هادئٌ بحرُ غزةَ
ماءٌ وأشرعةٌ
زرقةٌ وصباحٌ عريضٌ
ونافذةٌ للنوارسِ أو جدولٌ في الوريدْ
هادئٌ بحر غزةَ
لي رغبةٌ: أن أرى وجهَ أُمي ومدرستي
وأن أقفَ الآنَ في الصفِّ طفلاً
وأُطلقَ في البرّ خيلَ النشيدْ
وبي رغبةٌ
أن أمرّ على وردةٍ في الجوارِ
أُسرُّ لها أن أرضَ المخيمِ حقلٌ
وهذا الرحيلُ البعيدْ
لستُ أمضي إلى الموتِ مبتسماً
بينَ هذي الرصاصةِ والشمسِ أرفعُ أُغنيةً
رايةً للحياةْ
أُحبُّ الصغارَ كثيراً
وإن لمْ أكنْ ذاتَ يومٍ هناكَ صغيراً يلاحقُ سرّ الأعاصيرِ
والموجِ حينَ تثورُ المياهْ
كلُّ أسئلتي انتشرتْ فيّ موجاً
فقدْ يبسَ الغصنُ
لكنّ أسئلتي اكتملتْ
واستوتْ برتقالاً
وأغنيتي تعرفُ الدربَ للحبِّ
تعجبُ؟ لا بأسَ
لكنني أعرفُ البحرَ منذُ صباه
طاعنٌ في الزغاريد والعرسِ.. والشمسِ..
هذا أنا وجبينٌ إلهْ
لا أقول لكَ الآنَ إني سأمضي إلى الموتِ
لا أعشق الموتَ لكنه سُلَّمي للحياةْ
***
هادئٌ بحرُ غزةَ
هذا الصباحُ أليفٌ وأطيبُ مما شربناهُ
لا وردَ في الطرقاتِ أجلْ
ولكنّ وردتَنا الأغنياتْ
وهنا باعةُ السمكِ.. الطالباتُ..
الحوانيتُ.. آخرُ فصل الشتاءْ
صِبْيَةٌ يحبسونَ النوارس في الدفترِ المدرسيِّ
ويندفعونَ طيوراً إلى الماءْ
فأسٌ على كتفٍ.. عنبٌ في الشفاهِ.. وأشرعةٌ..
حين تعلو... ستسألُ
هل أبصرُ الآنَ أشرعةً أم سماءْ؟
حناجرُ مُخْضَرَّةٌ.. وخضارٌ..
حقولٌ تجيءُ إلى السوقِ ناضجةً بالغناءْ
هادئٌ بحرُ غزةَ
هذي البيوتُ التي تسكنُ الروحَ تشبهني
خطوةُ الضوءِ..ألفتُهُ
وضجيجُ المحطاتِ..يشبهني
غيمةٌ تحملُ الأرضَ حتى النجومِ..
وبيارةُ البرتقالِ.. الحدائقُ..شبهني
حزنُ جدي.. حكاياتُهُ..ويداهُ ..
عروقُ أبي..وجهُ أمي الحبيبُ...
خيولُ المعاركِ..شبهني
جارتي..جارُنا
طفلُهما حينما اختطفتْهُ الرصاصةُ من عندليبِ البراءةِ
أُبصرهُ كلّ يومٍ على بابِ مدرسةٍ
عابراً زمني وهو يشبهني
كلُّ ما يتجمَّعُ حولي وفيَّ
سمائي التي ظلَّلتْ وطني
***
لا أقولُ مع القائلينَ إذا ما أتتني الرصاصةُ
وانفجرتْ في الصباحِ شظاياً
وفي بدني:
ليسَ هذا الذي يعبر الدربَ يومي.. ولا زمني
ولكنني
ربما كنتُ أحملُ كُتْبي وأمضي إلى المدرسةْ
وأنتظرُ الباصَ في ضحكةِ المرأة المشمسةْ
ربما كنتُ أمضي إلى البحرِ
أخلعُ هذي الثيابَ
وأمضي إلى الماءِ طفلاً
على كتفي تتضاحكُ أو تصرخُ اليابسةْ
ربما كنتُ أصطادُ بعضَ السمكْ
وأعدوا إلى البرّ
ثم أقول لقطتنا ها هنا انتصبي وقفي حارسهْ!
ثم أرجعُ ثانيةً للمياهِ
فتمسكني من يدي سمكهْ
وتحملني عنوة وهي تضحكُ:
ها قدْ تأخرتَ
هيا بنا أيها الولدُ الساحليُّ المشاغبُ للمدرسةْ
ربما.. ربما
***
حينما يصبحُ الجندُ أكثرَ من شرفاتِ المنازلِ والياسمينْ
وأبوابِ غزّةْ
حينما يُصبحُ السجنُ في لحظةٍ مدناً
أين تعلو نوارسُ غزهْ
حينما يصبحُ الموتُ فاتحةً للغيومِ.. السهولِ..
وأنوار غزةْ
يخرجُ الحبُّ نحوَ الشوارعِ يُشعلُ أقمارَ غزةْ
***
صباحٌ لأحلى الشبابْ
لغزةَ هاشمْ
للفجرِ يأتي عريضاً ويكبُرُ كالسنديانِ بهذا الترابْ
صباح لأعراسنا العالياتِ كظهر الحصانْ
صباحٌ لعصفورةٍ دَرَجتْ
ـ قبلَ أن تُشرقَ الشمسُ ـ فوقَ القبابْ
صباح صباحٌ لأحلى الشباب
(لجيفارا)
لم يزلْ يانعاً في عيون الصبايا
ومستسلماً لغناءِ البلابلِ.. مُحتفلاً بنجومِ الدماءْ
ولما يزلْ في الشوارعِ يمضي غزالاً
ويمحو خطى الجندِ ـ بالدّم ـ فوقَ الرمالْ
ويأتي إلى البحرِ كلّ مساءٍ نبياً
وقامتُهُ السَّروُ والاحتفالْ
غامضاً كابتسامةِ طفلٍ
فسيحاً كبيارةٍ وسؤالٍ
ومثلَ أكفّ رعاةِ الجبالْ
كلُّ هذي البنادق تحرسُ حُلْمي
وهذي الصدورُ تعانقُ فيّ الميادينَ والناسَ؟
تلكَ أغانيّ شمسٌ
ولمْ تكن الشمسُ ظلاً
لأنمو هنالكَ بينَ الظلالْ
مجدُنا أننا حينَ نمضي إلى البحرِ
تتبعنا الخيلُ الطرقاتُ أحلى الرجالْ
***
هادئٌ بحرُ غزةَ
هلْ جهّزتْ أُمُّكَ الزادَ
نصفَ رغيفِ.. وعشرينَ زيتونةً.. برتقالهْ
فالطريقُ طويلٌ إلى (عسقلان)
ركضتْ تحتَ سقفينِ..
دارتْ هنالكَ في الحوشِ..
سبعونَ عاماً..
ولما تزلْ طفلةً كغزالهْ!!
قُلتُ يا أُمُّ: ها عسقلانُ هنا
وهي أقرب من بابنا
ـ لا عليكَ إذن لا عليكْ
واسمع الآنَ ما سأقول:
إذا كَـثُرَ الجنُدُ كنْ يا صغيري قوياً
وكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ
ومثل حليبـي الذي جف من زمنٍ .. طيباً
ولا ترتبكْ
إن قلبي معكْ
وخبئ سلاحكَ
لا شيء أجمل منكَ سوى وردةٍ زَيّنَتْ مدفعَكْ
لا تطلق النارَ يا ولدي باتجاه الشجرْ
فهي أشجارُنا
وإذ تطلق النارَ حاذرْ إذن أن تصيبَ صغيراً
فأنكَ ما زلتَ في عين أُمكَ تعدو على طرقاتِ الصِّـغرْ
ربما غيّرتكَ الحروبُ..أجلْ
ولكنني أذكرُ الآنَ انك لم تكُ يوماً تحبُّ الدماءَ
وكسّرتَ مدفعكَ الخشبيّ مراراً هنا...أو هنا
فوقَ هذا الحجرْ
وكنتَ صديقَ البراعمِ
حتى إذا ما أتى الصيفُ صرت حبيبَ الثمرْ
أرضُ غزةَ يا ولدي وجهُنا
ومن طينها ندهنُ الخدَّ كي يتوردَ يا ولدي
ونباهي القمر
هل تجهزتَ؟
آهِ.. تقولُ تأخرتَ
لا تتأخرْ كثيراً عليّ
سأعجنُ.. أغسلُ صحنَ العجينِ وبعضَ الثيابِ..
