"كل كلام هو حب مسبق"
نيتشة
التيه في القاموس من تيّهه عن عمد أي أضلّه و ضيّعه.تائه بمعنى ضال.تيّه نفسه بمعنى حيّرها و أهلكها.يقال أرض تيهاء بمعنى يضيع فيها الإنسان.التيه مفازة لا علامة فيها يهتدى بها. أرض تيه : أرض مضلّة ،المتاهة . التيهان :الرجل الجسور الذي يركب رأسه،ما أتوهه و ما أتيهه . تاه تكبّر أيضا.
يمكن اعتبار كلمة"تيه"و ما ساوقها كالمدى و السراب و السديم و المهاوي و السدر ..كلمات مفتاح للتجربة الدرامية للشاعر عبد العزيز أمزيان في ديوانه"شبيهي في التيه"منشورات إيدسيون بلوس.ط 1. 2020.البيضاء. كما يمكن تقدير لفظة "شبيهي" على سلم درجات تدرّج المعاني مع مرادفات قريبة منها، كالصديق و الصنو والصاحب والمثيل والنظير والنديم و النجي والصفي...
فالصديق هو صادق الود .و يستعمل للواحد و الجمع والمؤنث. و الصنو هو النّد و الشبيه هو المثل و المثيل هو شبيه فاضل و النظير هو المساوي و الصاحب هو المعاشر المرافق والنديم من يرافق في المدام والنجي من يسرك الأسرار والصفي من الصفوة ...كل هذه المرادفات رغم اختلاف سلم دلالتها تعني و تقصد في هذا الديوان"الآخر" آخر الشاعر أوظل الشاعر."أنا هنا ظل لأناك" يقول أمزيان (ص17) .فهل هو شبيه" بالشاعرو ظله" لبول إلوار أم "بالمسافر و ظله" لنيتشة؟ الظل في الشعر كما في الفلسفة هو المعنى الاستعاري للآخر. مشهور أرتور رامبو بقوله :"..لذلك، أنا هو الآخر".إذا أخذنا الجملة في سياق التضاد وعدم التناقض فهي عبارة لا معنى لها.لكنها،في سياق شعري أو فلسفي صيغة تدل على العلاقة الحميمة بين الهوية و الاختلاف.و دعوة لإدراك الذات في علاقتها بالغير.و هي تنم عن تأمل عميق لتحديد مكانة الآخر في بناء الذات.من هنا يكون الشاعر في وحدته متعددا إلى حد يجوز فيه القول إنه الآخرون يفكرون من خلاله. هل الشاعر مسؤول عما يكتب إذن ؟
في سياق مقاربة هذا التساؤل لنتأمل هذا الحدث المعنون ب : "الشاعر و ضعفه". في مقال نشر بجريدة إلكترونية "الزمان" بقلم الصحافية إليونور سولسير2015.تقول: هناك شاعران يحملان نفس الإسم:خوان لويس مارتينيس.الأول إسباني رحل إلى سويسرا في الرابعة من عمره ثم ترعرع هناك و الثاني من الشيلي توفي سنة 1993.الأول كتب ديوانا بعنوان "الصمت وانكساراته" بالفرنسية (منشورات سان جيرمان دي بري.1976 باريس) والثاني ترجمه إلى الإسبانية (ونشره تحت عنوان" أشعارالآخر" سانتياغو الشيلي2003 ) من توقيع نفس الاسم.في صيف 2014 تلقى الشاعر السويسري رسالة من باحث شاب أمريكي يدعى سكوت وينتروب متخصص في الآداب الإسبانية مسائلا أياه :هل أنت مؤلف الديوان؟أجاب الشاعر: أجل ! أعتقد ذلك..لكن من منا يملك اليقين التام بصدد هويته؟ تيقن الباحث أنه أمام اكتشاف ما لا يخلو من غرابة. منذ عشرات السنين وهو ينقب في كتابات الشاعر الشيلي الكبير (1942 / 1993) الذي هو أيضا فنان تشكيلي و رئيس جوق للأركسترا.من فناني الطليعة الجديدة .له كتاب تحت عنوان "الرواية الجديدة"1977 حيث لا يكاد يبدو اسمه على الغلاف بسبب المحو و التشطيب العمد الذي لحقه.لقد كان من هواة اللعب بأسماء الكتّاب و صورهم و استعارة أشعارهم و لصقها بعضها ببعض منسوبة إليه.شرح هذا الميل التوليفي لديه في حوار أجراه مع الفيلسوف الفرنسي فليكس غاتاري سنة1991 بالشيلي قائلا :"أهتم أولا و قبل كل شيء بتحطيم الأبوة بشكل مطلق(قتل الأب).