-5-
ماذا وراء دعاوى تعقيد الفلسفة ؟
أبديتُ استغرابي، وبصيغ مختلفة، في أكثر من نقطة عن كيفية وضع كاتبنا عبدالله الغذامي لكتابه هذا، وبدءاً من العنوان " غير المحتفى به " المؤدي بالفلسفة إلى تصفيتها في تاريخها الطويل، وفي أرض، وديار، وثقافة سائدة لم تمنحها حتى حق إقامة على الهامش واقعاً، وما في الكتاب مما يشبه " دعاوى " تمتزج بالفتاوى في الطريقة هذه، وباستخفاف لافت، ومن أكاديمي، يتطلب منه التعامل مع مادته الرجوع إلى تنوع المصادر أولاً، وقبل كل شيء، عدم إصدار حكم على ما يثيره،لأنه أوسع وأكبر من أن يُحاط به، وليس بتكرار ما قاله هذا أو ذاك من الفلاسفة أو المنتمين إلى حقل الفلسفة، وما بينهم من تباينات ينبغي تقديرها، لئلا تختلط حدود التخصصات.
إنها الحدود التي يعرفها كاتبنا جيداً، جهة تميّز كل كتابة بأسلوب أو منهج معين، وعلى سبيل المثال، هل يمكن قراءة ما كتبه هونفسه من منظور الألسنية؟ كيف يمكن التعامل مع كتابة تنتمي إلى المدرسة الوجودية، بأسلوب بنيوي؟ وكيف يُقرَأ ما هو مثالي بما هو مادي؟...إلخ
وما أحاول التوقف عنده في هذه النقطة، هو ما ينطلق منه الغذامي جهة تنحية الفلسفة جانباً، من خلال عدة اقتباسات لها توجهات منهجية مختلفة، وبزعم أنها معقدة، وبلسان آخر.. يا للمفارقة !
ذلك يعيدنا إلى الذهنية التي يعتمدها في التعامل مع كتابة كهذه، وهي في وضعية استقالة غالباً .
ما هذا التعقيد المزعوم في الفلسفة، لتكون مطارَدة؟
استمراراً لما تقدم بصدد " المأزق المفاهيمي للفلسفي، يستدعي برتراند راسل " 1872-1970 " هذا العالم الرياضي والفيلسوف التحليلي ومؤرخ الفلسفة، ليحاكم الفلسفة بلسانه ، كما تقدَّم :
( ليستعيد من وقفوا من الفلسفة موقفاً نقدياً، كما في حال فلسفة كانط وهيجل ، حيث التأكيد على تعقيدات فلسفتهما " 16- 18 " وراسل يشدد على هيجل كثيراً ، ويزيف معظم تعقيداته الفلسفية، كما يذكر الغذامي. ص 18 . ) .
وفي نقاط أخرى :
يستعين براسل كثيراً في نقده لهيجل وغيره. ص 26 .
وعبر فوكو الذي ظل متطلعاً للتحرر من هيمنة هيجل التي تهدده دوماً بأن هيجل مثل الرمال المتحركة تغوص فيها كلما حاولت التخلص منها. ص 27 .
وراسل منقذه هنا، ص 33 .
...
مختتَم الكلام، هو أن الفلسفة، ومن خلال علَمين فلسفيين لهما باع طويل جداً في الفلسفة، فقدت حظوتها، ولم تعد جديرة بأن يسمَع صوتها، أو يُهتَم بأمرها، إلا إذا جرى تغيير مسارها كلياً.
ماالذي قرَّبه من برتراند رسل أو " راسل " أو قرّب راسل منه؟ إنه ما يستجيب لـ " هواه " دون ذلك كيف يمكن السير في ركاب من ليس لديه استعداد لتذوق فلسفة إن لم يجر " ماؤها " في المسار الذي حدَّده لها، وفقاً لمقاييسه، وليس لأن هناك اختلافاً في الفلسفة باعتبارها أنواعاً ؟
استعان براسل، وكما سطَّر في كتاباته عن الفلسفة " نذكّر هنا بـ" تاريخ الفلسفة الغربية " و" حكمة الغرب " و" مشكلات فلسفية " على الأقل، وأسلس له القياد دون النظر في مسطوره أبداً !
وبصدد الحديث عن التعقيد في الفلسفة، ففي الكثير مما يمكن النظر فيه ومناقشته. أولاً، لا يمكن الإطلاق في القول، وثانياً، هناك جانب آخر يتوقف على طبيعة القارىء. إن ما يوصَف بالتعقيد قد يدين قائله، بكونه عاجزاً عن قراءة الموصوف، أو لا يستسيغه جرّاء حالة نفسية، أو موقف فكري، أو تصور إيديولوجي، أو من منطلق خلفية مذهبية بالمقابل.
ذلك يذكّر في بعض مما تقدَّم بما رد به الشاعر " أبو تمام " على من اتهم شعره بالغموض: لماذا تقول ما لا يُفهم فقال لماذا لا تفهمون ما يُقال؟
إن الاستعانة بحجة الغموض، ليست واردة هنا، وهي تبقى نسبية، على كل حال، وأما الالتجاء بما يقول بذلك، ففي ذلك ما هو أكبر من ضعف الحجة، أي سوء التقدير في الغالب.
لنتوقف عند راسل قليلاً:
كما تقدَّم، راسل، عالم رياضيات أولاً، ومؤرخ فيلسوف،وداعية سلام، ومربّ..إلخ، وهو يجمع بين الكثير من الاهتمامات الفكرية والبحثية، بامتداد عمره الذي قارب القرن، وتميّز بتقلبات في مواقفه، وقد عايش مناخات الحربين العالميتين، وكان لذلك تأثير في طبيعة تفكيره " 1 "
ما يعرَف عنه هو ما سطَّره في الفلسفة تاريخياً قبل كل شيء.
إن " تاريخ الفلسفة الغربية " جهد بحثي، تأريخي وفلسفي جدير بالتقدير طبعاً، بغضّ النظر عن محتواه. حيث إن التأريخ مهما أفصح عن مادته الفلسفية، يكون تأريخاً وليس فلسفة، فما يقال في الفلسفة وما فيها من تأمل تفكير، ومن طرح أسئلة واستقصاءات رؤى، غير المسمى تأريخاً .
وراسل في متابعته للفلسفة تأريخياً، يعرَف بنفسه هكذا، كما هو مقدَّر.
ماذا يقول عن كانط، في موجز لفلسفته( يُعتبَر أمانويل كانط ( 1924-1804) أعظم الفلاسفة المحدثين. ولا يمكنني أنا نفسي أن أوافق على هذا التقدير، وأكون من الحماقة ألا أقرّ بأهميته العظيمة. ص 315 .).
هوذا حديث فلسفي، وفي الوقت نفسه تعبير عن رؤية فلسفية خاصة براسل الذي تابع كانط في جوانب تميّز حياته أو سلوكه عن قرب:
( كان " كانط " رجلاً له من العادات المنتظمة ما حد بالناس إلى ضبط ساعاتهم عليه عند مروره بهم في طريقه للنزهة . ص 316 .)
وثمة ما يقرّبنا من كانط في الأمور الماورائية، بخصوص فيلسوف " الشيء في ذاته " وعلاقته بما هو ديني، جهة الانغلاق على المعنى.
أي عن كانط ، وقوله( إن الله والحرية والخلود، هي : أفكار العقل الثلاثة. ص 323 .)
وما لا يستسيغه في جانب آخر:
( لقد كان ( الشيء في ذاته) عنصراً مربكاً في فلسفة كانط، تخلى عنه أخلافه المباشرون الذين رفضوا في شيء شبيه للغاية بنزعة الانطوائية . ص 334 .) .
وهكذا الحال مع هيجل، إنما بصور أشد:
( كانت فلسفة هيجل " 1770-1831 " هي التطور الهام بعد فلسفة " كانط " . ص 335 .
كان هيجل ذروة الحركة التي بدأت بكانط في الفلسفة الألمانية. ص 315 .
وفلسفة هيجل بالغة الصعوبة . فهو، كما يمكنني أن أقول ، أشد جميع الفلاسفة الكبار عسراً على الفهم . ص 352 ) .
أعود هنا إلى سؤال: كيف قرأ الغذامي فلسفة هذين وغيرهما بعيني عالم رياضي أصلاً، ومتأثراً بجانبه الرياضي في قراءة الفلسفة، وهو في نطاق الفلسفة التحليلية الانكليزية، وأخذ بقوله بمثابة القول الفصل، دون أن يظهر قراءته لهؤلاء ؟ يتحدث الغذامي عن الفلسفة وعن مآلاتها، وما في ذلك من تلبيس الفلسفة ما يتلبسها من خارجها، بمفهومه الديني الذي يسمّيه هو لا غيره، وفي الوقت الذي تكون الفلسفة مرفوضة في نطاقها الإسلامي، ولم تتبيأ أو تأخذ إقامة في نطاق " جغرافية دار الإسلام جراء الموقف منها "، يمسخها، بجعلها تخضع لحكمه اللافلسفي ؟؟!!.
وما يقوله في هيجل بصدد " الحرية "( وكما ينبغي أن نتوقع نراه ينسب أعلى دور إلى الألمان في التطور الأرضي للروح" الروح الألماني هو روح العالم الجديد . هدفه هو تحقيق الحقيقة المطلقة من حيث كونها حرية الإرادة اللامحدودة للحرية..." ويعلق قائلاً: " هذه سمة رائعة للغاية للحرية ..فالروح حين يمنح ذاته القوانين يفعل ذلك بغاية الحرية . ص 361 . ) .
على وجه العموم ليس في الذي تفوَّه به راسل ما يصدم كثيراً، أما مفهوم الصعوبة، فليس دليلاً مادياً، وبمواصفاته للرد على ما تقدَّم أو تأكيد حجة راسل بإسناد من الغذامي !
إن ما يقوله راسل في الفلسفة في مكان آخر، يغيّر الموقف الفلسفي (يختلف تعريف الفلسفة باختلاف الفلسفة التي نأخذ بها، ولهذا فلا يحسن البدء بتعريفها.) " 3 "
والذي سطَّره فؤاد زكريا في تقديمه لكتابه " حكمة الغرب " له وجاهته الفكرية
( إن الحكم العام الذي أصدره رسل عن ارتباط الفلسفة الغربية بالذات، منذ نشأتها بالعلم! ينبغي أن يفهَم في ضوء أبعاد أعقد بكثير بكثير من الصيغة المبسطة التي استخدمها المؤلف . ص 7 .
ومن جهة أخرى، فإن أحكام رسل على الفلاسفة قد تأثرت في بعض الأحيان باهتماماته الرياضية .) " 4 "
ذلك يستدعي الإصغاء إلى صوته، والتفكير في كلماته، وهو المتمرس في حيثيات الفلسفة، أي " زكريا " وفيه ما فيه من الصولات والجولات التي تعرَف في نطاق الفلسفة.
إنما اللافت في موقف راسل مما هو ديني، ومن منطلق علمه الرياضي، ما يصدم الغذامي، عندما يعبّر عن تفكيره في الدين بالذات (عنده الدين ليس إلا خوفاً من المجهول.. وقال إن الدين يعوق المعرفة، ويعزز الخوف ، وأنه مسؤول عن العديد من الحروب وعن قدر كبير من الاضطهاد والشقاء اللذين ابتلي العالم بهما.) " 5 "
ما يبدو جلياً هو أن الغذامي غير مهتم بقائمة النقاط التي تسمّي المستعان به هنا، أي راسل، كما الحال هنا، طالما أن هناك ما يستجيب لرغبته النفسية، وما في ذلك من خلاف المعنى .
أي إن راسل لا صلة له بما تفوه به الغذامي، ولا بأي شكل في حدوده الفكرية العامة، حيث ينتمي إلى مجتمع مغاير، والأهم، إلى ثقافة شخصية وشخصية مفهومية على النقيض منه هنا .
