عصام أبو القاسم - زعماء النهضة الأدبية والمثقفون الجدد.. معاوية محمد نور ضد طه حسين

على أي أساس يعد الكاتب زعيمًا لحركة أدبية ما، وما الذي يجعل بعض الأعمال الفنية قادرة على عبور الأزمنة والأمكنة، وهل يمكن لشاعر مثل أبي العلاء المعري أن يكون فيلسوفًا؟ هذه الأسئلة التي يتداخل فيها الثقافي مع الجمالي والفلسفي ناقشها الناقد السوداني معاوية محمد نور (1909-1941م) في ثلاثة مقالات نشرها في مواقيت ومنابر مختلفة في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي، معقبًا على كتابات للدكتور طه حسين (1889-1979م). ونستعيد تلك الأسئلة التي ظلت تطرح على مر السنين لاستكشاف بعض شواغل مثقفي تلك المرحلة، بخاصة فيما يتصل بتفاعلهم مع تراثهم المحلي وانفتاحهم على الثقافة الغربية، ولفهم جانب من العلاقة الجدلية بين جيلي الرواد والشباب في مشهد بواكير حركة الحداثة الأدبية العربية، وكذلك لإحياء جانب من سيرة ذلك المثقف السوداني المتمرد الذي أدركته حرفة الأدب فقلبت حياته رأسًا على عقب.
لمحة عن البوهيمي

أراد معاوية منذ سنواته الأولى أن يكون ناقدًا، ولأجل هذا الهدف قرأ باكرًا روائع الأدب الغربي، وكتب مقالات عن النقد وأعلامه وهو بعدُ لم يتخطَّ المرحلة الثانوية في دراسته، وحين كبر قليلًا رغب في دراسة الأدب، ولهذا اختلف مع عائلته وقطع دراسته للطب، ثم هرب إلى مصر للالتحاق بكلية الآداب في جامعتها، مضحيًا بفرصة مهنية ثمينة، ومتحديًا الأخطار السياسية والمادية لخطوته هذه. ونتيجة لهروبه تعرض للحبس للمرة الأولى في حياته، وفي بلاد كانت في ذلك الوقت غريبة بالنسبة له؛ إذ لاحقته سلطات الاستعمار البريطاني التي كانت قد حظرت على المتعلمين السودانيين السفر إلى القاهرة خشية التحاقهم بالأحزاب المصرية
المعارضة لها.

وحين تمت إعادته إلى الخرطوم استجابت عائلته لرغبته في التخصص بالأدب ودعمت سفره إلى بيروت حيث درس الأدب في الجامعة الأميركية هناك. وهو لم يكتف بالتحصيل الأكاديمي في الجامعة بل صحب دراسته بالمواظبة على الكتابة الأدبية ونشر مقالاته في الصحف الثقافية في القاهرة، وحين أتم دراسته لم يبق في بلده وسط أهله وبين أصحابه، بل اختار السفر إلى القاهرة باحثًا عن موقع له في مشهدها الثقافي العامر.

في العاصمة المصرية عاش معاوية حياة بوهيمية. سكن في غرفة صغيرة فوق سطح عمارة في هيليوبولس، وسط أثاث قليل ولكن بين أكداس من الكتب. كان يعيش بجسده هنا بينما عقله وروحه في أوروبا التي درس آدابها وما كان يكتب عن شيء إلا عنها؛ وقد زاول مهنة الصحافة سنوات عدة في جريدة مصر والأهرام والهلال والإجيبشن ميل وسواها، ولقد برز في المجال بعقله الفذ كما عرف برصانته وجرأة قلمه وجسارة مواقفه. ولكن ما كان يحصل عليه من مال نظير كتاباته بالكاد كان يكفي لإيجار البيت ولوجبة بائسة مكررة قوامها الجبن والخبز. كان يكتب بكثافة كأنه عرف قِصر عمره، وخلال سنوات وجيزة اُنهك جسده النحيل بالقراءة والكتابة والسهر والجوع؛ فمرض، ومات.
الفلسفة الخاصة

كتب معاوية مقالة في صحيفة البلاغ الأسبوعية المصرية في عددها الصادر 6 مارس 1929م انتقد فيها ثلة ممن وصفهم بـ «زعماء النهضة الأدبية»، وأخذ عليهم ضآلة إنتاجهم في مجالات الرواية والدراما والبحوث الفكرية، ولكن بصفة خاصة افتقارهم لـ «الفلسفة الخاصة»؛ فكل كتبهم في رأيه عبارة عن «مقالات نقدية صفوية تنشر في الصحف السيارة ثم تجمع في كتاب وتقدم للجمهور وفي هذا ضعف وفقر لا مثيل لهما».

