لقد تعددت البحوث وتباينت مناهجها في التقعيد لنظرية سردية، فتشيّع الكثير للطّريق البنيوي القائم "على اعتبار أنّ السّرد بنية تتطلّب التعرّف عليها، وعلى قواعد بنائها، والنّظر فيها، وفي الأجزاء البانيّة للنّص السّردي"(1)
ولمعرفة ما يحكم هذا النص من مفاهيم وتقنيات كان ميلاد وتطوّر مقولة سرديّة ـ إن في الزمان أو المكان ـ وقد كان لابدّ لها من النموّ والتحوّل وهي "تهاجر من بلاد إلى أخرى فمن أمريكا إلى أروبا نجدنا أمام مقاربات يختلف بعضها عن بعض، إنّها وجهة النظر، أو الرؤية، أو المنظور، أو لنقل التبئبر الذي استوى مع السرديات مكونا حيويا والذي ما يزال إلى الآن يثير نقاش السرديين وحوارهم العلمي"(2)، وباختصار هي إشكالية المصطلح تلقي بظلالها على شتّى حقول المعرفة وفي ثقافة المنشأ حتى إذا انتقلت إلى العربية تعسّرت وزادت اعتياصا.
ويستعمل هذا المصطلح للتّعبير عن معنيين، "المعنى الأوّل جمالي إدراكي حسّي، والمعنى الأساسي إيديولوجي، ويدلّ المعنى الأوّل على شيء مماثل لموقع النظر في الفنون المرئيّة، أي الزّاوية التي نرى منها موضوع التمثيل، وتتألّف الرّسوم عادة من تركيب منظوري يفترض النظر إليه من نقطة معينة، ويقولب الفنان عمله بطريقة يملي فيها على المتفرج المثالي موقع النظر الذي يجب أن يتبناه" (3)
ويؤكّد تودورف على أهميّة الرّؤية السّردية بقوله أنّ "للرّؤى أهمية ما بعدها أهمية، ففي الأدب لا نكون أبدا بإزاء أحداث أو وقائع خام وإنّما بإزاء أحداث تقدّم لنا على نحو معين، فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين، ويتحدّد كل مظهر من مظاهر موضوع واحد بحسب الرّؤية التي تقدّمه لنا، وقد كشف عن هذه الأهمية في الفنون البصريّة باستمرار، ويمكن للنظرية الأدبيّة أن تتعلّم الشّيء الكثير من نظرية الرّسم، على سبيل المثال لا الحصر، لاحظنا دوما حضور الرّؤى ودورها الحاسم في بنية اللّوحة وفي الأيقونات، ومن الجلي أنّ عدة وجهات نظر اعتمدت في الأيقونة الواحدة طبقا للدّور الذي يجب أن تقوم به الشّخصية الممثّلة، فالوجه الرئيسي موجّه نحو المشاهد في حين أنّه ينبغي أن يكون ـ حسب المشهد المعروض ـ موجّها نحو المحادث"(4)
وقد عرّف "المعجم الموسوعي لعلوم اللّغة" الرّؤية في جانبها التاريخي بكونها "تشير إلى العلاقة القائمة بين السّارد والعالم المشخّص، وهي مقولة مرتبطة بالفنون التشخيصية ) الرّسم التصويري والسينما وبدرجة أقل بالمسرح والنحت وفن العمارة...(، وتهم أيضا فعل التشخيص بطرقه المختلفة سواء في حالة الخطاب التشخيصي، أو فعل المقول في علاقته بالقول"(5)
وتعتبر مقولة الرّؤية السّردية من أهم المقولات التي حظيت باهتمام النقّاد والدّارسين أهمهم جون بويون، بيرسي لوبوك، بورس أوسبنكي، واين بوث، جيرار جنيت ياب لينفلت، وغيرهم، ومع السّرديات المعاصرة " عمل السّرديون على طرح مفهوم الرّؤية من زاوية تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن الطروحات السابقة، ومن أوائل السبعينات أمكننا الحديث عن نزوع علمي في تحليل الحطاب السّردي"(6)
ولعل أهم باحث قعّد للسّرديات بعامّة والرّؤية منها بخاصّة تزيفيتان تودوروف الذي عدّها ثالثة المقولات الأساسيّة التي تسمح بانتقال الخطاب إلى متخيّل "فالوقائع التي يتألّف منها العالم التخيلي لا تقدّم لنا أبدا في ذاتها بل من منظور معيّن وانطلاقا من وجهة نظر معيّنة ، وهذه الألفاظ استعاريّة او بالأحرى مجازية، فالرّؤية تحلّ هنا محلّ الإدراك برمّته، ولكنّها استعارة ملائمة، لأنّ للخصائص المتنوّعة للرّؤية الحقيقية كلّها ما يعادلها في ظاهرة التخيّل"(7)
وقد كان هدفه من هذه المقولات تسهيل عملية التمييز بين الأجناس، كما أنّ مفهوم الرّؤية عنده "بدأ يأحذ كامل أبعاده في تحليل الخطاب الرّوائي وهو بدوره يشدّد على هذا العنصر ويبيّن أهميته في التحليل وقيمته الإبداعيّة منذ "لاكلو" في القرن الثامن عشر إلى الوقت الرّاهن"(8)
أمّا تصنيف تودوروف للرّؤيات فإنّه استعادة لنماذج سابقيه أهمّهم بويون مع إدخال تعديلات جزئيّة وهي "نمذجة ذات ثلاثة عناصر يطابق أوّلها ما يسمّيه بويون "الرّؤية من خلف"، ويرمز إليه تودوروف بصيغة السّارد< الشّخصية (حيث يعرف السّارد أكثر مما تعرفه الشّخصية)، أو بتعبير أدق، يقول أكثر مما تعرف جميع الشّخصيات، وفي النّموذج الثّاني السّارد= الشّخصية (حيث لا يقول السّارد إلاّ ما تعرفه إحدى الشّخصيات، وهو المحكي ذو وجهة النّظر ـ حسب لوبوك ـ، ذو "الحق المضيف" ـ حسب بلين ـ، أو " الرّاوي مع" ـ حسب بويون ـ وفي النموذج الثّالث : السّارد> الشّخصية (حيث يقول السّارد أقل ما تعرفه الشّخصية)، إنّه "المحكي الموضوعي" أو "التجريبي" يسمّيه بويون " الرّؤية من الخارج"(9)
ويقدّم تودوروف في كتابه الشّعرية جملة من المقولات المرتبطة بالرّؤية السّردية مركزا اهتمامه على القارئ الذي يميّز بين ما يدركه من الأحداث المعروضة وتكون حينئذ المعرفة موضوعيّة، وما يدركه حول الذي يقوم بنقل هذه الأحداث وهذه معرفة ذاتية.
إضافة إلى نوعية الأخبار المدركة هناك كمية هذه الأخبار التي يدركها القارئ أو درجة علمه بها ويطلق عليهما مفهوما "امتداد الرّؤية أو زاوية الرّؤية وعمقها أو درجة نفاذها"(10)
أما الامتداد فيسمي هذا الباحث قطبيه: رؤية داخلية ورؤية خارجية، أو رؤية داخلية وخارجية، والرّؤية الخارجية " تكتفي بوصف أفعال لنا أن ندركها دون أن يصاحب ذلك أي تأويل وأي تدخل من فكر البطل الفاعل، لا توجد أبدا في حالة خام وإلا أدّت إلى اللّامعقول"(11)
أمّا الرّؤية الداخلية فهي "تلك التي تقدّم لنا أفكار الشّخصيات، كما أنّ الفرق بين زاوية الرّؤية وعمقها ليس كبيرا فيمكن ألّا تكتفي بالسّطح سواء كان فيزيائيا أم نفسانيا، بل أن تنفذ إلى نوايا الشخصيات اللاواعية وأن تقدم تشريحا لفكرها ـ وهو ما لا تستطيعه الشخصيات نفسها"(12) .
وإلى جانب هذه المفاهيم يطرح تودوروف مقولة أخرى متعلقة بالرؤية السردية، وهي جدلية الحضور/الغياب التي تثير مسألة صحّة أو خطأ هذه الأخبار، وهنا للقارئ أن يميّز بين الحالتين.
ولا يتوقف دور القارئ هنا بل إنه يقوم بالتّقويم حين يتّخذ موقفا أخلاقيا أو جماليا تجاه العالم الذي تجسّده الرّواية قد يتّفق وآراء السّارد كما قد يختلف معها، إذ القراءة ليست تماهيا ولا غيابا في النّص بل محاورة له واستنطاقا.
وهذه هي المقولات التي ناقشها تودوروف ضمن المظهر اللفظي في تحليل النص الأدبي أو الخطاب إضافة إلى حديثه عن السّارد والمسرود له.
إذ يعتبر تودورف أنّ كلّا من الحكاية والخطاب يمثل مظهرا للأثر الأدبي من الصعب التمييز بينهما، يقول :" للأثر الأدبي، عموما، مظهران فهو في الوقت ذاته حكاية وخطاب، فهو حكاية بمعنى أنّه يوحي بشيء من الواقع ويوحي بأحداث قد تكون وقعت وشخوص من وجهة النّظر هذه يتماهون مع شخوص الحياة الواقعيّة وكان بإمكان هذه الحكاية أن تنقل إلينا بوسائل أخرى....ولكن الأثر الأدبي في الوقت ذاته خطاب فثمّة سارد يقصّ الحكاية وثمّة قارئ يواجهه، يتلقّى الحكاية وعندئذ لا تهمّنا الأحداث التي تروى وإنّما تهمّنا الطّريقة التي استعملها السّارد ليعرّفنا بها"(13)
وهكذا يصبح السّارد مقولة أساسيّة ضمن المقولات السردية المرتبطة بالرؤية والخطاب الروائي أو ما يسميه الشكلاني الروسي بوريس إيخنباوم)1886ـ1959( "السّرد الذي يتجلّى فيه حضور السّارد بطرق مختلفة فيصبح أشبه بممثل يجسّد حضوره بوسائل لغوية ومواقف فكريّة ولكنّه في كلّ الحالات يؤدّي لعبة معقّدة، يظهر ويختفي، يصرّح ويلمّح، ويهادن ويشاكس فيتموّج الخطاب تموّج حضور السّارد ويتنوّع تنوّع المادّة السّرديّة التي يوظّفها ويختلف اختلاف الموقع الذي يطل ويرى"(14)
ويقف تودوروف عند السّارد بعدما ينظر إلى كل مقولة من مقولات المظهر اللفظي التي يقدّمها من زاوية علاقة الخطاب والتخيل من جهة ومن يضطلع بالخطاب من جهة ثانية، وهو ما يسميه الذات المتلفظة معتقدا أنّه هو "الفاعل في كل عملية البناء، وتبعا لذلك تدلّها كل مقولات هذه العملية، بصورة غير مباشرة، على ذلك الفاعل"(15)
وهو الاعتقاد الذي يخالف ما ذهب إليه بعض النقاد الأنجلوـ سكسونيين الذين يؤمنون بوجود نوع من المحكيات حيث تعرض الأحداث، ولا تسرد، وحيث الحكاية تحكي نفسها بنفسها ويرى جيرار جنيت أنّ "السرديات الفرنسية تؤكد استحالة وجود محكي دون سارد، فلا وجود لملفوظ دون عملية تلفظ تنتجه، إن المحكي شكل خطابي، وباعتباره كذلك، فإنّه ينتج من طرف أحد ما يترك في النص آثارا قابلة للملاحظة بدرجة أعلى أو أدنى"(16)
فالرّوائي كما يقول جيرار جينيت "لا يختار بين شكلين نحويين بل بين موقفين سرديين لأنّ الإختيار النحوي ليس إلاّ نتيجة الإختيار السردي، فإمّا ان يقبل بعرض محتوى عمله عن طريق شخصية من شخوص روايته، أو أن يعمد إلى خلق سارد يتولى ذلك خارج الرواية، ولهذا الأمر غالبا ما يقع التمييز بين نوعيين من الحكايات تلك التي يكون السارد فيها غائبا عن القصة المروية التي يحكيها، وتلك التي يكون السارد فيها كشخصية ماثلة في القصة المروية وهذا النوع الثاني يسميه جنيت الأوموديجتيك Homodiégetiqueأو ما يمكن تعريبه بالحكاية داخل الحكاية"(17)
ومع إشكالية المصطلح التي يصطدم بها الباحث الغربي والعربي على السّواء نجد مقولة السّارد تثير خلطا في الحدود والمفاهيم بين السّارد أو المؤلف الواقعي أو المؤلف الضمني أو التجريبي أو النموذجي.
أمّا تودوروف فيميز بين السّارد والكاتب كما يميّز بين المسرود له والقارئ بقوله: "وما إن نتعرف على سارد الكتاب )بالمعنى الواسع لكلمة سارد(، حتى يتحتم علينا أن نقر بوجود مرافقة أي الذي يوجه إليه الخطاب الملفوظ، وهو الذي نسميه اليوم المسرود له، وليس المسرود له هو القارئ الفعلي تماما، كما أنّ السّارد ليس هو الكاتب، علينا ألاّ نخلط بين الدّور وبين الممثل الذي يؤدّيه، وهذا الظّهور المتزامن لا يعدو أن يكون جزءا من القانون الدلائلي العام الذي يكون بمقتضاه "الأنا" و "الأنت" )أو بالأحرى مرسل ملفوظ ما ومتلقيه( دوما مرتبطتين أشد الارتباط"(18)
وممّا لا شك فيه أنّ السارد يضطلع بدور أساسي في الحكي، فهو "ليس مجرّد واسطة محايدة وقارّة بين المؤلّف والقارئ بل هو في حقيقة الأمر موضوع السّرد برمته في الرّواية الحديثة، فهو في روايات عديدة يشكل كائنا بشريا متنوعا ينتج خطابه الخاص دون أن يكون بالضّرورة طرفا في المسرود"(19)
والسّارد عند تودوروف هو الذي "يجسّد المبادئ التي ينطلق منها إطلاق الأحكام التقويمية وهو الذي يخفي أوكار الشخصيات أو يجلوها، ويجعلنا بذلك نقاسمه تصوره "للنفسية" وهو الذي يختار الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي ويختار التتالي الزّمني أو الإنقلابات الزّمنية، فلا وجود لقصّة بلا سارد"(20)
وعن وظيفته ضمن علاقته بالشّخصية فهو" يلاحقها، ويشهد على حركاتها، يتابعها من الخلف ويسجّل تصرّفاتها وكأنّه يصوّر ما يجري حوله بصورة تكاد تكون حيادية، أي لا يسبغ عليه من أحكامه القيمية )العاطفية والأخلاقية والثقافية( ما يجعله متورطا فيه أو حاضرا في دائرته بأي وجه، ومعنى هذا أنّه يقوم بوظيفة إشهادية"(21)، والسّارد عند جيرار جنيت "ينهض بمهام أخرى تتعدّى كونه راويا يسرد قصّة أي أنّه يستطيع أن يحيد عن وظيفته تلك لأخرى يضطلع بها، وهي إدارة دفّة الحكاية، وتنظيم المروي، إذ ساغ التعبير، فضلا عن أنّه يستطيع أن يعقد صلة حميمة مباشرة مع المسرود له محاولا اجتذاب هذا المخاطب، والتأثير فيه، ممّا يبقيه شديد الإنتباه لما يروي، وقد أطلق جنيت على هذه الوظيفة تعبير الوظيفة الإنتباهية أو التواصلية، وللسّارد أيضا ان يقوم بوظيفة الشاهد عندما يحرص على ذكر مصادر أخباره، ومن الممكن أيضا أن تكون له وظيفة أيديولوجيّة"(22)
وكما أنّ لا نص بلا سارد ـ حتى وإن كان مضمرا ـ فكذلك لا نص بلا مسرود له الذي قد يكون شخصا أو مجموعة من الشخصيات يتوجه إليهم السارد بالخطاب، وهما جوهر العلاقة التواصلية المتمثلين في الأنا والأنت أو الباث والمتلقي التي يؤسّس لها رومان جاكبسون في تمثيله للمخطط التواصلي القائم على طرفين أساسيين هما المرسل والمرسل إليه.
ولئن كانت مقولة السارد قد حظيت باهتمام السرديين فإنّ قضية المسرود له لم تنل نصيبها من ذلك الإهتمام في وقت سابق وهو ما يؤكّده رولان بارت إذ يعتبرها "من بين القضايا الشائكة التي لم تعتن بها الدراسات النقدية إذ نجد النقص فادح وتناولها لقضية التنظير لها يظل محتشما، بل ويصل إلى حدّ الإهمال والتهميش بالمقارنة إلى ما جاء به البحث من تطور في قضية السارد"(23)
إنّ المسرود له يمثل الطرف المقابل للسارد، إذ يتلقى النص فيصغي إليه ويحاوره ويعيد انتاجه من جديد من موقع الرؤية التي يتبناها في النظر إلى هذا النص على أنّ رؤيته تلك قد تتوافق ورؤية السارد تجاه النص نفسه وهنا تصبح الرؤية مادة هاربة تستعصى على القبض تتسم بالنمو والتحول والدينامية.
قد يقود هذا إلى التباس المسرود له بمفاهيم أخرى على سبيل القارئ الفعلي أو الضمني أو النموذجي أو الافتراضي وما يتاخمها من مستويات نصية، إلاّ أنّ خطّا رفيعا يفصل بين المسرود له وهذه الحدود الاصطلاحيّة، وهو نفسه الفاصل الذي يحول بين السّارد والمؤلّف، وهذه النظرة تبنّاها تودوروف من قبل إذ ميّز بين الدّور والممثّل الذي يقوم به، أي أنّ المسرود له هو الدّور، وأكّدها جيرار جينيت قائلا: "مثل السّارد يوجد المسرود له كعنصر من عناصر الوضعيّة السرديّة، ومنزلته هي من منزلة السّارد في المستوى الحكائي، بمعنى أنّه ليس بقارئ ) حتى ولو كان مفترضا( كما أنّ السارد أيضا ليس بالضرورة هو المؤلف"(24)
كما يحدث تبادل في الأدوار بين السّارد والمسرود له "فقد ينتقل المرسل في فصل من الحكاية من موقع الرّاوي لحوادث معينة، إلى موقع المروي له في فصل آخر، أمّا السّارد من خارج القصّة فهو وحده الذي لا يستطيع أن ينتقل إلى موقع المسرود له، المروي عليه، وفي هذه الحال يلتبس المسرود له بالقارئ أيّا كان"(25) وعن الوظائف التي يقوم بها المسرود له يشير تودوروف إلى مكانته في عملية السّرد إذ لا يتمّ فعل القراءة إلا به وعبره فهو يمثّل محطّة بين السّارد والقارئ ويساعد على تدقيق إطار السّرد، ويفيدنا في تمييز السّارد، وويبرز بعض الأغراض ويجعل الحبكة تتقدّم، ويصبح الناطق باسم العبرة من العمل"(26)
ويخلص إلى القول أنّ " دراسة المسرود له ضروريّة لفهم القصّة بقدر ماهي ضروريّة دراسة السّارد"(27)
ومع أن الفرق قائم بين السارد والمؤلف من جهة والمسرود له والقارئ من جهة ثانية فإنهما شرطان أساسيان في العملية السّرديّة، بل إنّ وجودهما المرتبط بالرّؤية يتحكّم في عمليّة الانتاج والتلقي، مما يؤكّد أنّ الرّؤية السّردية إحدى أهم المقولات النقدية في مجال السّرديات المؤطرة لفعلي الكتابة والقراءة معا وهو ما تؤكّده جهود تزيفيتان تودوروف وغيره كثير.
الهوامش
(1): ابراهيم خليل، بنية النص الروائي، منشورات الاختلاف، الجزائر، لبنان، ط1، 2010، ص53
(2): ينظر:سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الزمن ، السرد، التبئير، المركز الثقافي العربي، المغرب، لبنان، ط4، 2005، ص11
(3): روجر فاولر، اللسانيات والرواية، تر أحمد مومن، منشورات مخبر الترجمة في الأدب واللسانيات، جامعة منتوري، قسنطينة، الجزائر، مطبعة البعث، دط، 2006، ص 96.97
(4): تزفيتان تودوروف، الشعرية، تر شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، المغرب، ط2، 1990، ص51
5. Dictionnaire encyclopedique des sciences du languageT.Todorove.o.Ducrot, ed.du seuil.call.points.1973.p411.412
(6): سعيد يقطين ، تحليل الخطاب الروائي، الزمن ، السرد، التبئير ،ص 292
(7): تودوروف، الشعرية، ص50
(8): المرجع السابق، ص293
(9):مجموعة من المؤلفين، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير،تر ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي، ط1، 1989، ص 59
(10): تودوروف، الشعرية، ص 52
(11): لمرجع نفسه
(12):المرجع السابق، ص53
(13): تودورف، مقولات الحكي الأدبي، التحليل البنيوي للحكاية، 132
)14): محمد الباردي، إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، مركز النشر الجامعي، تونس، دط، 2004، ص3
)15): ينظر تودوروف، الشعرية، ص56
(16): ينظر مجموعة من المؤلفين، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئي، ص98
(17): ينظر عبد القادر الشاوي، إشكالية الرؤية السردية، مجلة دراسات سيميائية، المغرب، ع2، 87،88، ص 75.76
)18): تودوروف ، الشعرية، 58
(19): محمد الباردي، انشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، ص3
(20): تودوروف، الشعرية، ص 56
(21):عبد القادر الشاوي، إشكالية الرؤية السردية ،ص77
)22): جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، تر محمد المعتصم وآخرون، دار الاختلاف، الجزائر ،لبنان، ط3، ص 265
(23):voir l'étude de R. Barthes, introduction l'analyse structurale des recits, in communication 8 p 24,25
)24): جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ص406
(25):المرجع السابق، ص268
(26): تودوروف،الشعرية، 58
(27): المرجع نفسه
* عن
Catégorie parente: Revue Al Athar
ولمعرفة ما يحكم هذا النص من مفاهيم وتقنيات كان ميلاد وتطوّر مقولة سرديّة ـ إن في الزمان أو المكان ـ وقد كان لابدّ لها من النموّ والتحوّل وهي "تهاجر من بلاد إلى أخرى فمن أمريكا إلى أروبا نجدنا أمام مقاربات يختلف بعضها عن بعض، إنّها وجهة النظر، أو الرؤية، أو المنظور، أو لنقل التبئبر الذي استوى مع السرديات مكونا حيويا والذي ما يزال إلى الآن يثير نقاش السرديين وحوارهم العلمي"(2)، وباختصار هي إشكالية المصطلح تلقي بظلالها على شتّى حقول المعرفة وفي ثقافة المنشأ حتى إذا انتقلت إلى العربية تعسّرت وزادت اعتياصا.
ويستعمل هذا المصطلح للتّعبير عن معنيين، "المعنى الأوّل جمالي إدراكي حسّي، والمعنى الأساسي إيديولوجي، ويدلّ المعنى الأوّل على شيء مماثل لموقع النظر في الفنون المرئيّة، أي الزّاوية التي نرى منها موضوع التمثيل، وتتألّف الرّسوم عادة من تركيب منظوري يفترض النظر إليه من نقطة معينة، ويقولب الفنان عمله بطريقة يملي فيها على المتفرج المثالي موقع النظر الذي يجب أن يتبناه" (3)
ويؤكّد تودورف على أهميّة الرّؤية السّردية بقوله أنّ "للرّؤى أهمية ما بعدها أهمية، ففي الأدب لا نكون أبدا بإزاء أحداث أو وقائع خام وإنّما بإزاء أحداث تقدّم لنا على نحو معين، فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين، ويتحدّد كل مظهر من مظاهر موضوع واحد بحسب الرّؤية التي تقدّمه لنا، وقد كشف عن هذه الأهمية في الفنون البصريّة باستمرار، ويمكن للنظرية الأدبيّة أن تتعلّم الشّيء الكثير من نظرية الرّسم، على سبيل المثال لا الحصر، لاحظنا دوما حضور الرّؤى ودورها الحاسم في بنية اللّوحة وفي الأيقونات، ومن الجلي أنّ عدة وجهات نظر اعتمدت في الأيقونة الواحدة طبقا للدّور الذي يجب أن تقوم به الشّخصية الممثّلة، فالوجه الرئيسي موجّه نحو المشاهد في حين أنّه ينبغي أن يكون ـ حسب المشهد المعروض ـ موجّها نحو المحادث"(4)
وقد عرّف "المعجم الموسوعي لعلوم اللّغة" الرّؤية في جانبها التاريخي بكونها "تشير إلى العلاقة القائمة بين السّارد والعالم المشخّص، وهي مقولة مرتبطة بالفنون التشخيصية ) الرّسم التصويري والسينما وبدرجة أقل بالمسرح والنحت وفن العمارة...(، وتهم أيضا فعل التشخيص بطرقه المختلفة سواء في حالة الخطاب التشخيصي، أو فعل المقول في علاقته بالقول"(5)
وتعتبر مقولة الرّؤية السّردية من أهم المقولات التي حظيت باهتمام النقّاد والدّارسين أهمهم جون بويون، بيرسي لوبوك، بورس أوسبنكي، واين بوث، جيرار جنيت ياب لينفلت، وغيرهم، ومع السّرديات المعاصرة " عمل السّرديون على طرح مفهوم الرّؤية من زاوية تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن الطروحات السابقة، ومن أوائل السبعينات أمكننا الحديث عن نزوع علمي في تحليل الحطاب السّردي"(6)
ولعل أهم باحث قعّد للسّرديات بعامّة والرّؤية منها بخاصّة تزيفيتان تودوروف الذي عدّها ثالثة المقولات الأساسيّة التي تسمح بانتقال الخطاب إلى متخيّل "فالوقائع التي يتألّف منها العالم التخيلي لا تقدّم لنا أبدا في ذاتها بل من منظور معيّن وانطلاقا من وجهة نظر معيّنة ، وهذه الألفاظ استعاريّة او بالأحرى مجازية، فالرّؤية تحلّ هنا محلّ الإدراك برمّته، ولكنّها استعارة ملائمة، لأنّ للخصائص المتنوّعة للرّؤية الحقيقية كلّها ما يعادلها في ظاهرة التخيّل"(7)
وقد كان هدفه من هذه المقولات تسهيل عملية التمييز بين الأجناس، كما أنّ مفهوم الرّؤية عنده "بدأ يأحذ كامل أبعاده في تحليل الخطاب الرّوائي وهو بدوره يشدّد على هذا العنصر ويبيّن أهميته في التحليل وقيمته الإبداعيّة منذ "لاكلو" في القرن الثامن عشر إلى الوقت الرّاهن"(8)
أمّا تصنيف تودوروف للرّؤيات فإنّه استعادة لنماذج سابقيه أهمّهم بويون مع إدخال تعديلات جزئيّة وهي "نمذجة ذات ثلاثة عناصر يطابق أوّلها ما يسمّيه بويون "الرّؤية من خلف"، ويرمز إليه تودوروف بصيغة السّارد< الشّخصية (حيث يعرف السّارد أكثر مما تعرفه الشّخصية)، أو بتعبير أدق، يقول أكثر مما تعرف جميع الشّخصيات، وفي النّموذج الثّاني السّارد= الشّخصية (حيث لا يقول السّارد إلاّ ما تعرفه إحدى الشّخصيات، وهو المحكي ذو وجهة النّظر ـ حسب لوبوك ـ، ذو "الحق المضيف" ـ حسب بلين ـ، أو " الرّاوي مع" ـ حسب بويون ـ وفي النموذج الثّالث : السّارد> الشّخصية (حيث يقول السّارد أقل ما تعرفه الشّخصية)، إنّه "المحكي الموضوعي" أو "التجريبي" يسمّيه بويون " الرّؤية من الخارج"(9)
ويقدّم تودوروف في كتابه الشّعرية جملة من المقولات المرتبطة بالرّؤية السّردية مركزا اهتمامه على القارئ الذي يميّز بين ما يدركه من الأحداث المعروضة وتكون حينئذ المعرفة موضوعيّة، وما يدركه حول الذي يقوم بنقل هذه الأحداث وهذه معرفة ذاتية.
إضافة إلى نوعية الأخبار المدركة هناك كمية هذه الأخبار التي يدركها القارئ أو درجة علمه بها ويطلق عليهما مفهوما "امتداد الرّؤية أو زاوية الرّؤية وعمقها أو درجة نفاذها"(10)
أما الامتداد فيسمي هذا الباحث قطبيه: رؤية داخلية ورؤية خارجية، أو رؤية داخلية وخارجية، والرّؤية الخارجية " تكتفي بوصف أفعال لنا أن ندركها دون أن يصاحب ذلك أي تأويل وأي تدخل من فكر البطل الفاعل، لا توجد أبدا في حالة خام وإلا أدّت إلى اللّامعقول"(11)
أمّا الرّؤية الداخلية فهي "تلك التي تقدّم لنا أفكار الشّخصيات، كما أنّ الفرق بين زاوية الرّؤية وعمقها ليس كبيرا فيمكن ألّا تكتفي بالسّطح سواء كان فيزيائيا أم نفسانيا، بل أن تنفذ إلى نوايا الشخصيات اللاواعية وأن تقدم تشريحا لفكرها ـ وهو ما لا تستطيعه الشخصيات نفسها"(12) .
وإلى جانب هذه المفاهيم يطرح تودوروف مقولة أخرى متعلقة بالرؤية السردية، وهي جدلية الحضور/الغياب التي تثير مسألة صحّة أو خطأ هذه الأخبار، وهنا للقارئ أن يميّز بين الحالتين.
ولا يتوقف دور القارئ هنا بل إنه يقوم بالتّقويم حين يتّخذ موقفا أخلاقيا أو جماليا تجاه العالم الذي تجسّده الرّواية قد يتّفق وآراء السّارد كما قد يختلف معها، إذ القراءة ليست تماهيا ولا غيابا في النّص بل محاورة له واستنطاقا.
وهذه هي المقولات التي ناقشها تودوروف ضمن المظهر اللفظي في تحليل النص الأدبي أو الخطاب إضافة إلى حديثه عن السّارد والمسرود له.
إذ يعتبر تودورف أنّ كلّا من الحكاية والخطاب يمثل مظهرا للأثر الأدبي من الصعب التمييز بينهما، يقول :" للأثر الأدبي، عموما، مظهران فهو في الوقت ذاته حكاية وخطاب، فهو حكاية بمعنى أنّه يوحي بشيء من الواقع ويوحي بأحداث قد تكون وقعت وشخوص من وجهة النّظر هذه يتماهون مع شخوص الحياة الواقعيّة وكان بإمكان هذه الحكاية أن تنقل إلينا بوسائل أخرى....ولكن الأثر الأدبي في الوقت ذاته خطاب فثمّة سارد يقصّ الحكاية وثمّة قارئ يواجهه، يتلقّى الحكاية وعندئذ لا تهمّنا الأحداث التي تروى وإنّما تهمّنا الطّريقة التي استعملها السّارد ليعرّفنا بها"(13)
وهكذا يصبح السّارد مقولة أساسيّة ضمن المقولات السردية المرتبطة بالرؤية والخطاب الروائي أو ما يسميه الشكلاني الروسي بوريس إيخنباوم)1886ـ1959( "السّرد الذي يتجلّى فيه حضور السّارد بطرق مختلفة فيصبح أشبه بممثل يجسّد حضوره بوسائل لغوية ومواقف فكريّة ولكنّه في كلّ الحالات يؤدّي لعبة معقّدة، يظهر ويختفي، يصرّح ويلمّح، ويهادن ويشاكس فيتموّج الخطاب تموّج حضور السّارد ويتنوّع تنوّع المادّة السّرديّة التي يوظّفها ويختلف اختلاف الموقع الذي يطل ويرى"(14)
ويقف تودوروف عند السّارد بعدما ينظر إلى كل مقولة من مقولات المظهر اللفظي التي يقدّمها من زاوية علاقة الخطاب والتخيل من جهة ومن يضطلع بالخطاب من جهة ثانية، وهو ما يسميه الذات المتلفظة معتقدا أنّه هو "الفاعل في كل عملية البناء، وتبعا لذلك تدلّها كل مقولات هذه العملية، بصورة غير مباشرة، على ذلك الفاعل"(15)
وهو الاعتقاد الذي يخالف ما ذهب إليه بعض النقاد الأنجلوـ سكسونيين الذين يؤمنون بوجود نوع من المحكيات حيث تعرض الأحداث، ولا تسرد، وحيث الحكاية تحكي نفسها بنفسها ويرى جيرار جنيت أنّ "السرديات الفرنسية تؤكد استحالة وجود محكي دون سارد، فلا وجود لملفوظ دون عملية تلفظ تنتجه، إن المحكي شكل خطابي، وباعتباره كذلك، فإنّه ينتج من طرف أحد ما يترك في النص آثارا قابلة للملاحظة بدرجة أعلى أو أدنى"(16)
فالرّوائي كما يقول جيرار جينيت "لا يختار بين شكلين نحويين بل بين موقفين سرديين لأنّ الإختيار النحوي ليس إلاّ نتيجة الإختيار السردي، فإمّا ان يقبل بعرض محتوى عمله عن طريق شخصية من شخوص روايته، أو أن يعمد إلى خلق سارد يتولى ذلك خارج الرواية، ولهذا الأمر غالبا ما يقع التمييز بين نوعيين من الحكايات تلك التي يكون السارد فيها غائبا عن القصة المروية التي يحكيها، وتلك التي يكون السارد فيها كشخصية ماثلة في القصة المروية وهذا النوع الثاني يسميه جنيت الأوموديجتيك Homodiégetiqueأو ما يمكن تعريبه بالحكاية داخل الحكاية"(17)
ومع إشكالية المصطلح التي يصطدم بها الباحث الغربي والعربي على السّواء نجد مقولة السّارد تثير خلطا في الحدود والمفاهيم بين السّارد أو المؤلف الواقعي أو المؤلف الضمني أو التجريبي أو النموذجي.
أمّا تودوروف فيميز بين السّارد والكاتب كما يميّز بين المسرود له والقارئ بقوله: "وما إن نتعرف على سارد الكتاب )بالمعنى الواسع لكلمة سارد(، حتى يتحتم علينا أن نقر بوجود مرافقة أي الذي يوجه إليه الخطاب الملفوظ، وهو الذي نسميه اليوم المسرود له، وليس المسرود له هو القارئ الفعلي تماما، كما أنّ السّارد ليس هو الكاتب، علينا ألاّ نخلط بين الدّور وبين الممثل الذي يؤدّيه، وهذا الظّهور المتزامن لا يعدو أن يكون جزءا من القانون الدلائلي العام الذي يكون بمقتضاه "الأنا" و "الأنت" )أو بالأحرى مرسل ملفوظ ما ومتلقيه( دوما مرتبطتين أشد الارتباط"(18)
وممّا لا شك فيه أنّ السارد يضطلع بدور أساسي في الحكي، فهو "ليس مجرّد واسطة محايدة وقارّة بين المؤلّف والقارئ بل هو في حقيقة الأمر موضوع السّرد برمته في الرّواية الحديثة، فهو في روايات عديدة يشكل كائنا بشريا متنوعا ينتج خطابه الخاص دون أن يكون بالضّرورة طرفا في المسرود"(19)
والسّارد عند تودوروف هو الذي "يجسّد المبادئ التي ينطلق منها إطلاق الأحكام التقويمية وهو الذي يخفي أوكار الشخصيات أو يجلوها، ويجعلنا بذلك نقاسمه تصوره "للنفسية" وهو الذي يختار الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي ويختار التتالي الزّمني أو الإنقلابات الزّمنية، فلا وجود لقصّة بلا سارد"(20)
وعن وظيفته ضمن علاقته بالشّخصية فهو" يلاحقها، ويشهد على حركاتها، يتابعها من الخلف ويسجّل تصرّفاتها وكأنّه يصوّر ما يجري حوله بصورة تكاد تكون حيادية، أي لا يسبغ عليه من أحكامه القيمية )العاطفية والأخلاقية والثقافية( ما يجعله متورطا فيه أو حاضرا في دائرته بأي وجه، ومعنى هذا أنّه يقوم بوظيفة إشهادية"(21)، والسّارد عند جيرار جنيت "ينهض بمهام أخرى تتعدّى كونه راويا يسرد قصّة أي أنّه يستطيع أن يحيد عن وظيفته تلك لأخرى يضطلع بها، وهي إدارة دفّة الحكاية، وتنظيم المروي، إذ ساغ التعبير، فضلا عن أنّه يستطيع أن يعقد صلة حميمة مباشرة مع المسرود له محاولا اجتذاب هذا المخاطب، والتأثير فيه، ممّا يبقيه شديد الإنتباه لما يروي، وقد أطلق جنيت على هذه الوظيفة تعبير الوظيفة الإنتباهية أو التواصلية، وللسّارد أيضا ان يقوم بوظيفة الشاهد عندما يحرص على ذكر مصادر أخباره، ومن الممكن أيضا أن تكون له وظيفة أيديولوجيّة"(22)
وكما أنّ لا نص بلا سارد ـ حتى وإن كان مضمرا ـ فكذلك لا نص بلا مسرود له الذي قد يكون شخصا أو مجموعة من الشخصيات يتوجه إليهم السارد بالخطاب، وهما جوهر العلاقة التواصلية المتمثلين في الأنا والأنت أو الباث والمتلقي التي يؤسّس لها رومان جاكبسون في تمثيله للمخطط التواصلي القائم على طرفين أساسيين هما المرسل والمرسل إليه.
ولئن كانت مقولة السارد قد حظيت باهتمام السرديين فإنّ قضية المسرود له لم تنل نصيبها من ذلك الإهتمام في وقت سابق وهو ما يؤكّده رولان بارت إذ يعتبرها "من بين القضايا الشائكة التي لم تعتن بها الدراسات النقدية إذ نجد النقص فادح وتناولها لقضية التنظير لها يظل محتشما، بل ويصل إلى حدّ الإهمال والتهميش بالمقارنة إلى ما جاء به البحث من تطور في قضية السارد"(23)
إنّ المسرود له يمثل الطرف المقابل للسارد، إذ يتلقى النص فيصغي إليه ويحاوره ويعيد انتاجه من جديد من موقع الرؤية التي يتبناها في النظر إلى هذا النص على أنّ رؤيته تلك قد تتوافق ورؤية السارد تجاه النص نفسه وهنا تصبح الرؤية مادة هاربة تستعصى على القبض تتسم بالنمو والتحول والدينامية.
قد يقود هذا إلى التباس المسرود له بمفاهيم أخرى على سبيل القارئ الفعلي أو الضمني أو النموذجي أو الافتراضي وما يتاخمها من مستويات نصية، إلاّ أنّ خطّا رفيعا يفصل بين المسرود له وهذه الحدود الاصطلاحيّة، وهو نفسه الفاصل الذي يحول بين السّارد والمؤلّف، وهذه النظرة تبنّاها تودوروف من قبل إذ ميّز بين الدّور والممثّل الذي يقوم به، أي أنّ المسرود له هو الدّور، وأكّدها جيرار جينيت قائلا: "مثل السّارد يوجد المسرود له كعنصر من عناصر الوضعيّة السرديّة، ومنزلته هي من منزلة السّارد في المستوى الحكائي، بمعنى أنّه ليس بقارئ ) حتى ولو كان مفترضا( كما أنّ السارد أيضا ليس بالضرورة هو المؤلف"(24)
كما يحدث تبادل في الأدوار بين السّارد والمسرود له "فقد ينتقل المرسل في فصل من الحكاية من موقع الرّاوي لحوادث معينة، إلى موقع المروي له في فصل آخر، أمّا السّارد من خارج القصّة فهو وحده الذي لا يستطيع أن ينتقل إلى موقع المسرود له، المروي عليه، وفي هذه الحال يلتبس المسرود له بالقارئ أيّا كان"(25) وعن الوظائف التي يقوم بها المسرود له يشير تودوروف إلى مكانته في عملية السّرد إذ لا يتمّ فعل القراءة إلا به وعبره فهو يمثّل محطّة بين السّارد والقارئ ويساعد على تدقيق إطار السّرد، ويفيدنا في تمييز السّارد، وويبرز بعض الأغراض ويجعل الحبكة تتقدّم، ويصبح الناطق باسم العبرة من العمل"(26)
ويخلص إلى القول أنّ " دراسة المسرود له ضروريّة لفهم القصّة بقدر ماهي ضروريّة دراسة السّارد"(27)
ومع أن الفرق قائم بين السارد والمؤلف من جهة والمسرود له والقارئ من جهة ثانية فإنهما شرطان أساسيان في العملية السّرديّة، بل إنّ وجودهما المرتبط بالرّؤية يتحكّم في عمليّة الانتاج والتلقي، مما يؤكّد أنّ الرّؤية السّردية إحدى أهم المقولات النقدية في مجال السّرديات المؤطرة لفعلي الكتابة والقراءة معا وهو ما تؤكّده جهود تزيفيتان تودوروف وغيره كثير.
الهوامش
(1): ابراهيم خليل، بنية النص الروائي، منشورات الاختلاف، الجزائر، لبنان، ط1، 2010، ص53
(2): ينظر:سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الزمن ، السرد، التبئير، المركز الثقافي العربي، المغرب، لبنان، ط4، 2005، ص11
(3): روجر فاولر، اللسانيات والرواية، تر أحمد مومن، منشورات مخبر الترجمة في الأدب واللسانيات، جامعة منتوري، قسنطينة، الجزائر، مطبعة البعث، دط، 2006، ص 96.97
(4): تزفيتان تودوروف، الشعرية، تر شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، المغرب، ط2، 1990، ص51
5. Dictionnaire encyclopedique des sciences du languageT.Todorove.o.Ducrot, ed.du seuil.call.points.1973.p411.412
(6): سعيد يقطين ، تحليل الخطاب الروائي، الزمن ، السرد، التبئير ،ص 292
(7): تودوروف، الشعرية، ص50
(8): المرجع السابق، ص293
(9):مجموعة من المؤلفين، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير،تر ناجي مصطفى، منشورات الحوار الأكاديمي، ط1، 1989، ص 59
(10): تودوروف، الشعرية، ص 52
(11): لمرجع نفسه
(12):المرجع السابق، ص53
(13): تودورف، مقولات الحكي الأدبي، التحليل البنيوي للحكاية، 132
)14): محمد الباردي، إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، مركز النشر الجامعي، تونس، دط، 2004، ص3
)15): ينظر تودوروف، الشعرية، ص56
(16): ينظر مجموعة من المؤلفين، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئي، ص98
(17): ينظر عبد القادر الشاوي، إشكالية الرؤية السردية، مجلة دراسات سيميائية، المغرب، ع2، 87،88، ص 75.76
)18): تودوروف ، الشعرية، 58
(19): محمد الباردي، انشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، ص3
(20): تودوروف، الشعرية، ص 56
(21):عبد القادر الشاوي، إشكالية الرؤية السردية ،ص77
)22): جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، تر محمد المعتصم وآخرون، دار الاختلاف، الجزائر ،لبنان، ط3، ص 265
(23):voir l'étude de R. Barthes, introduction l'analyse structurale des recits, in communication 8 p 24,25
)24): جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ص406
(25):المرجع السابق، ص268
(26): تودوروف،الشعرية، 58
(27): المرجع نفسه
* عن
Catégorie parente: Revue Al Athar