ـ ثيابَكَ ـ
أخبزُ يا ولدي..مثلَ كلّ نهارٍ
وحينَ يجيءُ المساءُ
سأتركُ قلبي على عتبةِ الدارِ عيناً
وأُغنيةً تنتظرْ
فكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ
ومثلَ حليبـي الذي جفّ من زمنٍ..طيباً
ولا ترتبكْ
إن قلبي معكْ
***
.. في هذه اللحظةِ النائيةْ
ستغافلُ أحزانكَ الغامضةْ
وستفتحُ نافذةً في الضلوعِ
وترفعُ أمنيةً ـ ساريةْ
أن يكونَ الهواءُ هواءَكَ
والبحرُ بحرَكَ
والشارعُ العربيُّ امتدادَكْ
وقد تحلمُ الآنَ أكثرَ أكثرَ
فليكن الموتُ موتَكَ والعشقُ سقفَكَ
والشمسُ قبضتكَ العاليةْ
في هذه اللحظةِ النائيةْ
سوف تدعو النوارسَ و( الهيلاهيلا )
وتغرقُ في نجمةٍ صافيةْ
أزهرَ اللوز..
وابتعدت خطواتُ الضبابْ
وأطلقَ نَسرُ الهضابِ البعيدةِ صرختَهُ نخلةً عاليةْ
وفي البالِ مرّتْ سطوحٌ.. جروحٌ..
منازلُ مجدٍ غدتْ خاويةْ
سنرفعها حجراً حجراً
طفلةً طفلةً.. ونشيداً نهراً
وأغنيةً تلدُ الساقيةْ:
اصعدي درجَ البيتِ يا سيّدَةْ
وإن عطش الزهرُ في شرفاتكِ
نأتي .. نمدُّ لكِ الأوردةْ
***
دائماً يحملونكَ للموتِ
هم ينثرونَ المذابحَ
هم يزرعونَ السجونْ
وهم يرفعونَ الطغاةَ
وهم يقطعونَ الغصونْ
ووجهتُكَ اليومَ بحرٌ.. وضوءٌ..
وموجٌ على صدر غزةَ لا ينحني.. لا يخونْ
فلا تبتئسْ
أنتَ ما كنتَ إلا لتبقى النقيضَ
لهذا السكونْ
فانفجرْ
وانفجرْ
وكنْ في صقيعِ التعقُّلِ عاصفةً وجنونْ
***
من يُحددْ
إذنْ
شكلَ هذا الحوارْ
من يحددْ
إذن.. لونَ هذي الخديعةِ
وجَه التناقضِ بين حبالِ الغسيل وبينَ حبالِ المشانقِ
متعبةٌ في عروقي الإجابةُ والأسئلةْ
ومتعبةٌ لغتي السائلةْ
دائماً كنتَ أطيبَ مما أردتَ
كعصفورةٍ ورثتْ مجزرةْ
كنقشٍ على منـزلٍ يتطايرُ في الديناميتْ
كعُرسٍ تُغيرُ عليهِ العواصمُ
أو زنبقٍ طحنتْهُ القذائفُ والثرثرةْ
من يحددْ
إذن .. شكلَ هذا الحوارْ
لماذا تحاولُ منذ ثلاثينَ عاماً .. تحاولُ
ألاّ تكونَ فتىً طيباً ..
ثم تخفقُ يا صاحبي أن تكونْ ..
كأنّ العصافيرَ .. والنبعَ في أسفلِ السفحِ .. نجمَ الصباحِ ..
هدوءَ الحقيقةِ والشهداءِ .. وقوسَ قزحْ
كلّها سكنتْكَ وشكّلَتِ الروحَ فيكَ
فكنتَ طفولةَ هذي المدائنِ
من عسقلانَ إلى نخلِ غزَة
حتى مشارفِ أرضِ رفحْ
طيبٌ أنتَ
حتى لتبدو كأنكَ طائرُ (فِرٍّ )
تحزُّ السكاكينُ رقْبتَهُ منذُ عشرينَ عاماً
ثلاثين عاماً .. ولكنّه ما انذبحْ
هل تفتشُ في هذه اللحظةِ النائيةْ
عن خوذةٍ تشبهُ العندليبْ
وعن طلقةٍ لم تحالف صليب
انتبهْ
كلّ من حولكَ امتشقوا حقدَهمْ
لن تكونَ الضحيةَ
لا لنْ تكونْ
انتبه جيداً أيهذا الفتى
واسمع الآنَ غزةَ .. ماذا تقولْ
حينَ تأتي إليكَ لتمضي معكْ :
يا هواءَ النوافذْ
يا سليلَ الهديلْ
المحاربُ يمضي إلى الحربِ لا للحروبِ
ولكنْ، ليمحو خطى الموتِ عن عتباتِ المنازلِ
في ليلةٍ من دَمٍ حالكةْ
والمزارعُ يمضي إلى حقلهِ
لا ليجرحَ أرضاً بفأسٍ ولكنْ
لتغدو المياهُ وريداً
وتتبعه في المساءِ إلى بيتهِ ليلكهْ
فكن يقظاً كالظباء انتبه
أنتَ تمضي إلى الضوءِ
لا ترتدِ الآنَ يا ولدي هذيانَ الفراشةِ
كنْ هادئاً مثلَ صقرٍ عتيقْ
لا كعصفورةِ السهلِ في الشبكةْ
وانتبهْ جيداً
قد زرعتَ الشجرْ..
فانتظر هادئاً فالحياةُ الثمرْ
أوصيكَ يا ولدي دائماً:
حين تمتدّ أرضُ السواحل عاريةً
أو يكثرُ الجندُ حولكَ
كنْ في امتدادِ السهولِ جبلْ
وكنْ أنت دولتكَ العاليةْ
حين تسقطُ خلفكَ كلّ الدّولْ
1984
ماءٌ وأشرعةٌ
زرقةٌ وصباحٌ عريضٌ
ونافذةٌ للنوارسِ أو جدولٌ في الوريدْ
هادئٌ بحر غزةَ
لي رغبةٌ: أن أرى وجهَ أُمي ومدرستي
وأن أقفَ الآنَ في الصفِّ طفلاً
وأُطلقَ في البرّ خيلَ النشيدْ
وبي رغبةٌ
أن أمرّ على وردةٍ في الجوارِ
أُسرُّ لها أن أرضَ المخيمِ حقلٌ
وهذا الرحيلُ البعيدْ
لستُ أمضي إلى الموتِ مبتسماً
بينَ هذي الرصاصةِ والشمسِ أرفعُ أُغنيةً
رايةً للحياةْ
أُحبُّ الصغارَ كثيراً
وإن لمْ أكنْ ذاتَ يومٍ هناكَ صغيراً يلاحقُ سرّ الأعاصيرِ
والموجِ حينَ تثورُ المياهْ
كلُّ أسئلتي انتشرتْ فيّ موجاً
فقدْ يبسَ الغصنُ
لكنّ أسئلتي اكتملتْ
واستوتْ برتقالاً
وأغنيتي تعرفُ الدربَ للحبِّ
تعجبُ؟ لا بأسَ
لكنني أعرفُ البحرَ منذُ صباه
طاعنٌ في الزغاريد والعرسِ.. والشمسِ..
هذا أنا وجبينٌ إلهْ
لا أقول لكَ الآنَ إني سأمضي إلى الموتِ
لا أعشق الموتَ لكنه سُلَّمي للحياةْ
***
هادئٌ بحرُ غزةَ
هذا الصباحُ أليفٌ وأطيبُ مما شربناهُ
لا وردَ في الطرقاتِ أجلْ
ولكنّ وردتَنا الأغنياتْ
وهنا باعةُ السمكِ.. الطالباتُ..
الحوانيتُ.. آخرُ فصل الشتاءْ
صِبْيَةٌ يحبسونَ النوارس في الدفترِ المدرسيِّ
ويندفعونَ طيوراً إلى الماءْ
فأسٌ على كتفٍ.. عنبٌ في الشفاهِ.. وأشرعةٌ..
حين تعلو... ستسألُ
هل أبصرُ الآنَ أشرعةً أم سماءْ؟
حناجرُ مُخْضَرَّةٌ.. وخضارٌ..
حقولٌ تجيءُ إلى السوقِ ناضجةً بالغناءْ
هادئٌ بحرُ غزةَ
هذي البيوتُ التي تسكنُ الروحَ تشبهني
خطوةُ الضوءِ..ألفتُهُ
وضجيجُ المحطاتِ..يشبهني
غيمةٌ تحملُ الأرضَ حتى النجومِ..
وبيارةُ البرتقالِ.. الحدائقُ..شبهني
حزنُ جدي.. حكاياتُهُ..ويداهُ ..
عروقُ أبي..وجهُ أمي الحبيبُ...
خيولُ المعاركِ..شبهني
جارتي..جارُنا
طفلُهما حينما اختطفتْهُ الرصاصةُ من عندليبِ البراءةِ
أُبصرهُ كلّ يومٍ على بابِ مدرسةٍ
عابراً زمني وهو يشبهني
كلُّ ما يتجمَّعُ حولي وفيَّ
سمائي التي ظلَّلتْ وطني
***
لا أقولُ مع القائلينَ إذا ما أتتني الرصاصةُ
وانفجرتْ في الصباحِ شظاياً
وفي بدني:
ليسَ هذا الذي يعبر الدربَ يومي.. ولا زمني
ولكنني
ربما كنتُ أحملُ كُتْبي وأمضي إلى المدرسةْ
وأنتظرُ الباصَ في ضحكةِ المرأة المشمسةْ
ربما كنتُ أمضي إلى البحرِ
أخلعُ هذي الثيابَ
وأمضي إلى الماءِ طفلاً
على كتفي تتضاحكُ أو تصرخُ اليابسةْ
ربما كنتُ أصطادُ بعضَ السمكْ
وأعدوا إلى البرّ
ثم أقول لقطتنا ها هنا انتصبي وقفي حارسهْ!
ثم أرجعُ ثانيةً للمياهِ
فتمسكني من يدي سمكهْ
وتحملني عنوة وهي تضحكُ:
ها قدْ تأخرتَ
هيا بنا أيها الولدُ الساحليُّ المشاغبُ للمدرسةْ
ربما.. ربما
***
حينما يصبحُ الجندُ أكثرَ من شرفاتِ المنازلِ والياسمينْ
وأبوابِ غزّةْ
حينما يُصبحُ السجنُ في لحظةٍ مدناً
أين تعلو نوارسُ غزهْ
حينما يصبحُ الموتُ فاتحةً للغيومِ.. السهولِ..
وأنوار غزةْ
يخرجُ الحبُّ نحوَ الشوارعِ يُشعلُ أقمارَ غزةْ
***
صباحٌ لأحلى الشبابْ
لغزةَ هاشمْ
للفجرِ يأتي عريضاً ويكبُرُ كالسنديانِ بهذا الترابْ
صباح لأعراسنا العالياتِ كظهر الحصانْ
صباحٌ لعصفورةٍ دَرَجتْ
ـ قبلَ أن تُشرقَ الشمسُ ـ فوقَ القبابْ
صباح صباحٌ لأحلى الشباب
(لجيفارا)
لم يزلْ يانعاً في عيون الصبايا
ومستسلماً لغناءِ البلابلِ.. مُحتفلاً بنجومِ الدماءْ
ولما يزلْ في الشوارعِ يمضي غزالاً
ويمحو خطى الجندِ ـ بالدّم ـ فوقَ الرمالْ
ويأتي إلى البحرِ كلّ مساءٍ نبياً
وقامتُهُ السَّروُ والاحتفالْ
غامضاً كابتسامةِ طفلٍ
فسيحاً كبيارةٍ وسؤالٍ
ومثلَ أكفّ رعاةِ الجبالْ
كلُّ هذي البنادق تحرسُ حُلْمي
وهذي الصدورُ تعانقُ فيّ الميادينَ والناسَ؟
تلكَ أغانيّ شمسٌ
ولمْ تكن الشمسُ ظلاً
لأنمو هنالكَ بينَ الظلالْ
مجدُنا أننا حينَ نمضي إلى البحرِ
تتبعنا الخيلُ الطرقاتُ أحلى الرجالْ
***
هادئٌ بحرُ غزةَ
هلْ جهّزتْ أُمُّكَ الزادَ
نصفَ رغيفِ.. وعشرينَ زيتونةً.. برتقالهْ
فالطريقُ طويلٌ إلى (عسقلان)
ركضتْ تحتَ سقفينِ..
دارتْ هنالكَ في الحوشِ..
سبعونَ عاماً..
ولما تزلْ طفلةً كغزالهْ!!
قُلتُ يا أُمُّ: ها عسقلانُ هنا
وهي أقرب من بابنا
ـ لا عليكَ إذن لا عليكْ
واسمع الآنَ ما سأقول:
إذا كَـثُرَ الجنُدُ كنْ يا صغيري قوياً
وكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ
ومثل حليبـي الذي جف من زمنٍ .. طيباً
ولا ترتبكْ
إن قلبي معكْ
وخبئ سلاحكَ
لا شيء أجمل منكَ سوى وردةٍ زَيّنَتْ مدفعَكْ
لا تطلق النارَ يا ولدي باتجاه الشجرْ
فهي أشجارُنا
وإذ تطلق النارَ حاذرْ إذن أن تصيبَ صغيراً
فأنكَ ما زلتَ في عين أُمكَ تعدو على طرقاتِ الصِّـغرْ
ربما غيّرتكَ الحروبُ..أجلْ
ولكنني أذكرُ الآنَ انك لم تكُ يوماً تحبُّ الدماءَ
وكسّرتَ مدفعكَ الخشبيّ مراراً هنا...أو هنا
فوقَ هذا الحجرْ
وكنتَ صديقَ البراعمِ
حتى إذا ما أتى الصيفُ صرت حبيبَ الثمرْ
أرضُ غزةَ يا ولدي وجهُنا
ومن طينها ندهنُ الخدَّ كي يتوردَ يا ولدي
ونباهي القمر
هل تجهزتَ؟
آهِ.. تقولُ تأخرتَ
لا تتأخرْ كثيراً عليّ
سأعجنُ.. أغسلُ صحنَ العجينِ وبعضَ الثيابِ..
ـ ثيابَكَ ـ
أخبزُ يا ولدي..مثلَ كلّ نهارٍ
وحينَ يجيءُ المساءُ
سأتركُ قلبي على عتبةِ الدارِ عيناً
وأُغنيةً تنتظرْ
فكنْ مثلَ نهدي الذي أرضعكْ
ومثلَ حليبـي الذي جفّ من زمنٍ..طيباً
ولا ترتبكْ
إن قلبي معكْ
***
.. في هذه اللحظةِ النائيةْ
ستغافلُ أحزانكَ الغامضةْ
وستفتحُ نافذةً في الضلوعِ
وترفعُ أمنيةً ـ ساريةْ
أن يكونَ الهواءُ هواءَكَ
والبحرُ بحرَكَ
والشارعُ العربيُّ امتدادَكْ
وقد تحلمُ الآنَ أكثرَ أكثرَ
فليكن الموتُ موتَكَ والعشقُ سقفَكَ
والشمسُ قبضتكَ العاليةْ
في هذه اللحظةِ النائيةْ
سوف تدعو النوارسَ و( الهيلاهيلا )
وتغرقُ في نجمةٍ صافيةْ
أزهرَ اللوز..
وابتعدت خطواتُ الضبابْ
وأطلقَ نَسرُ الهضابِ البعيدةِ صرختَهُ نخلةً عاليةْ
وفي البالِ مرّتْ سطوحٌ.. جروحٌ..
