المترجمة. أنا اشعر بحزن شديد عندما أرى ترجمة سيئة خصوصاً لنص جميل وذي قيمة.. النص يقتل بالترجمة السيئة فلنصنه.).
وهو ما يقرّبنا من الخاصية النفسية لشخصيتها ومدماك وعيها الفني كذلك، في انفتاحها الثنائيّ التركيب ثقافة، وقولها عما تكونه في الكتابة، حيث أجابت عن سؤال بهذا الصدد:
(صرّحت ذات مرة قائلة ” أحاول أن أعكس التمرد الذي في داخلي من خلال قصائدي” ماتبرير ذلك برأيك؟
أنا متمردة مع انه لا يكون ذلك واضحا في كثير من الأحيان في ملامحي. التمرد الذي تحدّثت عنه في ما أشرت أنت اليه يعني التمرّد على التقاليد.. كنت ولازلت اعتبر لاسيما في مجتمعنا الاهوازي فتاة متمردة..) " 9 "
لا تخفي حيدري نوعية انتمائها الأدبي، والشعري في الصميم، ومسئولية " عشق اللسانين " وما بينهما من علاقات مفتوحة، على صعيد الترجمة، حيث الترجمة أكثر من خروج من الذات وبالذات إلى الآخر الذي لا يكون إلا إضاءة لمفهوم الذات، ووحدة المعاناة، وجاذبية الرغبة في الرفع من سوية العلاقات ورهان المعنى، ونشوة المتوخى في التحرك الثنائي الاتجاه بينهما.
في الترجمة، تكون الذات منفتحة على داخلها وخارجها، تكون هي وليست هي في انفصالها عن " لحميتها " ومعايشة روحيتها، وهذه السمة الفاعلة هي التي تتكفل بإدارة العالم الذي يستمر في التبلور والتحول والتنوع جرّاء آلاء الترجمة بالذات، والتي تسمّي كاتبها والمعني بها، على قدْر انشغاله بأمرها، والنظر بتوقير للغتين، فثمة أرواح ترن في فضاء التثاقف.
ولعل ميزتها، فيما أفصحت به عن نفسها، في سياق" التمرد " هو ما يخرجها عن أي طريق أحاديّ الاتجاه، هو ما يشدها إلى طريق مسلوك من قبل سواها، ومن جهة المبدع بالذات، الذي لا يكف في كل محاولة كتابة أو ترجمة، أن يميت نفسه ويحييها ليكون كائناً أكثر جدوانية .
ولعلها في شعرها تروم مثل هذه الشفافية التي تنعطف على تكوينها النفسي وموقعها في العالم، إن مناقبية الزلالية على أتم علاقة بالجرأة على مواجهة الذات والظهور من الجهات كافة.
كما في هذا المقطع الشعري " طهران ":
بعد أن أكبر بيومين
يكبر الهواء
ويُخرج ألوانَه
نباتاتِه
قلبَه الكبير الذي لم يعرفه أحد
ويحلّ مكاني في البيت
لأخرجَ
وأبقى واقفة جنب ذاكرة العالم
وأنظر جسدي في الليل، مستلقيا،
وحيّا أبدا فوق ذراعك
والظلام، ضوؤنا النائم،
عائدا، ومستريحا عندنا
بعد أن أضاء حياة الأشياء في النهار." 10 "
هذا المختار من شعرها لا يعني تمثيلاً منمذجاً لما تكلَّمتْه شعراً، إنما إشارة إلى ذائقة شعرية، لا أظنها عادية في تكوين فكرة ما عن طريقة تعاملها مع هذا الكائن اللامرئي المؤثر: الشعر، ولأن في هذا المأثور ما يسهم أكثر في الإحاطة المعرفية أكثر بموقع حيدري مما ترجمته.
من المقدمة، إلى المختارات، ثمة خطوط اتصال، وإمكان مكاشفة للفضاء الرحب الذي يجلوها.
وهو ما أشيرَ إليه بما هو تاريخي، ومستند إلى مراحل، وهي أربع، واللافت أن صورة الغلاف وهي عبارة عن سجادة مطرزة بالألوان، تتكرر في المراحل الأربع تلك، بالأسود والأبيض، والسؤال الذي يطرح نفسه، أما كان في الإمكان التنويع في السجادة، وما أكثر هيئاتها وتمثيلاتها، تعبيراً عن ثراء هذا الشعر، وإرادة التعبير عن الذات الشعرية، ولتعميق الأثر؟!
ولنبدأ مع الشاعرة والمترجمة حيدري ومختاراتها!
المرحلة الأولى ( من الثلاثينيات إلى السبعينيات )
ثمة ما يرجعنا إلى قرابة قرن من الزمان. كيف كان الشعر يمثّل عالمه التخيلي ؟
كما نوّهت،ليس في المستطاع مساءلة حيدري في طريقة اختيارها لشعرائها ونصوصهم الشعرية، فهي محكومة بمساحة ورقية معلومة، وفي ضوء ذلك، تكون مضطرة إلى الالتزام بما هو مطلوب،جهة الشعراء وما يخص نصوصاً شعرية لهم، وما هو مدرَج في السياق الوجداني، والممكن النظر فيه، هو إلى أي مدى تكون ذائقتها الشعرية نافذة بمسبارها الفني في الاختيار.
انطلاقتها من اسم كبير هو نيما يوشيج " 1895-149 " خيارٌ فالح، وهو في براعة منجزه الشعري، ويظهر أنه في مقام " معطف غوغول " الذي خرج منه جل الشعراء الإيرانيين من بعده، وربطه بالشاعرة نازك الملائكة جهة التجديد في الشعر، لافت.
في المختار من شعره، هناك معايشة الخراب، ويا لوجوهه الكثيرة الكاثرة، إذ تضعضع الوجود.
حين يقول في الليل:
إنه الليل،
ليلة محمومة، والتراب شاحب لونه
الريح طفلة الغيم، تعصف نحوي
من أعالي الجبل..ص16
أو فيما يشبه نغمة موسيقية " ري را " وهي عبارة عن اسم للفتيات في اللغة الطبرية الخاصة بالمناطق الشمالية في إيران، كما أفصحت عنها حيدري " هامش 1، ص17":
ري را...ثمة صوتٌ يأتي الليلة
من خلف السروة
حيث الماء بريق أسود
يجرُّ العين صورةَ من الخراب..
هوذا الشعر الذي ينفصل بلغته عن واقعه، عن واقع الإنسان المألوف دونه لا يكون شعراً، فالشعر في بنينه شهوة المغايرة في الجسد المغامر المتخلي عن وجوده العابر، والانغماس في المجهول، دون النظر إلى الوراء، حباً بالمختلف، وتوقاً إلى العالم الذي ينبض في الروح .
وربما في سياق هذه المغامرة الكبيرة والإقامة أسفل الشلال والاستحمام بدفق الينبوع، يأتي اسم كبير الأثر " أحمد شاملو 1925-2000"
هناك الكثير مما يمكن قوله في شاملو، الكثير مما يتردد باسمه وحوله، من كتَب ما يعزز هذا المقام العالي باسمه الشعري (أحمد شاملو هو أحد أعظم الشعراء الإيرانيين في القرن العشرين ، والذي قلب قواعد الفن الشعري ، وتتبع عمله الملتزم التطورات الاجتماعية في إيران ، منذ قصائده الأولى حتى وفاته.
الشعر هو النوع الأدبي الرئيس في إيران. ولمس هذا التراث من الماضي ، القواعد التقليدية للتأليف الشعري ، بدت منذ فترة طويلة لا يمكن تصورها ، حتى أنها تدنيس.
في وقت لاحق، من خلال هذه اللغة ، اكتشف روائع الأدب العالمي وحتى ترجم بعضها إلى الفارسية. الشاعر الأمريكي الأسود لانغستون هيوز ، والإغريقيان يانيس ريتسوس وإياكوفوس كامبانيلس ، والمجري زولتان زيليك ، والفرنسي ألان لانس ، وجاك بريفير، وبول إيلوار، وجان كوكتو ، وبيير ريفردي ، وبول فورت ، والألماني بيرتولت بريخت ، والإسباني فيديريكو غارسيا لوركا والعديد من الشعراء الآخرين.) " 11 "
أهو شاعر يحيل الوجود إلى ناطق من خلال قصيدته، ويودِعه ما يسهم في إثراء رصيده القيمي، ومن جهة الشعر؟ فالوجود حين يكون الشعر مائياً، يغدو الوجود متلقياً أرضياً، يغتني به !
ما ينشغل به شاملو، هو ما يجعل من الشعر ناقلاً بشاعره إلى حيث تكون معايشة المأمول، مواجهة الذات في عمق وجودها، ما يبقي الروح يقظة كرمى كل ما هو فاعل وجودي.
لا يخفي شاملو الوجود الذي يطلق صوته كلماته بصفاء مغزاه، كما في " الأفق المضاء "
ذات يوم سنجد حمائمنا مرة ثانية
والمحبة ستمسك بيد الجمال
يومَ
تكون القبلةُ
أقل الأناشيد
وكل إنسان
يكون أخاً
للإنسان الآخر
يومَ
لا يقفلون أبواب بيوتهم
فيكون القفلُ
خرافةً
والقلب وحدَه
يكفي للحياة . ص20 .
ماالذي يلهب حماسَه، ليحيل قارئه، مخاطَبه إلى المستقبل، إلى ما يمكن أن يحصل؟ هو ذا أداء الشعر في نسيجه الروحي، ما يقصيه عما هو يومي ومستهلك، عما يسمّيه حارس حياة، ومعرّي تلك التناقضات التي تشوّه صورتها، ما يجعل الموت منشوداً لتكون الحياة أجمل، ولهذا تكون نبرة صوته لها صداها في جهات مختلفة. إنه تأميم على انعطافة تاريخ، وتشبث بما يجب حدوثه.
ليست الشاعر العظيمة الأثر فروغ فرّخ زاد" 1934-1966 " ذات الـ " 32 " عاماً، غائبة عن ذاكرة الشعر في إيران، أو عن تاريخ الأدب وبُعد المقاومة في عجْن مفهومه وصقل معناه .
هذه المرأة التي تودّع الحياة، وما فيها من قهر، تودِع الحياة ما يجعلها حياة من نوع آخر، حيث إن الشعر في بعض حميم منه يتكلم ما يخص المرأة في أثير هواها ومعناها، يتكلم المرأة كما لو أنه في بنيته لم يكن إلا أنثى في أوله ومختتمه، وهو في تميّزه بالخصوبة ومعْلم العجيب الغريب.
فرّخ زاد، تعيش حلكة العالم، وإن كانت في النهار، وما يصعد من نبرة المجاز ويدعم حجته، من قوة الاستعارة، وتمثيل الكلمات لانجراحاتها التي تستغرق كينونتها من الداخل، كمتمردة طبعاً، وهو ما يجعلها شاهدة على دمار الوجود، على ما هو مأسوي فيه بعمق، والشعر في عزائه عزاء الوجود الذي يفتقد الشاهد الحي على وهنه، كما في قصيدتها " الطائر ميتٌ لا محالة ":
كئيبة أنا
كئيبة أنا
أذهبُ نحو الشرفة
وبأناملي
ألمس جلدَ الليل المتصلب
مصابيح العلاقة مظلمة
مصابيح العلاقة مظلمة
لا أحدَ
يعرّفني إلى الشمس
لا أحد يأخذني إلى ضيافة العصافير
تذكّر الطيران دائماً
فالطائر ميت لا محالة . ص 27
هذه الحركة احتفالية بطابعها، وفيها ما يصل الأرض بالسماء، فيها ما يشير إلى فوضى عاصفة بالوجود، ما يغلق على الروح حيث العالم لا مجال للتفاعل معه، والكلمات تري اليباب.
في مكان ما قرأت قولاً للشاعر بافيز حيث كتب ما يهذب القول غير المعتاد ويفعّله: (يبدأ الشعر عندما يقول أحمق عن البحر" إنه يشبه الزيت! »").
هوذا الشعر الفعلي، هو ذا الانفصال عن الوجود الذي يتم تجنبه لأن يفتقر إلى شجاعة العيش، أو إلى حيوية الكائن الذي في ظله يتم التاس الظل الشاهد على الحياة، وفي هذا الشعر، ما يذكّرني بالمقابل، بما تفوه به الشاعر الإيراني الكبير حافظ الشيرازي وهو أن الشعر يبتعد عما يتحدث فيه الآخرون . إنه الكلام المستهلك، والشعر يمشي في الاتجاه المعاكس، إنه في الوقت الذي ينحدر فيه الآخرون من الجبل، يطلق الشعر " جبالاً " وشموساً، يهيب بهؤلاء أن الحياة حيث يتجه هو.
ذلك الأحمق هو نبوءة قولة الشعر، هو المخاض الأبدي لكائن الشعر، وولاداته التي تترى .
