رياض بوبسيط - سؤال الذات وفلسفة الوجود في قصيدة أغنية التمثال الأخير لهارون عمري، بين الشكل والمضمون:

عرفت القصيدة الجزائرية المعاصرة كتابة نوعية وفنية، متفاوتة القيمة والجودة للذات وما يكتنفها من أسئلة فكرية وفلسفية ووجودية، وحتى الأسئلة الإيديولوجية، حيث أصبح النص الشعري مناجاة للذات ووصفا لمفاهيمها الحياتية والوجودية بطرق حداثية من حيث التشكيل اللغوي والدلالات أيضاً. ذلك أن النص الشعري مساءلة ومخاطبة للذات الكاتبة، وإنما ما يكتب من قصائد وأشعار هو تشكيل لمفاهيم الذات ومواقفها الفلسفية من الوجود، وتآملاتها في إيديولوجية إنسانية واجتماعية...، وبالتالي فالذات هنا تخاطب ذاتها وتكتبها متساءلة ومستفسرة لغوياً ورؤيويا بأسلوب تتجانس فيه التشكلات اللغوية والدلالات الفكرية العميقة.

وفي نص أغنية التمثال الأخير، كانت الذات متجلية دوما في كل مقطع على شكل سؤال يبحث عن تأويلات وإجابات لمفاهيم أراد النص كتابتها وجعلها بناء حورايا بين ذاتين، الذات الكاتبة وذات النص. فاعتمد في ذلك على شكل لغوي يعكس المعنى المراد تصويره طبقاً لما تراه الذات وتفكر فيه. فالتشكيل اللغوي لهذا النص انبثق من الدلالات التي تكتبها الذات وتخطها فيه أيضاً، فالفكرة فكرتها واللغة لغتها، وهما لبعضهما متممان، وبهما تكون التصورات والرؤى الشعرية تحفة أدبية من الدهشة والإبهار.

يقول عمري هارون في بداية النص:

كشيء ذائبٍ
وكالانفلات
وكالأحلام أولدُ من سباتي

أفكّر بالمجاز
وريح بالي تراودُ جمره
عن ذكرياتي

دخلت حضارة الشعراء شكًّا
فكنت يقينها
ماض وآت

في هذا المقطع تحديدا بدأت الذات تساءل ذاتها وتؤول وجودها، وكيف كان هذا الوجود الذي تقاربه بشيء يذوب وينفلت بسرعة كالأحلام التي تندثر في حين غفلة، كما أن فكرة الولادة حسبها تكون بعد سبات عميق ( مرحلة الجنين)، فالذات هنا ترى بأن المرحلة الأولى من الحياة تأتي بعد نوم عميق لتنفلت منا بسرعة دون أن نشعر، وهذا تصوير امتزج بالحكمة والواقعية لمرحلة الطفولة. لتأتي بعد ذلك مرحلة وجودية أخرى وهي مرحلة التفكير التي تكون صعبة جداً على الذات، فالتفكير عند الذات الكاتبة يكون وفي أحيان كثيرة مجازا ونسيجا من الخيال والغوص في الأحلام والأمنيات قبل أن تزعزع ذلك جمرة من الذكريات والواقع.

تستمر في هذا المقطع مراحل الحياة مع استمرار الذات في كتابة نفسها ووصف مفاهيم الوجود ومراحل الكينونة بالنسبة إليها، لتصل إلى مرحلة التخصص والتكوين، وذات النص هنا اختارت الشعر لتكون له يقينا بعد أن هددت حضارته رياح الشك والبهتان.

يقول الشاعر أيضاً:

أرى معناي تمثالا قديما
ترممه
عيون السائحاتِ

على كتفيّ
نقشٌ أبجديٌّ
مساميرًا تدق على رُفاة

أرى بلدي
أرى أضغاثَ حلمي
ولست أرى السنابل يابسات

جلست بقعر هذا الجبّ دهرًا
أعلم عتمةً معنى حياتي

وأطبخ فيه موسيقى
وشايا
تبّخر كلما احترقت ( نُتاتي )

ذات النص هنا استخدمت اللغة لتعبر عن ذاتها ومعانيها، دون تكثيف لغوي، وإنما كان التكثيف هنا دلاليا مليئا بالفكرة الموحية والدلالات الفياضة بالفسلفة والحكمة في تصوير الوجود وتشخيصه بلغة شعرية وصور بلاغية تقرب موقف ذات النص من هذا الوجود ونظرته إليه، أو كيف ترى هذه الذات نفسها وما هو الوجود بالنسبة إليها، وامتثالا لذلك فالذات هنا تمثال قديم والحياة عيون السائحات، الذات هنا بلد والحياة تفاؤل بأن لا تموت السنابل في حضن أحلامها، الذات هنا أيضا جب عميق، والحياة تأويل لهذه العتمة وبحث عن السعادة والموسيقى والحياة فيها. وبالتالي فهذا المقطع لا يبحث عن حياة متفائلة وإنما هو يبحث عن أن تكون ذات النص متفائلة دوما لتكون سعيدة، وهي فلسفه وجودية ترتبط بالأمل.

يقول أيضاً في مقطع آخر:

نحيلٌ كالسماءِ إذا أراها
بنوراما
وأعمقُ من صلاتي

إذا حدّقتَ في عيني ستلقى
تحطُّمَ ما ترى
من آلهات

ومشكاةً بلا زيتٍ أضاءتْ
وزيتونٍ
كثيفّ الأمنياتِ

ستلقى في سواد العين شيخا
تصوّفَ حدّ شيب الأغنيات

فراح يهيم بالأشياء
أعمى يفتّش عن بقايا المعجزات

كتابة الذات هنا تمثل لها لغة حزينة نوعاً ما، وكأن ذات النص انتقلت إلى مرحلة وجودية تكون فيها من جهة حزينة جدا إلى حد أصبحت فيه نحيلة كالسماء، فإن تأملت في عذابها رأيت حطاما من الألم يشبه تحطم الأوثان والآلهات، ومن جهة أخرى متصوفة زاهدة في الحياة تبحث عن ما تبقى من المعجزات. وهذا أيضا كتابة للذات بشكل يجانس المضمون والدلالة دون أن يحدث بينهما تفاوت أو تفاضل أثناء طرح هذه الرؤى الشعرية.

يقول في آخر النص:

لعِبتُ على دروب الشعر
مشْيًا
وكم راهنت
عن وجع الحفاة

لأني حينما أبكي عراقٌ
فهذا الكون يشرب
من فراتي

سئمت الوقتَ
طاحونًا لذاتي
لذلك صرت أغرق في الفواتِ

تعبتُ أكونُ
والتمثال باقٍ
ولا أنثى لتمنحني صفاتي

حسب هذا المقطع، وجود الذات واستقرارها واستمرار رغبتها في الوجود يكون دائما مرتبطاً بما تحب، وهو في هذا النص مرتبط بدروب الشعر التي تحسن ذات النص التلاعب بها، لكنها في مقابل ذلك تكون موجعة لمن جاءها حافياً.

لقد وفق هذا النص إلى حد بعيد في تأويل الذات وكتابة رؤاها الوجودية وفلسفتها في الحياة، معتمداً في ذلك على لغة توحي بقدرة هذا النص التحكم في شكله بما يساعد على قولبة الفكرة الموحية المليئة بالدلالات المختلفة من مقطع لآخر من جهة، والمتراصة فيما بينها كوحدة موضوعية تتماشى في سياق واحد، وعلى هذا الإعتبار لم يكن النص كتابة عشوائية للذات أو فضفضة وجدانية، بل كان تصويرا شعرياً واعيا لرؤية وجودية.





1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى