يفتح الشعر أبوابه ومساراته لصاحب الكلمة والتجربة ليفصح عن مكنوناته، واكتشاف ذاته، أو طمسها، أو البحث عنها في سبيل استردادها واستعادتها فيتم اللقاء بين الشاعر وبين ذاته بعد طول ترحال وجفاء، الأمر الذي جعل الشاعر على العربي الشهير بـ "ابن العربي" أن يختار قصيدة النثر للتعبير عن رحلته في التصالح مع ذاته المتفاعلة تارة ومع ذاته المثالية تارة أخرى، حيث مثلت ذاته الحقيقية المتفاعلة رؤيته الشخصية لنفسه بكل ما فيها، بينما مثلت ذاته المثالية تلك الذات الحلم الذي يتغيا الوصول إليها وتحقيقها، تلك القصيدة التي هيمنت من حيث الكم على ديوانه "دروب الجراح"؛ فقد وجد أنها الأنسب في التعبير عن صراخ الذات وما يعتريها من القلق الوجودي والتغير الدائم في مواقفه، والنموذج الأمثل الذي سوف يعينه على استرداد ذاته والإعلان عن حسرته.
يبدأ ابن العربي في الإعلان عن محنته الذاتية مع أول صفحة من أول قصيدة له بالديوان، تلك التي بدأ بها وتم بها تأسيس رحلة البحث ومحاولة استرداد الذات حتى أصبحت هي القصيدة المرجعية لبقية القصائد الأخرى التي تدور في نفس الأجواء، وكأنها تنويعات موسيقية تُعزَف على نفس اللحن، وقد قرر أن يعود لصومعته بأملٍ يفارقه التأكد، ويلازمه التمني الأقرب لحافة الشك في تحقق أمنيته، عندما عاد لصومعته التي غادرها خائر القوى، موهن العزم:
أعود بجسدي الواهن وقواي الخائرة
أترك مدن ترحالي
أعود بزماني
وليظل العابد في نفسي ويعود
فما عدتُ أنا هو أنا
قد أجدني .. قد أراني
سئمتُ خيانة المحبين
سئمتُ بشرًا ما أبغضني عندهم
وما أحبهم لدي
أتوسل زمنا كنتُ فيه (أنا)
أشعر بذاتي
التي كانت.. [من قصيدة : "روح تائهة"].
لا يقوم الحوار داخل أكثر القصائد بين (الأنا) و(الآخر)، بل بين (الأنا) و(الأنا)، وهو ما يوجب التفرقة بين (الذات الشاعرة) و(ذات الشاعر) ذلك أن الذات الشاعرة الحداثية ذات وجودية، عرضية حادثة، أو آنية، تمثل وضع الشاعر الآني (الآن – هنا) في فضاء الشعر أي وقد أخذ، الآن – هنا في التجربة يواجه بإمكاناته الشعرية وضعه خارج الشعر، يفكك بإمكانات اللغة – الإبداع الأنطولوجي، في العالم الواقعي أو الموضوعي، يعيد صياغة العالم، وصياغة علاقته بالعالم على نحو يحقق الولادة الممكنة له وللعالم. ولذلك فهذه الذات تتطابق إلى حد ما مع (الأنا) الشعرية، أو مع أنا الكاتب الضمني، كما يقول ذلك دكتور عبد الواسع الحميري في كتابه:"الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية".
لذا فعلاقة ابن العربي بذاته متصلة منفصلة، يبحث عنها، يرصدها، يحاول أن يجدها، وعندما يجدها يحاول استردادها بإعادتها للزمن الأول والمكان الأول، ولذا تكثر عبر قصائده عددًا من المفردات ومنها ما يتكرر عبر صياغات أخرى لا تلغي وجوده المتفاعل معها: (لعلني أجدني.. ليتني.. قد أراني ,, أراني .. يراني .. تراني.. أنا .. هو).