مسوّغ التعقيد إلى أين ؟
لنتوقف عند الأقوال التي تخص راسل وطرب لها الغذامي ومدى مصداقيتها:
هل حقاً أن ما تقرّر بشأن كل من كانط وهيجل، كان عبارة عن دق مسمار في " نعشهما "؟
هل اختفى صوتهما من فضاء الفلسفة من رحابة تاريخهما يا تُرى ؟
وأين هي حقيقة " الهروب من هيجل " وسواه بناء على تعقيدات الفلسفة المسماة ؟ ومنذ متى كانت الفلسفة المعتبَرة معقدة تشهيراً في مبناها ومعناها، وتنحية لها، من هذا الاعتبار؟ ومن القائل، بالمقابل، أن أحدهم إذا أفصح بالمعقَّد جرى تبرير طرده خارجاً، والإغلاق عليه ؟
إن متابعة بسيطة تظهر أنه من المستحيل بمكان تجاوزهما العلميْن: كانط وهيجل. بالعكس، ثمة ما يعزّز حضورهما، أي ما يعزّز روح الباحث عن الفلسفة ليزدد بهما فلسفة وفضولَ معرفة:
هناك ما يشد إلى كانط، ويبقي كانط بأفكاره الفلسفية في جهات مختلفة، من ذلك نقدياً:
فـ(في مقطع من مقدمة الطبعة الأولى لنقد العقل المحض ، يكتب كانط أن "قرنه هو القرن المناسب للنقد ، والذي يجب أن يخضع له كل شيء" )
ذلك يسجَّل له، إنما في الوقت نفسه، يظهر جانب الاستشراف المستقبلي للفكر وبصيرته، حيث إن الحديث عن قرن الفلسفة ليس مجرد كلام شكلي، إنما ما يشد إلى مغزى القول وخلفيته:
( لكن ما الذي نتعرض له عندما نخضع للنقد؟ وهذا الخضوع ، ماذا يعني ضمنا ، وبعبارة أخرى ، ما الذي نوافق على الانغماس فيه عندما نخضع للنقد؟ بالنسبة إلى كانط ، فإن تقديم شيء ما للنقد يعني عرضه على "الفحص الحر والعام [للعقل]"
إن إخضاع شيء ما للنقد يعني بالتالي تمريره عبر منخل العقل ، الذي يُفهم على أنه وسيلة غير قسرية لإضفاء الشرعية العامة. إذا كان هناك اقتراح مشكوك فيه لنظام نظري أو أخلاقي أو جمالي ، أو إذا كان من الممكن إضفاء الشرعية على ممارسة اجتماعية أو تقليد ثقافي مشكوك فيه على حد سواء في ضوء"الفحص الحر والعام للعقل"،فإن هؤلاء سيكونون مستحقين "احترامنا".) .
أليس هذا الذي انشغل به كانط يشغل ذهن كل من له صلة بالفكر والفلسفة تحديداً ؟ أليس صاحب " ما التنوير ؟ " هو الذي يشير إلى أن ما اختص به التنوير يحمل بصمته، لعمق مفهومه هنا؟
( إن الشكوك العميقة في العقل - وهي ظاهرة منتشرة في كل مكان في العالم المعاصر - هي نتاج ما يقرب من قرنين من النقد القاسي.).
وهذا يقودنا إلى جاذبية النقد العميقة للمعنيين به فلسفياً، وما يعطي للنقد صفة تمايز أيضاً:
( إن ممارسة النقد تجد نفسها اليوم مرتبطة بشكل أو بآخر بالنقد غير المقنع لن تفاجئنا ، نظرًا للدور الذي لعبته في تشكيل مفهومنا للنقد من خلال أعمال ، من بين العديد من الأعمال ، لماركس ، نيتشه ، فرويد ، هيدغر ، أدورنو ، فيتجنشتاين ولاكان وفوكو ودريدا.) .
وما يصلنا بفوكو بالذات وتأكيده على كانط:
( خلال مقابلة في نهاية حياته ، شرع فوكو في وصف ممارسة النقد الفلسفي في علاقته بالحاضر وكذلك علاقة الناقد بجمهوره في استحضار مذهل للمفهوم الهيغلي لفلسفة الهدف وفلسفة الهدف. "الحاجة" التي توقظها. يصر فوكو على حقيقة أن القدرة على فهم نفسه كمسئول عن وقته لا تنفصل عن القدرة على اختبار ما يتطلبه المرء من وقته والاستعداد له بشكل إيجابي.).
وفي ضوء ذلك:
( لا يمكن للنقد أن يكون تحويليًا إلا بقدر ما يفتح عالماً ، لأن أي حل حقيقي لأزمة يقدم تغييراً في لغاتنا التفسيرية والتقويمية ، وهو تغيير يمكن توضيحه وإضفاء الشرعية عليه بأثر رجعي باعتباره إزالة الأخطاء وبالتالي كمكسب.
والتأكيد على أنه لا يمكن إلا للخالق أن يدمر هو أيضًا أن تقول "نعم" للمستقبل. يجب ألا نؤكد أن المستقبل هو أفق الاحتمال فحسب ، بل يجب أيضًا أن نخلق الاحتمالات التي يمكن أن توسع آفاقنا.).
التحويل علامة انعطافة فارقة، وارتقاء بالمفهوم الفلسفي، وفي السياق الفكري المغاير كذلك.
وفي التعزيز الفلسفي للذي تقدما به:
( استلهامًا مرة أخرى من نيتشه وفوكو ، فإن الشرط المعياري الأخير ينص على أن ممارسة النقد لا يجب أن تغير الموضوع فحسب ، بل يجب أيضًا تغيير الذات. يؤدي النقد إلى تغيير في الذات وكذلك في عالم المرء. إن ممارسة النقد هي ممارسة النقد الذاتي ؛ لذلك لا يمكن للنقد الناجح أن يترك فهمنا لأنفسنا وهويتنا دون تغيير.).
وفي عودة أخرى إلى فوكو ومدى تفاعله مع من أطلق سؤاله في التنوير:
( خلال إحدى المقابلات الأخيرة التي أجراها ، أعطانا فوكو إشارة إلى العلاقة مع الذات والتي يشير إليها النقد الفلسفي:
"أنا بالكاد مهتم بالوضع الأكاديمي لما أقوم به لأن المشكلة التي تقلقني هي تلك المتعلقة بالتحول الخاص بي ... يبدو لي أن هذا التحول للذات من خلال معرفة المرء هو قريب جدًا من التجربة الجمالية . فلماذا إذن يعمل الرسام إذا لم يتغير بعمله؟ ») " 6 "
فأي هي المسافة التي يستحيل على الناظر قياسها، أو طرد ما هو فلسفي انطلاقاً منها في متاهتها؟
ذلك ما يدفع بنا إلى توسيع دائرة العلاقة بكانط وهيجل:
إذ ( أقل ما يقال أنه من المخاطرة الجمْع بين هيجل وفوكو ، وهذا الأخير ، بعد كل شيء ، حذرنا: "كل وقتنا ، يكتب ، سواء بالمنطق أو من خلال المعرفة ، سواء من خلال ماركس أو بوساطة نيتشه ، يحاول الهروب من هيجل ". من الواضح أن فوكو قصد بهذا أن مشروعه الخاص يجب أن يضاف إلى عدد من الاستراتيجيات التي تهدف إلى "الهروب من هيجل". لكنه كان يعلم أيضًا مدى صعوبة الهروب منه: فهذه المحاولة لا تحمل معها دائمًا خطر الهروب من الفلسفة في نفس الوقت الذي كان فيه هيجل ، وإنما أيضًا ، كما لاحظ فوكو نفسه ، "لا يزال اللجوء إلى [هيجل] ربما خدعة يعارضها لنا وفي نهايتها ينتظرنا بلا حراك وفي أي مكان آخر "
لن يتعلق الأمر بسؤال ما الذي يدين به فوكو لهيجل ، وما قرأه واحتفظ به ، ومن ثم القيام بسلسلة نسب هيجلية لفوكو ، والتي ، على أي حال ، لا يمكن للمرء إلا أن يخترعها إلى حد كبير. ولن تكون مسألة قراءة هيجل بنظارات فوكو ، وبالتالي القيام بتفسير فوكو لهيجل الذي لن ينحني إليه الأخير إلا بصعوبة كبيرة.
في الدرس في كوليج دي فرانس المكرس للكتيب الكانطي ما هو التنوير؟ (1784) ، لاحظ فوكو هذا:
يبدو لي أن الخيار الفلسفي الذي نواجهه حاليًا هو: يمكن للمرء أن يختار فلسفة نقدية تقدم نفسها كفلسفة تحليلية للحقيقة بشكل عام ، أو يمكن للمرء أن يختار فكرًا نقديًا يأخذ شكل من الأنطولوجيا لأنفسنا ، وأنطولوجيا الواقع ؛ هذا الشكل من الفلسفة هو الذي أسس ، من هيجل إلى مدرسة فرانكفورت عبر نيتشه وماكس فيبر ، شكلاً من أشكال التفكير حاولت العمل فيه.
نحن نعلم أن المهمة الأولى التي فُرضت على الفلسفة بالنسبة لهيجل هي مهمة تحديد تفردها الراديكالي للفكر اليوم والحاضر ، وهو النهج الذي من خلاله تشكل الفلسفة اليوم كلحظة لواقعها ، مثل الآن ( أو أبدًا) لمشروع فلسفي فريد تمامًا وغير مسموع حرفيًا. ومع ذلك ، عندما يتعهد فوكو بتحديد مكان الحدث الذي من خلاله فهمت الفلسفة نفسها على أنها تشخيص للحاضر ، فإن كانط والتنوير هو الذي يفكر فيه بدلاً من هيجل والمثالية. هذا ليس سهوًا لأن فوكو يذكر هيجل ، ولكنه نهج طوعي يتحايل فوكو من خلاله على هيجل ، ويضعه في مرتبة نسبية ، وفي الوقت نفسه يضعه من خلال تحديد مظهر الممارسة الحديثة أسفل منه.
ووفقًا لفوكو ، كان كانط يفسر السؤال الذي طرحته الصحيفة بمعنى خاص جدًا ؛ كان قد رأى هناك السؤال الفلسفي للحاضر والواقع: لم تكن المشكلة بالنسبة له هي معرفة ما هو التنوير بشكل عام ، ولكن ما هو هذا العصر الذي يطلق على نفسه اسم: التنوير Aufklärung ، وما هي هذه الحقبة ، وبالتالي فهمها في نفسها ، تفرض كمهمة على الفلسفة.
النقد ضروري ، حيث أن دوره هو تحديد الظروف التي يكون فيها استخدام العقل شرعيًا لتحديد ما يمكن معرفته ، وما يجب القيام به ، وما يمكن التطلع إليه.
إن الانقسام ، الذي يولد الفلسفة كضرورة للتوحيد ، يتخذ في كل مرة "شخصية ملموسة" يحددها العصر الذي يحدث فيه. هذا هو السبب ، حسب هيجل .
تنبثق الفلسفة من قرنها ، وإذا أراد المرء أن يتصور تمزيق هذا القرن على أنه لا أخلاقي ، فإن هذه الفلسفة مشتقة من اللاأخلاقية ، ولكن من أجل استعادة الإنسان بقواه الخاصة وسط أنقاض قرنه ، و لاستعادة مجمل ذلك الوقت الذي مزقه.
افتتح هيجل رحلته الفلسفية بتشخيص لعصره:
عندما تختفي قوة التوحيد من حياة البشر ، وعندما تفقد المصطلحات المعاكسة استقلاليتها ، بعد أن فقدوا علاقتهم الحية وعملهم المتبادل ، فإن الحاجة إلى الفلسفة تنشأ.
لكن ، وفقًا لهيجل ، فإن هذا العمل الخاص بإصلاح التعارضات من خلال فهم التنوير يظهر فقط ، وفي الوقت نفسه يحقق انقسامًا لم يكن مكانه في المقام الأول الفلسفة أو الفكر ، بل في الواقع ثقافة العصر.
لقد كان مفكرو ما بعد كانط وما بعد الثورة هم الذين أجروا الاختبار المؤلم لوجود شر مزمن في حاضرهم: على وجه التحديد لأنهم كانوا مدركين تمامًا للحداثة الجذرية لهذا الحاضر فيما يتعلق بكل ما سبقه ، أدركوا أيضًا أن الشيء نفسه الذي سمح لهم الآن بالانفصال عن الأمس كان يأخذ منعطفًا مرضيًا.) " 7 "
لا حديث هنا عن الأكثر مما هو زمني " قرنان من الزمان " جهة الفصل بيننا وبين كانط، وإنما عن أصالة الفلسفة التي تتحرر في بنية مقامها الفكري من ربقة الضيق والمؤطر. أتراه، لو أن صاحب " إرادة المعرفة " و" نظام الخطاب " و" الكلمات والأشياء " قدَّر في كانط، أو في هيجل ما ينبغي التصريح بما يقصيه عنهما، وعن هيجل في المقام الأول، دون تردد، وهو الذي ترك بصمة عميقة الأثر على المفهوم المدفوع به إلى الأمام، من خلال " الإبستيمي "؟ أي هروب مما يخص هيجل، ومما يمكن أن يخص به كانط على وقْع هذه العلاقة الفكرية، كما لو أن صوت فوكو الفلسفي يبحث عن نظير له في الزمان المفتوح، وفي تاريخ مرحّب به أيضاً ؟!
لهذا يمكن التوقف طويلاً عند قائمة الأفكار الواردة آنفاً، وتبيّن مدى القرب بين كل من فوكو المعاصر لنا وكانط وهيجل، وما في هذا القرب من رفع السقف الزمني للعلاقة إلى مستوى آخر من الانهمام بما هو بحثي، وما يوسّع في مفهوم الزمن بالذات، ما يستوقفنا عند المفهوم الذي يشكل الرافعة الأكثر تمثيلاً للفلسفة، في مداها الزمني الطويل، وقدرته على ضخ معان جديدة في الجسد الفلسفي الذي يزداد شبوبية، لأن هناك ما يضمن هذه الاستمرارية في الوجود.
في الجانب الأهم، هو أن فوكو لم يبتعد عن الاثنين، كما قلت، وخصوصاً : هيجل، كما زعِم بأنه يهرب منه كما أشير إلى ذلك في كتاب الغذامي، ومقصد الغذامي المنفعي الضيق أو المحدود. إنه انشغال بالحالتين، وتركيز على كانط وهيجل، حيث يشار إليهما، لأن في الذي عرِفا به، بغضّ النظر عما يمكن مناقشتهما عليه، يعزّز حضورهما في التاريخ، ويثير فضول كل باحث في الفلسفة، وكل دارس فلسفة لأن يرى في المروء استلهاماً نفسياً له .
أي حيث تنتمي فلسفة الاثنين، واللذين سعى راسل إلى التعتيم عليهما، أو محاولة التشويش عليهما بزعم أنهما غير مفهومين، كما يجب، وبالنسبة لهيجل أكثر، وها هو معني بهما كثيراً .
مع الكسندر كوجيف
إن ما تصدى له الكسندر كوجيف " 1902-1968 " هذا الروسي المهاجر والمفعم بالنشاط الفلسفي في الصميم، والناطق بلغات عدة، كان ساحر الفرنسيين بامتياز، ومعرّفهم بهيجل " 8 "
وبدءاً مما يقوله المترجم (في فرنسا/ أدهشت دروسه حول هيجل : متتبعيه الذين أصبح بعضهم من كبار مفكري فرنسا أمال : باتاي، كينو ( ناشر وجامع دروسه )، لاكان، بروتون/ فيل، ميرلوبونتي، كوربان، وغيرهم، ومن بينهم جان هيبوليت( مترجم الفينومينولوجيا) . لقد أحدث كلام كوجيف ( المقنه بالمعنة الذي وسعه باتاي نفسه ) رعباً حقيقياً في تلك الأوساط المستمعة، وشكل نوعاً من الجاذبية والنفور في الوقت نفسه بين أولئك الذين سوف يطبعون بعمق الحياة الثقافية الفرنسية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية . ص 9 .) .
وهو ما يمكن متابعته في شروحات كوجيف، وفذاذة مقارباته النقدية للخزين الفكري الهيجلي:
( إن للعالم الآن أهمية بالنسة للإنسان، فهو يدري بأنه قاصر على التصرف في العالم ومن أجل العالم. لكنه لا يغيره فهو بلاحظه أو يتمتع به . ص 117 .
إن الإنسان مهتم بالعالم، إنه يعلم بأن العالم عقلي، فهو يبحث عن لاتناهيه الخاص... إن للعقل سيادة، لأن العالم يخضع للقوانين التي يكتشفها العقل.. إن إنسان العقل يتصرف داخل الطبيعة، وليس داخل المجتمع. إذن فالعقل لا يتجاوز بالأحرى مستوى المعرفة البيولوجية . ص 119 .
لقد ولِد الإنسان، وبدأ التاريخ، ومع أول صراع قاد إلى ظهور سيد وعبد. أي إن الإنسان- في أصله- كان دائماً إما سيداً وإما عبداً ، وأنه ليس هناك إنساناً حق، إلأا إذا كان هناك سيد وعبد... وبالتالي فإن التاريخ يتوقف في اللحظة التي يختفي فيها الاختلاف والتعارض ما بين الأسياد والعبيد . ص235 .
يؤسس الإنسان قيمته الإنسانية بالمخاطرة بحياته، والحال أن هذا الخطر يحف كل شيء دوماً- هو نفس الخطر لدى الجميع .. ص 252 .
يجب أن نفهم بأن الإنسان خلق الآلهة مسقطاً ذاته، بوصفه مثالاً، على الماوراء . ص 398 .
بما أن الإنسان- الكامل يتحقق شيئاً فشيئاً عبر مجرى التاريخ، فإن المعرفة الكاملة لها بدورها تاريخ . ص 402 .) .
لقد لدى كوجيف تلك الرغبة الفلسفية الواعية، وأي وعي، في أن ينير الفضاء الرحب فلسفياً لهيجل كونه يستحق ذلك، وأنه بناء على جهوده يكون له رصيد يبقيه ويستبقي ما يؤبّد اسمه.
تلك استشهادات موزعة بين أقوال لهيجل وإضاءات لشارحه الكبير، وهي تشكل في بنيتها قيمة تاريخية وفكرية فلسفية باذخة، وتعلّم من لا يعلم كيف يمارس الفكر تـأثير ويتجدد بمحتواه، وفي الوقت نفسه، يكون مؤمّناً على نفسه، ومنبّهاً من يغفل عن حقيقة الفكر العميق والآخر : السطحي.
بالطريقة هذه، لا يعود الذي تفوه به راسل غير مأخوذ من زاوية فلسفية، إنما من زاوية القيمة التي تحجب كل قيمة أخرى، كما يريد غذامينا، ومن يصادق على حقيقة ما مكتفياً بعبارة معينة.
وما يمكن تلمسه من حضور التنوير المضاف إلى تنوير الفيلسوف، وحقيقة التراكم المعرفي، وصفة المعاناة في عملية المعايشة الفكرية، وتحمل الصعاب لتمنح الفلسفة أسراراً لها لطالبها.
وباحثة عربية في فلسفة كانط
إن ما بذلته باحثة عربية في الفلسفة " أم الزين- بنشيخة المسكيني " مثال حي وبليغ وشاهد فطين بالمقابل، على أن مفهوم " التعقيد " ليس كما هو مراهَن عليه، وهي تتنقل بين كتاب وآخرلكانط وبلغة واضحة ودالة على أهلية الانتساب إلى الحقل الفلسفي بامتياز، حول " كانط راهنا " "9"
حين تنوّه إلى محورية السؤال وأدائه الفلسفي في المعمار الفكري) أما عن السؤال " ماذا؟ " فهو السؤال الذي صاغ به كانط المشروع النقدي برمته، وذلك ضمن أسئلته الشهيرة الثلاثة والتي وردت في القسم الثاني من الفصل الثاني من الجزء الثاني من نقد العقل المحض. يقول كانط: كل غرض لعقلي ( اعتبارياً كام أم عملياً ) يتوحد في الأسئلة الثلاثة التالية:
1-ماذا يمكنني أن أعرف؟
2-ماذا يجب علي أن أعمل ؟
3-ماذا يمكنني أن آمل ؟ . ص 12 .) " 10 "
وما يصل بين كانط وفوكو هنا:
كانط في رأي فوكو، هو أول من واجه سؤال " ما هي الفلسفة الحديثة ؟ " بضرب من التفكير فيما يسميه فوكو " بالراهنية المحضة " . ص 21.
وكذلك: الدين في حدود مجرد العقل؟ عنوان يوقّع نمطاً طريفاً غير مسبوق من التعامل مع الدين . ص 50 " 11 "
ولعل الأهم في خاصيته المعرفية وعلى أرضية فلسفية ما ورد في خاتمة المسكيني:
ماذا نتعلم من كانط راهناً ؟:
1-الكونية. ربما كان كانط هو الفيلسوف " الكوني " الوحيد أو هو على الأقل أكثر من شرع لكونية العقل وأحرص من دافع عنها..ص 217 ...
2-فن العيش معاً . إن فلسفة كانط تزعزع لدينا وهماً تاريخياً خطيراً يخص ممارسة المحدثين المشحونة بالضغينة والوعي التعيس للعلاقة بين الذات والآخر: وهي علاقة رسمت منذ دهر من الزمن للشرق صورة نمطية هي صورة الضحية أو هو المستعمَر والمتخلف وموطن الإرهاب، في حين اتخذ فيها الغرب صورة البطل المستنير.. والمتقدم، موطن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان .ص 218 .
3- التفاؤلية: إن كانط يوفر لنا نمطاً طريفاً من التعلق بالراهن..ص 219..
هذه الاستنارة النفسية، هذا التنوير الوجداني- العقلي، فاعل إثبات حضاري وتمدني، إنما في الجانب الأهم: تأكيد انتماء إلى الحياة وكيفية التعايش من خلال ما هو فلسفي بالمقابل !
وملف عن هيجل " 12 "
ولعل الملف الذي أعِدَّ حول هيجل يقرّبنا من منطقة الأفكار الأكثر حيوية على إثارة الذهنية ذات المرجعية الفلسفية، والدفع بالقدرات النفسية المرفقة بها لأن تتفاعل معها، وتتنور بها أيضاً. هناك الكثير من المحاور التي تترجم جدّية هذا الانشغال بالفلسفة الهيجلية والتعامل معها بالسلب أو بالإيجاب، وفي الحالتين تثبت الفلسفة قدرتها على الانفتاح وعلى التنويع في الوقت نفسه، إذ:
( في مقابل قراءة مبسطة لمناهضة الهيغلية التي ميزت أعمال لويس ألتوسير وميشيل فوكو في الستينيات ، يقدم الكتاب رحلة عبر النصوص المبكرة لهؤلاء الفلاسفة لإلقاء الضوء على الجذور الهيغلية لإشكالياتهم. باستخدام العديد من الوثائق الأرشيفية وقراءة دقيقة للتطور الفكري لألتوسير وفوكو ...)
إن ما يمكن تبيّنه في " مقدمة عامة، وتحت عنوان : هيجل ونحن
Introduction générale : Hegel et nous
يمضي بنا إلى أعالي المفهوم المخصب للفلسفة، وشركاء المعنى الفلسفي فيها:
( دعونا نتذكر افتتاح أجراس ( كتاب جاك دريدا. توضيح من إبراهيم محمود ): "ما الذي يتبقى لنا اليوم ، هنا ، الآن ، من هيجل؟ »1. هل ما زلنا ندرك اليوم إلى أي مدى كسر دريدا ، في عام 1974 ، الليلة التي انغمست فيها الفلسفة الهيجلية في فرنسا؟ هذه الجملة ، أو بالأحرى هذه غير الجملة ، لأنها تفتقر إلى الحرف الكبير الذي من شأنه أن يشير إلى اختتام معناه ، يلوح في الأفق مثل البرق في المشهد الفكري الفرنسي الذي لم يتوقف ، خلال السنوات العشر الماضية ، عن التحطيم والتدمير. هجوم هيجل.
في عام 1961 ، نشر إيمانويل ليفيناس الكلية واللاتناهي Totality and Infinity وعارض بشكل مباشر اللانهاية للأخلاق مع الكلية العنيفة للمفهوم والتاريخ لدى هيجل. في العام نفسه، أصدر ميشيل فوكو تاريخ الجنون ، والذي يُعد تقديمه نقدًا جذريًا للكتابة الهيغلية للتاريخ. في العام التالي ، في عام 1962 ، كان كتاب جيل دولوز نيتشه والفلسفة ، هو الذي أوصل ضراوة الهجمات ضد فلسفة هيجل إلى مستوى لا مثيل له ، وقلل من الديالكتيك إلى مرحلة على طريق العدمية. بعد أقل من عشر سنوات ، في عام 1971 ، وضع دريدا – الذي لم يتم اختزال علاقته بالفلسفة الهيجلية ، بعيدًا عن الموقف النقدي – التفكيك في موقف نقدي فيما يتعلق بهيجل ويعرف الاختلاف على أنه "الحد ، انقطاع وتدمير الخلافة الهيغلية أينما كانت "؛ ونشر ليوتارد خطاب ، الشكل ، الذي أكمل بقوة معاداة الهيغلية في العقد الذي مضى للتو.)