هو ذا البحر الذي يُرى زيتاً،ما يقلق الناظر، ويبعث فيه قواه التي نسيها أو تناساها.
وفي شعر سهراب سبهري " 1928-1980 " الذي مات بالسرطان، ما يبقي الحياة منجرحة في جسد منجرح، وما يبقي الشعر الوحيد القادر على أن يصل بينهما ويفجر الزمن الراكد:
( نعم، نحنُ برعم حلم ٍ واحد
-برعمُ الحلم؟ وهل نتفتح؟
-ذات يوم، دون حركة الأوراق
-هنا؟
-لا، في وادي الموت
-الظلام، الوحدة
-لا، خلوة الجمال
-ومن يأتي لينظرَ فينا؟ من سوف يشمُّنا
-..
-وبريح ٍ واحدة نتقطع؟
-...
-وهبوطٌ آخر
-.. ص 29
كما لو أنه في متاهة، كما لو أنه محاصر بانعدام التوازن في حياة لا تعود تعاش، أو في جسد فقد الأمل في الحياة، أو حياة أفقدتَ الجسدَ ما يبقيه جديراً بأن يعيش، أو أن يفكر في أن يعيش، ليكون الشعر الذي يواجه قلق الوجود، وكآبة الحياة، علامة فاعلة على قوة الصدمة في مقول قوله، ليكون الذي ينسَب له أكثر من سرد الانهيار في بنية المعنى الذي تتبلور حوله القصيدة، لتكون حركة الشعر معبّرة عن هذا الباقي عصياً على الموت، على أن كل إشارة، كل نقطة لها موقعها في إعراب الجمال المنعطف على القصيدة، كأن القصيدة تتكلم تأكيد على أن شاعرها حي قائم.
سأختار مقطعاً شعرياً من آخر شاعر في نطاق هذه المرحلة، وهو سيروس رادمَنش " 1954-2008 "، وما فيه من غرابة في بناء الصورة الشعرية، والحريص على ما يكتبه، والذي لم ينشر ديواناً شعرياً له، من هذا المنطلق، كما تشير حيدري إلى ذلك.
في مقطع شعري نقرأ ما يشدنا إلى هذا النوع من الشعر:
حين آتي مظلماً
من جهة انحناء القلب،
فيه جرح من حنجرة الفجر
النبات الذي
يحلم بالبرعم
أيها القمر!
عندما أتلاشى في الأذهان
ستأتي النجمة البعيدة
تجدني
وتعلّمني البكاء..ص92 .
نعم، هناك حركة، لا بل حركة عبر مسافات بعيدة، عبر رؤى تتجاوز أفق المنظور، ومن ذات خيال ربما ليس في مقدور أي خيال الإتيان به، حيث الجمع بين ما يصعب توقعه في البناء الوصفي للشعر، وفي تلك التركيبة الدالة على أن الشعر لا يحاط به، إذ كيف يمكن إيجاد خط صاعد أو هابط أو سالك بمعنى ما، بين الآتي مظلماً ومن جهة انحناء القلب؟ ما هو هذا القلب المنحني، ومن جهته يأتي معتماً؟ أي رؤية شعرية أفلحت في تقديم نسيج شعري كهذا؟ ثمة ما يشغل قوى النفس، ما يعزز مقولة ما لا يجوز تأطير الشعر، إنما الإصغاء إليه وتأمله .
في المرحلة الثانية" الثمانينيات
لا بد أنها مرحلة مشهودٌ لها بالمآسي والمجاهدات والانتكاسات، ونجد في الشعر ما يقاوم داخله ليؤكد كينونته، وبها وفيها يطلق في وجوه المأسوي ما ليس مأسوياً.
في حال علي باباتشاهي " 1942-.." نتلمس هذا السعي إلى تجاوز المألوف، إلى ما هو منشود، إلى تبنّي عالم ولو بالكلمات، واعتراض اللغة التي لا تقدّم إلا المستهلَك.
هوذا المزج بين العاديّ ونقيضه، ليصبح المتحصل شاغلاً للمتخيل، في " يفكّر أن "
لا يُخفي خوفَه من أي أحد
ويخاف بكامل جرأته
من أن تهبط السماءُ على الأرض
وسحابة سوداء تأتي
وتحمله معها إلى ركن بعيد
أن تهمس شيئاً في أذنه
وحين يبدأ الطوفان
والسيل في الأزقة والشوارع ...ص99
كأنما الشاعر يهلوس، والشعر قريب من الهلوسة حيث اللايومي صنوه الروحي، حيث معيشه النفسي المختزن داخله هو الذي يمده بأسباب البقاء وتمييزه عمن يعيشون حشْدياً حوله .
والشعر في مفهومه حشيشة الروح التي تخرِج الروح من خاصيتها المعتادة إلى اللامعتاد، كما هو المنظور إليه في لعبة التناقضات، الكائنات التي تتقابل، وليست على وئام بالمقابل، تعبيراً عن أن الشعر من دأبه قلب السكينة صخباً، وجعْل المسطح سلسلة انحدارات وشروخ ، ليس حباً في الشقاوة أو النكد، وإنما لأنه ذلك الطفل الذي صرخ من بين الجميع بأن الإمبراطور عار ٍ.
في حال الشاعرة فرشته ساري " 1956- ..." هناك رسم طبوغرافي لحركية الكائنات، استنطاق البساطة وهي تخفي عمقاً لجياً في المتن، كأن نقرأ في " الوحدة "
الوحدةُ
امرأة في نهايات الليل
الوحدة
تمثال جنديٌّ مجهول
في ساحة فارغة
الوحدة
صوت لا وجه له
على مغناطيس الفضاء
الوحدة ذكرى ضائعة
بين الغرباء
الوحدة
كبش حزين
بقي من نسله قِرنان
على جدران الفنادق . ص 114
الكلمات تتكلم، والمعاني تتدفق، حيث الاسم الواحد أسماء أكثر مما هو مصنَّف، جهة " الوحدة " لتكون الوحدة في عيانيتها دليل وجود صاعق على ما هو متصدع، على اللامطمأن إليه واقعاً.
من المرأة المقيمة في الليل، إلى التمثال المغفل من المشاهدة، إلى الصوت المتردد دون من يصغي إليه، إلى ذكرى قائمة إنما رصيد من يهتم بها، إلى المدهش في حال الكبش الذي انتهى أمره وبقي منه قرنان شاهدان على ما جرى له. إنها حالاتنا التي تترجمنا في الصميم .
في المرحلة الثالثة " التسعينيات "
كلما تقدمنا في الكتاب اقتربنا زمنياً مما نحن فيه، حيث ينبض زمننا بتلويناته المتباينة قيمياً.
ثمة ما يدل على الغربة والاغتراب، ربما على خلفية من تبعات الحرب والوضع في إيران آنئذ، كما في حال الشاعر محمد باقر كُلاهي أَهَري " 1950-.."وما يعرَف به من تفرد في طريقة الكتابة ، ونوعية تعامله مع الأشياء واقتناصها لتكون مواد حية بمقايسه في عهدته:
بعد الحب لمن سوف تسلّم قلبك
بعد البحر لا حيّز يبقى للزوارق
وبعد الرياح
لا أحد يوقظ الصحراء
بعد الحب لمن سوف تسلّم قلبك ؟
وبعد النهر إلى أي مكان ستذهب
كي يودِع صدى خطواتك للبحر؟ ص123
إنها أسئلة لا تبحث عن إجابات، إنما هي أقوال من نسج المعاناة، هي الأجوبة عينها على أسئلة مستقرأة في وجود لا ينسجم الشاعر معه،وخطابه القريب من السرد، عاصف بمحتواه. إنها إشارة إلى أن هناك ما يدور ويسحب البساط من تحت " قدميّ " الوجود، ولا يرعوي، لأنه أمين قانونه الطبيعي، ولا يتراجع عما يحرّكه، وما في من تشهير باللا ممكن التكيف معه. حيث الحركة عائقة في الاتجاهات كافة، كمافي القلب الذي أفرِغ من الحب، كما في الزورق الباقي يتيماً، كما في الصحراء التي انطمست، كما في الحيرة القاتلة حيث توقف الزمن نهرياً ..
وفي حال الشاعرة نسرين جعفري " 1950 -..." تتكلم الصور الشاهدة على تبلبل الزمان، وربما كان الذي تضمنتْه قصيدته " تكلمي يا أمي ! " ما يفصح عن ذلك:
فجأة ارتجفت
وانحنت قامتها
سقطت من الستارة
لم تكن هناك إلأ الألوان
ولم تمتلكْ
إلا اللحظات
ناديتُها
ولم تتوتر
كانت باسطة فراشها
على مخمل الأحلام التي
كانت تراها...ص130
غبار مقدسٌ
جلس على جبينها
ويدي عادت فارغة
آه
تكلمي يا أمي
فأنا ممزوجة بك..ص 131.
أهو رثاء الأم الفعلية، أم المفتقَدبالذات في هيئة الأم، أم الوجود الذي بات فقيراً، أم أبعد من كل ما ذكرتُ؟ وفي الوقت الذي تكون الأم ذلك المتمثل في نياط القلب، فإن تمثيل الأم في الموجودات يرفع من سوية العلاقات معها، ومن توتر الروح، وفداحة الكارثي بالمقابل، فما تلجأ الشاعرة إلى تصويره، هو ما يعقب الخراب، ما يلي الدائر فجائعياً، ما يشهد على أن الحداد ممتد هنا وهناك، وأن الروح المتكلمة مترملة في كينونتها، ولا سلوى لها في الحياة، سوى هذا الندب.
ويبدو أن التفاعل مع ما هو مأسوي لا يفارق نسبة كبيرة من شعراء إيران،وامتداداته إلى داخل نصوصهم الشعرية ليس اعتباطاً، وما فيه من نفي للتفاؤل، وإشارة بليغة إلى اليأس.
في حال الشاعر شهرام شيداني " 1967-2009 " حيث توفي جرّاء وطأة مرض السرطان وهو في حيوية الشبوبية "توفي عن 42 عاماً "، نتلمس فيه رهاناً على الشعر تأملاً وتعميق معنى، ونشدان رغبة بدت مؤجلة، وتعبيراً عن تجربة في لقاء الآخر عبر الترجمة التي كان يقوم بها، يقول ما يحيلنا إلى الألم " الوارف ":
أحتاج إلى كلمة
تأخذني من فوق الأرض
أنا مثل ساعة مريضة
وأتألم بدقة
الصمت دبّابة
تدور على أرض أفكاري
تترك آثارها
ومن هذه الآثار
يرسم الطبيب خريطة روحي على الطاولة
وبتأثر يضع يده على الآثار:
-ما أعمقها من أخاديد ! ..ص148 .
العزاء في الكلمة المغايرة لما هو منطوق في ركاب اليومي، حيث الأرض لم تعد تطاق في ثقلها وتداعي طبيعتها، وما الساعة المريضة إلا الزمن العاجز عن تحديد الوقت، إلا التعبير عما هو متصدع زمانياً، وما يشدد على الصمت حيث تكاد الحركة تنعدم، وما في ذلك من انخساف حياة، وما الإشارة إلى طبيب، إلا ما يضعنا في مواجهة تشريحية أو تشخيصية جسدياً، جهة النظر في المتحصل في الجسد ظاهراً، حيث الأخاديد أثلام فعّلها الزمن وعنفه، لإفقار الروح كثيراً .
وما يخص الشاعرة والمخرجة كَراناز موسوي " 1973-.." فإن المتلمَّس في كتابتها، وكما هو وارد في الكتاب، هو المشهد التصويري للكلمة، هو المرئي عبر الكاميرا تخيلياً وواقعياً، وما يضفي على الكلمة جانب الإضاءة والحراك الدلالي للأجسام وكيف تتفاعل في مساحات واسعة، وما يصل ما بين الخارجي والداخلي نفسياً، كما في " الظلال ":
ظلّي يحتك بظلك
فأصبح جارة للربيع
وأنت تنسكب
والظل
ينسكب تحت عيني
فتخضر فوقي الأوراق
ترحل
ومن أثر ظلّي تبقى الشراشف خضراء
ثم أنسكب دون ظلال
على الخريف ..ص 159 .
هناك ما هو تدرجي في الصلة بين الكلمات، ما يشكل تدفقَ المعاني في ركاب الصور الشعرية. الظل يسمّي العائد إليه، إنه ترجمان وجوده، معنى يفيض بذكره، وما يفعّل العلاقة هو المتحصّل من تينك الظلين، ما يشكل تحولاً في الوجود، وما الربيع إلا ساعة خصوبة، وما يسلسل المعاني بالمقابل، وما يدل على الأثر على وقع هذه العلاقة الأولى، ويمارس تأثيراً في الخريف نفسه، وقد استحال الجسد ماء مقطَّراً، وجانب الذوبان في عمر آخر، وتاريخ آخر جرّاء ما تقدَّم .
