لم يكد الأديب نشأت المصري يضع قلمه عن روايته ( بونابرته ) ، بعد أن خط آخر سطورها ، بمغادرة نابليون إلى فرنسا في أغسطس 1799م ، مخلفًا وراءه احتلالًا - بقيادة ( كليبر) - يئن تحت وطأته المصريون بتجرع أشد ألوان التنكيل والهوان ، حتى اندلعت ثورة المقاومة الفلسطينية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر 2023م . وحين أخذتُ في قراءة الرواية ، أجيل عيني بين السطور، ما عدت أدري هل أنا أقرأ عن مرحلة تاريخية انتهت مع انقشاع الاحتلال الفرنسي عن مصر، أم أني أتابع أحداث الحاضر الدامية ؟ ! فصار داخلي مزيج عجيب يربط الحاضر بالماضي ، في صور متناسخة ومتطابقة من الاحتلال ، الذي لا يتغير عبر الأزمان . لم يكن هذا الاتفاق والتشابه ضربًا من الاستشفاف لدى الكاتب في التنبؤ بما سيحدث ، لكن فيما يبدو أن الكاتب لم يقنع بزوال الاحتلال عن بلادنا بعد ، أو أنه يرى - في أحسن الحالات - أننا مرشحون و بقوة لتلقي ضربات من الاحتلال مرة بعد أخرى ، إذا ما كانت أسبابه وعوامل وجوده واتساعه لا تزال باقية لدينا .
والمحتل وفق ما تجسده الرواية ، هو المتجبر المستقوي بتقدمه العلمي وتفوقه العسكري والحربي ، ومن ثم فهو يحوز مقومات السطوة والهيمنة وفرض وجوده على الآخر، الآخر الضعيف بجهله وعزوفه عن مواكبة التطور واللحاق بصفوف الدول العظمى ، واكتفائه بدور التابع المتفرج المندهش بتقدم المستقوي .
أضع الرواية جانبًا لأرى استقواء الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي وأروبي ، وهى قوى عظمى ، مكنتهم من احتلال أرض فلسطين منذ عام 1948م ، فاستوطنوها عنوة ، حتى إذا ما ثارت المقاومة رافضة ذل الاحتلال وقهره فيما سمي ( طوفان الأقصى) ، نجدهم يحاصرون غزة ويعزلونها عن مقومات الحياة الأساسية ، ثم يمطرونهم بصواريخ وقذائق تحيلهم إلى شهداء بالآلاف ، وسط صمت وضعف وخنوع عربي . ثم أعود إلى الرواية لأجد جنود نابليون تتوغل داخل الأسكندرية والقاهرة ، تقتحم البيوت والشوارع ، وتدخل في معارك مع الأهالي ، الذين يتصفون بالشجاعة وروح الفداء والمقاومة ، لكنهم لا يملكون إلا أبسط أدوات الدفاع . " في تحرك لولبي حذر اقتحموا البيت، تصدى لهم أهل البيت بالخناجر، وبعض الشابات استعن بسكاكين المطبخ الكبيرة، وشكلوا صفًا ثانيًا خلف الشباب، ومن أركان الغرف انطلق صراخ الأطفال معلنًا عن هلعهم، وفي وقت واحد تدفقت طلقات رصاص الفرنسيس كأنهم يواجهون جيشًا صغيرًا، بعضها رشق في مساحات خشبية، والآخر هشم ما اعترضه من زجاج، وخلال دقائق نشر الموت أجنحته الكئيبة في البيت، بعض الضحايا ينزف دمًا من فمه، وطفل فجرت جمجمته، وامرأة مزقت الطلقات بطنها، وشاب قتلته طلقة في الصدر، ويده لاتزال قابضة على خنجر في موضع النزال، ابتسم أحد العساكر، وسحب الخنجر ثم غرسه في عين الشاب قائلًا: لقد أصبحت بعين واحدة أيها المحارب القديم، وعندئذ أمره نابليون هو وزملاءه أن يلقوا بكل القتلى وعددهم خمسة عشر آدميًا مصريًا في عرض الطريق، ليكونوا عبرة لغيرهم " .