والأكثر إثارة ما يخص علاقة فوكو بهيجل خلاف ما أشير إليه عن " هروبه منه " بعنوان فلسفي طبعاً: إشكالية هيجل Une problématisation hégélienne
( تحت إشراف جان هيبوليت ، كرس فوكو ، في عام 1949 ، أطروحته في نهاية دراساته العليا لـ "تكوين متسام في ظاهرة هيجل للروح" 1. ويتم تقديم الأطروحة من خلال سلسلة من "الملاحظات الأولية" ذات الطبيعة المنهجية ، ثم تتكون بشكل كلاسيكي من ثلاثة أجزاء – "المجال التجاوزي" ، "الموضوع المتعالي" ، "المتعالي والتاريخ" – التي تفتح على استنتاج مقصود للتأكيد على التوترات الداخلية في الفلسفة الهيجلية. يصل النص إلى ذروته في فكرة تأريخ المتسامي الذي أصبح ممكنًا بفضل هيجل ، ثم يتراجع فورًا عن طريق الإشارة إلى انحرافات الموقف الهيغلي.
ثم نصل إلى المعنى العميق لما أطلق عليه بيير ماشيري ، في نص غير منشور مكرس لمذكرات فوكو ، "الخروج" من الهيجلية ، بالمعنى المزدوج للمصطلح: "يأتي من" و "الانفصال" والذي يعقد بشكل كبير فكرة قطيعة نقية وبسيطة بين الفلسفة الفوكولية والهيجلية في سنواتها الأولى 2. لن يظهر عمل فوكو على هيجل كخطأ شاب ، ولكن كموقع توتر يمكن من خلاله تطوير العمل اللاحق.
الملاحظات الأولية" التي تُفتتح بها المذكرات هناك لتبرير مشروع فوكو. التبرير الضروري لأنه سيكون مسألة طرح مسألة المتعالي على الفلسفة الهيغلية التي لم تطرحها صراحة بعد ، أي "استجواب هيجل بشأن نقطة لا يريد أن يجيب عليها"
إن عبقرية هيجل ، وما يجعله مفكرًا للمتسامي في نظر فوكو ، هو أنه نجح في حل هذه الانحرافات في فينومينولوجيا الروح. فيما يتعلق بالموضوعية ، أولاً ، يقدم عمل 1807 تعريفًا أكثر شمولاً من تعريف كانط. فهو لا يمتد فقط ، عند هيجل ، إلى ما وراء علوم زمانه ، ولكنه يغامر حتى خارج المجال العلمي.) .
في هذا الحقل الجغرافي اللافت بموقعه وثراء تربته، كيف يمكن التخلي عن المسطور هنا؟ بناء على أي تصور، أو وفق أي معادلة رياضية، يسوّغ التخلي عن الفلسفة تلك التي استسهل كاتبنا الحديث في شأنها، والالتفاف عليها، وببعض ما هو مجتزأ من كلام راسل كذلك ؟
هيجل معاصرنا كما يظهر، وكانط معاصرنا كما يظهر، وحتى راسل نفسه معاصرنا، مهما تكلمنا عن مسافة الاختلاف الواسعة بينهم، لكنها مساحة معرفية تقوم على التنوع.
وهيجل المقروء بكم هائل من اللغات، مجاز بذلك، لأن جهاته مفتوحة أيضاً، إن من ناحية التاريخ، أو الفن، أو الفكر، أو الفلسفة أو الأنثروبولوجيا، أو الجمال...إلخ، دون ذلك يستحيل علينا النظر إليه، ورؤيته وهو يتقدم الكثيرين ممن يشتغلون في المضمار الفلسفي نفسه .
هذا الفليلسوف الذي منح الشك مكانة عالية وقاعدة راسخة، بمفهومه الفلسفي، لئلا يتم تقبّل أي قول أو أو نص على أنه نص ثقافي، دون مكاشفة مكوناته، ودون إبراز الشك مدماكاً لجعله أكثر انفتاحاً، وأكثر قواماً معرفياً، والمضي قدماً إلى المستقبل، وإلى الإنسان المأهول بالفلسفة:
أي حيث (لم يعارض أي فيلسوف التشكك بشكل حازم مثل هيجل ، ولم يدرك سوى هيجل جدّية هذه الطريقة وإيجابيتها في الفلسفة. كتب في الدراسة: "جوهر الشك وفقًا لهيجل" ، ذهب روجر فيرنو إلى حد التأكيد على أن "هيجل هو الفيلسوف الوحيد مع رينوفير الذي فكر في ما يعنيه أن تكون متشككًا"
ويميز مقال عام 1802 بين ثلاثة أنماط من الشك: الشك كفلسفة سيكون جانبها السلبي فقط ، والشك المنفصل عن الفلسفة ولكن ليس عدوًا لها ، والتشكيك المعادي للفلسفة.) " 13 "
أفي مقدورنا أن نسد الطريق في وجه المشار إليه فلسفياً، من خلال كانط وهيجل، أم الإسراع إلى توسيع الطريق، وسلوكه لأن ما يُرى من خلاله هو خط اتصال بين الفلسفة الحق وما لا يحاط به في امتداد مأثورها الفكري إلى ما وراء الأفق المنظور.
في ضوء ذلك أي قيمة معرفية، وحتى بالمفهوم الصحفي يبقي للغذامي في سؤاله:
هل تأنسنت الفلسفة اليوم ..! ؟
والأكثر مدعاة للسخرية هذه المرة، وبتبنّي قول ما أفقره إلى مصداقية المعنى:
وهي، لكي تتأنسن لا بد أن تتحول من المعقد إلى البسيط، أي من كانط إلى راسل، مثلاً، ص 23.
أي حيث تتم الإطاحة بكانط، كرمى الغذامي وهو في ركاب راسل العالم الرياضي، والذي لا شأن له بما يقوّله في النقطة هذه، وبما يتفقه به في عموم الفلسفة.
طبعاً ، المطوَّح به من جهة الفلسفة، هوالغذامي وليس سواه ؟؟؟!!!
" يتبع "
مصادر وإشارات:
1-يُنظر حول ذلك، نايجل رودجرز- ميل ثومبثون: جنون الفلاسفة، ترجمة: متيّم الصالح، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2015، صص 127-170. أورد هنا، على سبيلالمثال، ما لا يعتبَر حكماً قطعياً عليه، إنما ما يصله بجوانب من حياته، ومن قبل د. إتش لورنس، حيث كان الرجلان على طرفي نقيض في الكثير من الطرق ...كان لورنس يشعر بالقرف مما كان يراه في حياة كامبريدج.. ثم تحول بعنف ضد راسل كاتباً رسالة دمرت الفيلسوف المضطرب سلفاً:
أنت ببساطة مليء بالرغبات المكبوتة الهمجية والمعادية للمجتمع. وتبرز هذه الرغبات بزيّ الحمَل الوديع عبر الدعاية لمعاداة الحرب. ... أنت مليء جداً بالعواطف الشيطانية المكبوتة ولا يمكن أن تكون إلا شخصاً شبقاً وقاسياً .. ص 170 ). هوذا اقتباس من بين اقتباسات تخص الموقف من راسل، دون أن تكون حقيقة راسل معتبَرة، ومدرَكة من خلاله طبعاً .
2- برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث: الفلسفة الحديثة، ترجمة: د. محمد فتحي الشنقيطي، الهيئة المصرية للكتاب، 1977 ، والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة، ومن باب الإيجاز .
3- برتراند رسل: الفلسفة بنظرة علمية، تلخيص وتقديم: . د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1960 .ص 1.
4- برتراند راسل: حكمة الغرب، ج2،الفلسفة الحديثة والمعاصرة ، ترجمة : د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر، 1983 . ص 7-9 .
5- برتراند راسل: أثر العلم في المجتمع، ترجمة: صباح صديق الدملوجي، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008 .ص13 .
-6Nicolas Kompridis De Kant à Foucault :; Réorientation de la critique, Dans Archives de Philosophie 2003/4 (Tome 66)
نيكولاس كومبريديس: من كانط إلى فوكو : إعادة توجيه النقد
-7Franck Fischbach : Aufklärung et modernité philosophique : Foucault entre Kant et Hegel
فرانك فيشباخ: التنوير والحداثة الفلسفية: فوكو بين كانط وهيجل
8-الكسندر كوجيف: مدخل لقراءة هيجل، ترجمة وتقديم: عبدالعزيز بومسهولي، دار رؤية، القاهرة،2017 . والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة .
9- د. أم الزين بنشيخة- المسكيني: كانط راهناً أو الإنسان في حدود مجرّد العقل، المركز الثقافي العربية، بيروت،ط1، 2006 . والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة .
وأقدّم هنا اسماً آخر يعمل في حقل الفلسفة، ويكتب بالفرنسية، وهو زينب ديرك في مقالها المعمَّق: دريدا بين هيجل ولاكان: الذاتية المأزقية
Zeynep Direk: Derrida entre Hegel et Lacan : la subjectivité aporétique
وما لقولها من إشراقة تعبير ودقته، كما في:
في فينومينولوجيا الروح ، توجد ذاتية تختبر نفسها على أنها مادة لكي تعود إلى ذاتها في المعرفة المطلقة. هذه هي الطريقة التي يصف بها هيجل مهمته في المقدمة: "كل شيء يعتمد على حقيقة استيعاب الحقيقة والتعبير عنها ، ليس كجوهر ، ولكن بقدر ما هو موضوع"...
10-ينظر في كتاب كانط: نقد العقل المحض، بالعربية، ترجمة وتقديم : د. موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
حيث نقرأ في التصدير: للعقل البشري في نوع من معارفه، هذا القدر الخاص أن يكون مرهقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه، ولا يمكنه أيضاً أن يجيب عنها، لأنها تتخطى كلياً قدرة العقل البشري . ص 25 .
وما يخص الثالوث المذكور: كل غرض عقلي ( اعتبارياً كان أم عملياً ) يتوحد في الأسئلة الثلاثة التالية:
1-ماذا يمكن أن أعلم؟-2-ماذا علي أن أعمل؟-3- ماذا يمكن لي أن آمل ؟ . ص 385 .
حيث الاختلاف طفيف هنا في الترجمة.
11-أشير هنا إلى أن جاك دريدا اشتغل كثيراً على هذا النص. ينظَر حول ذلك كتاب: الدين في عالمنا، تحت إشراف جاك دريدا وجياني فاتيمة، ترجمة: محمد الهلالي وحن العمراني، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2004، صص9-76، وتحت عنوان: إيمان ومعرفة: منبعا " الدّين " في حدود العقل وحده. حيث كان هناك مجموعة متحاورين في ندوة انعقدت في كابري الإيطالية، سنة 1994، ولم يكن هناك أي محاور مسلم، كما يقول دريدا نفسه( نأسف لعدم وجود أي مسلم بيننا، على الأقل في هذه الجلسة التحضيرية، في الوقت الذي يتعين علينا فيه أن نوجه أنظارنا إلى الإسلام . ص 13 ) .
تُرى ماذا لدى الغذامي ليقوله بالنسبة لموقف منفتح، وإنساني، وحواري كهذا؟ أم تراه مأخوذاً بفتنة " الاكتفاء الذاتي " في عالم يتطلب انفتاحاً عليه بالمقاييس كافة ؟
-12Jean-Baptiste Vuillerod :LA NAISSANCE DE L’ANTI-HÉGÉLIANISME
جان بابتيست فويلرود: ولادة معاداة الهيجليين " ملف "
13-Christian Godin: La figure et le moment du scepticisme chez Hegel, Dans Les Études philosophiques 2004/3 (n° 70)
كريستيان جودين: هيئة الشك ولحظته عند هيجل
د. عبدالله الغذامي
ماذا وراء دعاوى تعقيد الفلسفة ؟
أبديتُ استغرابي، وبصيغ مختلفة، في أكثر من نقطة عن كيفية وضع كاتبنا عبدالله الغذامي لكتابه هذا، وبدءاً من العنوان " غير المحتفى به " المؤدي بالفلسفة إلى تصفيتها في تاريخها الطويل، وفي أرض، وديار، وثقافة سائدة لم تمنحها حتى حق إقامة على الهامش واقعاً، وما في الكتاب مما يشبه " دعاوى " تمتزج بالفتاوى في الطريقة هذه، وباستخفاف لافت، ومن أكاديمي، يتطلب منه التعامل مع مادته الرجوع إلى تنوع المصادر أولاً، وقبل كل شيء، عدم إصدار حكم على ما يثيره،لأنه أوسع وأكبر من أن يُحاط به، وليس بتكرار ما قاله هذا أو ذاك من الفلاسفة أو المنتمين إلى حقل الفلسفة، وما بينهم من تباينات ينبغي تقديرها، لئلا تختلط حدود التخصصات.
إنها الحدود التي يعرفها كاتبنا جيداً، جهة تميّز كل كتابة بأسلوب أو منهج معين، وعلى سبيل المثال، هل يمكن قراءة ما كتبه هونفسه من منظور الألسنية؟ كيف يمكن التعامل مع كتابة تنتمي إلى المدرسة الوجودية، بأسلوب بنيوي؟ وكيف يُقرَأ ما هو مثالي بما هو مادي؟...إلخ
وما أحاول التوقف عنده في هذه النقطة، هو ما ينطلق منه الغذامي جهة تنحية الفلسفة جانباً، من خلال عدة اقتباسات لها توجهات منهجية مختلفة، وبزعم أنها معقدة، وبلسان آخر.. يا للمفارقة !
ذلك يعيدنا إلى الذهنية التي يعتمدها في التعامل مع كتابة كهذه، وهي في وضعية استقالة غالباً .
ما هذا التعقيد المزعوم في الفلسفة، لتكون مطارَدة؟
استمراراً لما تقدم بصدد " المأزق المفاهيمي للفلسفي، يستدعي برتراند راسل " 1872-1970 " هذا العالم الرياضي والفيلسوف التحليلي ومؤرخ الفلسفة، ليحاكم الفلسفة بلسانه ، كما تقدَّم :
( ليستعيد من وقفوا من الفلسفة موقفاً نقدياً، كما في حال فلسفة كانط وهيجل ، حيث التأكيد على تعقيدات فلسفتهما " 16- 18 " وراسل يشدد على هيجل كثيراً ، ويزيف معظم تعقيداته الفلسفية، كما يذكر الغذامي. ص 18 . ) .
وفي نقاط أخرى :
يستعين براسل كثيراً في نقده لهيجل وغيره. ص 26 .
وعبر فوكو الذي ظل متطلعاً للتحرر من هيمنة هيجل التي تهدده دوماً بأن هيجل مثل الرمال المتحركة تغوص فيها كلما حاولت التخلص منها. ص 27 .
وراسل منقذه هنا، ص 33 .
...
مختتَم الكلام، هو أن الفلسفة، ومن خلال علَمين فلسفيين لهما باع طويل جداً في الفلسفة، فقدت حظوتها، ولم تعد جديرة بأن يسمَع صوتها، أو يُهتَم بأمرها، إلا إذا جرى تغيير مسارها كلياً.
ماالذي قرَّبه من برتراند رسل أو " راسل " أو قرّب راسل منه؟ إنه ما يستجيب لـ " هواه " دون ذلك كيف يمكن السير في ركاب من ليس لديه استعداد لتذوق فلسفة إن لم يجر " ماؤها " في المسار الذي حدَّده لها، وفقاً لمقاييسه، وليس لأن هناك اختلافاً في الفلسفة باعتبارها أنواعاً ؟
استعان براسل، وكما سطَّر في كتاباته عن الفلسفة " نذكّر هنا بـ" تاريخ الفلسفة الغربية " و" حكمة الغرب " و" مشكلات فلسفية " على الأقل، وأسلس له القياد دون النظر في مسطوره أبداً !
وبصدد الحديث عن التعقيد في الفلسفة، ففي الكثير مما يمكن النظر فيه ومناقشته. أولاً، لا يمكن الإطلاق في القول، وثانياً، هناك جانب آخر يتوقف على طبيعة القارىء. إن ما يوصَف بالتعقيد قد يدين قائله، بكونه عاجزاً عن قراءة الموصوف، أو لا يستسيغه جرّاء حالة نفسية، أو موقف فكري، أو تصور إيديولوجي، أو من منطلق خلفية مذهبية بالمقابل.
ذلك يذكّر في بعض مما تقدَّم بما رد به الشاعر " أبو تمام " على من اتهم شعره بالغموض: لماذا تقول ما لا يُفهم فقال لماذا لا تفهمون ما يُقال؟
إن الاستعانة بحجة الغموض، ليست واردة هنا، وهي تبقى نسبية، على كل حال، وأما الالتجاء بما يقول بذلك، ففي ذلك ما هو أكبر من ضعف الحجة، أي سوء التقدير في الغالب.
لنتوقف عند راسل قليلاً:
كما تقدَّم، راسل، عالم رياضيات أولاً، ومؤرخ فيلسوف،وداعية سلام، ومربّ..إلخ، وهو يجمع بين الكثير من الاهتمامات الفكرية والبحثية، بامتداد عمره الذي قارب القرن، وتميّز بتقلبات في مواقفه، وقد عايش مناخات الحربين العالميتين، وكان لذلك تأثير في طبيعة تفكيره " 1 "
ما يعرَف عنه هو ما سطَّره في الفلسفة تاريخياً قبل كل شيء.
إن " تاريخ الفلسفة الغربية " جهد بحثي، تأريخي وفلسفي جدير بالتقدير طبعاً، بغضّ النظر عن محتواه. حيث إن التأريخ مهما أفصح عن مادته الفلسفية، يكون تأريخاً وليس فلسفة، فما يقال في الفلسفة وما فيها من تأمل تفكير، ومن طرح أسئلة واستقصاءات رؤى، غير المسمى تأريخاً .
وراسل في متابعته للفلسفة تأريخياً، يعرَف بنفسه هكذا، كما هو مقدَّر.
ماذا يقول عن كانط، في موجز لفلسفته( يُعتبَر أمانويل كانط ( 1924-1804) أعظم الفلاسفة المحدثين. ولا يمكنني أنا نفسي أن أوافق على هذا التقدير، وأكون من الحماقة ألا أقرّ بأهميته العظيمة. ص 315 .).
هوذا حديث فلسفي، وفي الوقت نفسه تعبير عن رؤية فلسفية خاصة براسل الذي تابع كانط في جوانب تميّز حياته أو سلوكه عن قرب:
( كان " كانط " رجلاً له من العادات المنتظمة ما حد بالناس إلى ضبط ساعاتهم عليه عند مروره بهم في طريقه للنزهة . ص 316 .)
وثمة ما يقرّبنا من كانط في الأمور الماورائية، بخصوص فيلسوف " الشيء في ذاته " وعلاقته بما هو ديني، جهة الانغلاق على المعنى.
أي عن كانط ، وقوله( إن الله والحرية والخلود، هي : أفكار العقل الثلاثة. ص 323 .)
وما لا يستسيغه في جانب آخر:
( لقد كان ( الشيء في ذاته) عنصراً مربكاً في فلسفة كانط، تخلى عنه أخلافه المباشرون الذين رفضوا في شيء شبيه للغاية بنزعة الانطوائية . ص 334 .) .
وهكذا الحال مع هيجل، إنما بصور أشد:
( كانت فلسفة هيجل " 1770-1831 " هي التطور الهام بعد فلسفة " كانط " . ص 335 .
كان هيجل ذروة الحركة التي بدأت بكانط في الفلسفة الألمانية. ص 315 .
وفلسفة هيجل بالغة الصعوبة . فهو، كما يمكنني أن أقول ، أشد جميع الفلاسفة الكبار عسراً على الفهم . ص 352 ) .
أعود هنا إلى سؤال: كيف قرأ الغذامي فلسفة هذين وغيرهما بعيني عالم رياضي أصلاً، ومتأثراً بجانبه الرياضي في قراءة الفلسفة، وهو في نطاق الفلسفة التحليلية الانكليزية، وأخذ بقوله بمثابة القول الفصل، دون أن يظهر قراءته لهؤلاء ؟ يتحدث الغذامي عن الفلسفة وعن مآلاتها، وما في ذلك من تلبيس الفلسفة ما يتلبسها من خارجها، بمفهومه الديني الذي يسمّيه هو لا غيره، وفي الوقت الذي تكون الفلسفة مرفوضة في نطاقها الإسلامي، ولم تتبيأ أو تأخذ إقامة في نطاق " جغرافية دار الإسلام جراء الموقف منها "، يمسخها، بجعلها تخضع لحكمه اللافلسفي ؟؟!!.
وما يقوله في هيجل بصدد " الحرية "( وكما ينبغي أن نتوقع نراه ينسب أعلى دور إلى الألمان في التطور الأرضي للروح" الروح الألماني هو روح العالم الجديد . هدفه هو تحقيق الحقيقة المطلقة من حيث كونها حرية الإرادة اللامحدودة للحرية..." ويعلق قائلاً: " هذه سمة رائعة للغاية للحرية ..فالروح حين يمنح ذاته القوانين يفعل ذلك بغاية الحرية . ص 361 . ) .
على وجه العموم ليس في الذي تفوَّه به راسل ما يصدم كثيراً، أما مفهوم الصعوبة، فليس دليلاً مادياً، وبمواصفاته للرد على ما تقدَّم أو تأكيد حجة راسل بإسناد من الغذامي !
إن ما يقوله راسل في الفلسفة في مكان آخر، يغيّر الموقف الفلسفي (يختلف تعريف الفلسفة باختلاف الفلسفة التي نأخذ بها، ولهذا فلا يحسن البدء بتعريفها.) " 3 "
والذي سطَّره فؤاد زكريا في تقديمه لكتابه " حكمة الغرب " له وجاهته الفكرية
( إن الحكم العام الذي أصدره رسل عن ارتباط الفلسفة الغربية بالذات، منذ نشأتها بالعلم! ينبغي أن يفهَم في ضوء أبعاد أعقد بكثير بكثير من الصيغة المبسطة التي استخدمها المؤلف . ص 7 .
ومن جهة أخرى، فإن أحكام رسل على الفلاسفة قد تأثرت في بعض الأحيان باهتماماته الرياضية .) " 4 "
ذلك يستدعي الإصغاء إلى صوته، والتفكير في كلماته، وهو المتمرس في حيثيات الفلسفة، أي " زكريا " وفيه ما فيه من الصولات والجولات التي تعرَف في نطاق الفلسفة.
إنما اللافت في موقف راسل مما هو ديني، ومن منطلق علمه الرياضي، ما يصدم الغذامي، عندما يعبّر عن تفكيره في الدين بالذات (عنده الدين ليس إلا خوفاً من المجهول.. وقال إن الدين يعوق المعرفة، ويعزز الخوف ، وأنه مسؤول عن العديد من الحروب وعن قدر كبير من الاضطهاد والشقاء اللذين ابتلي العالم بهما.) " 5 "
ما يبدو جلياً هو أن الغذامي غير مهتم بقائمة النقاط التي تسمّي المستعان به هنا، أي راسل، كما الحال هنا، طالما أن هناك ما يستجيب لرغبته النفسية، وما في ذلك من خلاف المعنى .
أي إن راسل لا صلة له بما تفوه به الغذامي، ولا بأي شكل في حدوده الفكرية العامة، حيث ينتمي إلى مجتمع مغاير، والأهم، إلى ثقافة شخصية وشخصية مفهومية على النقيض منه هنا .
مسوّغ التعقيد إلى أين ؟
لنتوقف عند الأقوال التي تخص راسل وطرب لها الغذامي ومدى مصداقيتها:
هل حقاً أن ما تقرّر بشأن كل من كانط وهيجل، كان عبارة عن دق مسمار في " نعشهما "؟
هل اختفى صوتهما من فضاء الفلسفة من رحابة تاريخهما يا تُرى ؟
وأين هي حقيقة " الهروب من هيجل " وسواه بناء على تعقيدات الفلسفة المسماة ؟ ومنذ متى كانت الفلسفة المعتبَرة معقدة تشهيراً في مبناها ومعناها، وتنحية لها، من هذا الاعتبار؟ ومن القائل، بالمقابل، أن أحدهم إذا أفصح بالمعقَّد جرى تبرير طرده خارجاً، والإغلاق عليه ؟
إن متابعة بسيطة تظهر أنه من المستحيل بمكان تجاوزهما العلميْن: كانط وهيجل. بالعكس، ثمة ما يعزّز حضورهما، أي ما يعزّز روح الباحث عن الفلسفة ليزدد بهما فلسفة وفضولَ معرفة:
هناك ما يشد إلى كانط، ويبقي كانط بأفكاره الفلسفية في جهات مختلفة، من ذلك نقدياً:
فـ(في مقطع من مقدمة الطبعة الأولى لنقد العقل المحض ، يكتب كانط أن "قرنه هو القرن المناسب للنقد ، والذي يجب أن يخضع له كل شيء" )
ذلك يسجَّل له، إنما في الوقت نفسه، يظهر جانب الاستشراف المستقبلي للفكر وبصيرته، حيث إن الحديث عن قرن الفلسفة ليس مجرد كلام شكلي، إنما ما يشد إلى مغزى القول وخلفيته:
( لكن ما الذي نتعرض له عندما نخضع للنقد؟ وهذا الخضوع ، ماذا يعني ضمنا ، وبعبارة أخرى ، ما الذي نوافق على الانغماس فيه عندما نخضع للنقد؟ بالنسبة إلى كانط ، فإن تقديم شيء ما للنقد يعني عرضه على "الفحص الحر والعام [للعقل]"
إن إخضاع شيء ما للنقد يعني بالتالي تمريره عبر منخل العقل ، الذي يُفهم على أنه وسيلة غير قسرية لإضفاء الشرعية العامة. إذا كان هناك اقتراح مشكوك فيه لنظام نظري أو أخلاقي أو جمالي ، أو إذا كان من الممكن إضفاء الشرعية على ممارسة اجتماعية أو تقليد ثقافي مشكوك فيه على حد سواء في ضوء"الفحص الحر والعام للعقل"،فإن هؤلاء سيكونون مستحقين "احترامنا".) .
أليس هذا الذي انشغل به كانط يشغل ذهن كل من له صلة بالفكر والفلسفة تحديداً ؟ أليس صاحب " ما التنوير ؟ " هو الذي يشير إلى أن ما اختص به التنوير يحمل بصمته، لعمق مفهومه هنا؟
( إن الشكوك العميقة في العقل - وهي ظاهرة منتشرة في كل مكان في العالم المعاصر - هي نتاج ما يقرب من قرنين من النقد القاسي.).
وهذا يقودنا إلى جاذبية النقد العميقة للمعنيين به فلسفياً، وما يعطي للنقد صفة تمايز أيضاً:
( إن ممارسة النقد تجد نفسها اليوم مرتبطة بشكل أو بآخر بالنقد غير المقنع لن تفاجئنا ، نظرًا للدور الذي لعبته في تشكيل مفهومنا للنقد من خلال أعمال ، من بين العديد من الأعمال ، لماركس ، نيتشه ، فرويد ، هيدغر ، أدورنو ، فيتجنشتاين ولاكان وفوكو ودريدا.) .
وما يصلنا بفوكو بالذات وتأكيده على كانط:
( خلال مقابلة في نهاية حياته ، شرع فوكو في وصف ممارسة النقد الفلسفي في علاقته بالحاضر وكذلك علاقة الناقد بجمهوره في استحضار مذهل للمفهوم الهيغلي لفلسفة الهدف وفلسفة الهدف. "الحاجة" التي توقظها. يصر فوكو على حقيقة أن القدرة على فهم نفسه كمسئول عن وقته لا تنفصل عن القدرة على اختبار ما يتطلبه المرء من وقته والاستعداد له بشكل إيجابي.).
وفي ضوء ذلك:
( لا يمكن للنقد أن يكون تحويليًا إلا بقدر ما يفتح عالماً ، لأن أي حل حقيقي لأزمة يقدم تغييراً في لغاتنا التفسيرية والتقويمية ، وهو تغيير يمكن توضيحه وإضفاء الشرعية عليه بأثر رجعي باعتباره إزالة الأخطاء وبالتالي كمكسب.
والتأكيد على أنه لا يمكن إلا للخالق أن يدمر هو أيضًا أن تقول "نعم" للمستقبل. يجب ألا نؤكد أن المستقبل هو أفق الاحتمال فحسب ، بل يجب أيضًا أن نخلق الاحتمالات التي يمكن أن توسع آفاقنا.).
التحويل علامة انعطافة فارقة، وارتقاء بالمفهوم الفلسفي، وفي السياق الفكري المغاير كذلك.
وفي التعزيز الفلسفي للذي تقدما به:
( استلهامًا مرة أخرى من نيتشه وفوكو ، فإن الشرط المعياري الأخير ينص على أن ممارسة النقد لا يجب أن تغير الموضوع فحسب ، بل يجب أيضًا تغيير الذات. يؤدي النقد إلى تغيير في الذات وكذلك في عالم المرء. إن ممارسة النقد هي ممارسة النقد الذاتي ؛ لذلك لا يمكن للنقد الناجح أن يترك فهمنا لأنفسنا وهويتنا دون تغيير.).
وفي عودة أخرى إلى فوكو ومدى تفاعله مع من أطلق سؤاله في التنوير:
( خلال إحدى المقابلات الأخيرة التي أجراها ، أعطانا فوكو إشارة إلى العلاقة مع الذات والتي يشير إليها النقد الفلسفي:
"أنا بالكاد مهتم بالوضع الأكاديمي لما أقوم به لأن المشكلة التي تقلقني هي تلك المتعلقة بالتحول الخاص بي ... يبدو لي أن هذا التحول للذات من خلال معرفة المرء هو قريب جدًا من التجربة الجمالية . فلماذا إذن يعمل الرسام إذا لم يتغير بعمله؟ ») " 6 "
فأي هي المسافة التي يستحيل على الناظر قياسها، أو طرد ما هو فلسفي انطلاقاً منها في متاهتها؟
ذلك ما يدفع بنا إلى توسيع دائرة العلاقة بكانط وهيجل:
إذ ( أقل ما يقال أنه من المخاطرة الجمْع بين هيجل وفوكو ، وهذا الأخير ، بعد كل شيء ، حذرنا: "كل وقتنا ، يكتب ، سواء بالمنطق أو من خلال المعرفة ، سواء من خلال ماركس أو بوساطة نيتشه ، يحاول الهروب من هيجل ". من الواضح أن فوكو قصد بهذا أن مشروعه الخاص يجب أن يضاف إلى عدد من الاستراتيجيات التي تهدف إلى "الهروب من هيجل". لكنه كان يعلم أيضًا مدى صعوبة الهروب منه: فهذه المحاولة لا تحمل معها دائمًا خطر الهروب من الفلسفة في نفس الوقت الذي كان فيه هيجل ، وإنما أيضًا ، كما لاحظ فوكو نفسه ، "لا يزال اللجوء إلى [هيجل] ربما خدعة يعارضها لنا وفي نهايتها ينتظرنا بلا حراك وفي أي مكان آخر "
لن يتعلق الأمر بسؤال ما الذي يدين به فوكو لهيجل ، وما قرأه واحتفظ به ، ومن ثم القيام بسلسلة نسب هيجلية لفوكو ، والتي ، على أي حال ، لا يمكن للمرء إلا أن يخترعها إلى حد كبير. ولن تكون مسألة قراءة هيجل بنظارات فوكو ، وبالتالي القيام بتفسير فوكو لهيجل الذي لن ينحني إليه الأخير إلا بصعوبة كبيرة.
في الدرس في كوليج دي فرانس المكرس للكتيب الكانطي ما هو التنوير؟ (1784) ، لاحظ فوكو هذا:
يبدو لي أن الخيار الفلسفي الذي نواجهه حاليًا هو: يمكن للمرء أن يختار فلسفة نقدية تقدم نفسها كفلسفة تحليلية للحقيقة بشكل عام ، أو يمكن للمرء أن يختار فكرًا نقديًا يأخذ شكل من الأنطولوجيا لأنفسنا ، وأنطولوجيا الواقع ؛ هذا الشكل من الفلسفة هو الذي أسس ، من هيجل إلى مدرسة فرانكفورت عبر نيتشه وماكس فيبر ، شكلاً من أشكال التفكير حاولت العمل فيه.
نحن نعلم أن المهمة الأولى التي فُرضت على الفلسفة بالنسبة لهيجل هي مهمة تحديد تفردها الراديكالي للفكر اليوم والحاضر ، وهو النهج الذي من خلاله تشكل الفلسفة اليوم كلحظة لواقعها ، مثل الآن ( أو أبدًا) لمشروع فلسفي فريد تمامًا وغير مسموع حرفيًا. ومع ذلك ، عندما يتعهد فوكو بتحديد مكان الحدث الذي من خلاله فهمت الفلسفة نفسها على أنها تشخيص للحاضر ، فإن كانط والتنوير هو الذي يفكر فيه بدلاً من هيجل والمثالية. هذا ليس سهوًا لأن فوكو يذكر هيجل ، ولكنه نهج طوعي يتحايل فوكو من خلاله على هيجل ، ويضعه في مرتبة نسبية ، وفي الوقت نفسه يضعه من خلال تحديد مظهر الممارسة الحديثة أسفل منه.
ووفقًا لفوكو ، كان كانط يفسر السؤال الذي طرحته الصحيفة بمعنى خاص جدًا ؛ كان قد رأى هناك السؤال الفلسفي للحاضر والواقع: لم تكن المشكلة بالنسبة له هي معرفة ما هو التنوير بشكل عام ، ولكن ما هو هذا العصر الذي يطلق على نفسه اسم: التنوير Aufklärung ، وما هي هذه الحقبة ، وبالتالي فهمها في نفسها ، تفرض كمهمة على الفلسفة.
النقد ضروري ، حيث أن دوره هو تحديد الظروف التي يكون فيها استخدام العقل شرعيًا لتحديد ما يمكن معرفته ، وما يجب القيام به ، وما يمكن التطلع إليه.
إن الانقسام ، الذي يولد الفلسفة كضرورة للتوحيد ، يتخذ في كل مرة "شخصية ملموسة" يحددها العصر الذي يحدث فيه. هذا هو السبب ، حسب هيجل .
تنبثق الفلسفة من قرنها ، وإذا أراد المرء أن يتصور تمزيق هذا القرن على أنه لا أخلاقي ، فإن هذه الفلسفة مشتقة من اللاأخلاقية ، ولكن من أجل استعادة الإنسان بقواه الخاصة وسط أنقاض قرنه ، و لاستعادة مجمل ذلك الوقت الذي مزقه.
افتتح هيجل رحلته الفلسفية بتشخيص لعصره:
عندما تختفي قوة التوحيد من حياة البشر ، وعندما تفقد المصطلحات المعاكسة استقلاليتها ، بعد أن فقدوا علاقتهم الحية وعملهم المتبادل ، فإن الحاجة إلى الفلسفة تنشأ.
لكن ، وفقًا لهيجل ، فإن هذا العمل الخاص بإصلاح التعارضات من خلال فهم التنوير يظهر فقط ، وفي الوقت نفسه يحقق انقسامًا لم يكن مكانه في المقام الأول الفلسفة أو الفكر ، بل في الواقع ثقافة العصر.