انطلق معاوية في حكمه على هؤلاء الكتّاب من وجهة نظر عبّر عنها قائلًا: «من ليس له فكرة أساسيّة يصدر عنها في كل ما يكتب قمين به ألا يعد من زعماء النهضة وقادتها». في هذا المقال نتوقف عند واحد من أولئك الكتاب الذين سأل معاوية عن كفايتهم لاستحقاق زعامة النهضة الأدبية العربية، وهو الكاتب والناقد المصري الدكتور طه حسين، ولنأخذ الأمر في هذا السياق – وهو كذلك في الواقع – كما لو أن معاوية في تلك المدة يجسد صورة المثقف الشاب المهمش والمغترب والمتمرد، في حين يمثل طه حسين المثقف الرائد والمركزي، والمقيم، وصاحب المكانة الأكاديمية البارزة إذ كان أستاذًا في الجامعة المصرية كما كان نافذًا في مواقع ووقائع الساحة الثقافية القاهرية.

بالعودة إلى مقالته، نجد أن معاوية برر تقييمه النقدي لـ «زعماء النهضة» بتعليقات قصيرة حول كتبهم التي صدرت في تلك المدة، إذ بدت له في معظمها إما مجرد مقالات وصفية مجمعة أو منتحلة من كتب غربية. وفي تعليقه حول مساهمات صاحب كتاب «الأيام» سأل معاوية: «ما الذي فعله طه حسين لحد الآن؟». وبعد أن أقرّ بتلذذه عند قراءة تحليلات الدكتور للقصص الفرنسية زاد معاوية قائلًا: «ولكن هل هذا هو ما نطلبه من زعيم نهضة؟ قد يقول قائل: إن الدكتور طه مؤرخ آداب وناقد وليس بأديب فما لك تطلب منه ذلك؟ فأقول أين هي مقاييسه المبتكرة في نقد الآداب وكتابة تاريخها؟ فإننا نعلم أن كبار مؤرخي الآداب لهم فلسفة خاصة بهم كـ تين وسانت بيف وهالام؛ فأين الدكتور من هؤلاء وأين هي تآليفه؟ «حديث الأربعاء» ما هو إلا حديث عن الشعراء ليس فيه فكرة أساسية. «الشعر الجاهلي» نعم فيه فكرة أساسية ولكنها منقولة عن المستشرقين أمثال نولدكه الألماني، ونيكلسون الإنجليزي . «فلسفة ابن خلدون» هو الآخر ليس فيه فكرة أساسية إنما هو تحليل فقط وتطبيق لنظرية [هيبوليت] تين في درس الرجال، فهل مثل هذا التطبيق يجدر بزعماء النهضة؟

لسنا في محل تصديق، وتبني أو تكذيب ونفي ما قاله معاوية آنفًا، و بخاصة ما يتصل منه بالإشارة إلى كتاب «الشعر الجاهلي» الذي قال إنه يعبر عن «فكرة أساسية» ولكنها منقولة عن المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (1836- 1930م) والإنجليزي رينولد ألين نيكلسون (1868- 1945م)؛ وهي إشارة تذكرنا بما كتبه الكاتب والمترجم المصري محمد لطفي جمعة (1886- 1953م) في سلسلة مقالات نشرها في جريدة المقطم أولًا ثم أصدرها في كتاب تحت عنوان «الشهاب الراصد» سنة 1926م، وخصص صفحاته التي تزيد على الثلاثمائة لنقد كتاب طه حسين، وقد قارن في جزء منه بين «في الشعر الجاهلي» وكتابات المستشرقين مثل الفرنسي أرنست رينان (1823-1892م)، إضافة إلى نولدكه ونيكلسون، حول مسألة صحة الشعر الجاهلي، كما أشار إلى أن فكرة الشك في صحة بعض هذا الشعر صدرت بالأساس من نقاد عرب قدامى سبقوا أولئك المستشرقين.

ولعل معاوية قرأ أو لم يقرأ ما كتبه جمعة في هذا الصدد، لكن ما يهمنا فيما قاله عن زعماء النهضة، وعن الدكتور طه حسين تحديدًا، هو أنه يمثل أول ملمح ظاهر من موقفه النقدي كأديب شاب تجاه الجيل الذي سبقه في المجال.
جيل جديد

لقد فهم معاوية أنه يمثل «الجيل الجديد» وأن جزءًا من تعبيره عن ذاته يظهر في مواجهة «كتّاب الجيل الماضي»، وفي مجابهة «الحقائق المقررة دون تقديس أو خشوع» على نحو ما فعل في بريطانيا الكاتب: ألدوس هكسلي (1894-1963م)، وجي. بي. بريستلي (1894-1984م)، ومايكل أرلن (1895-1956م). كان هؤلاء في رأي معاوية قوة يأبه لها كبار الأدباء، وتخشاهم الصحف الأدبية والناشرون، «فلهؤلاء الكتاب حملات ودراسات نقدية عن كتاب الجيل الماضي أمثال شو، وولز، وهاردي، وجولزروثي، وكونراد، معروفة ومشهورة حتى إن اسم ألدوس هكسلي أصبح عنوان الشباب المتجدد الثائر الهدام، وأعرف أن قلمه لم يقتصر على معاصريه دراسةً ونقدًا وتمحيصًا بل إنه تناول عبقريات الأمة الإنجليزية المقررة ولم يقف منها موقف القداسة والخشوع، ولكنه تناولها غير هياب ولا وجل في جرأة نادرة وحصافة رأي وعمق بديهة فأنزل ديكنز- أكبر قصاصي الإنجليز – من ربوته العالية، وأبان مواضع الضعف في فنه، واقترب من وردزورث، وإدجار آلان بو، فسخر منهما وضحك، وكان أن ردد العالم ذلك الضحك وتلك السخرية. وقد يكون في آراء الدوس هكسلي كثير من الخطأ وقد لا يكون، ولكنه أصبح مثال الشباب المفكر ورائد نزعة فكرية وإمام مدرسة وهو لم يتجاوز الثلاثين عمرًا. ذلك هو المجد وتلك هي الجرأة في سبيل الأدب والفن».

والأمر كذلك، لم يكن غريبًا أن يشارك معاوية في تأسيس رابطة أدبية عرفت بجمعية الأدب القومي وضمت إلى جانبه ثلة من الكتّاب الجدد في مصر حينذاك، وفي بيانهم الذي نشر بجريدة السياسة الأسبوعية (28 يونيو 1930م) تحت عنوان «دعوة إلى خلق أدب قومي»، كان واضحًا وعيهم بحقيقة أنهم يمثلون الجيل الجديد، فلقد ترددت كلمة «شبان» أربع مرات في البيان. وحين كتب أحد الكتّاب داعيًا إلى عدم حصر الرابطة في «الجيل الشاب»، تصدى بالرد عليه معاوية قائلًا: «اقتصار هذه الرابطة على الجيل الجديد واضح لا يحتاج إلى تدليل أو بيان. كيف تطلب من رابطة تعمل لغرض واحد وبين أفرادها فروق كبيرة في الثقافة والمنزع والسن، فالتجانس ضرورة وليس بمانع أن يعمل كل الكتاب والأدباء في دائرة الأدب القومي والإنتاج الفني والتشيع لهذا الرأي، فذلك مما يسر ولا يأباه الإنسان ولكن ذلك شيء وشأن الرابطة شيء آخر».

ومن يتأمل بيان هذه الجماعة الشابة يلمس بسهولة ارتيابها الواضح في كتابات الجيل السابق؛ حيث كانت تنظر لمعظمها بوصفها مجرد انتحالات وسرقات من الأدب الغربي؛ وبأكثر مما هو دعوة إلى «أدب وطني» كان البيان عبارة عن صرخة ضد السطو على الأدب الأوربي، إذ مما ورد فيه: «من العيب أن نضيق بحياتنا فنتلمس تصويرها بأقلام غير أقلامنا وأفهام غير أفهامنا فنبدو في آدابنا، كما نبدو في كل صورة من صور حياتنا، مرآة لا تفعل أكثر من أن تعكس الصور الباهرة الجميلة لتشوهها بالادعاء والمسخ غاضين أبصارنا عن كل ما يحيط بنا [..]، ولئن سرنا هذه السيرة فلن نستطيع أن نخلق لنا أدبًا محليًّا يتميز بالطابع المصري، مهما امتدت بنا الحياة، ومهما كظظنا صحفنا ومجلاتنا وكتبنا بما نريد أن نوهم القراء أنه خلق وإبداع وتجديد، وهو ليس في الواقع إلا قطعًا مدعاة أو محورة أو منقولة في غير أمانة أو دقة من كتاب الغرب وأدبائه…».

رينولد ألين نيكلسون
تذوق الأدب وتبدل الأحوال

على أية حال، بعد جدله في شأن زعامة النهضة ومتطلباتها، نقل معاوية حواره مع الدكتور طه حسين إلى مسائل ذات طبيعة مفاهيمية في شأن تذوق الأدب. كان الدكتور قد كتب مقالة تحت عنوان «الذوق» نشرتها مجلة «المجلة» في عددها الصادر ديسمبر 1929م، وسأل عبرها عما يمكن أن يكون السبب وراء توافق عملين أدبيين في تناول موضوع واحد، وفي الوقت نفسه، وتجاوب الجمهور معهما إعجابًا بالقدر ذاته. وقد أرجع السبب إلى «الذوق العام» الذي تشكله «ظروف وقتية طارئة»، وشرح ما يعنيه بمصطلح الذوق العام فقال هو الحد الأدنى من الاتفاق الذي يحصل بين الجمهور حول قيمة عمل فني ما.

من جانبه، كتب معاوية مقالة نشرتها جريدة السياسة الأسبوعية (28 ديسمبر 1929م) وجاءت تحت عنوان «الذوق الأدبي» وافق فيها الدكتور طه على ما قاله عن حاجة المرء إلى العقل والشعور في تذوق الأعمال الإبداعية، ولكنه أخذ عليه قوله إن الذوق «منوط بتغير الأزمان وتبدل الأحوال».

في رأي معاوية الأعمال الفنية المجيدة قادرة على عبور الأزمنة والأمكنة، وشأن تذوقها منوط بما تتضمنه من «العناصر الباقية» لا باختلاف الظروف والبيئات، فالمبدع الذي يرسم «صور الحب والحياة والموت ويرسمها رسمًا مجيدًا فإن الناس تتذوقه في كل العصور ولو خالفت آراؤه آراءهم، ولو رأى أشياء ربما لا يوافقونه عليها. أما الذي يعمد إلى المسائل الطارئة التي ليست لها قيمة إن هي تجاوزت العصر الذي كتبت فيه، فهذه لن تذاق ولا تقرأ ولا تكون شيئًا مذكورًا».
المعري بين الشعر والفلسفة

سنة 1922م أعاد الدكتور طه حسين طباعة كتابه «ذكرى أبي العلاء المعري» الذي كان قدمه إلى الجامعة المصرية سنة 1914م وحاز عليه لقب «دكتور» ثم طبعه. ثم أعاد طباعته بعدما عاد من باريس 1919م. جاء الفصل الخامس من هذا الكتاب تحت عنوان «فلسفة أبي علاء» حيث ذهب المؤلف إلى أن صاحب «اللزوميات» هو فيلسوف وشاعر في آن. ولكن هذه الفكرة لم ترق لمعاوية الذي كتب مقالة في جريدة السياسة الأسبوعية (1مارس 1930م) تحت عنوان «أبو العلاء المعري كما أراه من فنه». حيث درس تجربة الشاعر العربي الكلاسيكي وفق منهج التحليل النفسي، ولكن ما يعنينا هنا هو ما قاله تعليقًا على خلاصات الدكتور طه حسين في كتابه المشار إليه آنفًا. قال معاوية: «ليس المعري بالفيلسوف ولا الحكيم.. ليس من شأن الفلاسفة والحكماء هذه التأوهات ولا هذه الزفرات ولا هذا الصراخ العالي أو السخط الصارخ.. إنما هذا شأن الشعراء.. وإنني لأعجب كيف حاول الدكتور طه حسين أن يجعل من المعري فيلسوفًا وحكيمًا»!

في منظور معاوية «يجب ألا ننظر إلى المعري كفيلسوف يترجم عن أفكار هادئة هي نتيجة درس وتمحيص، ولا كحكيم يزن الأشياء ويقارن ثم يصدر أحكامه.. ليس المعري هذا.. إنما هو ينقل إلى القارئ حركة إحساسه هو بالحياة.. وآية ذلك هذه المتناقضات التي هي أهم ما يلاحظ الدراس لللزوميات. مما يدل دلالة صريحة على بعده عن التنسيق في كل ما يقول، وهو لا يود أن يجعل من كل ذلك فلسفة منسقة كما خيل إلى البعض، إنما حسبه أن ينفث وحي الساعة، وأن ينظم شعرًا ما يجول في خاطره..».

وفي موضع آخر في مقالته قال معاوية: «يمكنك أن تجد في اللزوميات أبياتًا يؤمن فيها بالجبرية، وأخرى باختيار الإنسان، وأخرى يؤمن فيها بالدين وغيرها ينكر فيها الدين وتعاليمه، وأخرى يظهر فيها تهكمه على الأحياء وسخره منهم، وغيرها يتأسى فيها لهم ويعطف عليهم، وفي غيرها تجده باكيًا عليها».

بالنسبة لمعاوية ما المعري سوى رجل تستولي عليه الفكرة فيرسلها حارة تعبر عن ألمه وعن حيرته واضطرابه وشكه ويأسه وإيمانه وكفره، ولقد عاش في عصر فساد في السياسة والاجتماع والأخلاق والدين إذ كان «عصر مكر وغدر ووشاية كما يصوره المؤرخون.. ثم تخيل كيف تصل مثل هذه الأشياء إلى قلب أعمى لا يبصر، إنما يتخيل ولا يرى نفسه مقدرًا تمام التقدير فليس عجيبًا من بعد ذلك كله أن ينشأ في نفس المعري ما يسمى في علم النفس الحديث obsessive – compulsive _ الوسواس القهري».
الدكتور يرد

في يونيو 1938م نشر الدكتور طه في مجلة الهلال مقالة تحت عنوان «المعري: أشاعر أم فيلسوف؟» بمناسبة احتفال المجلة بسيرة شاعر المعرة، وجاءت المقالة على جزأين، خصص حسين بداية الجزء الأول منها للرد على من جادله في استحقاق المعري لقب «فيلسوف»، ولكنه خصّ بالذكر المستشرق الإنجليزي نيكلسون وقال إنه كان «أشدهم لي مجادلة.. فهو لا يرى في حكمة أبي العلاء التي تمتلئ بها اللزوميات والتي تشيع في غير اللزوميات من كتبه مظهرًا من مظاهر الفلسفة كما يفهمها أهل هذا العصر[..] وأخص ما يحول عنده بين أبي العلاء ولقب الفليسوف أنه لم يقم لنفسه مذهبًا فلسفيًّا واضح الأعلام، متميز النواحي، نستطيع أن نبينه ونرسم حدوده كما نبين المذاهب الفلسفية ونرسم حدودها حين نتحدث عن أفلاطون أو أرسطاليس أو أي فليسوف من فلاسفة العصر.. فالأستاذ نيكلسون يرى من الإسراف وصف أبي العلاء بأنه فيلسوف».

ألدوس هكسلي

لا نعرف إلى اليوم ما إذا كان معاوية اطلع أم لا على مقالة نيكلسون التي جادل عبرها الدكتور طه حسين، وبالتالي لا نستطيع تفسير توافق رأيه مع رأي المستشرق الإنجليزي، كما لا نفهم لماذا لم يرد طه حسين على الملحوظات ذاتها حين صدرت عن معاوية نور قبل نحو عشر سنوات، وقد نشرت في «السياسة الأسبوعية» التي كان طه حسين نفسه من أبرز كتابها.

ونرجح أن معاوية لم يطلع على رد الدكتور المتأخر على ملحوظاته (أو الملحوظات الشبيهة بملحوظاته). ففي سنة 1938م لم يكن معاوية في كامل قواه البدنية والذهنية، إذ كانت قد مرت نحو أربع سنوات على واقعة إعادته إلى السودان بعدما افترض من هم حولهم أنه يعاني من اضطرابات نفسية، وهم أودعوه بالفعل في مشفى نفسي في القاهرة قبل إرساله إلى الخرطوم، حيث لزم غرفة قصية في بيت عائلته في عزلة تامة قبل أن يرحل بعد ثلاث سنوات تحت وقع سياط معالج شعبي، زعم أن جلد الفتى بالسوط كفيل بإخراج الشيطان الذي تلبسه!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى