كلما نضجت التجربة الشعرية وبلغت أوجها الفكري والأدبي، يبدأ صاحبها في البحث عن أدوات متعالية القيمة في التخاطب ورسم المشهد الشعري، حتى تكون عملية التأويل والتمكن من المعنى أكثر تخمينا وتخييلا في الآن نفسه، لأن الشاعر هنا يغوص في الغموض واللاوضوح عمداً. فيصبح النص المكتوب دلالة ثانوية عن النص المتخيل في ذهن الشاعر، والذي يصبح هنا مسكوتا عنه، أو مخفيا وراء اللغة.
هذا هو المسكوت عنه والمخفي وراء اللغة في نص شاعر حمل المدائح في نشيد الظل للشاعر الجزائري شمس الدين بوكلوة، والذي اعتمد على هذه التقنية حتى يرتقي بنصه إلى المستوى العالي من حيث الخطاب والتلقي، إذ أنه يتعمد السكوت عن المعنى المباشر وإخفائه وراء اللغة، من أجل تحقيق الإبهار وربط المتلقي بعبارات النص والبحث في ثناياها عن المعاني التي اكتنفها الصمت.
إن وظيفة المتلقي هنا تصبح أساسية ليس من حيث فك الغموض عن المعاني وتخيلها فقط، بل من حيث الوقوف عند الغايات والمرامي التي قصدها المسكوت عنه في هذا النص.
ورد في افتتاحية النص، قول الشاعر:
هو هكذا..
أبناءُ شعبِه هاربون من الحياة.
اليوم سوف يهاجر الفرحُ المعلّبُ من حناجرهمْ،
أراهم عائدين على انكسار غمامة
هذا المساءْ.
أو ليس أكثرَ أو أقلَّ،
لنا هُتافات القيامةِ..
بعضَ حزنهِ
وابتسامةِ طفلةٍ تُلقي تحيّتها عليهْ.
في هذا المقطع تكثيف لغوي يضمن وراءه رمزية جميلة أراد النص ايرادها في قالب لا مباشر يميزه الصمت والسكوت عن معاني القهر والتشاؤم وهجرة الحياة وما يحيا الإنسان من أجله، والتي عبر عنها بلغة تحيل المتلقي إلى نص آخر بناه المخيال الشاعري ويفك رموزه مخيال الإستقبال والاكتساب، فإكتساب المعنى هنا يتطلب منك الولوج إلى ما وراء اللغة، واللغة هي روح المعنى وهي التي تتحكم فيه فنيا وبلاغيا. واللغة هنا أيضاً جسدت المعنى دون أن تبعد عنه اللاسهولة في التداول، فالمعني هنا سياسي، وقد يكون شاعراً، وقد يكون الشاعر نفسه أيضاً، الأكيد أن المعني بالخطاب هنا مسكوت عنه، وتخييله ينطلق من لغة المعنى المضمرة. واللغة هنا تخفي مرة أخرى هذا المعني الذي يعيش أبناء شعبه الأمرين قد يكون ذلك بسببه، وقد يكون هو واحد منهم.
جاء في مقطع آخر:
هو هكذا
اكتملتْ هناك فصولُـهُ
فاستلَ بيتا من قصيدته الأخيرة..
لا يريد لتنتهي
حتّى يشاءْ.
وأقام دولتهُ الجديدةَ،
قام يسألُ نفسهُ
أنا.. من أنا ؟
فأجابه
أنتَ السفينة/
شاطئٌ يمتدُّ من يافا
إلى المدن البعيدة/
شاعرٌ حملَ المدائح في نشيدِ الظلّ
أوْ..
هو هكذا
قبل اجتياح الموت
يعرف شعبه.
يواصل النص هنا إضمار بعض معاني النص وتكثيفها في اللغة، من أجل تخاطب مباشر بين النص العالي المستوى والقارئ المثقف الذي ينبغي عليه فهم اللغة وما وراءها وما تخفيه من معان وعبارات مباشرة وغير مباشرة، ففي أول المقطع يمكنك أن تتخيل أن المسكوت عنه هنا سياسي يريد الخلود وقت ما شاء فوق رقاب الشعوب المغلوبة على أمرها. أما في وسط هذا المقطع ونهايته، تختلط عليك أمور القبض على الدلالة بين سياسي من يافا ومصطلح يافا قد لا يحيلك بالضرورة إلى المعنى الحقيقي، وبين شاعر مات نصرة لحق يافا في العيش والحرية، وبين سياسي متنكر لشعب لا يعرفه إلا إذا حلت به الساعة. فالمعنى هنا مسكوت عنه واللغة تمنحه رمزية مكتملة الأبعاد ( المعنى المباشر، والمعنى المضمر).
في آخر النص لغة مكثفة تختصر الكثير من المعاني وتتستر عنها، في قالب شعري يحتاج إلى الكثير من الفطنة والذكاء والقدرة على الاستيعاب والفهم من أجل تشخيص الصورة الشعرية المراد السكوت عنها عمداً، وذلك عندما يقول الشاعر:
نصفان كان
برغبةٍ في الانتحار، أو الرحيلِ
و يسأل المنفى
لماذا يا أناي؟
يسابقُ الوقتَ المُطِلَ
علي الغياب
يُخطِّئ التقويمَ/
ينتهكُ العصورْ.
يصغي لحزن الأمهاتِ،
يقاوم الموت الوشيكَ..
ولا يخورْ.
هو هكذا
يحتاجُ موتًا
و انتماءً للترابِ
ليحملَ النعشَ.. البكاءُ
فلا تقولَ الأمُ :
سيروا هادئين، و صامتين
لعلني أمشي إليهْ.
هو هكذا
مازال يرقد تحت دمع الأبرياء.
المسكوت عنه هنا كما توضحه لغة المقطع متناقض بين رحيل مؤقت مثل له بمصطلح الهجرة، ورحيل مؤبد مثل له بمصطلح الانتحار، وبالتالي فاللغة تأبى أن تزيل الستار عن المعني بالأمر وواصلت تركه في زاوية الصمت، معبرة عنه بمعان ثانوية شخصته دموع الأمهات والموت الوشيك ، فالمعني بالأمر يحن إلى التراب بعد هجرته إن كانت هي المسكوت عنه، وبعد موته إن حمل على النعش. المسكوت عنه هنا قد يكون أيضاً وباحتمال كبير هو الشاعر نفسه، اللغة اخفته وراءها، وتخييل المتلقي أبقاه في مخيال الشاعر.
قد تكون المباشرة من أولويات التخاطب بين النص وقارئه، إلا أن النص الشعري وبخلاف غيره، يحتاج إلى كثير من الغموض والتلاعب بالمعاني والدلالات، والتدوير في اللغة، والتنويع في المصطلحات، وذلك حتى يكون النص أكثر عمقاً في معانيه، وأشد إيحاء في مراميه، والمسكوت عنه وراء اللغة في نصنا هذا كان المساهم الأول في تحقيق كل ذلك، حيث كان نص شاعر حمل المدائح في نشيد الظل، نموذجاً حقيقيا أبان عن دور المسكوت عنه وما وراء اللغة في تحقيق الدهشة الشعرية، والبلاغة اللغوية، والقصدية اللاواضحة، وكذا تطوير آليات المتلقي في تلقي النص وتخييله. فهذا النوع من النصوص بحاجة إلى قراءات واعية ورؤى مثقفة.
هذا هو المسكوت عنه والمخفي وراء اللغة في نص شاعر حمل المدائح في نشيد الظل للشاعر الجزائري شمس الدين بوكلوة، والذي اعتمد على هذه التقنية حتى يرتقي بنصه إلى المستوى العالي من حيث الخطاب والتلقي، إذ أنه يتعمد السكوت عن المعنى المباشر وإخفائه وراء اللغة، من أجل تحقيق الإبهار وربط المتلقي بعبارات النص والبحث في ثناياها عن المعاني التي اكتنفها الصمت.
إن وظيفة المتلقي هنا تصبح أساسية ليس من حيث فك الغموض عن المعاني وتخيلها فقط، بل من حيث الوقوف عند الغايات والمرامي التي قصدها المسكوت عنه في هذا النص.
ورد في افتتاحية النص، قول الشاعر:
هو هكذا..
أبناءُ شعبِه هاربون من الحياة.
اليوم سوف يهاجر الفرحُ المعلّبُ من حناجرهمْ،
أراهم عائدين على انكسار غمامة
هذا المساءْ.
أو ليس أكثرَ أو أقلَّ،
لنا هُتافات القيامةِ..
بعضَ حزنهِ
وابتسامةِ طفلةٍ تُلقي تحيّتها عليهْ.
في هذا المقطع تكثيف لغوي يضمن وراءه رمزية جميلة أراد النص ايرادها في قالب لا مباشر يميزه الصمت والسكوت عن معاني القهر والتشاؤم وهجرة الحياة وما يحيا الإنسان من أجله، والتي عبر عنها بلغة تحيل المتلقي إلى نص آخر بناه المخيال الشاعري ويفك رموزه مخيال الإستقبال والاكتساب، فإكتساب المعنى هنا يتطلب منك الولوج إلى ما وراء اللغة، واللغة هي روح المعنى وهي التي تتحكم فيه فنيا وبلاغيا. واللغة هنا أيضاً جسدت المعنى دون أن تبعد عنه اللاسهولة في التداول، فالمعني هنا سياسي، وقد يكون شاعراً، وقد يكون الشاعر نفسه أيضاً، الأكيد أن المعني بالخطاب هنا مسكوت عنه، وتخييله ينطلق من لغة المعنى المضمرة. واللغة هنا تخفي مرة أخرى هذا المعني الذي يعيش أبناء شعبه الأمرين قد يكون ذلك بسببه، وقد يكون هو واحد منهم.
جاء في مقطع آخر:
هو هكذا
اكتملتْ هناك فصولُـهُ
فاستلَ بيتا من قصيدته الأخيرة..
لا يريد لتنتهي
حتّى يشاءْ.
وأقام دولتهُ الجديدةَ،
قام يسألُ نفسهُ
أنا.. من أنا ؟
فأجابه
أنتَ السفينة/
شاطئٌ يمتدُّ من يافا
إلى المدن البعيدة/
شاعرٌ حملَ المدائح في نشيدِ الظلّ
أوْ..
هو هكذا
قبل اجتياح الموت
يعرف شعبه.
يواصل النص هنا إضمار بعض معاني النص وتكثيفها في اللغة، من أجل تخاطب مباشر بين النص العالي المستوى والقارئ المثقف الذي ينبغي عليه فهم اللغة وما وراءها وما تخفيه من معان وعبارات مباشرة وغير مباشرة، ففي أول المقطع يمكنك أن تتخيل أن المسكوت عنه هنا سياسي يريد الخلود وقت ما شاء فوق رقاب الشعوب المغلوبة على أمرها. أما في وسط هذا المقطع ونهايته، تختلط عليك أمور القبض على الدلالة بين سياسي من يافا ومصطلح يافا قد لا يحيلك بالضرورة إلى المعنى الحقيقي، وبين شاعر مات نصرة لحق يافا في العيش والحرية، وبين سياسي متنكر لشعب لا يعرفه إلا إذا حلت به الساعة. فالمعنى هنا مسكوت عنه واللغة تمنحه رمزية مكتملة الأبعاد ( المعنى المباشر، والمعنى المضمر).
في آخر النص لغة مكثفة تختصر الكثير من المعاني وتتستر عنها، في قالب شعري يحتاج إلى الكثير من الفطنة والذكاء والقدرة على الاستيعاب والفهم من أجل تشخيص الصورة الشعرية المراد السكوت عنها عمداً، وذلك عندما يقول الشاعر:
نصفان كان
برغبةٍ في الانتحار، أو الرحيلِ
و يسأل المنفى
لماذا يا أناي؟
يسابقُ الوقتَ المُطِلَ
علي الغياب
يُخطِّئ التقويمَ/
ينتهكُ العصورْ.
يصغي لحزن الأمهاتِ،
يقاوم الموت الوشيكَ..
ولا يخورْ.
هو هكذا
يحتاجُ موتًا
و انتماءً للترابِ
ليحملَ النعشَ.. البكاءُ
فلا تقولَ الأمُ :
سيروا هادئين، و صامتين
لعلني أمشي إليهْ.
هو هكذا
مازال يرقد تحت دمع الأبرياء.
المسكوت عنه هنا كما توضحه لغة المقطع متناقض بين رحيل مؤقت مثل له بمصطلح الهجرة، ورحيل مؤبد مثل له بمصطلح الانتحار، وبالتالي فاللغة تأبى أن تزيل الستار عن المعني بالأمر وواصلت تركه في زاوية الصمت، معبرة عنه بمعان ثانوية شخصته دموع الأمهات والموت الوشيك ، فالمعني بالأمر يحن إلى التراب بعد هجرته إن كانت هي المسكوت عنه، وبعد موته إن حمل على النعش. المسكوت عنه هنا قد يكون أيضاً وباحتمال كبير هو الشاعر نفسه، اللغة اخفته وراءها، وتخييل المتلقي أبقاه في مخيال الشاعر.
قد تكون المباشرة من أولويات التخاطب بين النص وقارئه، إلا أن النص الشعري وبخلاف غيره، يحتاج إلى كثير من الغموض والتلاعب بالمعاني والدلالات، والتدوير في اللغة، والتنويع في المصطلحات، وذلك حتى يكون النص أكثر عمقاً في معانيه، وأشد إيحاء في مراميه، والمسكوت عنه وراء اللغة في نصنا هذا كان المساهم الأول في تحقيق كل ذلك، حيث كان نص شاعر حمل المدائح في نشيد الظل، نموذجاً حقيقيا أبان عن دور المسكوت عنه وما وراء اللغة في تحقيق الدهشة الشعرية، والبلاغة اللغوية، والقصدية اللاواضحة، وكذا تطوير آليات المتلقي في تلقي النص وتخييله. فهذا النوع من النصوص بحاجة إلى قراءات واعية ورؤى مثقفة.