لقد كان مفكرو ما بعد كانط وما بعد الثورة هم الذين أجروا الاختبار المؤلم لوجود شر مزمن في حاضرهم: على وجه التحديد لأنهم كانوا مدركين تمامًا للحداثة الجذرية لهذا الحاضر فيما يتعلق بكل ما سبقه ، أدركوا أيضًا أن الشيء نفسه الذي سمح لهم الآن بالانفصال عن الأمس كان يأخذ منعطفًا مرضيًا.) " 7 "
لا حديث هنا عن الأكثر مما هو زمني " قرنان من الزمان " جهة الفصل بيننا وبين كانط، وإنما عن أصالة الفلسفة التي تتحرر في بنية مقامها الفكري من ربقة الضيق والمؤطر. أتراه، لو أن صاحب " إرادة المعرفة " و" نظام الخطاب " و" الكلمات والأشياء " قدَّر في كانط، أو في هيجل ما ينبغي التصريح بما يقصيه عنهما، وعن هيجل في المقام الأول، دون تردد، وهو الذي ترك بصمة عميقة الأثر على المفهوم المدفوع به إلى الأمام، من خلال " الإبستيمي "؟ أي هروب مما يخص هيجل، ومما يمكن أن يخص به كانط على وقْع هذه العلاقة الفكرية، كما لو أن صوت فوكو الفلسفي يبحث عن نظير له في الزمان المفتوح، وفي تاريخ مرحّب به أيضاً ؟!
لهذا يمكن التوقف طويلاً عند قائمة الأفكار الواردة آنفاً، وتبيّن مدى القرب بين كل من فوكو المعاصر لنا وكانط وهيجل، وما في هذا القرب من رفع السقف الزمني للعلاقة إلى مستوى آخر من الانهمام بما هو بحثي، وما يوسّع في مفهوم الزمن بالذات، ما يستوقفنا عند المفهوم الذي يشكل الرافعة الأكثر تمثيلاً للفلسفة، في مداها الزمني الطويل، وقدرته على ضخ معان جديدة في الجسد الفلسفي الذي يزداد شبوبية، لأن هناك ما يضمن هذه الاستمرارية في الوجود.
في الجانب الأهم، هو أن فوكو لم يبتعد عن الاثنين، كما قلت، وخصوصاً : هيجل، كما زعِم بأنه يهرب منه كما أشير إلى ذلك في كتاب الغذامي، ومقصد الغذامي المنفعي الضيق أو المحدود. إنه انشغال بالحالتين، وتركيز على كانط وهيجل، حيث يشار إليهما، لأن في الذي عرِفا به، بغضّ النظر عما يمكن مناقشتهما عليه، يعزّز حضورهما في التاريخ، ويثير فضول كل باحث في الفلسفة، وكل دارس فلسفة لأن يرى في المروء استلهاماً نفسياً له .
أي حيث تنتمي فلسفة الاثنين، واللذين سعى راسل إلى التعتيم عليهما، أو محاولة التشويش عليهما بزعم أنهما غير مفهومين، كما يجب، وبالنسبة لهيجل أكثر، وها هو معني بهما كثيراً .
مع الكسندر كوجيف
إن ما تصدى له الكسندر كوجيف " 1902-1968 " هذا الروسي المهاجر والمفعم بالنشاط الفلسفي في الصميم، والناطق بلغات عدة، كان ساحر الفرنسيين بامتياز، ومعرّفهم بهيجل " 8 "
وبدءاً مما يقوله المترجم (في فرنسا/ أدهشت دروسه حول هيجل : متتبعيه الذين أصبح بعضهم من كبار مفكري فرنسا أمال : باتاي، كينو ( ناشر وجامع دروسه )، لاكان، بروتون/ فيل، ميرلوبونتي، كوربان، وغيرهم، ومن بينهم جان هيبوليت( مترجم الفينومينولوجيا) . لقد أحدث كلام كوجيف ( المقنه بالمعنة الذي وسعه باتاي نفسه ) رعباً حقيقياً في تلك الأوساط المستمعة، وشكل نوعاً من الجاذبية والنفور في الوقت نفسه بين أولئك الذين سوف يطبعون بعمق الحياة الثقافية الفرنسية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية . ص 9 .) .
وهو ما يمكن متابعته في شروحات كوجيف، وفذاذة مقارباته النقدية للخزين الفكري الهيجلي:
( إن للعالم الآن أهمية بالنسة للإنسان، فهو يدري بأنه قاصر على التصرف في العالم ومن أجل العالم. لكنه لا يغيره فهو بلاحظه أو يتمتع به . ص 117 .
إن الإنسان مهتم بالعالم، إنه يعلم بأن العالم عقلي، فهو يبحث عن لاتناهيه الخاص... إن للعقل سيادة، لأن العالم يخضع للقوانين التي يكتشفها العقل.. إن إنسان العقل يتصرف داخل الطبيعة، وليس داخل المجتمع. إذن فالعقل لا يتجاوز بالأحرى مستوى المعرفة البيولوجية . ص 119 .
لقد ولِد الإنسان، وبدأ التاريخ، ومع أول صراع قاد إلى ظهور سيد وعبد. أي إن الإنسان- في أصله- كان دائماً إما سيداً وإما عبداً ، وأنه ليس هناك إنساناً حق، إلأا إذا كان هناك سيد وعبد... وبالتالي فإن التاريخ يتوقف في اللحظة التي يختفي فيها الاختلاف والتعارض ما بين الأسياد والعبيد . ص235 .
يؤسس الإنسان قيمته الإنسانية بالمخاطرة بحياته، والحال أن هذا الخطر يحف كل شيء دوماً- هو نفس الخطر لدى الجميع .. ص 252 .
يجب أن نفهم بأن الإنسان خلق الآلهة مسقطاً ذاته، بوصفه مثالاً، على الماوراء . ص 398 .
بما أن الإنسان- الكامل يتحقق شيئاً فشيئاً عبر مجرى التاريخ، فإن المعرفة الكاملة لها بدورها تاريخ . ص 402 .) .
لقد لدى كوجيف تلك الرغبة الفلسفية الواعية، وأي وعي، في أن ينير الفضاء الرحب فلسفياً لهيجل كونه يستحق ذلك، وأنه بناء على جهوده يكون له رصيد يبقيه ويستبقي ما يؤبّد اسمه.
تلك استشهادات موزعة بين أقوال لهيجل وإضاءات لشارحه الكبير، وهي تشكل في بنيتها قيمة تاريخية وفكرية فلسفية باذخة، وتعلّم من لا يعلم كيف يمارس الفكر تـأثير ويتجدد بمحتواه، وفي الوقت نفسه، يكون مؤمّناً على نفسه، ومنبّهاً من يغفل عن حقيقة الفكر العميق والآخر : السطحي.
بالطريقة هذه، لا يعود الذي تفوه به راسل غير مأخوذ من زاوية فلسفية، إنما من زاوية القيمة التي تحجب كل قيمة أخرى، كما يريد غذامينا، ومن يصادق على حقيقة ما مكتفياً بعبارة معينة.
وما يمكن تلمسه من حضور التنوير المضاف إلى تنوير الفيلسوف، وحقيقة التراكم المعرفي، وصفة المعاناة في عملية المعايشة الفكرية، وتحمل الصعاب لتمنح الفلسفة أسراراً لها لطالبها.
وباحثة عربية في فلسفة كانط
إن ما بذلته باحثة عربية في الفلسفة " أم الزين- بنشيخة المسكيني " مثال حي وبليغ وشاهد فطين بالمقابل، على أن مفهوم " التعقيد " ليس كما هو مراهَن عليه، وهي تتنقل بين كتاب وآخرلكانط وبلغة واضحة ودالة على أهلية الانتساب إلى الحقل الفلسفي بامتياز، حول " كانط راهنا " "9"
حين تنوّه إلى محورية السؤال وأدائه الفلسفي في المعمار الفكري) أما عن السؤال " ماذا؟ " فهو السؤال الذي صاغ به كانط المشروع النقدي برمته، وذلك ضمن أسئلته الشهيرة الثلاثة والتي وردت في القسم الثاني من الفصل الثاني من الجزء الثاني من نقد العقل المحض. يقول كانط: كل غرض لعقلي ( اعتبارياً كام أم عملياً ) يتوحد في الأسئلة الثلاثة التالية:
1-ماذا يمكنني أن أعرف؟
2-ماذا يجب علي أن أعمل ؟
3-ماذا يمكنني أن آمل ؟ . ص 12 .) " 10 "
وما يصل بين كانط وفوكو هنا:
كانط في رأي فوكو، هو أول من واجه سؤال " ما هي الفلسفة الحديثة ؟ " بضرب من التفكير فيما يسميه فوكو " بالراهنية المحضة " . ص 21.
وكذلك: الدين في حدود مجرد العقل؟ عنوان يوقّع نمطاً طريفاً غير مسبوق من التعامل مع الدين . ص 50 " 11 "
ولعل الأهم في خاصيته المعرفية وعلى أرضية فلسفية ما ورد في خاتمة المسكيني:
ماذا نتعلم من كانط راهناً ؟:
1-الكونية. ربما كان كانط هو الفيلسوف " الكوني " الوحيد أو هو على الأقل أكثر من شرع لكونية العقل وأحرص من دافع عنها..ص 217 ...
2-فن العيش معاً . إن فلسفة كانط تزعزع لدينا وهماً تاريخياً خطيراً يخص ممارسة المحدثين المشحونة بالضغينة والوعي التعيس للعلاقة بين الذات والآخر: وهي علاقة رسمت منذ دهر من الزمن للشرق صورة نمطية هي صورة الضحية أو هو المستعمَر والمتخلف وموطن الإرهاب، في حين اتخذ فيها الغرب صورة البطل المستنير.. والمتقدم، موطن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان .ص 218 .
3- التفاؤلية: إن كانط يوفر لنا نمطاً طريفاً من التعلق بالراهن..ص 219..
هذه الاستنارة النفسية، هذا التنوير الوجداني- العقلي، فاعل إثبات حضاري وتمدني، إنما في الجانب الأهم: تأكيد انتماء إلى الحياة وكيفية التعايش من خلال ما هو فلسفي بالمقابل !
وملف عن هيجل " 12 "
ولعل الملف الذي أعِدَّ حول هيجل يقرّبنا من منطقة الأفكار الأكثر حيوية على إثارة الذهنية ذات المرجعية الفلسفية، والدفع بالقدرات النفسية المرفقة بها لأن تتفاعل معها، وتتنور بها أيضاً. هناك الكثير من المحاور التي تترجم جدّية هذا الانشغال بالفلسفة الهيجلية والتعامل معها بالسلب أو بالإيجاب، وفي الحالتين تثبت الفلسفة قدرتها على الانفتاح وعلى التنويع في الوقت نفسه، إذ:
( في مقابل قراءة مبسطة لمناهضة الهيغلية التي ميزت أعمال لويس ألتوسير وميشيل فوكو في الستينيات ، يقدم الكتاب رحلة عبر النصوص المبكرة لهؤلاء الفلاسفة لإلقاء الضوء على الجذور الهيغلية لإشكالياتهم. باستخدام العديد من الوثائق الأرشيفية وقراءة دقيقة للتطور الفكري لألتوسير وفوكو ...)
إن ما يمكن تبيّنه في " مقدمة عامة، وتحت عنوان : هيجل ونحن
Introduction générale : Hegel et nous
يمضي بنا إلى أعالي المفهوم المخصب للفلسفة، وشركاء المعنى الفلسفي فيها:
( دعونا نتذكر افتتاح أجراس ( كتاب جاك دريدا. توضيح من إبراهيم محمود ): "ما الذي يتبقى لنا اليوم ، هنا ، الآن ، من هيجل؟ »1. هل ما زلنا ندرك اليوم إلى أي مدى كسر دريدا ، في عام 1974 ، الليلة التي انغمست فيها الفلسفة الهيجلية في فرنسا؟ هذه الجملة ، أو بالأحرى هذه غير الجملة ، لأنها تفتقر إلى الحرف الكبير الذي من شأنه أن يشير إلى اختتام معناه ، يلوح في الأفق مثل البرق في المشهد الفكري الفرنسي الذي لم يتوقف ، خلال السنوات العشر الماضية ، عن التحطيم والتدمير. هجوم هيجل.
في عام 1961 ، نشر إيمانويل ليفيناس الكلية واللاتناهي Totality and Infinity وعارض بشكل مباشر اللانهاية للأخلاق مع الكلية العنيفة للمفهوم والتاريخ لدى هيجل. في العام نفسه، أصدر ميشيل فوكو تاريخ الجنون ، والذي يُعد تقديمه نقدًا جذريًا للكتابة الهيغلية للتاريخ. في العام التالي ، في عام 1962 ، كان كتاب جيل دولوز نيتشه والفلسفة ، هو الذي أوصل ضراوة الهجمات ضد فلسفة هيجل إلى مستوى لا مثيل له ، وقلل من الديالكتيك إلى مرحلة على طريق العدمية. بعد أقل من عشر سنوات ، في عام 1971 ، وضع دريدا – الذي لم يتم اختزال علاقته بالفلسفة الهيجلية ، بعيدًا عن الموقف النقدي – التفكيك في موقف نقدي فيما يتعلق بهيجل ويعرف الاختلاف على أنه "الحد ، انقطاع وتدمير الخلافة الهيغلية أينما كانت "؛ ونشر ليوتارد خطاب ، الشكل ، الذي أكمل بقوة معاداة الهيغلية في العقد الذي مضى للتو.)
والأكثر إثارة ما يخص علاقة فوكو بهيجل خلاف ما أشير إليه عن " هروبه منه " بعنوان فلسفي طبعاً: إشكالية هيجل Une problématisation hégélienne
( تحت إشراف جان هيبوليت ، كرس فوكو ، في عام 1949 ، أطروحته في نهاية دراساته العليا لـ "تكوين متسام في ظاهرة هيجل للروح" 1. ويتم تقديم الأطروحة من خلال سلسلة من "الملاحظات الأولية" ذات الطبيعة المنهجية ، ثم تتكون بشكل كلاسيكي من ثلاثة أجزاء – "المجال التجاوزي" ، "الموضوع المتعالي" ، "المتعالي والتاريخ" – التي تفتح على استنتاج مقصود للتأكيد على التوترات الداخلية في الفلسفة الهيجلية. يصل النص إلى ذروته في فكرة تأريخ المتسامي الذي أصبح ممكنًا بفضل هيجل ، ثم يتراجع فورًا عن طريق الإشارة إلى انحرافات الموقف الهيغلي.
ثم نصل إلى المعنى العميق لما أطلق عليه بيير ماشيري ، في نص غير منشور مكرس لمذكرات فوكو ، "الخروج" من الهيجلية ، بالمعنى المزدوج للمصطلح: "يأتي من" و "الانفصال" والذي يعقد بشكل كبير فكرة قطيعة نقية وبسيطة بين الفلسفة الفوكولية والهيجلية في سنواتها الأولى 2. لن يظهر عمل فوكو على هيجل كخطأ شاب ، ولكن كموقع توتر يمكن من خلاله تطوير العمل اللاحق.
الملاحظات الأولية" التي تُفتتح بها المذكرات هناك لتبرير مشروع فوكو. التبرير الضروري لأنه سيكون مسألة طرح مسألة المتعالي على الفلسفة الهيغلية التي لم تطرحها صراحة بعد ، أي "استجواب هيجل بشأن نقطة لا يريد أن يجيب عليها"
إن عبقرية هيجل ، وما يجعله مفكرًا للمتسامي في نظر فوكو ، هو أنه نجح في حل هذه الانحرافات في فينومينولوجيا الروح. فيما يتعلق بالموضوعية ، أولاً ، يقدم عمل 1807 تعريفًا أكثر شمولاً من تعريف كانط. فهو لا يمتد فقط ، عند هيجل ، إلى ما وراء علوم زمانه ، ولكنه يغامر حتى خارج المجال العلمي.) .
في هذا الحقل الجغرافي اللافت بموقعه وثراء تربته، كيف يمكن التخلي عن المسطور هنا؟ بناء على أي تصور، أو وفق أي معادلة رياضية، يسوّغ التخلي عن الفلسفة تلك التي استسهل كاتبنا الحديث في شأنها، والالتفاف عليها، وببعض ما هو مجتزأ من كلام راسل كذلك ؟
هيجل معاصرنا كما يظهر، وكانط معاصرنا كما يظهر، وحتى راسل نفسه معاصرنا، مهما تكلمنا عن مسافة الاختلاف الواسعة بينهم، لكنها مساحة معرفية تقوم على التنوع.
وهيجل المقروء بكم هائل من اللغات، مجاز بذلك، لأن جهاته مفتوحة أيضاً، إن من ناحية التاريخ، أو الفن، أو الفكر، أو الفلسفة أو الأنثروبولوجيا، أو الجمال...إلخ، دون ذلك يستحيل علينا النظر إليه، ورؤيته وهو يتقدم الكثيرين ممن يشتغلون في المضمار الفلسفي نفسه .
هذا الفليلسوف الذي منح الشك مكانة عالية وقاعدة راسخة، بمفهومه الفلسفي، لئلا يتم تقبّل أي قول أو أو نص على أنه نص ثقافي، دون مكاشفة مكوناته، ودون إبراز الشك مدماكاً لجعله أكثر انفتاحاً، وأكثر قواماً معرفياً، والمضي قدماً إلى المستقبل، وإلى الإنسان المأهول بالفلسفة:
أي حيث (لم يعارض أي فيلسوف التشكك بشكل حازم مثل هيجل ، ولم يدرك سوى هيجل جدّية هذه الطريقة وإيجابيتها في الفلسفة. كتب في الدراسة: "جوهر الشك وفقًا لهيجل" ، ذهب روجر فيرنو إلى حد التأكيد على أن "هيجل هو الفيلسوف الوحيد مع رينوفير الذي فكر في ما يعنيه أن تكون متشككًا"
ويميز مقال عام 1802 بين ثلاثة أنماط من الشك: الشك كفلسفة سيكون جانبها السلبي فقط ، والشك المنفصل عن الفلسفة ولكن ليس عدوًا لها ، والتشكيك المعادي للفلسفة.) " 13 "
أفي مقدورنا أن نسد الطريق في وجه المشار إليه فلسفياً، من خلال كانط وهيجل، أم الإسراع إلى توسيع الطريق، وسلوكه لأن ما يُرى من خلاله هو خط اتصال بين الفلسفة الحق وما لا يحاط به في امتداد مأثورها الفكري إلى ما وراء الأفق المنظور.
في ضوء ذلك أي قيمة معرفية، وحتى بالمفهوم الصحفي يبقي للغذامي في سؤاله:
هل تأنسنت الفلسفة اليوم ..! ؟
والأكثر مدعاة للسخرية هذه المرة، وبتبنّي قول ما أفقره إلى مصداقية المعنى:
وهي، لكي تتأنسن لا بد أن تتحول من المعقد إلى البسيط، أي من كانط إلى راسل، مثلاً، ص 23.
أي حيث تتم الإطاحة بكانط، كرمى الغذامي وهو في ركاب راسل العالم الرياضي، والذي لا شأن له بما يقوّله في النقطة هذه، وبما يتفقه به في عموم الفلسفة.
طبعاً ، المطوَّح به من جهة الفلسفة، هوالغذامي وليس سواه ؟؟؟!!!
" يتبع "
مصادر وإشارات:
1-يُنظر حول ذلك، نايجل رودجرز- ميل ثومبثون: جنون الفلاسفة، ترجمة: متيّم الصالح، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 2015، صص 127-170. أورد هنا، على سبيلالمثال، ما لا يعتبَر حكماً قطعياً عليه، إنما ما يصله بجوانب من حياته، ومن قبل د. إتش لورنس، حيث كان الرجلان على طرفي نقيض في الكثير من الطرق ...كان لورنس يشعر بالقرف مما كان يراه في حياة كامبريدج.. ثم تحول بعنف ضد راسل كاتباً رسالة دمرت الفيلسوف المضطرب سلفاً:
أنت ببساطة مليء بالرغبات المكبوتة الهمجية والمعادية للمجتمع. وتبرز هذه الرغبات بزيّ الحمَل الوديع عبر الدعاية لمعاداة الحرب. ... أنت مليء جداً بالعواطف الشيطانية المكبوتة ولا يمكن أن تكون إلا شخصاً شبقاً وقاسياً .. ص 170 ). هوذا اقتباس من بين اقتباسات تخص الموقف من راسل، دون أن تكون حقيقة راسل معتبَرة، ومدرَكة من خلاله طبعاً .
2- برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث: الفلسفة الحديثة، ترجمة: د. محمد فتحي الشنقيطي، الهيئة المصرية للكتاب، 1977 ، والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة، ومن باب الإيجاز .
3- برتراند رسل: الفلسفة بنظرة علمية، تلخيص وتقديم: . د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1960 .ص 1.
4- برتراند راسل: حكمة الغرب، ج2،الفلسفة الحديثة والمعاصرة ، ترجمة : د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر، 1983 . ص 7-9 .
5- برتراند راسل: أثر العلم في المجتمع، ترجمة: صباح صديق الدملوجي، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008 .ص13 .
-6Nicolas Kompridis De Kant à Foucault :; Réorientation de la critique, Dans Archives de Philosophie 2003/4 (Tome 66)
نيكولاس كومبريديس: من كانط إلى فوكو : إعادة توجيه النقد
-7Franck Fischbach : Aufklärung et modernité philosophique : Foucault entre Kant et Hegel
فرانك فيشباخ: التنوير والحداثة الفلسفية: فوكو بين كانط وهيجل
8-الكسندر كوجيف: مدخل لقراءة هيجل، ترجمة وتقديم: عبدالعزيز بومسهولي، دار رؤية، القاهرة،2017 . والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة .
9- د. أم الزين بنشيخة- المسكيني: كانط راهناً أو الإنسان في حدود مجرّد العقل، المركز الثقافي العربية، بيروت،ط1، 2006 . والإحالات المرجعية تخص هذه الطبعة .
وأقدّم هنا اسماً آخر يعمل في حقل الفلسفة، ويكتب بالفرنسية، وهو زينب ديرك في مقالها المعمَّق: دريدا بين هيجل ولاكان: الذاتية المأزقية
Zeynep Direk: Derrida entre Hegel et Lacan : la subjectivité aporétique
وما لقولها من إشراقة تعبير ودقته، كما في:
في فينومينولوجيا الروح ، توجد ذاتية تختبر نفسها على أنها مادة لكي تعود إلى ذاتها في المعرفة المطلقة. هذه هي الطريقة التي يصف بها هيجل مهمته في المقدمة: "كل شيء يعتمد على حقيقة استيعاب الحقيقة والتعبير عنها ، ليس كجوهر ، ولكن بقدر ما هو موضوع"...
10-ينظر في كتاب كانط: نقد العقل المحض، بالعربية، ترجمة وتقديم : د. موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
حيث نقرأ في التصدير: للعقل البشري في نوع من معارفه، هذا القدر الخاص أن يكون مرهقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه، ولا يمكنه أيضاً أن يجيب عنها، لأنها تتخطى كلياً قدرة العقل البشري . ص 25 .
وما يخص الثالوث المذكور: كل غرض عقلي ( اعتبارياً كان أم عملياً ) يتوحد في الأسئلة الثلاثة التالية:
1-ماذا يمكن أن أعلم؟-2-ماذا علي أن أعمل؟-3- ماذا يمكن لي أن آمل ؟ . ص 385 .
حيث الاختلاف طفيف هنا في الترجمة.
11-أشير هنا إلى أن جاك دريدا اشتغل كثيراً على هذا النص. ينظَر حول ذلك كتاب: الدين في عالمنا، تحت إشراف جاك دريدا وجياني فاتيمة، ترجمة: محمد الهلالي وحن العمراني، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2004، صص9-76، وتحت عنوان: إيمان ومعرفة: منبعا " الدّين " في حدود العقل وحده. حيث كان هناك مجموعة متحاورين في ندوة انعقدت في كابري الإيطالية، سنة 1994، ولم يكن هناك أي محاور مسلم، كما يقول دريدا نفسه( نأسف لعدم وجود أي مسلم بيننا، على الأقل في هذه الجلسة التحضيرية، في الوقت الذي يتعين علينا فيه أن نوجه أنظارنا إلى الإسلام . ص 13 ) .
تُرى ماذا لدى الغذامي ليقوله بالنسبة لموقف منفتح، وإنساني، وحواري كهذا؟ أم تراه مأخوذاً بفتنة " الاكتفاء الذاتي " في عالم يتطلب انفتاحاً عليه بالمقاييس كافة ؟
-12Jean-Baptiste Vuillerod :LA NAISSANCE DE L’ANTI-HÉGÉLIANISME
جان بابتيست فويلرود: ولادة معاداة الهيجليين " ملف "
13-Christian Godin: La figure et le moment du scepticisme chez Hegel, Dans Les Études philosophiques 2004/3 (n° 70)
كريستيان جودين: هيئة الشك ولحظته عند هيجل
د. عبدالله الغذامي