في المرحلة الرابعة " منذ عام 2000 حتى الآن "
لا نشهد أسماء لها وقْعها الاعتباري على صعيد الجدة والابتكار، كما تقدَّم، كما لو أن التراكم في المآسي ترك بصمته في المسيرة التالية لما هو اجتماعي، والحيرة المستجدة في السياق .
وما يظهر هو أن هناك حضوراً لافتاً للشاعرات " أربع شاعرات "، مقابل سبعة شعراء.
في حال الشاعرة بهاره رضائي " 1977-..." والتي ، وكما كتِب عنها، مارست قرْض الشاعر وهي لم تتعدَّ الطفولة الثانية، والتي نشرت مجاميع شعرية عدة، ولفتت الأنظار إليها، ومن الملاحظ أن في شعرها وقدة تجديد، ورغبة في تحقيق انعطافة جمالية في الجسد الشعري.
في قصيدتها " الكلمات المريضة " ثمة ما يقدّم صورة تقريبية عن ذائقتها في كتابة الشعر:
حين تنشغل الأرض
عنّا
يأتي الشعر
ويجلس إلى جوارنا
ما ألذ الفطور
معه!
أحياناً
يفسّر أحلامنا
بالبياض
ونُصرُّ
على أن يودِع كلماته المريضةَ
إلى قسم الطوارىء
كل يوم يأتي الشعر
ويلقي علينا التحية
وما علينا إلا أن ننتبه لسلوكِنا. ص 190
هل نحن في إهاب صيدلية أفلاطون، وما تعنية الكلمة من معان متضادة: الداء والدواء، أو السم والعقار، كما توقف جاك دريدا مطولاً عند هذه الكلمة المركَّبة كمفهوم؟
ربما كان الشعر، فيما يشير إليه، وفيما ينوي على فعله، ما يخرج الأرض عن مدارها، وما يعطي الأرض مداراً آخر. ويكون الشعر هو المرتجى، هو المؤمَّل والمصمَّم عليه. هو الجرح المرئي والفاغر فاه، والبلسم للجرح الخاص جداً،وما يضفي عليه سمة الساحر باسمه، وبمنطوق اسمه بالمقابل، ومؤاساته لنا، ونحن في وضعية الداخل المترجرج، والخارج المضطرب.
هو ما يذكّرنا بالدور الهائل للشعر(نحن نعلم جيدًا ، من خلال التجربة ، أن الشعر لا يمكن أن يقتصر على التلاعب بالكلمات. يمكن أن تضيء لحظة ، وتورث سرًا من الحكمة ، وتشير إلى مكان آخر نحتاج فيه إلى التنفس عقليًا ، وتقوية حريتنا ..
الشعر ، كما قال الشاعر دافيد روندوني ، يعيد التوازن والنظام داخل الذات وبين الذات والعالم.
يعيدنا الشعر إلى أنفسنا كبشر متكاملين: يعيش الرجال والنساء حياة استجابة لنداء. نداء الكلمة الداخلية الذي يجعل الشعر يغني فينا ، لأن هذه هي الكلمة الداخلية: التي تحاول الاستجابة والترحيب بالخلق ، من الوحل إلى النجوم.) " 12 "
ليس لنا إلا أن نقف وعيوننا تصغي إليه، وآذاننا تتابعه ، وأجسادنا مأهولة بحضوره الجم بالمقابل، دون ذلك كيف نتفهم العالم حقيقة تردنا قياماً، وكيف نتفهم أنفسنا والعالم راسخ فينا ؟
وما تقدَّم به الشاعر مهدي أشرفي " 1980-.." كنموذج أخير في هذا المقال، يشير إلى أنه شاعرُ مغايرة في القول الشعري، من خلال تأثيره على الشعراء الشباب والشعر الحديث في إيران، كما تقول حيدري، في التعريف به ، وما هو طي قصيدة " الرجل الأسود " جدير بالقراءة:
نحتاج دائماً أن نقتل أحداً
كي ندخل في حداده
أن أرتدي ثوباً أسود
وأجمع ظلالك ِ
إلى أن
يحل الليل
في الساعة الثامنة صباحاً
أن أتناول دلوَ الدّهان
وأسكبه على نفسي
أنا رجل أسود
جلدي لا يتعرق
بل يبكي في معسكرات العمل الجبري
جلدي يقيم حداداً علي..ص212
تلك طبيعة المتناقضات وتبايناتها القيمية في الوقع، ومن خلال الظاهر، وما له تأثير على سلوكيات الناس، وما ينشغل به الناس على صعيد العلاقات والعنف الداخلي ضمناً . وهو ما يأتي بلسان الشاعر في تغيير مظهره، وإخفاء جلده، ونظرة الناس المختلفة .
تلك إدانة حية وقوية لمجمل القيمة المتداولة استناداً إلى المظاهر التي يحتكم إليها الناس، وما الشعر إلا هذا الانفجار الكبير الذي يظهِر ما هو تحت الركام .
إنها مهارة القول في التعبير عن المختلف، ودور النطق كمفهوم خطابي كذلك في نسج العلاقات بين البشر ، أي حيث (يؤكد النطق على أهمية مكانة المتحدث كموضوع ، ويسعى للحصول على العلامات المختلفة لوجوده في وقت الكلام وفضائه ، ويحدد طرق إدارة هذا المتحدث ، ويوضح حضور المتحدث ( متلق)...) " 13 "
وما عايشناه قرائياً هو ما أمكننا التعرض له، والدخول معه في حوار، حيث الشعر في أصله حوار مع الذات، مع الآخر القريب، والبعيد، والمجهول، وما يجعل الروح أكثر أهلية لأن تعيش وجودها خارج الفردي الضيق، ليكون للشعر لسان حاله المأثور بما هو متوخى، أي يكون أهلاً لأن يُسعى إليه، وأهلاً لأن ينظر في أمره، وأهلاً لأن يعترَف به فاعلَ وجود جمالياً لا غنى عنه.
وما قدَّمته الشاعرة والمترجمة مريم حيدري كان إمضاءة مركَّبة على ما تمثّل في المقال نقدياً.
مصادر وإشارات
1-سجادة فارسية " مختارات من الشعر الإيراني المعاصر " إعداد وترجمة: مريم حيدري، دار المحيط للنشر، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة،ط1، 2022، في " 214 " صفحة من القطع الكبير نسبياً، وكل الإحالات المرجعية تخص هذه الطبيعة.
أشير هنا، إلى أن كتاباً آخر صدر بعنوان قريب من هذا العنوان، وهو: هذه المرة سجادة فارسية: تيارات الشعر الإيراني المعاصر،للمترجم حسين طرفي عليوي، ومن منشورات مسارات، سابقاً ومرايا للنشر والتوزيع حديثاً،ومن إصدارات عام 2015، ويظهر أنه يستغرق تاريخاً طويلاً،كما جاء في التعريف به(ضم الكتاب قصائد شعراء إيرانيين منذ بداية التاريخ لإتاحة الفرصة إلى التعرف على أسلوب ونمط المدرسة الشعرية التي انتهجها الشاعر...)،ينظر موقع https: e-raf.aspdkw.com/products، الالكتروني
هي إشارة لا تعني وجودَ تقليداً في العنوان المذكور، ليبقى المحتوى هو الحكِم الفصْل !
2-Arefeh Hedjazi:Le “paradis” et le tapis persane
عرفة حجازي: "الجنة" والبساط الفارسي
3-En fait, « plus qu’un accès au sens, c’est un accès de sens » qu’offre la poésie, écrit le philosophe Jean-Luc Nancy dans Résistance de la poésie
في "مقاومة الشعر" أنه في الواقع ، "أكثر من وصول إلى المعنى ، إنه مدخل إلى المعنى”.
4-المصدر نفسه.
5-Michel Zinkourquoi lire la poésie du passé ?Dans Le Genre humain 2008/1 (N° 47)
ميشيل زنك: لماذا نقرأ شعر الماضي
6-مايؤكد ما تذهب إليه حيدري، هو ما تتبعتُه في مقال ذي علاقة مباشرة بموضوعنا، حيث نقرأ توسعة للجاري اقتباسه(كانت الثورة الدستورية التي بدأت عام 1905 هي التي جلبت الموجة الأولى من الحداثة للشعر الفارسي. هذه الثورة ، المعاصرة للثورة الروسية ، تمثل المحاولة الأولى لتعريف الشعب بالساحة السياسية ، وتفتح آفاقًا جديدة للإيرانيين الذين يتساءلون عن دور وآراء الشعب ، ويكتشفون مفهوم الديمقراطية. مفهوم يعدل بسرعة مفهوم الأدب. يصبح النثر نوعًا مهمًا ، وتكثر الأعمال الجديدة. أما الشعر الذي لا يمكن المساس به ، فلم تعد أشكاله القديمة قادرة على احتواء أفكار جديدة.) .
حول ذلك ينظَر مقال: أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن ، بالفرنسية
Azita Hempartian: Châmlou, enfant du siècle,Dans La pensée de midi 2009/1 (N° 27)
أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن
وأحمد شاملو مذكور في بداية المختارات، وسوف نأتي على ذكره لاحقاً.
7- Javier de la Higuera:Jean-Luc Nancy et l’idée de littérature,Dans Revue de métaphysique et de morale 2018/3 (N° 99)
خافيير دي لا هيغيرا:جان لوك نانسي وفكرة الأدب
8-ينظَر موقع رصيف الكتروني،عن الشاعرة والمترجمة مريم حيدريرصيف22 - موقع إعلامي عربي مستقلّ
9-ينظَر حول ذلك،الشاعرة والمترجمة الإيرانية مريم حيدري، في مقابلة معها، 26-7/ 2011، في موقع:
10-مريم حيدري، قصائد الصيف، مجلة الجديد،1-12/ 2017
11-Azita Hempartian: Châmlou, enfant du siècle,Dans La pensée de midi 2009/1 (N° 27)
أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن
12-Giovanni Ryffel: Ce que fait la poésie?
جيوفاني ريفّيل: ماذا يفعل الشّعر
13-Pirouz Eftékhari: La poésie persane et l’esthétique de l’instant poétique
بيروز افتخاري: الشعر الفارسي وجماليات اللحظة الشعرية
هل يمكن للشّعر أن يصبح محسوساً، عبْر فاصل بين جسمنا والأرض، من نوع سجّادة فارسية؟ ماذا لو أصغينا إلى الصوت المقدَّر لسجادة فارسية مشهود لها بعراقة المنعَّم والمفخَّم ؟ ماذا لو كان الطرْس نفسه نظير السجادة، التي تحتضن خريطة كوكبية وفق شعرية السجادة هذه/ تلك؟ماذا لو كانت السجادة هذه ذاكرة لا يحاط بأغوارها التي لا يستشعر قاعها إلا من تجاوز مرئيها؟ أليس الشعر في روعة تكوينه، هو أن يحرّر الكائن من حسيته المتقلبه ويبثه ديمومة روحية؟ متى كان ، وحصل، طلاق، بين كل من الكائن" العاقل " هذا وما يعرَف به من ثبوتيات الروح والتي تظهِر إلى أي متى، يكون الشعر ضرورة وجودية له، ويؤكد فذاذة تكوينه؟
هل جرّب أحدهم الانغماس في الشعر الناعم، العميق، الملوّن، المتماوج، وما يصله بالمخيال الأثير، وادعاً طيَّ النعومة جسداً مقروءاً بالشعر، وما يرتقي به إلى ما هو روحي صُعُداً؟
في العودة إلى السجادة ونباهتها، واعتبارها شاهدة تاريخ حضارة، هناك ما يسوّغ النظر فيها داخلاً وخارجاً، ما يجعل من الشعر معرَّفاً بها، في بدعة فنونها، ولسان حال لها في جنون مداها.
في مجرد التذكير بـ" السجادة " حتى نحضر المحدّد لها زماناً ومكاناً وأبهة تكوين" الإيرانية " في عموم المعنى الجغرافي وثراء المعنى، ولـ"الفارسية " حضور آخر جهة التنسيب الثقافي،إذ لا تعود السجادة كما هو المستخلَص من أية تسمية في معلوم المتردد عنها، بمقدار ما تكون ما تعنيه عبارة " مفرد بصيغة الجمع " حيث الشكل المعروض للنظر يحيل إلى اللامحدد جمالياً وفنياً.ما أن نقول السجادة الفارسية، حتى تنبسط جغرافية بكامل حمولتها الطبيعية والكائنية، ويكون المرئي فيها أرشيفاً لونياً يُقرَأ برموزه، وهي خطاب المتشكل المنسوج بتنوع أبعاده!
البدء سجادة
من هنا، أقرأ في كتاب " سجادة فارسية: مختارات من الشعر الإيراني المعاصر ""1" ما يصلنا بالنوع القائم في مأثرة المعنى، وما يكونه الشعر في صلة قرباه بالسجادة وجلاء أمرها مفهوماً .
أي بدء يتمثل في السجادة هذه بخاصية العجيب الغريب؟
يمكن القول أنه إذا أردتم معرفة حضارة إيران فإليكم بالسؤال عن سجادتها، أرضيةً وتعكس سماء، مرئية وتترجم بعضاً مما هو لامرئي. تنبسط وتعلق لجعل العين قارئة عامودية لها. يا للروح الصوفية الرحالة التي تنبض بكل جسدها في ثناياها خارج كل إطار يمكن تصوره.
سجادة تمثّل روحاً شعرية، وهي ما أن يجري التأمل فيها، حتى يتناغى المخيال المأهول بما هو عميق الأثر، الروح القلقة والمتشبثة بالوجود في آن. سجادة هي نص لا يكف عن التذكير بتلك الأنامل التي أبدعت في إبراز صورتها، وجعْل الصورة ناطقة بأثرها، وما أكثره هذا الأثر تنوعاً واحتفاء داخلياً بالمختلف، حيث النسيج المحبوك يتكلم جانب المحسوس، ويستولد نصه البصري.
أي سجادة هذه بنوعيتها، بأصولها وفصولها المتعدّية لإطار ما هو مفهرس بين دفتي كتاب؟
أحيل في هذا السياق إلى المقتطف من مقال مركَّب بمهارة رؤية شعرية:
(عندما نتحدث عن بلاد فارس ، فإننا نفكر بالضرورة في سجادها. إن التعبير عن الثقافة الفارسية ، مثلها ، يُثري باستمرار بمرور الوقت من خلال مساهمة العناصر الجديدة التي تميز زمن التاريخ ، فإن النسيج هو بالفعل فن "فارسي" بامتياز، لأنه حتى لو كان بإمكان العديد من الحضارات أن تعتبر فن النسيج من بين حرفها ، لا يمكن لأي منها أن تدعي أنه عمل فيه بقدْر الحضارة الإيرانية. وبالفعل ، فإن البساط الفارسي هو ثمرة فن متعدد الأجيال لم يتوقف عن الكمال على مر القرون، ليثبت نفسه أكثر فأكثر في بعده الخفي والأرستقراطي والصوفي الفارسي ، وإنما أيضًا في حيويته التي استمد منها النساجون، البدو أو القرويون ، الذين عرفوا كيف يتطورون في هذا الفن اليومي، مساهمة علاقتهم بالطبيعة، المستأنسة أو البرية. هذه العناصر ، بدورها ، تطورت على مدى التطور العام للفنون في الحضارة الفارسية.).
أورأيتم كيف يكون المردود في الحال، ما أن يحدث إنجاز المخطَّط له سجادياً، وفي حيّزه اليومي طبعاً، وبأنامل لا تخفي فناء أهليها، حتى يستحيل المنجَز شاهد إثبات على ديمومة الصانع هنا أو هناك، وما على الناظر إلا أن يتصورمن وراء هذا المصنوع ببراعة، وقد استحق بقاء..!
أحيل إلى مسوّغ نشأة هذا المكون الهائل الجمال، وتأكيده لكينونته دفعاً لأي خطر، أي ما يجعل من صنعة السجادة فعْل مقاومة، وفعل تمسك بالوجود، وتأكيد أهلية المقاوم في الوجود لما هو إلهي فوق زمني، أي مطلق، وما فيه من تمثيل للفن في وجه من وجوهه المثلى:
( ربما كان جفاف الأرض والوعد بالخصوبة الذي قدمته هو الذي دفع هؤلاء السكان الجدد في الهضبة الإيرانية إلى دمج زراعة الأرض في حضارتهم ، حتى لو ذهبوا إلى أبعد من ذلك لإضفاء أهمية دينية مهمة عليها.).
أحيل من خلال المقال نفسه إلى ما تفرضه اليد الصانعة والبارعة من حضور مكاني، حيث:
(تعتبر الشجرة أيضًا عنصرًا أساسيًا في التصميم الإيراني. في هذا البلد القاحل إلى حد ما من إيران ، كان دائمًا رمزًا مهمًا جدًا لتمثيل الحياة. يختلف شكله من منطقة إلى أخرى. وعدم تقديم نموذج نموذجي في سجاد البدو الذين يعيشون في تعايش دائم مع الطبيعة، هو، في المدن، عنصر أساسي في الديكور في السجادة ، سواء كانت سجادة حديقة أم لا. في سجاد الحدائق، غالبًا ما تكون مورقة ومغطاة بالورود والطيور وتملأ زخرفة المحراب حيث ، في زخرفة متناسقة تمامًا ، تحيط بها مزهريتان. في فكر القدماء، شجرة الحياة هي محور المراسلات بين المستويات الثلاثة للعالم: الجنة السماوية ، الجحيم تحت الأرض والعالم الأرضي ، لذلك فهي الشيء الذي يربط هذه العوالم الثلاثة الواحدبالآخر. ويشمل المعنى الكامل للحياة.) " 2 "
الرؤية الفردوسية للسجادة، إحالة لا تتوقف إلى ما هو ماض في البقاء، إلى فكرة الجنة التي تكون مشتهاة، ويجري " خلْقها " بمراميها الغاية في الرهافة، واستحقاق الإقامة على وقْع هذه المتابعة، جنة لا تكون بمفردها، ثمة الجحيم، ليكون الاشتغال بهذا التجاذب عامل إثراء للاسم وتفعيل أثره.
البعد المنمنماتي في السجادة يغذّي المخيال ويبقيه دائم التحول والتطور والتجاوز لاسمه ومسمّاه، فثمة تاريخ مقروء، ثمة أيد شاعرة وإن خلت حياتها اليومية من الشعر، إنما تسطّر بصرياً ما يمد في عمر الشعر، ما يبقيه رضيعها وصنيعها وبديعها، إن جاز التوصيف، أيد تتنافس فيما بينها، وهو التنافس الأكثر براعة في تأهيل كل يد تمتلك موهبة نسْج تخرج السجادة عن سجاديتها، لنكون إزاء " سجدنة" التكوين برمّته، ما يخرج الجسد الصانع، أنى كان نوعه وجنسه إلى الأكثر احتواء بالمقاومة لما هو موجود، وجعْل الوجود حاضرة بجدارة، أيد تخرج المكان من مكانيته، وهو دأب الخيال لدى الشاعر، في تنوع رؤاه، ولكل شاعر تاريخه في معايشة قصيدته.
في السجادة الفارسية، تكون الأنامل صانعة إبداعية، وتاركة بصمتها ناطقة بحضورها، وهو الحضور الذي يقاربَ تفسيرياً، بينما تخيل الأنامل الصانعة، وهي في وضعية غياب، فهي تقارَب تأويلياً، لأن هناك ما يستمر في التنوع. بالطريقة هذه يصبح اللون والملمس توأمي شعر من نوع خاص، تكون السجادة ذاكرة استقطابية للحواس، وللشعر مقامه العالي في إضاءة الأثر. شعر مع لون وملمس، وبالتناوب، ما يغيب عن البصر يعانق البصيرة، لنكون إزاء بصمة حضارة فاعلة!
لقد " طهَّرت" الآلهة القدماء السماء من وجود شريك إنسيّ العلامة ضمن أولمبها، وأقصته بإنزاله إلى الأرض، لماذا؟ ليؤكد نظيراً ألوهياً فيه وتأكيد أنه لا يستهان فيه، فكان الفن حيلتَه.
لا تعود السجادة الفارسية مقتصرة على لونها، شكلها، بهاء صورتها، إنما ما يعمّق التشوق القائم للاستزادة، بالطريقة هذه تكون اليد السجادة شاعرة. تصوروا يداً تفرز عصارة إبداعها شعرياً في النسيج الحي، النسيج الخطاب البصري، النسيج الذي يتكلم وجوداً لكائنات تقيم فيه ؟
لقد مارست الآلهة قديماً قوتها بالكلام الخاص بها، بينما الإنسان كانت يده دالة على هذه القوة!
في رحابة السجادة الفارسية شعراً
ماالذي أهّل السجادة الفارسية لأن يُقرَّر من خلالها ما هو شعري؟
شهادتها في ذاتها، وذاتها في تدفق ينبوع حياتها. فالشعر ليس ما يدعونا إليه، إنما ما نمضي إليه، ونعوّل عليه، لأننا نكون قد أكّدنا أنه ينبعث فينا، وفيه نجّذر شهادتنا حياة وموتاً وأثراً باقياً .
ما كان الشعر يوماً طريد حياة، بالعكس تماماً كان مطلوب حياة، مشتهاها لحظة تمثّلها بتلك الصور التي تنمّي في مفهومها المركَّب ما هو أكثر نقاء مما هو حياتي حسي بالتأكيد .
أكثر من ذلك، في كل مبحث عن " لعنة " الشعر، يكثر الشهود الدالّون على أنه مع كل " لعنة " مرسومة، أو موجَّهة، أو معتمَدة، أو راصدة، ثمة اعتراف بفعل المقاومة الخاص المتوقف عليه!
إيران غنية في تاريخها، في جغرفيتها في أصواتها التي تكوّنها، في أطلسها الإبداعي.
علينا أن نعترف بهذا الدور المأساوي والمولّد لطاقات تبقي الوجود طوع النظر، تجنباً لأي يأس جانبي، يأس يكون هو المقيم في الواجهة، والتاريخ أكثر من مجرد الإصابة باليأس، وليس من يأس هو وجه متصدر التاريخ، إنما لحظة قائمة فيه، ومؤقتة، ودون ذلك لا يكون هناك تاريخ أصلاً، ولا عبْرة من التاريخ، في أسباب ضعفه وقوته الفولكلورية، فـ (في مواجهة خيبة الأمل في العالم ، هل يمكن للشعر أن يوقظ تهمة تخريبية ، رؤية تحمل أفقًا مختلفًا؟ بالنسبة لأولئك الذين يعرفون كيف يلقون آذانهم أو ينظرون إليها ، فإن الشعر، بجميع أشكاله ، لديه القدرة على فتح مسارات الإحساس التي تعيدنا إلى أساسيات الوجود. وبالتالي ، فهي تعارض الوحشية - تلك التي تهاجم الأجساد والتخيلات ، تلك التي تقيد المساحات الصالحة للسكن. في حين أن كل شيء يتحدث إلينا عن المنطق التجاري والنفعي ، فإن السكن الشعري للأرض هو بمثابة دعوة ، وحتى بوصلة أخلاقية يمكن أن توجهنا للتصرف فيما يتعلق ببيئاتنا ، وأكثر انتباهاً لما يحيط بنا. في الأساس ، العيش بعيون وعقل الشاعر ، أليس هذا العيش أكثر إنسانية؟) " 3 "
هذا اليأس المذكور، لا يمكنه أن ينعم بسطوة الإقامة، كما تقدَّم، ونشوة العلامة فيه، فالشعر يبقيه كائناً من كائناته الروحية، مادة تعنيه ولا تبقيه وحده، بمقدار ما يواجَه بسواه، هو فعل وجود، أي إنه (يمكننا أن نسأل أنفسنا ، بحق ، عما إذا كان الشعر ممكنًا حتى اليوم ، عندما يزحف الوجود النبوي apoétique l’existence من جميع الجوانب ، عندما نعيش في مجتمع "مبتذل" ، كما قال إدغار موران بجدارة. ) " 4 "
الشعر بالطريقة هذه، ذاكرة حية، وأكثر منها، لأنها لا تبقينا أسرى ما كان، فالذاكرة ما أن نقبل على قراءتها حتى سرعان ما تمنحنا " شرف " الانتقال إلى رتبة وجود أمضى، وتتوسع هي. هي ذي ذاكرة الشعر المفتوحة على المختلف والمجهول خلاف أي ذاكرة أخرى، وهاهو الشعر الذي يعلّمنا بالكثير مما يشوّقنا إلى احتضانه ليكون تعبيراً عن ألم نقيم به حداداً على وجود، كي ندفع عنا بلاء لا قبَل لنا به، كما لو أننا ندفع ضريبة ما نكابد ونقاوم من أجله (نحن نفخر بإخراج الشعر ، بالمعنى الذي نفهمه به ، من نص نعلم جيدًا أن معنى الشعر ليس معنا. نرى فيه علامة على براعتنا وحساسيتنا بقدر ما هي سمة الجودة الشعرية الجوهرية للنص. نحن نستمد متعة كبيرة منه. نحن ممتنّون للنص للسماح لنا بإظهار صفات البراعة والحساسية هذه.) " 5 "
هو ما يواجهنا بأنفسنا، هو ما يخرجنا من أنفسنا، وهو ما يعزز وجودنا في أنفسنا، حيث نواجه تلف الموجود بشغف الوجود الآخر الذي نودَعه حضورنا العصي على الاندثار، وللشعر " لوحه المحفوظ " المعلوم والدال على ذلك، وللسجادة الفارسية مثل هذا التجلّي بمعاني الشعر ومبانيه.
في الشعر الإيراني ثمة ما يبقينا مأهولين بنشوة المصاحبة والمعايشة لأثرياته .
إن ما سعت إليه معدة الكتاب ومترجمته مريم الحيدري، لا يخفي ذائقتها في اقتفاء أثر هذا الشعر، في خطوط ناعمة، رقيقة، شْعراتية، أو شريانية، وهي تضيء تاريخاً شهد انعطافات في مفهومه الاجتماعي والسياسي، وأفصح عما يردِف ذلك بما هو ثقافي. إنه سرد تاريخي يتوازى ويتداخل مع سرد ثقافي، ما أن تتم تهجئته حتى يتقدم بنثره وشعره، حتى يكون للشعر ما يهذّب الوجود به.
خلال صفحات عدة" خمس صفحات " تقدّم حيدري، بما يعبّر عن توازن الفكرة التاريخية لما هو شعري في إيران، وهي تكثف هذه الفكرة على أرضية التعامل مع هذا الكائن الشديد التحول: الشعر، ، وما يأتي سياسياً واجتماعياً، هو الخميرة الغنية بكيميائيتها في إنضاج العجينة إيرانياً، والشعر له نفْسه ونفسه ( مع بداية الثورة الدستورية في إيران 1905- 1911، شهدت البلاد تطورات ملحوظة لا سيما على الصعيد السياسي والثقافي، ما جعل هذه الحقبة التاريخية نقطة عطف في الحياة الإيرانية ومختلفة عن كل الحقب السابقى. العلاقات التي بدأت مع الغرب في نهايات حكم القاجار لا سيما طيلة حكم ناصر الدين، شاه القاجار وابنه مظفّر الدين شاه في بدايات القرن العشرين، تركت أثراً لا يستهان به في الأوساط الثقافية والحركات السياسية التي كانت تطالب بالحرية والعدالة، غيَّرت ملامح الشارع الإيراني إلى حد كبير، إذ اهتم المثقفون الإيرانيون بمكافحة الاستبداد السياسي ودكتاتورية الشاه، وتطلَّعوا لمثل تلك التطورات في المجال الثقافي .ص 7).
هوذا التاريخ المقرّر بعلامات مكثفة له، والذي يواجه به لامعقولَه الذي كان واستبد به، بمعقوله الذي يحين أوانه زماناً ومكاناً، ولا يعود التاريخ ذاك نفسه، لا تعود الخيمة التي تحتوي المكان، أو الجغرافية هي عينها، إنما ما يمضي بالتاريخ إلى المغاير لما كان عليه سابقاً، وما تمثّله قاطرة الثورات أو الحركات المقاومة للطغيان، هو ما يعدُ بالمنشود، ما يعطي للحياة معنى، والافتداء من أجلها قيمة دامغة لماحة، وما يشكّل مهماز القول الشعري بحصانه الجامح والصاهل.
تقدّم لنا حيدري ما يشبه الخريطة الأدبية عما هو شعري لقائمة مختاراتها،ومن خلال تلك التي أسمّيها جرّاء وزنها وحيوية مقامها بـ" الإحداثيات الشاغلة لسرد التاريخ " أي رموز هذا الشعر بالذات، وفي متتاليات تشغل تاريخاً مشهوداً له بالتحول، وعلامات الاختلاف، بعد التأثر بما هو أوربي، وما يجعل المقروء أوربياً جهة الثقافة، فعلَ المذنَّب النجمي وشرارته في الليل، فيتقدم لنا اسم عظيم الأثر الشعري " نيما يوشيج والذي، وكما تقول حيدري( خرج عن الأطر والمعايير الشعر التي حكمت الشعر الفارسي لألف عام ..ص8 ).وما يجعل منه " لوغو " لا يجارى في إدخاله تصورات ومن ثم مفاهيم وحداثة رؤى في المشهد الشعري الفارسي، وحتى سرديته الكبرى تاريخياً. إن مجرد تخصيص أكثر من صفحة لهذا الشاعر الأكبر من كونه مجرد شاعر، من بين خمس صفحات تخص تاريخاً طويلاً للشعر بأسمائه وألقابه وأسماء تياراته وعلاماته التجديدية اللافتة، يشكل شهادة حية على مدى تأثيره، ومأثرة الاعتراف واستثنائيته، مثلاً حين يشار إليه بأنه في دوره الأدبي الشعري في الشعر الإيراني المعاصر يذكّر بما أبدع فيه إليوت البريطاني في قصيدة " الأرض اليباب "، ذلك مثال لا يستهان به هنا طبعاً.
وما جاء في أعقابه يعزّز هذا التحفيز بغية المزيد من التحويل في مفهوم قول الشعر ودوره، وهناك الكثير ممن تركوا بصماتهم الصوتية في هذا السياق، ومن أهمهم( احمد شاملو، فروغ فرُّخ زاد، مهدي أخوان ثالث، سهراب سِبهري، منوتشهْر آتشي..ص9).
هناك تواريخ، ولكل تاريخ علامة مائزة، من ذلك ( الموجة الجديدة ) العائدة إلى (حركة مهمَّة في الشعر الفارسي..ص9)، وهي تستدعي علماً شعرياً، هو: أحمد رضا أحمدي، وتأثير ذلك على عموم جوانب الثقافة الإيرانية " ص 10"، وتلك التغيرات التي شهدتها سبعينيات القرن الماضي، وبشهادة منبر أدبي يتمثل في مدلة ( تماشا ) مع قصائد لشاعر غير معروف ( آريا آريا بور) مطلقاً عليه صفة أحد شعراء حركة ( الشعر النقي)..ص10).
ومن المؤكد أن الشعر، شأنه في ذلك شأن أي جانب أدبي، أو ثقافي، يؤذِن بظهور مجهول، وصدمته للمألوف، وانتظار بعض الوقت ليفعّل أثره ويصبح رمزاً وقدوة تالياً .
وما يخص ثمانينيات القرن الماضي، وما هو معروف عن هذه الفترة العصيبة، ناحية الحرب، سوى أن ذلك لا يعني أن الحياة توقفت، حيث ( لا يمكن عدم الالتفات إلى أسماء مهمة في الشعر الإيراني)، كما في مثال ( فرشته ساري، فشعرها ( حمل ثيمة إنسانية تتعلق بتجارب الحياة اليومية التي كانت تعيشها الشاعرة كمواطن عادي. ص 11).
وما أتت به تسعينيات القرن الآفل، في أعقاب الحرب، وما يخص كيفية لملمة الجراح المغطية للجسد المجتمعي، ومن ثم الاستعداد للحياة بصورة أكثر كثافة قوىً، ولهذا ( ربّما يمكن اعتبار التعددية الشعرية في التسعينيات أهم مميزات المحاولات الشعري في إيران..ص12).
وما تعيشه المرحلة الجديدة في مطلع القرن الواحد والعشرين، من محاولة البحث عن المختلف، والذي يظهر هو أن المعايشة هنا تكون مكْلِفة ومؤلمة، كما يُستخلَص من كلام حيدري، إذ ( يمكن اعتبار شعر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين حتى الآن عودة غير سريعة إلى مواكبة الشعراء للحياة الاجتماعية والسياسية وأحداثها، وابتعاداً عن مركزية التيار النخبوي الذي كانت تلاحظ بشكل كبير في العقد المنصرم..)، واللافت فيما تقوله حيدري تالياً، وهو في( عدم ظهور شعراء يمكن اعتبارهم عمالقة الشعر كما كانوا في العقود السابقة . ص 12).
هذا يستدعي الكثير من مفاتحة ما يعيشه الشاعر وضعاً اجتماعياً وتفكيراً، والذاكرة المنقسمة على نفسها، أو الوجع الدفين والمؤثر الصادم الشغال لمفهوم الذاكرة الجماعية، كما أفصح عن ذلك هالبواكس، وذلك اليأس الذي يستحكم في قوة المخيال الفردي والاجتماعي، لتكون المأساة أكثر من كونها مخاض ولادة باعثاً على الأمل، وما في ذلك من انكفاء على الذات جرّاء ذلك.
وما تنوه إليه المعدة والمترجمة يؤخَذ به، جهة قائمة المختارات، فالشعراء كثْرٌ هنا، ولا بد من اللجوء إلى تلك الذائقة الشعرية ومعايشة المتحول التاريخي، والوفاء الزماني- المكاني، وإيراد ما يسلسِل هذه المراحل، ويعطي فكرة موجزة ومعبّرة عما تم اختياره. والخيار نفسه مقرَّر ثقافي!
وأنوّه إلى البعد الأكاديمي لجهد حيدري، وقد مرْحلت مختاراتها، وما لكل مرحلة من " مدحلة " شعرية، وكيفية تسوية الأرض الاجتماعية، أو ترْك أثرها في الجغرافيا الاجتماعية تلك أدبياً.
وإذ أقول ذلك، وقد انتهيت من قراءة المدخل، وقد تشكلت لدي فكرة عن مختارات الكتاب، فثمة صورة تشكلت في ذهني بصدد جهة حيدري، تذكّرني بمقولة تخص الأدب في عمومه والشعر داخل فيه بامتياز، وهي تخص المفكر الفرنسي جان لوك نانسي (يمكن للمرء أن يقول أن الأدب هو كائن خارج نفسه: فانتفاخه المكاني يسمح له بالوجود فيما وراء نفسه ، في الفنون والفكر ، علاوة على ذلك ، أن يتواجد ليس بطريقة غير قابلة للتغيير ، ولكن في كل مرة بطريقة مختلفة في التفرد. من عمل أو فعل فكري. ) " 7 " ، حيث الحياة التي تمهر كل شيء بطابعها تغيراً وتحولاً، وما يكون جديداً، ينفي تطابقه مع سلفه، وليس من نسخية في التاريخ، إذ لكل نوع شعري جادٌّ سلف ذاتي في العمق، وما يميّزه عن سواه هو ما يجعله مرئياً بعلامته الفارقة، فيكون له نسيجه المختلف، وسرده القائم على الاختلاف، وخطابه الروحي المختلف، وحيث القارىء لا يغفل عما تعنيه حركية " المقاومة " شعرياً، وما يعنيه تنوع الشعر وتمرحله من إيمان بالحياة، وما يُعزى إلى الحداثة في تنوع مقاماتها أو مراتبها وتباين أجوائها، من تأكيد أن الحياة تقوم وتستمر في التنوع، دون ذلك يستحيل علينا النظر إلى جمالية المنظور في " السجادة الفارسية ".
في ظلال المختارات
أتحدث هنا عما يقرّب الشعر من الروح، وعمن يقيم علاقة مع الشعر ودرجة تفاعله معه، حيث يكون الاسم مريم حيدري، ولا بد من إضاءة صفحتها الثقافية، ولو ضمن رقعة تستحقها، فهي أهوازية من إيران، ولازال دم الشباب ساري المفعول في كيانها، لحظة النظر في عمرها، إنها من مواليد " 1984 "،وهي شاعرة ومترجمة وكاتبة صحفية،هي (شاعرة وصحفية ومترجمة من إيران، الأهواز. ممّا صدر لها في الترجمة إلى الفارسية: "أثر الفراشة" لمحمود درويش، وإلى العربية: "ذكرياتي، مذكرات بنت ناصر الدين شاه القاجاري". وقد صدر لها ديوان "باب موارب" عن منشورات المتوسط بإيطاليا. تكتب مقالات في الثقافة والفن وأدب الرحلة مع صحف ومجلات عربية وفارسية، ولها اهتمامات في السينما والطبخ والأدب الصوفي...) " 8 "
سوى أن الأهم هو ما يخص الجانب المؤثر والمندرج في نطاق " مصلحة " الشعر، في سيرتها، وما ورد عنها في مقابلة معها،وصِلتها بهويتها وموقعها الثقافي وموقفها من الترجمة، حين تقول عن نفسها، جهة العلاقة بين الفارسية والعربية وجواباً على سؤال(– بين العربية والفارسية تتوزع مريم حيدري شاعرةً .. أيُّ اللغتين تجدين أنها تتسع لما تودين قوله شعراً؟
-تعرف أن لغتي الأم هي اللغة العربية لكن علاقتي مع الفارسية جيدة جدا. أنا أكتب بالعربية والفارسية.. في بعض الأحيان أشعر انه علي أن اكتب بالفارسية قصيدة ما مثلاً وأحيانا أجد أن العربية فتحت أحضانها لما أريد أن أكتبه. القصيدة تأتي اليَّ بلغتها.. هي تختار لغتها وتعرِّج نحوي.. بالفارسية أم العربية.. أنا كتبت أول ما كتبت بالفارسية.. ثم بدأت بالكتابة بالعربية.. الفارسية قريبة جدا الي.. أفكر في كثير من الأحيان و أحدِّثُ نفسي بالفارسية.. هي أعطتني تجارب لم يمكن من السهل أن أجدها في لغة أخرى.. أنا كنت منذ صباي مغرمة بالصوفية.. وقرأتها بالفارسية.. قرأت جلال الدين الرومي و حافظ و شمس التبريزي وسعدي والعطار كلهم بالفارسية وعشقتهم.. لا استطيع أن أتصور أن يكون جلال الدين الرومي ليكتب كل تلك القصائد الجنونية المذهلة في لغة أخرى.. ربما أقول هذا لأني اعتدت عليه بالفارسية.. لا اعرف.. لكني الآن اشعر أني لن استطيع يوما أن أتخلى عن الفارسية واتركها.).
تلك فضيلة اللغة التي تمنحنا حضوراً بلسانها، وتفتح لنا مسارات وممرات نمارس عبرها تكوين شخصيتنا الأكثر مما هو عابر أو عرَضي فيها، وما هو مذكور في متن القول هو ما يصعد بإبرة الشخصية لأن تطرّز نسيجها الحيوي، أن تسحب وراءها خيط حياتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وما من شأنه إضاءة مفهوم اللغة كفاعل وجودي، وخزّان معرفي، ومحفّز على الانبناء.
وفي السياق نفسه، ما يصل أحدنا باللغة الأخرى ترجمة، وهي تجيب على سؤال:
(-يقال إن الترجمة خيانة للنص .. ماتعليقك على ذلك وأنت اشتغلت على ترجمة الكثير من النصوص الإبداعية؟
لا أعتقد أن الترجمة هي خيانة بالمعنى الحقيقي وإن تكن خیانة فلتكن. فماذا نفعل من أجل أن نقرأ الآخر ومن أجل أن نتعرف على الأدب العالمي وحتى على آداب جيراننا مثلاً.
في كثير من الأحيان عندما أترجم نصاً شعرياً أو غير ذلك، لكم أتمنى لو كان القارئ يستطيع أن يقرأ ذلك النص بلغته الأصلية ولكن ماذا نفعل؟ على المترجم فقط أن يبذل كل جهده ليصب روح النص الأصلي في ترجمته لتكون نسخة أخرى من النص الأصلي في اللغة المترجمة. أنا اشعر بحزن شديد عندما أرى ترجمة سيئة خصوصاً لنص جميل وذي قيمة.. النص يقتل بالترجمة السيئة فلنصنه.).
وهو ما يقرّبنا من الخاصية النفسية لشخصيتها ومدماك وعيها الفني كذلك، في انفتاحها الثنائيّ التركيب ثقافة، وقولها عما تكونه في الكتابة، حيث أجابت عن سؤال بهذا الصدد:
(صرّحت ذات مرة قائلة ” أحاول أن أعكس التمرد الذي في داخلي من خلال قصائدي” ماتبرير ذلك برأيك؟
أنا متمردة مع انه لا يكون ذلك واضحا في كثير من الأحيان في ملامحي. التمرد الذي تحدّثت عنه في ما أشرت أنت اليه يعني التمرّد على التقاليد.. كنت ولازلت اعتبر لاسيما في مجتمعنا الاهوازي فتاة متمردة..) " 9 "
لا تخفي حيدري نوعية انتمائها الأدبي، والشعري في الصميم، ومسئولية " عشق اللسانين " وما بينهما من علاقات مفتوحة، على صعيد الترجمة، حيث الترجمة أكثر من خروج من الذات وبالذات إلى الآخر الذي لا يكون إلا إضاءة لمفهوم الذات، ووحدة المعاناة، وجاذبية الرغبة في الرفع من سوية العلاقات ورهان المعنى، ونشوة المتوخى في التحرك الثنائي الاتجاه بينهما.
في الترجمة، تكون الذات منفتحة على داخلها وخارجها، تكون هي وليست هي في انفصالها عن " لحميتها " ومعايشة روحيتها، وهذه السمة الفاعلة هي التي تتكفل بإدارة العالم الذي يستمر في التبلور والتحول والتنوع جرّاء آلاء الترجمة بالذات، والتي تسمّي كاتبها والمعني بها، على قدْر انشغاله بأمرها، والنظر بتوقير للغتين، فثمة أرواح ترن في فضاء التثاقف.
ولعل ميزتها، فيما أفصحت به عن نفسها، في سياق" التمرد " هو ما يخرجها عن أي طريق أحاديّ الاتجاه، هو ما يشدها إلى طريق مسلوك من قبل سواها، ومن جهة المبدع بالذات، الذي لا يكف في كل محاولة كتابة أو ترجمة، أن يميت نفسه ويحييها ليكون كائناً أكثر جدوانية .
ولعلها في شعرها تروم مثل هذه الشفافية التي تنعطف على تكوينها النفسي وموقعها في العالم، إن مناقبية الزلالية على أتم علاقة بالجرأة على مواجهة الذات والظهور من الجهات كافة.
كما في هذا المقطع الشعري " طهران ":
بعد أن أكبر بيومين
يكبر الهواء
ويُخرج ألوانَه
نباتاتِه
قلبَه الكبير الذي لم يعرفه أحد
ويحلّ مكاني في البيت
لأخرجَ
وأبقى واقفة جنب ذاكرة العالم
وأنظر جسدي في الليل، مستلقيا،
وحيّا أبدا فوق ذراعك
والظلام، ضوؤنا النائم،
عائدا، ومستريحا عندنا
بعد أن أضاء حياة الأشياء في النهار." 10 "
هذا المختار من شعرها لا يعني تمثيلاً منمذجاً لما تكلَّمتْه شعراً، إنما إشارة إلى ذائقة شعرية، لا أظنها عادية في تكوين فكرة ما عن طريقة تعاملها مع هذا الكائن اللامرئي المؤثر: الشعر، ولأن في هذا المأثور ما يسهم أكثر في الإحاطة المعرفية أكثر بموقع حيدري مما ترجمته.
من المقدمة، إلى المختارات، ثمة خطوط اتصال، وإمكان مكاشفة للفضاء الرحب الذي يجلوها.
وهو ما أشيرَ إليه بما هو تاريخي، ومستند إلى مراحل، وهي أربع، واللافت أن صورة الغلاف وهي عبارة عن سجادة مطرزة بالألوان، تتكرر في المراحل الأربع تلك، بالأسود والأبيض، والسؤال الذي يطرح نفسه، أما كان في الإمكان التنويع في السجادة، وما أكثر هيئاتها وتمثيلاتها، تعبيراً عن ثراء هذا الشعر، وإرادة التعبير عن الذات الشعرية، ولتعميق الأثر؟!
ولنبدأ مع الشاعرة والمترجمة حيدري ومختاراتها!
المرحلة الأولى ( من الثلاثينيات إلى السبعينيات )
ثمة ما يرجعنا إلى قرابة قرن من الزمان. كيف كان الشعر يمثّل عالمه التخيلي ؟
كما نوّهت،ليس في المستطاع مساءلة حيدري في طريقة اختيارها لشعرائها ونصوصهم الشعرية، فهي محكومة بمساحة ورقية معلومة، وفي ضوء ذلك، تكون مضطرة إلى الالتزام بما هو مطلوب،جهة الشعراء وما يخص نصوصاً شعرية لهم، وما هو مدرَج في السياق الوجداني، والممكن النظر فيه، هو إلى أي مدى تكون ذائقتها الشعرية نافذة بمسبارها الفني في الاختيار.
انطلاقتها من اسم كبير هو نيما يوشيج " 1895-149 " خيارٌ فالح، وهو في براعة منجزه الشعري، ويظهر أنه في مقام " معطف غوغول " الذي خرج منه جل الشعراء الإيرانيين من بعده، وربطه بالشاعرة نازك الملائكة جهة التجديد في الشعر، لافت.
في المختار من شعره، هناك معايشة الخراب، ويا لوجوهه الكثيرة الكاثرة، إذ تضعضع الوجود.
حين يقول في الليل:
إنه الليل،
ليلة محمومة، والتراب شاحب لونه
الريح طفلة الغيم، تعصف نحوي
من أعالي الجبل..ص16
أو فيما يشبه نغمة موسيقية " ري را " وهي عبارة عن اسم للفتيات في اللغة الطبرية الخاصة بالمناطق الشمالية في إيران، كما أفصحت عنها حيدري " هامش 1، ص17":
ري را...ثمة صوتٌ يأتي الليلة
من خلف السروة
حيث الماء بريق أسود
يجرُّ العين صورةَ من الخراب..
هوذا الشعر الذي ينفصل بلغته عن واقعه، عن واقع الإنسان المألوف دونه لا يكون شعراً، فالشعر في بنينه شهوة المغايرة في الجسد المغامر المتخلي عن وجوده العابر، والانغماس في المجهول، دون النظر إلى الوراء، حباً بالمختلف، وتوقاً إلى العالم الذي ينبض في الروح .
وربما في سياق هذه المغامرة الكبيرة والإقامة أسفل الشلال والاستحمام بدفق الينبوع، يأتي اسم كبير الأثر " أحمد شاملو 1925-2000"
هناك الكثير مما يمكن قوله في شاملو، الكثير مما يتردد باسمه وحوله، من كتَب ما يعزز هذا المقام العالي باسمه الشعري (أحمد شاملو هو أحد أعظم الشعراء الإيرانيين في القرن العشرين ، والذي قلب قواعد الفن الشعري ، وتتبع عمله الملتزم التطورات الاجتماعية في إيران ، منذ قصائده الأولى حتى وفاته.
الشعر هو النوع الأدبي الرئيس في إيران. ولمس هذا التراث من الماضي ، القواعد التقليدية للتأليف الشعري ، بدت منذ فترة طويلة لا يمكن تصورها ، حتى أنها تدنيس.
في وقت لاحق، من خلال هذه اللغة ، اكتشف روائع الأدب العالمي وحتى ترجم بعضها إلى الفارسية. الشاعر الأمريكي الأسود لانغستون هيوز ، والإغريقيان يانيس ريتسوس وإياكوفوس كامبانيلس ، والمجري زولتان زيليك ، والفرنسي ألان لانس ، وجاك بريفير، وبول إيلوار، وجان كوكتو ، وبيير ريفردي ، وبول فورت ، والألماني بيرتولت بريخت ، والإسباني فيديريكو غارسيا لوركا والعديد من الشعراء الآخرين.) " 11 "
أهو شاعر يحيل الوجود إلى ناطق من خلال قصيدته، ويودِعه ما يسهم في إثراء رصيده القيمي، ومن جهة الشعر؟ فالوجود حين يكون الشعر مائياً، يغدو الوجود متلقياً أرضياً، يغتني به !
ما ينشغل به شاملو، هو ما يجعل من الشعر ناقلاً بشاعره إلى حيث تكون معايشة المأمول، مواجهة الذات في عمق وجودها، ما يبقي الروح يقظة كرمى كل ما هو فاعل وجودي.
لا يخفي شاملو الوجود الذي يطلق صوته كلماته بصفاء مغزاه، كما في " الأفق المضاء "
ذات يوم سنجد حمائمنا مرة ثانية
والمحبة ستمسك بيد الجمال
يومَ
تكون القبلةُ
أقل الأناشيد
وكل إنسان
يكون أخاً
للإنسان الآخر
يومَ
لا يقفلون أبواب بيوتهم
فيكون القفلُ
خرافةً
والقلب وحدَه
يكفي للحياة . ص20 .
ماالذي يلهب حماسَه، ليحيل قارئه، مخاطَبه إلى المستقبل، إلى ما يمكن أن يحصل؟ هو ذا أداء الشعر في نسيجه الروحي، ما يقصيه عما هو يومي ومستهلك، عما يسمّيه حارس حياة، ومعرّي تلك التناقضات التي تشوّه صورتها، ما يجعل الموت منشوداً لتكون الحياة أجمل، ولهذا تكون نبرة صوته لها صداها في جهات مختلفة. إنه تأميم على انعطافة تاريخ، وتشبث بما يجب حدوثه.
ليست الشاعر العظيمة الأثر فروغ فرّخ زاد" 1934-1966 " ذات الـ " 32 " عاماً، غائبة عن ذاكرة الشعر في إيران، أو عن تاريخ الأدب وبُعد المقاومة في عجْن مفهومه وصقل معناه .
هذه المرأة التي تودّع الحياة، وما فيها من قهر، تودِع الحياة ما يجعلها حياة من نوع آخر، حيث إن الشعر في بعض حميم منه يتكلم ما يخص المرأة في أثير هواها ومعناها، يتكلم المرأة كما لو أنه في بنيته لم يكن إلا أنثى في أوله ومختتمه، وهو في تميّزه بالخصوبة ومعْلم العجيب الغريب.
فرّخ زاد، تعيش حلكة العالم، وإن كانت في النهار، وما يصعد من نبرة المجاز ويدعم حجته، من قوة الاستعارة، وتمثيل الكلمات لانجراحاتها التي تستغرق كينونتها من الداخل، كمتمردة طبعاً، وهو ما يجعلها شاهدة على دمار الوجود، على ما هو مأسوي فيه بعمق، والشعر في عزائه عزاء الوجود الذي يفتقد الشاهد الحي على وهنه، كما في قصيدتها " الطائر ميتٌ لا محالة ":
كئيبة أنا
كئيبة أنا
أذهبُ نحو الشرفة
وبأناملي
ألمس جلدَ الليل المتصلب
مصابيح العلاقة مظلمة
مصابيح العلاقة مظلمة
لا أحدَ
يعرّفني إلى الشمس
لا أحد يأخذني إلى ضيافة العصافير
تذكّر الطيران دائماً
فالطائر ميت لا محالة . ص 27
هذه الحركة احتفالية بطابعها، وفيها ما يصل الأرض بالسماء، فيها ما يشير إلى فوضى عاصفة بالوجود، ما يغلق على الروح حيث العالم لا مجال للتفاعل معه، والكلمات تري اليباب.
في مكان ما قرأت قولاً للشاعر بافيز حيث كتب ما يهذب القول غير المعتاد ويفعّله: (يبدأ الشعر عندما يقول أحمق عن البحر" إنه يشبه الزيت! »").
هوذا الشعر الفعلي، هو ذا الانفصال عن الوجود الذي يتم تجنبه لأن يفتقر إلى شجاعة العيش، أو إلى حيوية الكائن الذي في ظله يتم التاس الظل الشاهد على الحياة، وفي هذا الشعر، ما يذكّرني بالمقابل، بما تفوه به الشاعر الإيراني الكبير حافظ الشيرازي وهو أن الشعر يبتعد عما يتحدث فيه الآخرون . إنه الكلام المستهلك، والشعر يمشي في الاتجاه المعاكس، إنه في الوقت الذي ينحدر فيه الآخرون من الجبل، يطلق الشعر " جبالاً " وشموساً، يهيب بهؤلاء أن الحياة حيث يتجه هو.
ذلك الأحمق هو نبوءة قولة الشعر، هو المخاض الأبدي لكائن الشعر، وولاداته التي تترى .
هو ذا البحر الذي يُرى زيتاً،ما يقلق الناظر، ويبعث فيه قواه التي نسيها أو تناساها.
وفي شعر سهراب سبهري " 1928-1980 " الذي مات بالسرطان، ما يبقي الحياة منجرحة في جسد منجرح، وما يبقي الشعر الوحيد القادر على أن يصل بينهما ويفجر الزمن الراكد:
( نعم، نحنُ برعم حلم ٍ واحد
-برعمُ الحلم؟ وهل نتفتح؟
-ذات يوم، دون حركة الأوراق
-هنا؟
-لا، في وادي الموت
-الظلام، الوحدة
-لا، خلوة الجمال
-ومن يأتي لينظرَ فينا؟ من سوف يشمُّنا
-..
-وبريح ٍ واحدة نتقطع؟
-...
-وهبوطٌ آخر
-.. ص 29
كما لو أنه في متاهة، كما لو أنه محاصر بانعدام التوازن في حياة لا تعود تعاش، أو في جسد فقد الأمل في الحياة، أو حياة أفقدتَ الجسدَ ما يبقيه جديراً بأن يعيش، أو أن يفكر في أن يعيش، ليكون الشعر الذي يواجه قلق الوجود، وكآبة الحياة، علامة فاعلة على قوة الصدمة في مقول قوله، ليكون الذي ينسَب له أكثر من سرد الانهيار في بنية المعنى الذي تتبلور حوله القصيدة، لتكون حركة الشعر معبّرة عن هذا الباقي عصياً على الموت، على أن كل إشارة، كل نقطة لها موقعها في إعراب الجمال المنعطف على القصيدة، كأن القصيدة تتكلم تأكيد على أن شاعرها حي قائم.
سأختار مقطعاً شعرياً من آخر شاعر في نطاق هذه المرحلة، وهو سيروس رادمَنش " 1954-2008 "، وما فيه من غرابة في بناء الصورة الشعرية، والحريص على ما يكتبه، والذي لم ينشر ديواناً شعرياً له، من هذا المنطلق، كما تشير حيدري إلى ذلك.
في مقطع شعري نقرأ ما يشدنا إلى هذا النوع من الشعر:
حين آتي مظلماً
من جهة انحناء القلب،
فيه جرح من حنجرة الفجر
النبات الذي
يحلم بالبرعم
أيها القمر!
عندما أتلاشى في الأذهان
ستأتي النجمة البعيدة
تجدني
وتعلّمني البكاء..ص92 .
نعم، هناك حركة، لا بل حركة عبر مسافات بعيدة، عبر رؤى تتجاوز أفق المنظور، ومن ذات خيال ربما ليس في مقدور أي خيال الإتيان به، حيث الجمع بين ما يصعب توقعه في البناء الوصفي للشعر، وفي تلك التركيبة الدالة على أن الشعر لا يحاط به، إذ كيف يمكن إيجاد خط صاعد أو هابط أو سالك بمعنى ما، بين الآتي مظلماً ومن جهة انحناء القلب؟ ما هو هذا القلب المنحني، ومن جهته يأتي معتماً؟ أي رؤية شعرية أفلحت في تقديم نسيج شعري كهذا؟ ثمة ما يشغل قوى النفس، ما يعزز مقولة ما لا يجوز تأطير الشعر، إنما الإصغاء إليه وتأمله .
في المرحلة الثانية" الثمانينيات
لا بد أنها مرحلة مشهودٌ لها بالمآسي والمجاهدات والانتكاسات، ونجد في الشعر ما يقاوم داخله ليؤكد كينونته، وبها وفيها يطلق في وجوه المأسوي ما ليس مأسوياً.
في حال علي باباتشاهي " 1942-.." نتلمس هذا السعي إلى تجاوز المألوف، إلى ما هو منشود، إلى تبنّي عالم ولو بالكلمات، واعتراض اللغة التي لا تقدّم إلا المستهلَك.
هوذا المزج بين العاديّ ونقيضه، ليصبح المتحصل شاغلاً للمتخيل، في " يفكّر أن "
لا يُخفي خوفَه من أي أحد
ويخاف بكامل جرأته
من أن تهبط السماءُ على الأرض
وسحابة سوداء تأتي
وتحمله معها إلى ركن بعيد
أن تهمس شيئاً في أذنه
وحين يبدأ الطوفان
والسيل في الأزقة والشوارع ...ص99
كأنما الشاعر يهلوس، والشعر قريب من الهلوسة حيث اللايومي صنوه الروحي، حيث معيشه النفسي المختزن داخله هو الذي يمده بأسباب البقاء وتمييزه عمن يعيشون حشْدياً حوله .
والشعر في مفهومه حشيشة الروح التي تخرِج الروح من خاصيتها المعتادة إلى اللامعتاد، كما هو المنظور إليه في لعبة التناقضات، الكائنات التي تتقابل، وليست على وئام بالمقابل، تعبيراً عن أن الشعر من دأبه قلب السكينة صخباً، وجعْل المسطح سلسلة انحدارات وشروخ ، ليس حباً في الشقاوة أو النكد، وإنما لأنه ذلك الطفل الذي صرخ من بين الجميع بأن الإمبراطور عار ٍ.
في حال الشاعرة فرشته ساري " 1956- ..." هناك رسم طبوغرافي لحركية الكائنات، استنطاق البساطة وهي تخفي عمقاً لجياً في المتن، كأن نقرأ في " الوحدة "
الوحدةُ
امرأة في نهايات الليل
الوحدة
تمثال جنديٌّ مجهول
في ساحة فارغة
الوحدة
صوت لا وجه له
على مغناطيس الفضاء
الوحدة ذكرى ضائعة
بين الغرباء
الوحدة
كبش حزين
بقي من نسله قِرنان
على جدران الفنادق . ص 114
الكلمات تتكلم، والمعاني تتدفق، حيث الاسم الواحد أسماء أكثر مما هو مصنَّف، جهة " الوحدة " لتكون الوحدة في عيانيتها دليل وجود صاعق على ما هو متصدع، على اللامطمأن إليه واقعاً.
من المرأة المقيمة في الليل، إلى التمثال المغفل من المشاهدة، إلى الصوت المتردد دون من يصغي إليه، إلى ذكرى قائمة إنما رصيد من يهتم بها، إلى المدهش في حال الكبش الذي انتهى أمره وبقي منه قرنان شاهدان على ما جرى له. إنها حالاتنا التي تترجمنا في الصميم .
في المرحلة الثالثة " التسعينيات "
كلما تقدمنا في الكتاب اقتربنا زمنياً مما نحن فيه، حيث ينبض زمننا بتلويناته المتباينة قيمياً.
ثمة ما يدل على الغربة والاغتراب، ربما على خلفية من تبعات الحرب والوضع في إيران آنئذ، كما في حال الشاعر محمد باقر كُلاهي أَهَري " 1950-.."وما يعرَف به من تفرد في طريقة الكتابة ، ونوعية تعامله مع الأشياء واقتناصها لتكون مواد حية بمقايسه في عهدته:
بعد الحب لمن سوف تسلّم قلبك
بعد البحر لا حيّز يبقى للزوارق
وبعد الرياح
لا أحد يوقظ الصحراء
بعد الحب لمن سوف تسلّم قلبك ؟
وبعد النهر إلى أي مكان ستذهب
كي يودِع صدى خطواتك للبحر؟ ص123
إنها أسئلة لا تبحث عن إجابات، إنما هي أقوال من نسج المعاناة، هي الأجوبة عينها على أسئلة مستقرأة في وجود لا ينسجم الشاعر معه،وخطابه القريب من السرد، عاصف بمحتواه. إنها إشارة إلى أن هناك ما يدور ويسحب البساط من تحت " قدميّ " الوجود، ولا يرعوي، لأنه أمين قانونه الطبيعي، ولا يتراجع عما يحرّكه، وما في من تشهير باللا ممكن التكيف معه. حيث الحركة عائقة في الاتجاهات كافة، كمافي القلب الذي أفرِغ من الحب، كما في الزورق الباقي يتيماً، كما في الصحراء التي انطمست، كما في الحيرة القاتلة حيث توقف الزمن نهرياً ..
وفي حال الشاعرة نسرين جعفري " 1950 -..." تتكلم الصور الشاهدة على تبلبل الزمان، وربما كان الذي تضمنتْه قصيدته " تكلمي يا أمي ! " ما يفصح عن ذلك:
فجأة ارتجفت
وانحنت قامتها
سقطت من الستارة
لم تكن هناك إلأ الألوان
ولم تمتلكْ
إلا اللحظات
ناديتُها
ولم تتوتر
كانت باسطة فراشها
على مخمل الأحلام التي
كانت تراها...ص130
غبار مقدسٌ
جلس على جبينها
ويدي عادت فارغة
آه
تكلمي يا أمي
فأنا ممزوجة بك..ص 131.
أهو رثاء الأم الفعلية، أم المفتقَدبالذات في هيئة الأم، أم الوجود الذي بات فقيراً، أم أبعد من كل ما ذكرتُ؟ وفي الوقت الذي تكون الأم ذلك المتمثل في نياط القلب، فإن تمثيل الأم في الموجودات يرفع من سوية العلاقات معها، ومن توتر الروح، وفداحة الكارثي بالمقابل، فما تلجأ الشاعرة إلى تصويره، هو ما يعقب الخراب، ما يلي الدائر فجائعياً، ما يشهد على أن الحداد ممتد هنا وهناك، وأن الروح المتكلمة مترملة في كينونتها، ولا سلوى لها في الحياة، سوى هذا الندب.
ويبدو أن التفاعل مع ما هو مأسوي لا يفارق نسبة كبيرة من شعراء إيران،وامتداداته إلى داخل نصوصهم الشعرية ليس اعتباطاً، وما فيه من نفي للتفاؤل، وإشارة بليغة إلى اليأس.