و أرنو إلى صيغة المجهول إلى ما هو مثالي فيها إذا جاز لي استعمال هذه اللفظة .أطمح إلى القيام بعمل أو كتابة لا كلمة تكون فيها من تأليفي ..عمل طويل و شاق تتمفصل فيه كتابات مختلفة وترتبط فيما بينها".لم ينشر في حياته إلا مؤلفين..لكن كان له حضور قوي و تأثير بارز في مجايليه . بعض أشعاره لم تجمع في مؤلف إلا بعد موته سنة 2003.ضمن هذه الأشعار نفسها أشعار "الصمت و انكساراته".رغم أسلوبها المختلف اعتقد عشاق الشاعر أنها من تأليفه خاصة حين يقول :" لن أغمض عيناي / و لن أخفضهما" معتقدين أنها تقصد الصمود أمام بطش الديكتاتور بينوشي .و صل هذا الديوان إلى الشيلي عن طريق قيّم على خزانة المعهد الفرنسي بمدينة فالبارايسو وأهداه لصديقه شاعر الشيلي. في سنة 2014 أماط اللثام عن هذه القصة الباحث الأمريكي السالف الذكر في مقال بعنوان"الدعابة الأخيرة لخوان لويس مارتينيس" قائلا:"لا يكون الشاعر آخرا إنما يكتب كتابة الآخر." ويحكى أن الشاعر الشيلي زار باريس بمناسبة مهرجان الآداب الأجنبية سنة 1992، أشهر قبل وفاته.وللتعريف به اختار قراءة قصيدة بعنوان"من أنا؟" و تحت تأثير هذا التماهي شهق باكيا دافعا الجمهور الحاضر إلى مشاركته. في نوفمبر 2014 زار الشاعر السوسري الشيلي بمناسبة المعرض السنوي للكتاب و التقى بمحيط شاعر سانتياغو و عبر له عن امتنانه بهذه الحياة التي منحت لأشعاره. و هو الآن منكب على كتابة بحث عن خوان لويس مارتينيس ليقول لنا ما معنى أن تكون آخرا في ديوان شاعر آخر.
اجتمعت في هذا الحدث الغريب العديد من المفاهيم النقدية الشهيرة "كقتل الأب" و "السرقات الأدبية" و "أفق الانتظار" و "التناص" و هي كلها من مقومات الكتابة و التأمل الشعري.
الآخر أو الظل في شعر الشاعر عبد العزيز أمزيان يشبهه في التيه ولا يشبهه في الاسم،يشبهه في اختلاف الصفات ولا يشبهه في الهوية. في "وجوه تائهة"(ص 9) و "غيمة تائهة"(ص 19) و"خرائط التيه"(ص 47)و"متاهات"(ص51)...في كل هذه القصائد نعثر على المراد بالتيه و الشبه و صلة الشبه بينهما. الآخر هو أولا في مفتتح "صدى الريح" كاف المخاطب:"ما عادت الأسماء تعرفك / ياصاحبي! و لولا عنادك لما أدركت "أن الفراشات تولد من رحم الأبدية". و لما تعانقا ـ الشاعر و ظله ـ في المدى البعيد ،حيث توجد خرائط المعنى و القصد.شراعك يا خليلي شبيهي غيمة تائهة من عليائها تراقب طريق الأنبياء و تلتقط ما تتهامس به الأرواح و تنقله إلينا. من هناك في الغيب في المدى في التيه في السدر ـ كدت أقول سدرة المنتهى ـ عوالم لا ندركها بجوارحنا لكن الشاعر يحدسها بحساسيته و يلفّها في صوره و عباراته الشعرية. و هناك من صفاء تلك الغيمة لما تغور في منافيك تدرك دجى الدمى الغادرة و طريق المقصلة.قريني في التيه نحن سيان في عدم التعرف على بعضنا لأن الدوار أتلف بوصلتنا و لأن الرياح شتت أوراقنا "لا جهة تدلني على البوصلة / لا يد تمسك اعوجاج الريح"(ص 99) و ألفينا ذواتنا في صفرتها القميئة.ما السبيل إلى مرآة السفر؟أهناك خرائط للتيه كما للمعنى؟ التيه و البحث عن المعنى صنوان تربيا في حضن السديم.كقبض الريح (ص 71) ينفلت المعنى من بين الحروف كما ينزلق الماء من الينابيع فيما بين الصخور، و يتيه التيهان كما ينتشر الضباب في السديم.
تراجيديا الرؤية الشعرية عند الشاعرتنطلق من الذات المشروخة إلى شرخين .من جهة المحو والنسيان وطريق الشنق و اغتيال النوارس...و من جهة أخرى العناد و ركوب الريح و ملامسة الشمس . من جهة لا أفق للمدار و لا سبيل لحفر البحر وشقه ..من جهة أخرى يد طليقة توغل في رحاب المعنى و أنشودة للذكرى ترسى عند مرثية الأسى و الحزن.
لوسيان،زهير التيجاني،ماريس،عزيز بنميمون،أحمد غيلان، محمد مهدي السقال... مرثيات للآخر الصفي النجي القرين الرفيق الشبيه ...نظرة ثكلى إلى مدى الأفق.
يعتبر فيه لوسيان "رفرفة للرحيل من نهر اللوار إلى المدى الطويل" : "ارقد قرير العين [مع]/ صديقي زهير/ و انعم بالسكينة الأبدية".و ها هي ماريس حبيبة ديوجين الكلبي في تيهانه قد عزمت على الرحيل و بنمومن يخفي عنها بوصلة تقويم الريح. يا أحمد غيلان "هل تصدق أنك تكبر فينا"؟ مثلما كبرت في أعيننا مدرسة طاما غيلانة جدتك؟ و تكبر فينا الطفولة كلما تذكرنا السقال من بين أساتذتنا. و لسان حالنا يقول" لا تنسوا الفضل بينكم".
كل الشعراء يقتلون آباءهم الرمزيين بما فيهم الشاعر عبد العزيز أمزيان.لكن هناك قتل رحيم و قتل رجيم .قتل الأب تحركه رغبات غالبا ما تكون مكبوتة تجاه الأب المهيمن و المسيطر لدى فرويد مخترع المفهوم.و هي نفس رغبات التميز للهيمنة في مجال الرأسمال الرمزي . ما قام به شاعر الشيلي كان قتلا رحيما لأنه أحيا شعرا كان بالفرنسية بشعر بات بالإسبانية ،و لم يكن قصده انتحال الصفة و لا السرقة ..لأن طموحه كما صرح بذلك لغاتاري هو قتل الأبوة و قتل الملكية الفردية و حقوق المؤلف و تجاوز الذاتية إلى صيغة الإنكتاب "إنهم يكتبون مكاننا"أو بصيغة جاك لاكان "الهو يتكلم" . و ما دام هذا الأخير أي اللاشعور مبنينا كما هي اللغة أي يملك لغة خاصة به تتجلى في الأحلام مثلا بكل ما تعنيه من تخييل وهلوسة و فانطاسما فلا حرج القول أن هناك دواعي غريزية تتجاوز الوعي هي المتحكمة فيما ينكتب.أما السرقات الأدبية إذا حصرت في دلالتها الأخلاقية فهي فعل شنيع لا يليق بالأدب.لكن إذا اعتبرت مما هو متاح للبشرية فالتقاط خيط الأفكار و المفاهيم و تصورات الآخر يسمى تناصا. و التناص هو تعايش العديد من النصوص في فضاء واحد.و ذلك عن طريق ربطها إما بالإحالات أو الإلماعة أو الاستشهاد أو طي المراجع.كل نص حسب جوليا كريستيفا هو عبارة عن خليط من هذه الإشارات و كل نص هو امتصاص و تحويل لنصوص أخرى و هو بالتالي كالنسيج يجب الاهتمام بخيوطه و تشابكاتها.لمّا يتخلص المؤلف من كتابه و يضعه رهن إشارة القارئ فهو في حقيقة الأمر ينسحب من قيادة الكتاب و من وصايته عليه و يتركه يتيما لا تتكفل به سوى لغته وأسلوبه و أفكاره و بناؤه.و يتلقاه القارئ بعد "موت كاتبه" في هذا اليتم ليقرأه كما يشاء و وفق أفق انتظاره .
لهذه الأسباب يبقى الشاعر عبد العزيز أمزيان قارئا آخرا من ضمن قرائه لنصوصه لكنه غير مالك كلية لمفاتيحها ولا لمستغلقاتها و هو بهذا الفقد يترك لنا حيزا و لو صغيرا لكتابة نصوص موازية لنصوصه الشعرية.
