ينبغي أن نميز في معاني الشعر وصوره بين نوعين نسمي الأول التخيل والآخر التوهم فالتخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء التي ربما خفيت عن غيره ولكن يشترط في هذا النوع أن تكون الصلة متينة والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود أو أن يبين عن صلة غير متينة أنظر إلى قول أبي العلاء المعري في سهيل النجوم
ضرجته دماً سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان
أو قوله في هذه القصيدة أيضاً:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين ... علي ونجله شاهدان
فإن الصلة التي بين الشفق وبين دماء الشهيدين صلة توهم وكذلك الصورة التي في البيت الأول صورة توهم ثم أنظر إلى قول أبي العلاء:
كم قبلة لك في الضمائر لم أخف ... فيها العقاب لأنها لم تكتب
هذا مثال من أمثال التخيل الصريح فإن العاشق مغري بأن يليح لعينه بصورة حبيبته ثم يقبل تلك الصورة الخيالية فالصورة المودعة في هذا البيت صورة طبيعية يعرف صحتها كل من عالج الحب وانظر إلى قول الشريف الرضي:
ما للزمان رمي قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر
هذا أيضاً من التخيل الصريح فإن تفرق شمل القوم مثل تطاير أجزاء القدح المكسور وانظر إلى قول ابن المعتز في الشيب:
(هذا غبار وقائع الدهر)
فأن المشيب يأتي المرء من معالجة الأيام ومصارعتها كما أن الغبار تستثيره المصارعة والمناهضة.
ومن أمثال التوهم البديع قول أبي تمام في المش (فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب)
فإن الصلة التي بين المشيب والابتسام ولا سيما ابتسام الرأي والأدب صلة توهم ليس لها وجود ولكن هذا التوهم الحميد على أن الشاعر قد يجيء به غثاً إذا لم يكن له غير المغالاة حيلة وأحسن هذا التوهم أقربه إلى التخيل الصريح وأقبحه أقربه إلى أحلام المحموم وقد حببه إلى الشعراء مجاراتهم ذوق العامة في المغالاة فإن العامة لا تميز بين المغالاة التي تجوز والمغالاة التي لا تجوز.
قد يكون في الخيال كلفة كما يكون في التعبير صنعة وإنما تكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد وهو كاذب إذا قاربته غير أنه يشابه الخيال الصحيح الخيال السقيم إذا كان وجه التأليف بين الأشياء في الخيال الصحيح بعيداً ولكن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه التأليف صحيحاً وكانت الصلة متينة فإن ظهور الصلة لكل قارئ ليس دليلاً على متانتها فقد تكون الصلة ظاهرة ضعيفة وقد تكون غامضة سليمة وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل والعبقري بالمقلد فإن المتنبي أو شكسبير قد يولع باستخراج الصلة المتينة الغامضة التي بين شيئين يخال القارئ أن ليس بينهما صلة ولكن هذا المذهب غير مذهب الناظم الذي يولع بأن يوجد صلة سقيمة بين شيئين ليس بينهما صلة أو باستخراج صلة ضعيفة بين شيئين. أن ولوع الشاعر باستخراج الصلات المتينة الغامضة التي بين الأشياء دليل على أنه حر الذهن ولكن الشعراء المولعين بذلك غرض لسهام ذوي الأذهان المغلقة ونصب رميات أهل الغبارة ولكني لا أنكر أن الشاعر المولع بذلك قد يسلمه ولعه به إلى المغالاة المقبوحة واستخراج صلات التوهم وأبو تمام والمتنبي والمعري من هؤلاء الشعراء على أن العبقري يعرف بسيئاته أنه عبقري كما يعرف بحسناته لأن أكثر سيئاته أنه واسع الخيال كما أن أكثر حسناته سببها تلك السمعة.
مجلة البيان للبرقوقي - العدد 8
بتاريخ: 15 - 5 - 1912
ضرجته دماً سيوف الأعادي ... فبكت رحمة له الشعريان
أو قوله في هذه القصيدة أيضاً:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين ... علي ونجله شاهدان
فإن الصلة التي بين الشفق وبين دماء الشهيدين صلة توهم وكذلك الصورة التي في البيت الأول صورة توهم ثم أنظر إلى قول أبي العلاء:
كم قبلة لك في الضمائر لم أخف ... فيها العقاب لأنها لم تكتب
هذا مثال من أمثال التخيل الصريح فإن العاشق مغري بأن يليح لعينه بصورة حبيبته ثم يقبل تلك الصورة الخيالية فالصورة المودعة في هذا البيت صورة طبيعية يعرف صحتها كل من عالج الحب وانظر إلى قول الشريف الرضي:
ما للزمان رمي قومي فزعزعهم ... تطاير القعب لما صكه الحجر
هذا أيضاً من التخيل الصريح فإن تفرق شمل القوم مثل تطاير أجزاء القدح المكسور وانظر إلى قول ابن المعتز في الشيب:
(هذا غبار وقائع الدهر)
فأن المشيب يأتي المرء من معالجة الأيام ومصارعتها كما أن الغبار تستثيره المصارعة والمناهضة.
ومن أمثال التوهم البديع قول أبي تمام في المش (فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب)
فإن الصلة التي بين المشيب والابتسام ولا سيما ابتسام الرأي والأدب صلة توهم ليس لها وجود ولكن هذا التوهم الحميد على أن الشاعر قد يجيء به غثاً إذا لم يكن له غير المغالاة حيلة وأحسن هذا التوهم أقربه إلى التخيل الصريح وأقبحه أقربه إلى أحلام المحموم وقد حببه إلى الشعراء مجاراتهم ذوق العامة في المغالاة فإن العامة لا تميز بين المغالاة التي تجوز والمغالاة التي لا تجوز.
قد يكون في الخيال كلفة كما يكون في التعبير صنعة وإنما تكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد وهو كاذب إذا قاربته غير أنه يشابه الخيال الصحيح الخيال السقيم إذا كان وجه التأليف بين الأشياء في الخيال الصحيح بعيداً ولكن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه التأليف صحيحاً وكانت الصلة متينة فإن ظهور الصلة لكل قارئ ليس دليلاً على متانتها فقد تكون الصلة ظاهرة ضعيفة وقد تكون غامضة سليمة وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل والعبقري بالمقلد فإن المتنبي أو شكسبير قد يولع باستخراج الصلة المتينة الغامضة التي بين شيئين يخال القارئ أن ليس بينهما صلة ولكن هذا المذهب غير مذهب الناظم الذي يولع بأن يوجد صلة سقيمة بين شيئين ليس بينهما صلة أو باستخراج صلة ضعيفة بين شيئين. أن ولوع الشاعر باستخراج الصلات المتينة الغامضة التي بين الأشياء دليل على أنه حر الذهن ولكن الشعراء المولعين بذلك غرض لسهام ذوي الأذهان المغلقة ونصب رميات أهل الغبارة ولكني لا أنكر أن الشاعر المولع بذلك قد يسلمه ولعه به إلى المغالاة المقبوحة واستخراج صلات التوهم وأبو تمام والمتنبي والمعري من هؤلاء الشعراء على أن العبقري يعرف بسيئاته أنه عبقري كما يعرف بحسناته لأن أكثر سيئاته أنه واسع الخيال كما أن أكثر حسناته سببها تلك السمعة.
مجلة البيان للبرقوقي - العدد 8
بتاريخ: 15 - 5 - 1912