أضع الرواية لأرى التفرق وعدم الالتفاف والضرب بيد واحدة قوية ، فلسطين تقاوم وحدها ، غزة محاصرة دون نجدة ، والمحتل يملؤه الغرور بالقوة التي بنيت على استغلال هذا التفرق ، وعلى عدم التكافؤ في الاستعداد الحربي أيضًا.
ثم أعود إلى الرواية ، لأجد هذا النص على لسان ( محمد كريم ) : " في أي اشتباك، يموت فرنسي حقير واحد، في مقابل عشرة من أحبابنا ، الصورة مخيفة، على الناس أن ينتفضوا كتلة واحدة، متى يفهمون أن مصر كلها بيت واحد، بالأمس قتلوا الشاب عويس أمام أبيه، كيف لم تنتفض مصر كلها من أجله ، ومن أجل أى إنسان مصرى بسيط. آآآآآه يا مصطفى. كيف لهذا الفرنسي المجرم الوقح أن ينام ليلة واحدة هانئًا على فراش مصر؟! "
ثم على لسان (نابليون) : " في الوقت ذاته همس لنفسه : هؤلاء المصريون الرعاع لا يتعلمون، فلو أن أهل هذا الشارع، والشارع المجاور احتشدوا في وقت واحد، أمامنا، لقتلنا الفزع قبل أن نضغط على الزناد، لكنهم يدمنون التفرق ، هنيئًا لنا بكم، أيها الجهلة " .
مشاهد متعددة بين الواقع والرواية ، لم أستطع الفصل بينهما لتبين أيهما الحقيقة وأيهما الأدب . فقد تابعت قراءة الرواية جنبًا إلى جنب متابعة أحداث طوفان الأقصى ، أعيش حالة وجدانية واحدة ، وحالة من الجزع واحدة ، وحالة من الرفض واحدة ، وحالة من الحزن واحدة ، وحالة من التأمل واحدة ، بين ما هو فات وما هو حاضر، وربما آت . تعجبت من دقة وصف الكاتب في نقل بعض صور من وجود الاحتلال ، وردود أفعال أهل البلد المحتل ، وما وصلت إليه هذه الدقة من تطابق مع الواقع الماثل أمامنا ، يتركنا وسط أجواء من طحن المعارك مع غرور المحتل والتمادي في التخريب والتدمير بشهوة الاستقواء ، وصور المقاومة التي لا تهدأ أو تتراجع أو تستسلم . ولنتأمل هذا النص من الرواية لنعرف مدى التوحد بين الصورتين الجامعتين لمشاهد من الاحتلال الفرنسي لمصر ، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين : " إلا أن الكثير من الشباب المصري استمروا في المواجهة بلا خوف مع قلة السلاح ورداءته، بينما توحش ضرب الغزاة ، وقد غمرتهم نشوة الغلبة، وأثارت شهية القسوة فيهم مناظر بحيرات الدماء، وتكوينات الجثث المكدسة، وأخيرًا فرار مراد بك وعصابته... من الصف المقابل تدافعت قوات الفرنسيس، يتقدمها العلم بألوانه الأبيض والأزرق والأحمر، ودون هتاف تدفقت طلقات المدافع والبنادق الحديثة بجحيم من النيران، وبالرغم من ذلك تدافع الشباب ، اخترقوا صفوف الفرنسيس النارية المنيعة، أذهلوا عساكر نابليون، كل شاب يسجل بطولة غير مسبوقة سواء انتهت باستشهاده أو بقتل جندي أو أكثر من الغزاة " .
لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر مادة ثرية وواسعة وملهمة للكثير من الأعمال الروائية ، لعل أشهرها رواية (غادة رشيد) لـ (علي الجارم) ، من هذه الروايات ما تناول أشكال الصراع واستجلاء وجوه المقاومة ، ومنها ما استل قصة واحدة من قصص الغزو على مصر وصنع منها روايته ، ومنها ما حاول ربط الحاضر بالماضي لأغراض تمتد إلى واقعنا المعاصر ، تناقشه وتحلل مشكلاته وقضاياه بإسقاط هذا الحدث التاريخي الجلل عليه . ورواية ( بونابرته ) من هذا النوع ، إلا أنني أراها تحتفظ بتفردها في عدة جوانب ؛ أولها الرسالة المطلة بقوة منذ الصفحات الأولى ، والتي ألقت بظلالها على أرجاء الرواية وعناصرها الفنية ، فنجدها مطبوعة في الشخصيات ، وفي أسلوب العرض ، وفي اللغة ، وفي الحدث ذي الوجه الواحد و المحرك الأكبر الذي دارت في فلكه الرواية .
إن رسالة الكاتب هنا صرخة ، وجرس تحذير وتنبيه بكشفه عن مساوئ الشعوب وسلبياتها كونها بيئة خصبة لجذب أى محتل ، وهى مساوئ وسلبيات كثيرة ، ذات أفرع ووجوه ، تضيق وتتسع بمدى الفكر والرؤية والثقافة ، وهى بحسب رؤية نشأت المصري تتركز في الجهل ، الجهل وحده ، وهو و إن كان صفة واحدة ؛ فإنه – في رأي الكاتب – الصفة التي تحمل القنبلة التي تنفجر عن كوارث مدمرة لأي بلد أو أمة . فالجهل هو الذي يحول الشعب إلى قطيع مسلوب الإرادة ، لا يملك القرار ، ولا يشارك في رأي ، ولا يختار من يحكمه ، ولا يقوى على رد الظالم أو مواجهة الفاسد ، ومن ثم يقع فريسة التشتت وفقدان الشخصية والهوية ، فيسهل أن يباع ويشترى ليستحيل إلى عميل أو خائن يفتح أبواب بلاده للمحتل . يسهل أن ينحاز إلى الاستسلام بقلة الحيلة ، يسهل ألا يقدر خطورة التفرقة وعدم الاعتصام بحبل واحد والتماسك في يد واحدة ، مما يطعن في استعداده وقدراته في مواجهة الأعداء أو مواجهة المستقبل الذي يتطور بسرعة فائقة .
هذا ما ركز عليه الكاتب في مواضع كثيرة بدرجة تبلغ حد الإلحاح . حين كشف لنا عن دخائل المحتل بما يحمله من صورة تعكس طبيعة الشعوب التي يحتلها ، فالميدان يخلو لهم أمام شعوب لا تملك القوة ولا تعرف للعلم سبيلًا . فنجده يفتتح روايته بهذا المعنى أو المغزى ، حين ركب نابليون البحر في طريقه إلى مصر ، يتحادث معه ، ليكشف أن البحر بأمواجه يسير في اتجاه الأقوى " ذات يوم يا بونابرته كان الفراعنة هم سادتي ، وبأمرهم أأتمر، لست منافقًا لكنني دائمًا أخضع للقوي ، ولهذا تجدني ألعب معك ولصالحك الآن ، مادمت تملك المدفع الجبار والبندقية الحديثة ... وأصارحك بأنه إذا تفوق عليك الأسطول الإنجليزي الذي يتعقبك في البحار، سأكون عونًا له عليك أيضًا يا صاحب العينين الرماديتين . أما العرب فقد نسيتهم ونسوني، فهم دائمًا في انتظار المدد من الغير ، أو من السماء، وهم غارقون في عسل الأمنيات"
وقبل أن يغادر الكاتب مشهد الافتتاحية يبدأ في الاقتراب من المغزى بشكل واضح ، حيث يقول نابليون لأحد قواد حملته (فوفليه ) : لا تخف، سيحمينا جهل المصريين وفقرهم وتخلفهم ، قد نتألم بعض الوقت ، لكننا سننجح ، وسيحفرون أيضًا قناة السويس لصالحنا . سنصنع تاريخًا جديدًا .
إن هذه الرسالة المحددة في الرواية حملت الكاتب على استجلاء جانب واحد في القصة الطويلة المتشعبة للحدث التاريخي الضخم المتمثل في الاحتلال الفرنسي على مصر ، وحملته – أيضًا-على الإيجاز والتكثيف ؛ لذلك فقد جاءت هذه الرواية قصيرة ، على الرغم من إمكانات الإسهاب والتطويل والتشعيب الفنية المتاحة في الروايات التاريخية بصدد الاحتلال الفرنسي . وهذا الإيجاز في القص والسرد ، والقِصر في حجم الرواية –في رأيي- هو أحد أهم دعائم الرسالة التي يوجهها الكاتب . وهو إجراء يشي برغبته الشديدة في توصيل هذه الرسالة الملحة ، والتي لا يرى أهم منها فيما يمكن التنبه له .
ومن هذه الدعائم التي حملها الكاتب رسالته - أيضًا- عنصر الشخصيات ، تلك التي لعبت فيها شخصية (نابليون) الدور الرئيس والأساسي فيها ، وهو الشخصية المحورية التي تحمل كل سمات المحتل المتعجرف ، المأخوذ بقوته واستقوائه ؛ لذلك جاء عنوان الرواية موفقًا جدًا في تصوير هذا الزهو واستعراض القوة ( بونابرته ) . وقد ركز الكاتب على شخصية نابليون من هذه الزاوية التي يرى أنها حجر أساس في الرسالة التي تحملها روايته . " والآن مطلوب منك سيدي البحر، وأنا لا أحب أن يكون لي سيد ...) ، هذا هو نابليون ، أو هذا هو المحتل ، وما جاءت أغلب الشخصيات النسائية في الرواية – على قلة ظهورها و تفاعلها- إلا خدمة لإظهار هذا الجانب في شخصية نابليون ، فهو يزهو بمغامراته النسائية وبخاصة من المتزوجات ، وأحيانًا يظهر شيئًا من غروره ، حين راح يحكي عن (لويز) وهى في شهر العسل مع زوجها تورو الضابط المهم " قررت أن أثبت لها قدراتي، وهذا حقي، وإن تم على حساب أرواح الآخرين، كنا معًا في سياحة بضواحي جبال ’’تند’’ ، وومضت في عقلي فكرة غريبة، وهى أن أشعل لها خصيصًا حربًا صغيرة لتشاهدها من باب التسلية، ودون تباطؤ، أصدرت أوامري لإحدى الوحدات المقاتلة بأن تهاجم العدو الأوربي بكافة الأسلحة، فهبت حرب صغيرة ، وأنا وهى نصفق معًا، وكالعادة كسبت المعركة المفتعلة، وفقدنا عددًا من جنودنا " .
أما اللغة من مفردات وتراكيب فقد حملت هذه الرسالة بشكل أكثر مكاشفة ، حيث غزت الرواية ألفاظ ( الجهل والتخلف ) التي تتسم بها الشعوب المحتلة ، وكأن الكاتب يريد أن يصفعهم على وجوههم ، ويندي جباههم بهذه الألفاظ الجارحة ، وكأنه يصرخ فيهم : أفيقوا يا عرب ، انظروا في أمركم ، إن طريق الحرية والعزة والقوة جميعها سبيله العلم ، فهو مفتاح كل أبواب المستقبل .
وهذه بعض النماذج التي تشير إلى ذلك :
1-" لا ينام نابليون بسهولة ، عقله يرحل به إلى عوالم شتى، متباعدة أحيانًا، كما ازدحم الليلة بتلك التساؤلات : كيف اطمأن المصريون إلى المماليك وتحملوا قسوتهم، وهم حقراء كالغانيات يبيعون كل شيء ، على مدى التاريخ باع الوطن رجال وقادة وقضاة لحاكم خائن جاهل بدد كل شيء ، فضاع الوطن، وهم ضاعوا من بعده ".
2-" ما أغباكم يا مصريين، لو أنكم تحركتم معًا لقتلتموني خنقًا على الأقل، إن الله يحبني ".
3-" لو أن من أبناء مصر مائة شخص مثل( كريم) لرحلنا عن مصر خلال يوم واحد ".( المقصود الشيخ محمد كريم .