الشاعر وظله - AL ITIHAD
نيتشة
التيه في القاموس من تيّهه عن عمد أي أضلّه و ضيّعه.تائه بمعنى ضال.تيّه نفسه بمعنى حيّرها و أهلكها.يقال أرض تيهاء بمعنى يضيع فيها الإنسان.التيه مفازة لا علامة فيها يهتدى بها. أرض تيه : أرض مضلّة ،المتاهة . التيهان :الرجل الجسور الذي يركب رأسه،ما أتوهه و ما أتيهه . تاه تكبّر أيضا.
يمكن اعتبار كلمة"تيه"و ما ساوقها كالمدى و السراب و السديم و المهاوي و السدر ..كلمات مفتاح للتجربة الدرامية للشاعر عبد العزيز أمزيان في ديوانه"شبيهي في التيه"منشورات إيدسيون بلوس.ط 1. 2020.البيضاء. كما يمكن تقدير لفظة "شبيهي" على سلم درجات تدرّج المعاني مع مرادفات قريبة منها، كالصديق و الصنو والصاحب والمثيل والنظير والنديم و النجي والصفي...
فالصديق هو صادق الود .و يستعمل للواحد و الجمع والمؤنث. و الصنو هو النّد و الشبيه هو المثل و المثيل هو شبيه فاضل و النظير هو المساوي و الصاحب هو المعاشر المرافق والنديم من يرافق في المدام والنجي من يسرك الأسرار والصفي من الصفوة ...كل هذه المرادفات رغم اختلاف سلم دلالتها تعني و تقصد في هذا الديوان"الآخر" آخر الشاعر أوظل الشاعر."أنا هنا ظل لأناك" يقول أمزيان (ص17) .فهل هو شبيه" بالشاعرو ظله" لبول إلوار أم "بالمسافر و ظله" لنيتشة؟ الظل في الشعر كما في الفلسفة هو المعنى الاستعاري للآخر. مشهور أرتور رامبو بقوله :"..لذلك، أنا هو الآخر".إذا أخذنا الجملة في سياق التضاد وعدم التناقض فهي عبارة لا معنى لها.لكنها،في سياق شعري أو فلسفي صيغة تدل على العلاقة الحميمة بين الهوية و الاختلاف.و دعوة لإدراك الذات في علاقتها بالغير.و هي تنم عن تأمل عميق لتحديد مكانة الآخر في بناء الذات.من هنا يكون الشاعر في وحدته متعددا إلى حد يجوز فيه القول إنه الآخرون يفكرون من خلاله. هل الشاعر مسؤول عما يكتب إذن ؟
في سياق مقاربة هذا التساؤل لنتأمل هذا الحدث المعنون ب : "الشاعر و ضعفه". في مقال نشر بجريدة إلكترونية "الزمان" بقلم الصحافية إليونور سولسير2015.تقول: هناك شاعران يحملان نفس الإسم:خوان لويس مارتينيس.الأول إسباني رحل إلى سويسرا في الرابعة من عمره ثم ترعرع هناك و الثاني من الشيلي توفي سنة 1993.الأول كتب ديوانا بعنوان "الصمت وانكساراته" بالفرنسية (منشورات سان جيرمان دي بري.1976 باريس) والثاني ترجمه إلى الإسبانية (ونشره تحت عنوان" أشعارالآخر" سانتياغو الشيلي2003 ) من توقيع نفس الاسم.في صيف 2014 تلقى الشاعر السويسري رسالة من باحث شاب أمريكي يدعى سكوت وينتروب متخصص في الآداب الإسبانية مسائلا أياه :هل أنت مؤلف الديوان؟أجاب الشاعر: أجل ! أعتقد ذلك..لكن من منا يملك اليقين التام بصدد هويته؟ تيقن الباحث أنه أمام اكتشاف ما لا يخلو من غرابة. منذ عشرات السنين وهو ينقب في كتابات الشاعر الشيلي الكبير (1942 / 1993) الذي هو أيضا فنان تشكيلي و رئيس جوق للأركسترا.من فناني الطليعة الجديدة .له كتاب تحت عنوان "الرواية الجديدة"1977 حيث لا يكاد يبدو اسمه على الغلاف بسبب المحو و التشطيب العمد الذي لحقه.لقد كان من هواة اللعب بأسماء الكتّاب و صورهم و استعارة أشعارهم و لصقها بعضها ببعض منسوبة إليه.شرح هذا الميل التوليفي لديه في حوار أجراه مع الفيلسوف الفرنسي فليكس غاتاري سنة1991 بالشيلي قائلا :"أهتم أولا و قبل كل شيء بتحطيم الأبوة بشكل مطلق(قتل الأب).