منازلُ مجدٍ غدتْ خاويةْ
سنرفعها حجراً حجراً
طفلةً طفلةً.. ونشيداً نهراً
وأغنيةً تلدُ الساقيةْ:
اصعدي درجَ البيتِ يا سيّدَةْ
وإن عطش الزهرُ في شرفاتكِ
نأتي .. نمدُّ لكِ الأوردةْ
***
دائماً يحملونكَ للموتِ
هم ينثرونَ المذابحَ
هم يزرعونَ السجونْ
وهم يرفعونَ الطغاةَ
وهم يقطعونَ الغصونْ
ووجهتُكَ اليومَ بحرٌ.. وضوءٌ..
وموجٌ على صدر غزةَ لا ينحني.. لا يخونْ
فلا تبتئسْ
أنتَ ما كنتَ إلا لتبقى النقيضَ
لهذا السكونْ
فانفجرْ
وانفجرْ
وكنْ في صقيعِ التعقُّلِ عاصفةً وجنونْ
***
من يُحددْ
إذنْ
شكلَ هذا الحوارْ
من يحددْ
إذن.. لونَ هذي الخديعةِ
وجَه التناقضِ بين حبالِ الغسيل وبينَ حبالِ المشانقِ
متعبةٌ في عروقي الإجابةُ والأسئلةْ
ومتعبةٌ لغتي السائلةْ
دائماً كنتَ أطيبَ مما أردتَ
كعصفورةٍ ورثتْ مجزرةْ
كنقشٍ على منـزلٍ يتطايرُ في الديناميتْ
كعُرسٍ تُغيرُ عليهِ العواصمُ
أو زنبقٍ طحنتْهُ القذائفُ والثرثرةْ
من يحددْ
إذن .. شكلَ هذا الحوارْ
لماذا تحاولُ منذ ثلاثينَ عاماً .. تحاولُ
ألاّ تكونَ فتىً طيباً ..
ثم تخفقُ يا صاحبي أن تكونْ ..
كأنّ العصافيرَ .. والنبعَ في أسفلِ السفحِ .. نجمَ الصباحِ ..
هدوءَ الحقيقةِ والشهداءِ .. وقوسَ قزحْ
كلّها سكنتْكَ وشكّلَتِ الروحَ فيكَ
فكنتَ طفولةَ هذي المدائنِ
من عسقلانَ إلى نخلِ غزَة
حتى مشارفِ أرضِ رفحْ
طيبٌ أنتَ
حتى لتبدو كأنكَ طائرُ (فِرٍّ )
تحزُّ السكاكينُ رقْبتَهُ منذُ عشرينَ عاماً
ثلاثين عاماً .. ولكنّه ما انذبحْ
هل تفتشُ في هذه اللحظةِ النائيةْ
عن خوذةٍ تشبهُ العندليبْ
وعن طلقةٍ لم تحالف صليب
انتبهْ
كلّ من حولكَ امتشقوا حقدَهمْ
لن تكونَ الضحيةَ
لا لنْ تكونْ
انتبه جيداً أيهذا الفتى
واسمع الآنَ غزةَ .. ماذا تقولْ
حينَ تأتي إليكَ لتمضي معكْ :
يا هواءَ النوافذْ
يا سليلَ الهديلْ
المحاربُ يمضي إلى الحربِ لا للحروبِ
ولكنْ، ليمحو خطى الموتِ عن عتباتِ المنازلِ
في ليلةٍ من دَمٍ حالكةْ
والمزارعُ يمضي إلى حقلهِ
لا ليجرحَ أرضاً بفأسٍ ولكنْ
لتغدو المياهُ وريداً
وتتبعه في المساءِ إلى بيتهِ ليلكهْ
فكن يقظاً كالظباء انتبه
أنتَ تمضي إلى الضوءِ
لا ترتدِ الآنَ يا ولدي هذيانَ الفراشةِ
كنْ هادئاً مثلَ صقرٍ عتيقْ
لا كعصفورةِ السهلِ في الشبكةْ
وانتبهْ جيداً
قد زرعتَ الشجرْ..
فانتظر هادئاً فالحياةُ الثمرْ
أوصيكَ يا ولدي دائماً:
حين تمتدّ أرضُ السواحل عاريةً
أو يكثرُ الجندُ حولكَ
كنْ في امتدادِ السهولِ جبلْ
وكنْ أنت دولتكَ العاليةْ
حين تسقطُ خلفكَ كلّ الدّولْ
1984