كما أنه يرتحل من اللحظة الآنية إلى اللحظة الماضية التي تمثل ذاته البريئة، العابدة، التي يجدها في: (صومعته، محرابه، جلبابه، مسبحته، مصباحه)، تلك هي الذات الأولى للشاعر التي يحن للقياها واشتهاء استعادتها، ويرى أنه لو ملكها سيملك زمنه الذي انفرط كحبات مسبحته، غير أن الشاعر متحير يرى أن ذاته التي يبحث عنها تسكنه، وأنها تمثل إنسانه الذي يراه أفضل منه، ولذا فهو يستبطن ذاته من أجل إفساح الساحة الكونية والوجودية لخروج هذا الأفضل منه، إلا أنه لا يجد في نفسه القوة الذاتية التي تعينه على الإمساك بتلك الذات التي تسكن أعماقه وتبحث هيَّ الأخرى عن بغيتها، أو تحاول أن تحثه هو للخروج من شرنقته، وهو يتعلل بأن هناك قوى خارجية تحول بينه وبين استرداد ذاته، وفي نفس الوقت يطلب المدد من تلك القوى لتعينه:
دعوني أعودُ إلى صومعتي
روحي التائهة تعود .. [من قصيدة : "روح تائهة"]
كم أحتاج لذراع قوية
تدفع إليِّ الأمل
بأن هناك شخصا
يغوص في أعماقي
بتوغل في حنايا ذاتي
يبحث في قاع محيطي .. [من قصيدة : "خلجات نفس"]
في جوفي طائرٌ محلق
يضرب بجناحيه أركاني
يرجو مني التحرر والخلاص
يقدُم على صلاةٍ جنائزية
على ذلك القابع في نفسي
الذي يظل بداخلي .. يُشبهُني
عيناي عيناه. ذراعي بداي
كلُ ما يحمله يقولُ أنا .. [من قصيدة : "الحلم والنور"].
بالتأمل في المفردات التي أتى بها الشاعر ابن العربي نجدها تارة تحن للماضي وتتحسر على ذاته التي فقدها هناك، وتارة تبين حاله الآني والتحسر على تلك الذات التي يحاول استردادها وغالبا لا يفلح. إن هذه الحسرة "الوجودية" ناشئة عن هذا الفشل، وهي حالة معرفية وجدانية تتضمن تقييمًا سلبيًا للذات ورد فعل انفعالي سلبي منه تجاه تصرفاته وسلوكياته في الماضي، ولإدراكه لندرة فرص الارتقاء التي يحملها المستقبل، فضلاً عن نقص القدرة على استثمارها حال وجودها، وتتضمن هذه الحالة مشاعر الحزن والخزي والذنب والضيق الانفعالي والاستياء من الذات عقب ارتكاب الشخص لتصرفات وسلوكيات ما كان يتعين عليه الإتيان بها أو عقب تفريطه في القيام بتصرفات وأفعال كان يتعين عليه الإتيان بها، كما يقول الدكتور محمد السعيد عبد الجواد، في دراسته عن "الحسرة الوجودية"، وهو ما ينثره الشاعر في أكثر من قصيدة:
فما بين كل حين وحين تساؤلات
إجاباتُها بين آهاتٍ مكتومة
بين حنايا نفسٍ مكلومة
أذهب إلى ماض يغمرني بالأسى .. [من قصيدة : "تمتمات نفس"]
نعم عباءتي فريدة
خيَّاطُها ومخيطُها قد بلتقيان
بهذا الزمان وذاك العابد
الساكن على جدران الطهر
أُلملِمُ شتاتَ التائهين
بين جدران كل المعابد
القابع بروحه صوامع العباد
لا يبغي إلا طهرًا في زمن الخطيئة
مرتديا قميص الرهبان .. [من قصيدة : "بكاء القصيدة"]
محوتُ ذنوبي .. جئتُ تائبا
مطهرًا من خطايا الزمان
كهلا .. خرائطه بلا حدود
عربد بعمره الزلل .. فضلَّ الوجود.. [من قصيدة : "صك الغفران"].
يقول مارتن هيدجر في كتابه "الوجود والزمان": (إن الآن الرئيسي في الزمن الوجودي هو المستقبل. إنه لا يتحرك من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، بل ينطلق من المستقبل عبر الماضي إلى الحاضر. إنه وهو يصل إلى المستقبل يرتد ثانيةً ليتمثل الماضي الذي صنع الحاضر).