و أرنو إلى صيغة المجهول إلى ما هو مثالي فيها إذا جاز لي استعمال هذه اللفظة .أطمح إلى القيام بعمل أو كتابة لا كلمة تكون فيها من تأليفي ..عمل طويل و شاق تتمفصل فيه كتابات مختلفة وترتبط فيما بينها".لم ينشر في حياته إلا مؤلفين..لكن كان له حضور قوي و تأثير بارز في مجايليه . بعض أشعاره لم تجمع في مؤلف إلا بعد موته سنة 2003.ضمن هذه الأشعار نفسها أشعار "الصمت و انكساراته".رغم أسلوبها المختلف اعتقد عشاق الشاعر أنها من تأليفه خاصة حين يقول :" لن أغمض عيناي / و لن أخفضهما" معتقدين أنها تقصد الصمود أمام بطش الديكتاتور بينوشي .و صل هذا الديوان إلى الشيلي عن طريق قيّم على خزانة المعهد الفرنسي بمدينة فالبارايسو وأهداه لصديقه شاعر الشيلي. في سنة 2014 أماط اللثام عن هذه القصة الباحث الأمريكي السالف الذكر في مقال بعنوان"الدعابة الأخيرة لخوان لويس مارتينيس" قائلا:"لا يكون الشاعر آخرا إنما يكتب كتابة الآخر." ويحكى أن الشاعر الشيلي زار باريس بمناسبة مهرجان الآداب الأجنبية سنة 1992، أشهر قبل وفاته.وللتعريف به اختار قراءة قصيدة بعنوان"من أنا؟" و تحت تأثير هذا التماهي شهق باكيا دافعا الجمهور الحاضر إلى مشاركته. في نوفمبر 2014 زار الشاعر السوسري الشيلي بمناسبة المعرض السنوي للكتاب و التقى بمحيط شاعر سانتياغو و عبر له عن امتنانه بهذه الحياة التي منحت لأشعاره. و هو الآن منكب على كتابة بحث عن خوان لويس مارتينيس ليقول لنا ما معنى أن تكون آخرا في ديوان شاعر آخر.
اجتمعت في هذا الحدث الغريب العديد من المفاهيم النقدية الشهيرة "كقتل الأب" و "السرقات الأدبية" و "أفق الانتظار" و "التناص" و هي كلها من مقومات الكتابة و التأمل الشعري.
الآخر أو الظل في شعر الشاعر عبد العزيز أمزيان يشبهه في التيه ولا يشبهه في الاسم،يشبهه في اختلاف الصفات ولا يشبهه في الهوية. في "وجوه تائهة"(ص 9) و "غيمة تائهة"(ص 19) و"خرائط التيه"(ص 47)و"متاهات"(ص51)...في كل هذه القصائد نعثر على المراد بالتيه و الشبه و صلة الشبه بينهما. الآخر هو أولا في مفتتح "صدى الريح" كاف المخاطب:"ما عادت الأسماء تعرفك / ياصاحبي! و لولا عنادك لما أدركت "أن الفراشات تولد من رحم الأبدية". و لما تعانقا ـ الشاعر و ظله ـ في المدى البعيد ،حيث توجد خرائط المعنى و القصد.شراعك يا خليلي شبيهي غيمة تائهة من عليائها تراقب طريق الأنبياء و تلتقط ما تتهامس به الأرواح و تنقله إلينا. من هناك في الغيب في المدى في التيه في السدر ـ كدت أقول سدرة المنتهى ـ عوالم لا ندركها بجوارحنا لكن الشاعر يحدسها بحساسيته و يلفّها في صوره و عباراته الشعرية. و هناك من صفاء تلك الغيمة لما تغور في منافيك تدرك دجى الدمى الغادرة و طريق المقصلة.قريني في التيه نحن سيان في عدم التعرف على بعضنا لأن الدوار أتلف بوصلتنا و لأن الرياح شتت أوراقنا "لا جهة تدلني على البوصلة / لا يد تمسك اعوجاج الريح"(ص 99) و ألفينا ذواتنا في صفرتها القميئة.ما السبيل إلى مرآة السفر؟أهناك خرائط للتيه كما للمعنى؟ التيه و البحث عن المعنى صنوان تربيا في حضن السديم.كقبض الريح (ص 71) ينفلت المعنى من بين الحروف كما ينزلق الماء من الينابيع فيما بين الصخور، و يتيه التيهان كما ينتشر الضباب في السديم.