في حال الشاعر شهرام شيداني " 1967-2009 " حيث توفي جرّاء وطأة مرض السرطان وهو في حيوية الشبوبية "توفي عن 42 عاماً "، نتلمس فيه رهاناً على الشعر تأملاً وتعميق معنى، ونشدان رغبة بدت مؤجلة، وتعبيراً عن تجربة في لقاء الآخر عبر الترجمة التي كان يقوم بها، يقول ما يحيلنا إلى الألم " الوارف ":
أحتاج إلى كلمة
تأخذني من فوق الأرض
أنا مثل ساعة مريضة
وأتألم بدقة
الصمت دبّابة
تدور على أرض أفكاري
تترك آثارها
ومن هذه الآثار
يرسم الطبيب خريطة روحي على الطاولة
وبتأثر يضع يده على الآثار:
-ما أعمقها من أخاديد ! ..ص148 .
العزاء في الكلمة المغايرة لما هو منطوق في ركاب اليومي، حيث الأرض لم تعد تطاق في ثقلها وتداعي طبيعتها، وما الساعة المريضة إلا الزمن العاجز عن تحديد الوقت، إلا التعبير عما هو متصدع زمانياً، وما يشدد على الصمت حيث تكاد الحركة تنعدم، وما في ذلك من انخساف حياة، وما الإشارة إلى طبيب، إلا ما يضعنا في مواجهة تشريحية أو تشخيصية جسدياً، جهة النظر في المتحصل في الجسد ظاهراً، حيث الأخاديد أثلام فعّلها الزمن وعنفه، لإفقار الروح كثيراً .
وما يخص الشاعرة والمخرجة كَراناز موسوي " 1973-.." فإن المتلمَّس في كتابتها، وكما هو وارد في الكتاب، هو المشهد التصويري للكلمة، هو المرئي عبر الكاميرا تخيلياً وواقعياً، وما يضفي على الكلمة جانب الإضاءة والحراك الدلالي للأجسام وكيف تتفاعل في مساحات واسعة، وما يصل ما بين الخارجي والداخلي نفسياً، كما في " الظلال ":
ظلّي يحتك بظلك
فأصبح جارة للربيع
وأنت تنسكب
والظل
ينسكب تحت عيني
فتخضر فوقي الأوراق
ترحل
ومن أثر ظلّي تبقى الشراشف خضراء
ثم أنسكب دون ظلال
على الخريف ..ص 159 .
هناك ما هو تدرجي في الصلة بين الكلمات، ما يشكل تدفقَ المعاني في ركاب الصور الشعرية. الظل يسمّي العائد إليه، إنه ترجمان وجوده، معنى يفيض بذكره، وما يفعّل العلاقة هو المتحصّل من تينك الظلين، ما يشكل تحولاً في الوجود، وما الربيع إلا ساعة خصوبة، وما يسلسل المعاني بالمقابل، وما يدل على الأثر على وقع هذه العلاقة الأولى، ويمارس تأثيراً في الخريف نفسه، وقد استحال الجسد ماء مقطَّراً، وجانب الذوبان في عمر آخر، وتاريخ آخر جرّاء ما تقدَّم .
في المرحلة الرابعة " منذ عام 2000 حتى الآن "
لا نشهد أسماء لها وقْعها الاعتباري على صعيد الجدة والابتكار، كما تقدَّم، كما لو أن التراكم في المآسي ترك بصمته في المسيرة التالية لما هو اجتماعي، والحيرة المستجدة في السياق .
وما يظهر هو أن هناك حضوراً لافتاً للشاعرات " أربع شاعرات "، مقابل سبعة شعراء.
في حال الشاعرة بهاره رضائي " 1977-..." والتي ، وكما كتِب عنها، مارست قرْض الشاعر وهي لم تتعدَّ الطفولة الثانية، والتي نشرت مجاميع شعرية عدة، ولفتت الأنظار إليها، ومن الملاحظ أن في شعرها وقدة تجديد، ورغبة في تحقيق انعطافة جمالية في الجسد الشعري.
في قصيدتها " الكلمات المريضة " ثمة ما يقدّم صورة تقريبية عن ذائقتها في كتابة الشعر:
حين تنشغل الأرض
عنّا
يأتي الشعر
ويجلس إلى جوارنا
ما ألذ الفطور
معه!
أحياناً
يفسّر أحلامنا
بالبياض
ونُصرُّ
على أن يودِع كلماته المريضةَ
إلى قسم الطوارىء
كل يوم يأتي الشعر
ويلقي علينا التحية
وما علينا إلا أن ننتبه لسلوكِنا. ص 190
هل نحن في إهاب صيدلية أفلاطون، وما تعنية الكلمة من معان متضادة: الداء والدواء، أو السم والعقار، كما توقف جاك دريدا مطولاً عند هذه الكلمة المركَّبة كمفهوم؟
ربما كان الشعر، فيما يشير إليه، وفيما ينوي على فعله، ما يخرج الأرض عن مدارها، وما يعطي الأرض مداراً آخر. ويكون الشعر هو المرتجى، هو المؤمَّل والمصمَّم عليه. هو الجرح المرئي والفاغر فاه، والبلسم للجرح الخاص جداً،وما يضفي عليه سمة الساحر باسمه، وبمنطوق اسمه بالمقابل، ومؤاساته لنا، ونحن في وضعية الداخل المترجرج، والخارج المضطرب.
هو ما يذكّرنا بالدور الهائل للشعر(نحن نعلم جيدًا ، من خلال التجربة ، أن الشعر لا يمكن أن يقتصر على التلاعب بالكلمات. يمكن أن تضيء لحظة ، وتورث سرًا من الحكمة ، وتشير إلى مكان آخر نحتاج فيه إلى التنفس عقليًا ، وتقوية حريتنا ..
الشعر ، كما قال الشاعر دافيد روندوني ، يعيد التوازن والنظام داخل الذات وبين الذات والعالم.
يعيدنا الشعر إلى أنفسنا كبشر متكاملين: يعيش الرجال والنساء حياة استجابة لنداء. نداء الكلمة الداخلية الذي يجعل الشعر يغني فينا ، لأن هذه هي الكلمة الداخلية: التي تحاول الاستجابة والترحيب بالخلق ، من الوحل إلى النجوم.) " 12 "
ليس لنا إلا أن نقف وعيوننا تصغي إليه، وآذاننا تتابعه ، وأجسادنا مأهولة بحضوره الجم بالمقابل، دون ذلك كيف نتفهم العالم حقيقة تردنا قياماً، وكيف نتفهم أنفسنا والعالم راسخ فينا ؟
وما تقدَّم به الشاعر مهدي أشرفي " 1980-.." كنموذج أخير في هذا المقال، يشير إلى أنه شاعرُ مغايرة في القول الشعري، من خلال تأثيره على الشعراء الشباب والشعر الحديث في إيران، كما تقول حيدري، في التعريف به ، وما هو طي قصيدة " الرجل الأسود " جدير بالقراءة:
نحتاج دائماً أن نقتل أحداً
كي ندخل في حداده
أن أرتدي ثوباً أسود
وأجمع ظلالك ِ
إلى أن
يحل الليل
في الساعة الثامنة صباحاً
أن أتناول دلوَ الدّهان
وأسكبه على نفسي
أنا رجل أسود
جلدي لا يتعرق
بل يبكي في معسكرات العمل الجبري
جلدي يقيم حداداً علي..ص212
تلك طبيعة المتناقضات وتبايناتها القيمية في الوقع، ومن خلال الظاهر، وما له تأثير على سلوكيات الناس، وما ينشغل به الناس على صعيد العلاقات والعنف الداخلي ضمناً . وهو ما يأتي بلسان الشاعر في تغيير مظهره، وإخفاء جلده، ونظرة الناس المختلفة .
تلك إدانة حية وقوية لمجمل القيمة المتداولة استناداً إلى المظاهر التي يحتكم إليها الناس، وما الشعر إلا هذا الانفجار الكبير الذي يظهِر ما هو تحت الركام .
إنها مهارة القول في التعبير عن المختلف، ودور النطق كمفهوم خطابي كذلك في نسج العلاقات بين البشر ، أي حيث (يؤكد النطق على أهمية مكانة المتحدث كموضوع ، ويسعى للحصول على العلامات المختلفة لوجوده في وقت الكلام وفضائه ، ويحدد طرق إدارة هذا المتحدث ، ويوضح حضور المتحدث ( متلق)...) " 13 "
وما عايشناه قرائياً هو ما أمكننا التعرض له، والدخول معه في حوار، حيث الشعر في أصله حوار مع الذات، مع الآخر القريب، والبعيد، والمجهول، وما يجعل الروح أكثر أهلية لأن تعيش وجودها خارج الفردي الضيق، ليكون للشعر لسان حاله المأثور بما هو متوخى، أي يكون أهلاً لأن يُسعى إليه، وأهلاً لأن ينظر في أمره، وأهلاً لأن يعترَف به فاعلَ وجود جمالياً لا غنى عنه.
وما قدَّمته الشاعرة والمترجمة مريم حيدري كان إمضاءة مركَّبة على ما تمثّل في المقال نقدياً.
مصادر وإشارات
1-سجادة فارسية " مختارات من الشعر الإيراني المعاصر " إعداد وترجمة: مريم حيدري، دار المحيط للنشر، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة،ط1، 2022، في " 214 " صفحة من القطع الكبير نسبياً، وكل الإحالات المرجعية تخص هذه الطبيعة.
أشير هنا، إلى أن كتاباً آخر صدر بعنوان قريب من هذا العنوان، وهو: هذه المرة سجادة فارسية: تيارات الشعر الإيراني المعاصر،للمترجم حسين طرفي عليوي، ومن منشورات مسارات، سابقاً ومرايا للنشر والتوزيع حديثاً،ومن إصدارات عام 2015، ويظهر أنه يستغرق تاريخاً طويلاً،كما جاء في التعريف به(ضم الكتاب قصائد شعراء إيرانيين منذ بداية التاريخ لإتاحة الفرصة إلى التعرف على أسلوب ونمط المدرسة الشعرية التي انتهجها الشاعر...)،ينظر موقع https: e-raf.aspdkw.com/products، الالكتروني
هي إشارة لا تعني وجودَ تقليداً في العنوان المذكور، ليبقى المحتوى هو الحكِم الفصْل !
2-Arefeh Hedjazi:Le “paradis” et le tapis persane
عرفة حجازي: "الجنة" والبساط الفارسي
3-En fait, « plus qu’un accès au sens, c’est un accès de sens » qu’offre la poésie, écrit le philosophe Jean-Luc Nancy dans Résistance de la poésie
في "مقاومة الشعر" أنه في الواقع ، "أكثر من وصول إلى المعنى ، إنه مدخل إلى المعنى”.
4-المصدر نفسه.
5-Michel Zinkourquoi lire la poésie du passé ?Dans Le Genre humain 2008/1 (N° 47)
ميشيل زنك: لماذا نقرأ شعر الماضي
6-مايؤكد ما تذهب إليه حيدري، هو ما تتبعتُه في مقال ذي علاقة مباشرة بموضوعنا، حيث نقرأ توسعة للجاري اقتباسه(كانت الثورة الدستورية التي بدأت عام 1905 هي التي جلبت الموجة الأولى من الحداثة للشعر الفارسي. هذه الثورة ، المعاصرة للثورة الروسية ، تمثل المحاولة الأولى لتعريف الشعب بالساحة السياسية ، وتفتح آفاقًا جديدة للإيرانيين الذين يتساءلون عن دور وآراء الشعب ، ويكتشفون مفهوم الديمقراطية. مفهوم يعدل بسرعة مفهوم الأدب. يصبح النثر نوعًا مهمًا ، وتكثر الأعمال الجديدة. أما الشعر الذي لا يمكن المساس به ، فلم تعد أشكاله القديمة قادرة على احتواء أفكار جديدة.) .
حول ذلك ينظَر مقال: أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن ، بالفرنسية
Azita Hempartian: Châmlou, enfant du siècle,Dans La pensée de midi 2009/1 (N° 27)
أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن
وأحمد شاملو مذكور في بداية المختارات، وسوف نأتي على ذكره لاحقاً.
7- Javier de la Higuera:Jean-Luc Nancy et l’idée de littérature,Dans Revue de métaphysique et de morale 2018/3 (N° 99)
خافيير دي لا هيغيرا:جان لوك نانسي وفكرة الأدب
8-ينظَر موقع رصيف الكتروني،عن الشاعرة والمترجمة مريم حيدريرصيف22 - موقع إعلامي عربي مستقلّ
9-ينظَر حول ذلك،الشاعرة والمترجمة الإيرانية مريم حيدري، في مقابلة معها، 26-7/ 2011، في موقع:
11-Azita Hempartian: Châmlou, enfant du siècle,Dans La pensée de midi 2009/1 (N° 27)
أزيتا همبارتيان: شاملو ، ابن القرن
12-Giovanni Ryffel: Ce que fait la poésie?
جيوفاني ريفّيل: ماذا يفعل الشّعر
13-Pirouz Eftékhari: La poésie persane et l’esthétique de l’instant poétique
بيروز افتخاري: الشعر الفارسي وجماليات اللحظة الشعرية