يتعدد الزمن الماضي في تصور الشاعر ابن العربي؛ فتارة يكون هو الماضي الذي استلب منه براءته وقداسته وطهره، وهو كالروح التائهة التي تسعى لاسترداد ما فقده عبر خيباته وانكساراته وذوبانه في مرافئ الدنيا التي جابها ليل نهار.. إنه يشعر بالزمنين معًا: ماضيه والحاضر الذي يرى فيه جسر العودة لذاته السليبة، وأيامه الحبيبة ولهذا فهو يعود لجدلية الخطاب بين الأنا المتمردة على ذاته المرتكسة وبين الآخر المتمثل في ذاته المتناغمة مع ماضيه، أو في الصحب الذي يحيط به فيصرخ فيهم منتفضا:
دعوني أعود إلى صومعتي
روحي التائهةُ تعود
أتناول بيدي كتابي المقدس
أُزيل عنه غبار السنين
ويحلق في جوف الشاعر طائر يعشق الحق والفضيلة:
قديسٌ في ذاته يحمل مشعل النور
بين ترهات الماضي
وغموض الحاضر المعتم
يرجو العودة للحب والسلام
لذا فهو في سبيل استرداد ذاته من براثن الماضي مستسلما لحضن الحاضر الآمن:
أنا من العدم أتيت
حتى أصبحتُ كُلَّ الواقع
تراني أنا المكان والزمان
الماضي لا يقلقني كثيرا
لأن لي حاضرا
هاجر إليه زمني
الناسج خيوط الأمل من جديد
من جديد
لأكون الناسك في صومعة العبَّاد
تارة يحن ابن العربي إلى الزمن الماضي ـ المتعدد ـ الذي كان فيه طهره؛ فعنده ماضي من الطهر سبق ماضي المروق من الصومعة، وهو ما يصنع زمنا ملتبسا لدى القارئ؛ فهو يفر من ماضٍ ويفر أيضا إلى ماضٍ، وهو ما يعني أن استرداد الذات التي تعلم زمنها في الماضي لا تريد استرداد الزمن في ذاته، ذلك أن الزمن يعانق ذات الشاعر التي تسعى للملمة الشتات:
الحنينُ إليَّ يقتلني
لأعود أنا
فرحتي بدأت وانتهت من هنا
تساءلتُ ويتساءلونَ..
من أنا؟
أواه يا أنا.. أواه يا عذابي
الذي دنا .. [من قصيدة: "كالنورس"].
الشعر إذن يحقق غاية ذاتية نفسية ـ زيادة على الغايات الأخرى ـ وهي غاية منسجمة مع ذات الشاعر وتستجيب لطبيعة تكوينه النفسي الرافض، والطموح إلى الأفضل، وبين هذين "الواقعين" تتأزم الذات الشاعرة وتتكاثف في أعماقه الطاقة الوجدانية والشعورية مما يتطلب "تفجيراُ يعيدها إلى حالة الإتزان كما يرى عبدالله العسي في كتابه: "أسئلة الشعرية"، وهو عين ما فعله ابن العربي حين ارتحل عبر ذاكرته في محاولة لاسترداد الذات التي تقبع في الزمن الذي يتكثف داخل نصوص المجموعة ليشكل مكافئا من الحياة تساوي حياته الماضية كلها.
لقد شكلت الحسرة الوجودية بنيانا حاصر الشاعر ليس في ذاته فقط وإنما في تبنيه لقضايا ارتبطت بهويته وأمته وعقيدته، وأحس أن تلك الحسرة فد حاصرتهم جميعا، ولذا فهو يعمل على الفكاك منها بمواجهتها واستنهاض جوامع إرادته لكي ينتزع ذاته من مغبة الاتهامات الصارخة في أعماقه وجوانيته من قعوصه وتوليه عن الزحف المقدس في جهادها، وهو في محاولته لا يريد أن يخسر ذاته التي انفرطت بعض أيامها مع مسبحته، ولا يخسر عمره الدنيوي والأخروي أمام الله تعالى أيضا، وهي محاولة يعلم ابن العربي يقينا ـ وهو في هذه اللحظة يمثل قطاعا كبيرا من بني جنسه ـ أن المحاولة تلك قد لا تكون الأخيرة وقد لا تنجح:
أتوسل زمنا كنتُ فيه (أنا)
أشعر بذاتي
التي كانت..
عذرًا يا رفاق
فما عدتُ
أنا هو الذي كان.. [من قصيدة : "روح تائهة"].
لقد نجح الشاعر علي العربي أن يقدم قصيدة نثرية تستلهم الصراع الأبدي الدائم الدائر في ثنايا ذوات بني البشر بين الارتكاس في المادية بتموجاتها وتنوعاتها، وبين التطلع للإنسان الأقضل القابع في داخلهم، وهم يخنقونه تارة ويحاربهم تارات عديدة من أجل البزوغ والانتصار للقيم والبراءة، وهو ما يكشف عن ثقافة متنوعة جمعها الشاعر وصبها في سياقها الذي يتبنى قضية الإنسان في المفهوم العام، والإنسان العربي والمسلم قي قضاياه الوطنية والدينية فأجاد التحدث عنهم جميعا حتى وإن علت النبرة الخطابية ـ بعض الشئ ـ في غمرة دفاعه فانتصر للقضية ولو جنت قليلا على الشعرية، غير أن قصائده النثرية احتفظت بهمسها، وصورها الشعرية التي نسجها من مفردات متقاربة وتكرارية لتكرار مضمون النصوص، وتجزئة بعض القصائد وانفصالها، وكان الأفضل أن تأتي متتالية، وإن لم يؤثر هذا في جماليات المجموعة ككل، وضرورة الارتحال إلى عوالم جديدة في الدواوين القادمة.
يبدأ ابن العربي في الإعلان عن محنته الذاتية مع أول صفحة من أول قصيدة له بالديوان، تلك التي بدأ بها وتم بها تأسيس رحلة البحث ومحاولة استرداد الذات حتى أصبحت هي القصيدة المرجعية لبقية القصائد الأخرى التي تدور في نفس الأجواء، وكأنها تنويعات موسيقية تُعزَف على نفس اللحن، وقد قرر أن يعود لصومعته بأملٍ يفارقه التأكد، ويلازمه التمني الأقرب لحافة الشك في تحقق أمنيته، عندما عاد لصومعته التي غادرها خائر القوى، موهن العزم:
أعود بجسدي الواهن وقواي الخائرة
أترك مدن ترحالي
أعود بزماني
وليظل العابد في نفسي ويعود
فما عدتُ أنا هو أنا
قد أجدني .. قد أراني
سئمتُ خيانة المحبين
سئمتُ بشرًا ما أبغضني عندهم
وما أحبهم لدي
أتوسل زمنا كنتُ فيه (أنا)
أشعر بذاتي
التي كانت.. [من قصيدة : "روح تائهة"].
لا يقوم الحوار داخل أكثر القصائد بين (الأنا) و(الآخر)، بل بين (الأنا) و(الأنا)، وهو ما يوجب التفرقة بين (الذات الشاعرة) و(ذات الشاعر) ذلك أن الذات الشاعرة الحداثية ذات وجودية، عرضية حادثة، أو آنية، تمثل وضع الشاعر الآني (الآن – هنا) في فضاء الشعر أي وقد أخذ، الآن – هنا في التجربة يواجه بإمكاناته الشعرية وضعه خارج الشعر، يفكك بإمكانات اللغة – الإبداع الأنطولوجي، في العالم الواقعي أو الموضوعي، يعيد صياغة العالم، وصياغة علاقته بالعالم على نحو يحقق الولادة الممكنة له وللعالم. ولذلك فهذه الذات تتطابق إلى حد ما مع (الأنا) الشعرية، أو مع أنا الكاتب الضمني، كما يقول ذلك دكتور عبد الواسع الحميري في كتابه:"الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية".
لذا فعلاقة ابن العربي بذاته متصلة منفصلة، يبحث عنها، يرصدها، يحاول أن يجدها، وعندما يجدها يحاول استردادها بإعادتها للزمن الأول والمكان الأول، ولذا تكثر عبر قصائده عددًا من المفردات ومنها ما يتكرر عبر صياغات أخرى لا تلغي وجوده المتفاعل معها: (لعلني أجدني.. ليتني.. قد أراني ,, أراني .. يراني .. تراني.. أنا .. هو).
كما أنه يرتحل من اللحظة الآنية إلى اللحظة الماضية التي تمثل ذاته البريئة، العابدة، التي يجدها في: (صومعته، محرابه، جلبابه، مسبحته، مصباحه)، تلك هي الذات الأولى للشاعر التي يحن للقياها واشتهاء استعادتها، ويرى أنه لو ملكها سيملك زمنه الذي انفرط كحبات مسبحته، غير أن الشاعر متحير يرى أن ذاته التي يبحث عنها تسكنه، وأنها تمثل إنسانه الذي يراه أفضل منه، ولذا فهو يستبطن ذاته من أجل إفساح الساحة الكونية والوجودية لخروج هذا الأفضل منه، إلا أنه لا يجد في نفسه القوة الذاتية التي تعينه على الإمساك بتلك الذات التي تسكن أعماقه وتبحث هيَّ الأخرى عن بغيتها، أو تحاول أن تحثه هو للخروج من شرنقته، وهو يتعلل بأن هناك قوى خارجية تحول بينه وبين استرداد ذاته، وفي نفس الوقت يطلب المدد من تلك القوى لتعينه:
دعوني أعودُ إلى صومعتي
روحي التائهة تعود .. [من قصيدة : "روح تائهة"]
كم أحتاج لذراع قوية
تدفع إليِّ الأمل
بأن هناك شخصا
يغوص في أعماقي
بتوغل في حنايا ذاتي
يبحث في قاع محيطي .. [من قصيدة : "خلجات نفس"]
في جوفي طائرٌ محلق
يضرب بجناحيه أركاني
يرجو مني التحرر والخلاص
يقدُم على صلاةٍ جنائزية
على ذلك القابع في نفسي
الذي يظل بداخلي .. يُشبهُني
عيناي عيناه. ذراعي بداي
كلُ ما يحمله يقولُ أنا .. [من قصيدة : "الحلم والنور"].
بالتأمل في المفردات التي أتى بها الشاعر ابن العربي نجدها تارة تحن للماضي وتتحسر على ذاته التي فقدها هناك، وتارة تبين حاله الآني والتحسر على تلك الذات التي يحاول استردادها وغالبا لا يفلح. إن هذه الحسرة "الوجودية" ناشئة عن هذا الفشل، وهي حالة معرفية وجدانية تتضمن تقييمًا سلبيًا للذات ورد فعل انفعالي سلبي منه تجاه تصرفاته وسلوكياته في الماضي، ولإدراكه لندرة فرص الارتقاء التي يحملها المستقبل، فضلاً عن نقص القدرة على استثمارها حال وجودها، وتتضمن هذه الحالة مشاعر الحزن والخزي والذنب والضيق الانفعالي والاستياء من الذات عقب ارتكاب الشخص لتصرفات وسلوكيات ما كان يتعين عليه الإتيان بها أو عقب تفريطه في القيام بتصرفات وأفعال كان يتعين عليه الإتيان بها، كما يقول الدكتور محمد السعيد عبد الجواد، في دراسته عن "الحسرة الوجودية"، وهو ما ينثره الشاعر في أكثر من قصيدة:
فما بين كل حين وحين تساؤلات
إجاباتُها بين آهاتٍ مكتومة
بين حنايا نفسٍ مكلومة
أذهب إلى ماض يغمرني بالأسى .. [من قصيدة : "تمتمات نفس"]
نعم عباءتي فريدة
خيَّاطُها ومخيطُها قد بلتقيان
بهذا الزمان وذاك العابد
الساكن على جدران الطهر
أُلملِمُ شتاتَ التائهين
بين جدران كل المعابد
القابع بروحه صوامع العباد
لا يبغي إلا طهرًا في زمن الخطيئة
مرتديا قميص الرهبان .. [من قصيدة : "بكاء القصيدة"]
محوتُ ذنوبي .. جئتُ تائبا
مطهرًا من خطايا الزمان
كهلا .. خرائطه بلا حدود
عربد بعمره الزلل .. فضلَّ الوجود.. [من قصيدة : "صك الغفران"].
يقول مارتن هيدجر في كتابه "الوجود والزمان": (إن الآن الرئيسي في الزمن الوجودي هو المستقبل. إنه لا يتحرك من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، بل ينطلق من المستقبل عبر الماضي إلى الحاضر. إنه وهو يصل إلى المستقبل يرتد ثانيةً ليتمثل الماضي الذي صنع الحاضر).
يتعدد الزمن الماضي في تصور الشاعر ابن العربي؛ فتارة يكون هو الماضي الذي استلب منه براءته وقداسته وطهره، وهو كالروح التائهة التي تسعى لاسترداد ما فقده عبر خيباته وانكساراته وذوبانه في مرافئ الدنيا التي جابها ليل نهار.. إنه يشعر بالزمنين معًا: ماضيه والحاضر الذي يرى فيه جسر العودة لذاته السليبة، وأيامه الحبيبة ولهذا فهو يعود لجدلية الخطاب بين الأنا المتمردة على ذاته المرتكسة وبين الآخر المتمثل في ذاته المتناغمة مع ماضيه، أو في الصحب الذي يحيط به فيصرخ فيهم منتفضا:
دعوني أعود إلى صومعتي
روحي التائهةُ تعود
أتناول بيدي كتابي المقدس
أُزيل عنه غبار السنين
ويحلق في جوف الشاعر طائر يعشق الحق والفضيلة:
قديسٌ في ذاته يحمل مشعل النور
بين ترهات الماضي
وغموض الحاضر المعتم
يرجو العودة للحب والسلام
لذا فهو في سبيل استرداد ذاته من براثن الماضي مستسلما لحضن الحاضر الآمن:
أنا من العدم أتيت
حتى أصبحتُ كُلَّ الواقع
تراني أنا المكان والزمان
الماضي لا يقلقني كثيرا
لأن لي حاضرا
هاجر إليه زمني
الناسج خيوط الأمل من جديد
من جديد
لأكون الناسك في صومعة العبَّاد
تارة يحن ابن العربي إلى الزمن الماضي ـ المتعدد ـ الذي كان فيه طهره؛ فعنده ماضي من الطهر سبق ماضي المروق من الصومعة، وهو ما يصنع زمنا ملتبسا لدى القارئ؛ فهو يفر من ماضٍ ويفر أيضا إلى ماضٍ، وهو ما يعني أن استرداد الذات التي تعلم زمنها في الماضي لا تريد استرداد الزمن في ذاته، ذلك أن الزمن يعانق ذات الشاعر التي تسعى للملمة الشتات:
الحنينُ إليَّ يقتلني
لأعود أنا
فرحتي بدأت وانتهت من هنا
تساءلتُ ويتساءلونَ..
من أنا؟
أواه يا أنا.. أواه يا عذابي
الذي دنا .. [من قصيدة: "كالنورس"].
الشعر إذن يحقق غاية ذاتية نفسية ـ زيادة على الغايات الأخرى ـ وهي غاية منسجمة مع ذات الشاعر وتستجيب لطبيعة تكوينه النفسي الرافض، والطموح إلى الأفضل، وبين هذين "الواقعين" تتأزم الذات الشاعرة وتتكاثف في أعماقه الطاقة الوجدانية والشعورية مما يتطلب "تفجيراُ يعيدها إلى حالة الإتزان كما يرى عبدالله العسي في كتابه: "أسئلة الشعرية"، وهو عين ما فعله ابن العربي حين ارتحل عبر ذاكرته في محاولة لاسترداد الذات التي تقبع في الزمن الذي يتكثف داخل نصوص المجموعة ليشكل مكافئا من الحياة تساوي حياته الماضية كلها.
لقد شكلت الحسرة الوجودية بنيانا حاصر الشاعر ليس في ذاته فقط وإنما في تبنيه لقضايا ارتبطت بهويته وأمته وعقيدته، وأحس أن تلك الحسرة فد حاصرتهم جميعا، ولذا فهو يعمل على الفكاك منها بمواجهتها واستنهاض جوامع إرادته لكي ينتزع ذاته من مغبة الاتهامات الصارخة في أعماقه وجوانيته من قعوصه وتوليه عن الزحف المقدس في جهادها، وهو في محاولته لا يريد أن يخسر ذاته التي انفرطت بعض أيامها مع مسبحته، ولا يخسر عمره الدنيوي والأخروي أمام الله تعالى أيضا، وهي محاولة يعلم ابن العربي يقينا ـ وهو في هذه اللحظة يمثل قطاعا كبيرا من بني جنسه ـ أن المحاولة تلك قد لا تكون الأخيرة وقد لا تنجح:
أتوسل زمنا كنتُ فيه (أنا)
أشعر بذاتي
التي كانت..
عذرًا يا رفاق
فما عدتُ
أنا هو الذي كان.. [من قصيدة : "روح تائهة"].
لقد نجح الشاعر علي العربي أن يقدم قصيدة نثرية تستلهم الصراع الأبدي الدائم الدائر في ثنايا ذوات بني البشر بين الارتكاس في المادية بتموجاتها وتنوعاتها، وبين التطلع للإنسان الأقضل القابع في داخلهم، وهم يخنقونه تارة ويحاربهم تارات عديدة من أجل البزوغ والانتصار للقيم والبراءة، وهو ما يكشف عن ثقافة متنوعة جمعها الشاعر وصبها في سياقها الذي يتبنى قضية الإنسان في المفهوم العام، والإنسان العربي والمسلم قي قضاياه الوطنية والدينية فأجاد التحدث عنهم جميعا حتى وإن علت النبرة الخطابية ـ بعض الشئ ـ في غمرة دفاعه فانتصر للقضية ولو جنت قليلا على الشعرية، غير أن قصائده النثرية احتفظت بهمسها، وصورها الشعرية التي نسجها من مفردات متقاربة وتكرارية لتكرار مضمون النصوص، وتجزئة بعض القصائد وانفصالها، وكان الأفضل أن تأتي متتالية، وإن لم يؤثر هذا في جماليات المجموعة ككل، وضرورة الارتحال إلى عوالم جديدة في الدواوين القادمة.