تراجيديا الرؤية الشعرية عند الشاعرتنطلق من الذات المشروخة إلى شرخين .من جهة المحو والنسيان وطريق الشنق و اغتيال النوارس...و من جهة أخرى العناد و ركوب الريح و ملامسة الشمس . من جهة لا أفق للمدار و لا سبيل لحفر البحر وشقه ..من جهة أخرى يد طليقة توغل في رحاب المعنى و أنشودة للذكرى ترسى عند مرثية الأسى و الحزن.
لوسيان،زهير التيجاني،ماريس،عزيز بنميمون،أحمد غيلان، محمد مهدي السقال... مرثيات للآخر الصفي النجي القرين الرفيق الشبيه ...نظرة ثكلى إلى مدى الأفق.
يعتبر فيه لوسيان "رفرفة للرحيل من نهر اللوار إلى المدى الطويل" : "ارقد قرير العين [مع]/ صديقي زهير/ و انعم بالسكينة الأبدية".و ها هي ماريس حبيبة ديوجين الكلبي في تيهانه قد عزمت على الرحيل و بنمومن يخفي عنها بوصلة تقويم الريح. يا أحمد غيلان "هل تصدق أنك تكبر فينا"؟ مثلما كبرت في أعيننا مدرسة طاما غيلانة جدتك؟ و تكبر فينا الطفولة كلما تذكرنا السقال من بين أساتذتنا. و لسان حالنا يقول" لا تنسوا الفضل بينكم".
كل الشعراء يقتلون آباءهم الرمزيين بما فيهم الشاعر عبد العزيز أمزيان.لكن هناك قتل رحيم و قتل رجيم .قتل الأب تحركه رغبات غالبا ما تكون مكبوتة تجاه الأب المهيمن و المسيطر لدى فرويد مخترع المفهوم.و هي نفس رغبات التميز للهيمنة في مجال الرأسمال الرمزي . ما قام به شاعر الشيلي كان قتلا رحيما لأنه أحيا شعرا كان بالفرنسية بشعر بات بالإسبانية ،و لم يكن قصده انتحال الصفة و لا السرقة ..لأن طموحه كما صرح بذلك لغاتاري هو قتل الأبوة و قتل الملكية الفردية و حقوق المؤلف و تجاوز الذاتية إلى صيغة الإنكتاب "إنهم يكتبون مكاننا"أو بصيغة جاك لاكان "الهو يتكلم" . و ما دام هذا الأخير أي اللاشعور مبنينا كما هي اللغة أي يملك لغة خاصة به تتجلى في الأحلام مثلا بكل ما تعنيه من تخييل وهلوسة و فانطاسما فلا حرج القول أن هناك دواعي غريزية تتجاوز الوعي هي المتحكمة فيما ينكتب.أما السرقات الأدبية إذا حصرت في دلالتها الأخلاقية فهي فعل شنيع لا يليق بالأدب.لكن إذا اعتبرت مما هو متاح للبشرية فالتقاط خيط الأفكار و المفاهيم و تصورات الآخر يسمى تناصا. و التناص هو تعايش العديد من النصوص في فضاء واحد.و ذلك عن طريق ربطها إما بالإحالات أو الإلماعة أو الاستشهاد أو طي المراجع.كل نص حسب جوليا كريستيفا هو عبارة عن خليط من هذه الإشارات و كل نص هو امتصاص و تحويل لنصوص أخرى و هو بالتالي كالنسيج يجب الاهتمام بخيوطه و تشابكاتها.لمّا يتخلص المؤلف من كتابه و يضعه رهن إشارة القارئ فهو في حقيقة الأمر ينسحب من قيادة الكتاب و من وصايته عليه و يتركه يتيما لا تتكفل به سوى لغته وأسلوبه و أفكاره و بناؤه.و يتلقاه القارئ بعد "موت كاتبه" في هذا اليتم ليقرأه كما يشاء و وفق أفق انتظاره .
لهذه الأسباب يبقى الشاعر عبد العزيز أمزيان قارئا آخرا من ضمن قرائه لنصوصه لكنه غير مالك كلية لمفاتيحها ولا لمستغلقاتها و هو بهذا الفقد يترك لنا حيزا و لو صغيرا لكتابة نصوص موازية لنصوصه الشعرية.
الشاعر وظله - AL ITIHAD