4-" آه يا مصريين لابد للحضارة من علم وسلاح يحميها، ها ها ها، تظنون أن مراوغة الغازي انتصارًا ؟ كلا، إن فرنسا تعاقب الغازي لفرنسا بقطع قدمه ورقبته وتفجير رأسه، ماذا دهاني؟ لو فعل المصريون ذلك لكنا الآن طعامًا للأسماك في البحر".
5- "المشكلة أكبر من أي حل، فماذا نطلب من شعب جاهل فقير بإرادة حكامه؟ ، الناس طيبون، وشجعان، وهذا لا يكفي. الأمر يحتاج إلي وقت لا نملكه الآن، لعل الأجيال القادمة تنتزع العلم والحرية. مصر يجب أن تكون أقوى وأغنى دولة في العالم ".
ثناء محمود قاسم
أستاذ النقد الأدبي الحديث
كلية دار العلوم – جامعة الفيوم
والمحتل وفق ما تجسده الرواية ، هو المتجبر المستقوي بتقدمه العلمي وتفوقه العسكري والحربي ، ومن ثم فهو يحوز مقومات السطوة والهيمنة وفرض وجوده على الآخر، الآخر الضعيف بجهله وعزوفه عن مواكبة التطور واللحاق بصفوف الدول العظمى ، واكتفائه بدور التابع المتفرج المندهش بتقدم المستقوي .
أضع الرواية جانبًا لأرى استقواء الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي وأروبي ، وهى قوى عظمى ، مكنتهم من احتلال أرض فلسطين منذ عام 1948م ، فاستوطنوها عنوة ، حتى إذا ما ثارت المقاومة رافضة ذل الاحتلال وقهره فيما سمي ( طوفان الأقصى) ، نجدهم يحاصرون غزة ويعزلونها عن مقومات الحياة الأساسية ، ثم يمطرونهم بصواريخ وقذائق تحيلهم إلى شهداء بالآلاف ، وسط صمت وضعف وخنوع عربي . ثم أعود إلى الرواية لأجد جنود نابليون تتوغل داخل الأسكندرية والقاهرة ، تقتحم البيوت والشوارع ، وتدخل في معارك مع الأهالي ، الذين يتصفون بالشجاعة وروح الفداء والمقاومة ، لكنهم لا يملكون إلا أبسط أدوات الدفاع . " في تحرك لولبي حذر اقتحموا البيت، تصدى لهم أهل البيت بالخناجر، وبعض الشابات استعن بسكاكين المطبخ الكبيرة، وشكلوا صفًا ثانيًا خلف الشباب، ومن أركان الغرف انطلق صراخ الأطفال معلنًا عن هلعهم، وفي وقت واحد تدفقت طلقات رصاص الفرنسيس كأنهم يواجهون جيشًا صغيرًا، بعضها رشق في مساحات خشبية، والآخر هشم ما اعترضه من زجاج، وخلال دقائق نشر الموت أجنحته الكئيبة في البيت، بعض الضحايا ينزف دمًا من فمه، وطفل فجرت جمجمته، وامرأة مزقت الطلقات بطنها، وشاب قتلته طلقة في الصدر، ويده لاتزال قابضة على خنجر في موضع النزال، ابتسم أحد العساكر، وسحب الخنجر ثم غرسه في عين الشاب قائلًا: لقد أصبحت بعين واحدة أيها المحارب القديم، وعندئذ أمره نابليون هو وزملاءه أن يلقوا بكل القتلى وعددهم خمسة عشر آدميًا مصريًا في عرض الطريق، ليكونوا عبرة لغيرهم " .
أضع الرواية لأرى التفرق وعدم الالتفاف والضرب بيد واحدة قوية ، فلسطين تقاوم وحدها ، غزة محاصرة دون نجدة ، والمحتل يملؤه الغرور بالقوة التي بنيت على استغلال هذا التفرق ، وعلى عدم التكافؤ في الاستعداد الحربي أيضًا.
ثم أعود إلى الرواية ، لأجد هذا النص على لسان ( محمد كريم ) : " في أي اشتباك، يموت فرنسي حقير واحد، في مقابل عشرة من أحبابنا ، الصورة مخيفة، على الناس أن ينتفضوا كتلة واحدة، متى يفهمون أن مصر كلها بيت واحد، بالأمس قتلوا الشاب عويس أمام أبيه، كيف لم تنتفض مصر كلها من أجله ، ومن أجل أى إنسان مصرى بسيط. آآآآآه يا مصطفى. كيف لهذا الفرنسي المجرم الوقح أن ينام ليلة واحدة هانئًا على فراش مصر؟! "
ثم على لسان (نابليون) : " في الوقت ذاته همس لنفسه : هؤلاء المصريون الرعاع لا يتعلمون، فلو أن أهل هذا الشارع، والشارع المجاور احتشدوا في وقت واحد، أمامنا، لقتلنا الفزع قبل أن نضغط على الزناد، لكنهم يدمنون التفرق ، هنيئًا لنا بكم، أيها الجهلة " .
مشاهد متعددة بين الواقع والرواية ، لم أستطع الفصل بينهما لتبين أيهما الحقيقة وأيهما الأدب . فقد تابعت قراءة الرواية جنبًا إلى جنب متابعة أحداث طوفان الأقصى ، أعيش حالة وجدانية واحدة ، وحالة من الجزع واحدة ، وحالة من الرفض واحدة ، وحالة من الحزن واحدة ، وحالة من التأمل واحدة ، بين ما هو فات وما هو حاضر، وربما آت . تعجبت من دقة وصف الكاتب في نقل بعض صور من وجود الاحتلال ، وردود أفعال أهل البلد المحتل ، وما وصلت إليه هذه الدقة من تطابق مع الواقع الماثل أمامنا ، يتركنا وسط أجواء من طحن المعارك مع غرور المحتل والتمادي في التخريب والتدمير بشهوة الاستقواء ، وصور المقاومة التي لا تهدأ أو تتراجع أو تستسلم . ولنتأمل هذا النص من الرواية لنعرف مدى التوحد بين الصورتين الجامعتين لمشاهد من الاحتلال الفرنسي لمصر ، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين : " إلا أن الكثير من الشباب المصري استمروا في المواجهة بلا خوف مع قلة السلاح ورداءته، بينما توحش ضرب الغزاة ، وقد غمرتهم نشوة الغلبة، وأثارت شهية القسوة فيهم مناظر بحيرات الدماء، وتكوينات الجثث المكدسة، وأخيرًا فرار مراد بك وعصابته... من الصف المقابل تدافعت قوات الفرنسيس، يتقدمها العلم بألوانه الأبيض والأزرق والأحمر، ودون هتاف تدفقت طلقات المدافع والبنادق الحديثة بجحيم من النيران، وبالرغم من ذلك تدافع الشباب ، اخترقوا صفوف الفرنسيس النارية المنيعة، أذهلوا عساكر نابليون، كل شاب يسجل بطولة غير مسبوقة سواء انتهت باستشهاده أو بقتل جندي أو أكثر من الغزاة " .
لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر مادة ثرية وواسعة وملهمة للكثير من الأعمال الروائية ، لعل أشهرها رواية (غادة رشيد) لـ (علي الجارم) ، من هذه الروايات ما تناول أشكال الصراع واستجلاء وجوه المقاومة ، ومنها ما استل قصة واحدة من قصص الغزو على مصر وصنع منها روايته ، ومنها ما حاول ربط الحاضر بالماضي لأغراض تمتد إلى واقعنا المعاصر ، تناقشه وتحلل مشكلاته وقضاياه بإسقاط هذا الحدث التاريخي الجلل عليه . ورواية ( بونابرته ) من هذا النوع ، إلا أنني أراها تحتفظ بتفردها في عدة جوانب ؛ أولها الرسالة المطلة بقوة منذ الصفحات الأولى ، والتي ألقت بظلالها على أرجاء الرواية وعناصرها الفنية ، فنجدها مطبوعة في الشخصيات ، وفي أسلوب العرض ، وفي اللغة ، وفي الحدث ذي الوجه الواحد و المحرك الأكبر الذي دارت في فلكه الرواية .
إن رسالة الكاتب هنا صرخة ، وجرس تحذير وتنبيه بكشفه عن مساوئ الشعوب وسلبياتها كونها بيئة خصبة لجذب أى محتل ، وهى مساوئ وسلبيات كثيرة ، ذات أفرع ووجوه ، تضيق وتتسع بمدى الفكر والرؤية والثقافة ، وهى بحسب رؤية نشأت المصري تتركز في الجهل ، الجهل وحده ، وهو و إن كان صفة واحدة ؛ فإنه – في رأي الكاتب – الصفة التي تحمل القنبلة التي تنفجر عن كوارث مدمرة لأي بلد أو أمة . فالجهل هو الذي يحول الشعب إلى قطيع مسلوب الإرادة ، لا يملك القرار ، ولا يشارك في رأي ، ولا يختار من يحكمه ، ولا يقوى على رد الظالم أو مواجهة الفاسد ، ومن ثم يقع فريسة التشتت وفقدان الشخصية والهوية ، فيسهل أن يباع ويشترى ليستحيل إلى عميل أو خائن يفتح أبواب بلاده للمحتل . يسهل أن ينحاز إلى الاستسلام بقلة الحيلة ، يسهل ألا يقدر خطورة التفرقة وعدم الاعتصام بحبل واحد والتماسك في يد واحدة ، مما يطعن في استعداده وقدراته في مواجهة الأعداء أو مواجهة المستقبل الذي يتطور بسرعة فائقة .
هذا ما ركز عليه الكاتب في مواضع كثيرة بدرجة تبلغ حد الإلحاح . حين كشف لنا عن دخائل المحتل بما يحمله من صورة تعكس طبيعة الشعوب التي يحتلها ، فالميدان يخلو لهم أمام شعوب لا تملك القوة ولا تعرف للعلم سبيلًا . فنجده يفتتح روايته بهذا المعنى أو المغزى ، حين ركب نابليون البحر في طريقه إلى مصر ، يتحادث معه ، ليكشف أن البحر بأمواجه يسير في اتجاه الأقوى " ذات يوم يا بونابرته كان الفراعنة هم سادتي ، وبأمرهم أأتمر، لست منافقًا لكنني دائمًا أخضع للقوي ، ولهذا تجدني ألعب معك ولصالحك الآن ، مادمت تملك المدفع الجبار والبندقية الحديثة ... وأصارحك بأنه إذا تفوق عليك الأسطول الإنجليزي الذي يتعقبك في البحار، سأكون عونًا له عليك أيضًا يا صاحب العينين الرماديتين . أما العرب فقد نسيتهم ونسوني، فهم دائمًا في انتظار المدد من الغير ، أو من السماء، وهم غارقون في عسل الأمنيات"
وقبل أن يغادر الكاتب مشهد الافتتاحية يبدأ في الاقتراب من المغزى بشكل واضح ، حيث يقول نابليون لأحد قواد حملته (فوفليه ) : لا تخف، سيحمينا جهل المصريين وفقرهم وتخلفهم ، قد نتألم بعض الوقت ، لكننا سننجح ، وسيحفرون أيضًا قناة السويس لصالحنا . سنصنع تاريخًا جديدًا .
إن هذه الرسالة المحددة في الرواية حملت الكاتب على استجلاء جانب واحد في القصة الطويلة المتشعبة للحدث التاريخي الضخم المتمثل في الاحتلال الفرنسي على مصر ، وحملته – أيضًا-على الإيجاز والتكثيف ؛ لذلك فقد جاءت هذه الرواية قصيرة ، على الرغم من إمكانات الإسهاب والتطويل والتشعيب الفنية المتاحة في الروايات التاريخية بصدد الاحتلال الفرنسي . وهذا الإيجاز في القص والسرد ، والقِصر في حجم الرواية –في رأيي- هو أحد أهم دعائم الرسالة التي يوجهها الكاتب . وهو إجراء يشي برغبته الشديدة في توصيل هذه الرسالة الملحة ، والتي لا يرى أهم منها فيما يمكن التنبه له .
ومن هذه الدعائم التي حملها الكاتب رسالته - أيضًا- عنصر الشخصيات ، تلك التي لعبت فيها شخصية (نابليون) الدور الرئيس والأساسي فيها ، وهو الشخصية المحورية التي تحمل كل سمات المحتل المتعجرف ، المأخوذ بقوته واستقوائه ؛ لذلك جاء عنوان الرواية موفقًا جدًا في تصوير هذا الزهو واستعراض القوة ( بونابرته ) . وقد ركز الكاتب على شخصية نابليون من هذه الزاوية التي يرى أنها حجر أساس في الرسالة التي تحملها روايته . " والآن مطلوب منك سيدي البحر، وأنا لا أحب أن يكون لي سيد ...) ، هذا هو نابليون ، أو هذا هو المحتل ، وما جاءت أغلب الشخصيات النسائية في الرواية – على قلة ظهورها و تفاعلها- إلا خدمة لإظهار هذا الجانب في شخصية نابليون ، فهو يزهو بمغامراته النسائية وبخاصة من المتزوجات ، وأحيانًا يظهر شيئًا من غروره ، حين راح يحكي عن (لويز) وهى في شهر العسل مع زوجها تورو الضابط المهم " قررت أن أثبت لها قدراتي، وهذا حقي، وإن تم على حساب أرواح الآخرين، كنا معًا في سياحة بضواحي جبال ’’تند’’ ، وومضت في عقلي فكرة غريبة، وهى أن أشعل لها خصيصًا حربًا صغيرة لتشاهدها من باب التسلية، ودون تباطؤ، أصدرت أوامري لإحدى الوحدات المقاتلة بأن تهاجم العدو الأوربي بكافة الأسلحة، فهبت حرب صغيرة ، وأنا وهى نصفق معًا، وكالعادة كسبت المعركة المفتعلة، وفقدنا عددًا من جنودنا " .
أما اللغة من مفردات وتراكيب فقد حملت هذه الرسالة بشكل أكثر مكاشفة ، حيث غزت الرواية ألفاظ ( الجهل والتخلف ) التي تتسم بها الشعوب المحتلة ، وكأن الكاتب يريد أن يصفعهم على وجوههم ، ويندي جباههم بهذه الألفاظ الجارحة ، وكأنه يصرخ فيهم : أفيقوا يا عرب ، انظروا في أمركم ، إن طريق الحرية والعزة والقوة جميعها سبيله العلم ، فهو مفتاح كل أبواب المستقبل .
وهذه بعض النماذج التي تشير إلى ذلك :
1-" لا ينام نابليون بسهولة ، عقله يرحل به إلى عوالم شتى، متباعدة أحيانًا، كما ازدحم الليلة بتلك التساؤلات : كيف اطمأن المصريون إلى المماليك وتحملوا قسوتهم، وهم حقراء كالغانيات يبيعون كل شيء ، على مدى التاريخ باع الوطن رجال وقادة وقضاة لحاكم خائن جاهل بدد كل شيء ، فضاع الوطن، وهم ضاعوا من بعده ".
2-" ما أغباكم يا مصريين، لو أنكم تحركتم معًا لقتلتموني خنقًا على الأقل، إن الله يحبني ".
3-" لو أن من أبناء مصر مائة شخص مثل( كريم) لرحلنا عن مصر خلال يوم واحد ".( المقصود الشيخ محمد كريم .
4-" آه يا مصريين لابد للحضارة من علم وسلاح يحميها، ها ها ها، تظنون أن مراوغة الغازي انتصارًا ؟ كلا، إن فرنسا تعاقب الغازي لفرنسا بقطع قدمه ورقبته وتفجير رأسه، ماذا دهاني؟ لو فعل المصريون ذلك لكنا الآن طعامًا للأسماك في البحر".
5- "المشكلة أكبر من أي حل، فماذا نطلب من شعب جاهل فقير بإرادة حكامه؟ ، الناس طيبون، وشجعان، وهذا لا يكفي. الأمر يحتاج إلي وقت لا نملكه الآن، لعل الأجيال القادمة تنتزع العلم والحرية. مصر يجب أن تكون أقوى وأغنى دولة في العالم ".
ثناء محمود قاسم
أستاذ النقد الأدبي الحديث
كلية دار العلوم – جامعة الفيوم