رايفين فرجاني - إستشراق الإستشراق

الإستشراق هو دراسة الشرق بوصفه موضوعا.

وهو علم مستقل يسعى إلى تحويل الشرق إلى شيء,أي تشيؤه,مما يؤدي إلى اغتراب الشرق عن ذاته. تتم هذه المهمة بواسطة وسيط للنظم التي ابتكرها,هو الغرب الذي يشغل في منظومة الإستشراق دور الدارس,بينما الشرق هو المدروس.

وقد نجح الغرب,ولفترة طويلة من الزمن,في تحقيق شوط كبيرة من مهمته العلمية تلك التي كلف نفسها بها,ولازالت آثار الإستشراق سارية وجارية ومؤثرة إلى أيامنا الحالية. إلى أن تصدى لها بالعلم والدرس نخبة من ألمع العقول الغربية والشرقية على حد سواء. وقد مرّت مهمتهم -التي لا تقل علمية عن نظيرتها- بثلاث مراحل رئيسية

1-الإستشراق

2-تدشين علم الإستشراق

3-الإستغراب نظيرا للإستشراق

الأولى هي نظرة الغرب إلى العرب منذ بواكير العصر الإسلامي مرورا بعهد الدولة العثمانية وصولا إلى مطلع القرن العشرين. ثم النظر إلى الإستشراق انطلاقا من أواخر القرن الثامن عشر,وبالرجوع أيضا إلى العصر الوسيط,تناولا ومناقشة وتحليلا منذ أواخر السبعينات من القرن العشرين "بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق -التعامل معه بإصدار تقريرات حوله,وإجازة الآراء فيها وإقرارها,وبوصفه,وتدريسه,والاستقرار فيه,وحكمه." على حد تعبير إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق.

تتمثل المرحلة الثالثة في محاولة حسن حنفي الاستغرابية,"وقد تأتي مادة مشابهة للاستغراب من داخل الحضارة الأوروبية ذاتها خاصة في الآونة الأخيرة عندما بدأ الوعي الأوروبي يؤرخ لذاته,يراجع نفسه,وينقد مساره,يكشف عن مصادره التي طالما ضرب حولها مؤامرة صمت,يعترف بقلقه وتوتره,ويعبر عن حيرته المستمرة بين صورية فارغة,ومادية غليظة حتى انتهى به الأمر إلى النسبية والشك في كل شيء,وإلى تكافؤ الأدلة والعدمية. هذه المادة التي يأتي بها الوعي الأوروبي لذاته كنوع من النقد الذاتي واضعا نفسه في مرآة نفسه تختلف عن مادة الاستغراب التي يتم فيها رؤية الغرب من منظور اللاغرب,ورؤية الآخر من منظور الأنا. هذه المادة الثانية مادة أولى وليست مادة جاهزة,نتيجة لوصف الأنا للآخر,وليس وصف الآخر لنفسه تنقلها الأنا عنه,مادة من جهد الأنا وإبداعه وليست من إفراز الآخر وقيئه. مادة الاستغراب محلية صرفة من صنع الأنا وتنظيرها وتحديدها لعلاقتها بالآخر وجدلها معه وليست من نقد الآخر لنفسه ثم تقلده الأنا وتستعير نقده لنفسه باعتباره نقدها وبالتالي تقلد الأنا حتى وهي ترغب في التحرر وكأن التقليد أصبح في روحها,تتوهم الحياة وهي تموت بالتفاف الآخر من جديد حول عنقها."[31]

ولكن مقصدنا في المرحلة الثالثة,والتي قد تصبح مرحلة رابعة,هو استشراق الاستشراق في المرحلة ما قبل وما بعد المرحلة الاستغرابية. فلما كانت الممارسات الاستشراقية قائمة في المرحلة الأولى,ثم وضحت معالم الاستشراق في المرحلة الثانية. وأخيرا جرى تبني أو ابتداع موقف مضاد هو الاستغراب. عند هذه المرحلة تغير الموقف عند العرب فانقسموا إلى تيارين؛التيار الأول يدعو إلى الذوبان في الغرب,حيث نصبح جزءا منه (لفظا ومعنى وحقيقة وشكلا),وحيث نُشعر الغربي (بأننا نرى الأشياء كما يراها,ونقوّم الأشياء كما يقوّمها,ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها). وهذا تيار واسع له أنصاره ومفاهيمه ورؤاه, وقد شاع في الثقافة العربية,وعُرف منذ مطلع القرن العشرين,وسعى بدعواه العقلانية إلى مطابقة الآخر,رافعا شعار التنوير على غرار ما حصل في الغرب في العصر الحديث,وذلك في نوع من (المطابقة) لا يخفى. أما التيار الثاني,فأعلن أن هدفه إيجاد هوية ثقافية صافية ونقية,تنهل عناصرها من الماضي,الذي هو,بالنسبة إليه,ذخيرة المعرفة الحقيقية,ومورد اليقين الذي لا ينضب,والمجال الذي ينبغي أن يتأصل فيه كل شيء. ومن أجل إنجاز هذه المهمة لا بد من القيام بعمل مزدوج؛فمن جهة ينبغي بعث الموروث وإحياء مكوناته,ومن جهة أخرى الاصطدام بالآخر,وفك العقدة التاريخية بين الأنا والآخر,وقلب الموازين وتبادل الأدوار,فذلك هو السبيل لإنشاء كيان ذاتي أصيل,وهوية خاصة محددة الأبعاد".[32] وقد أغفل عبد الله إبراهيم في نصه هذا ذكر الجبهة الثالثة (علاقتنا مع الواقع),وقد حمل حسن حنفي الجبهات الثلاثة على كتفيه عبر مشواره ومشروعه الطويل. ولكن ما يعنينا هنا هو الحالة الأولى التي تتبدى لنا مظاهرها واضحة للعيان في كل مكان. وقد سئمت من تعيينات الفلاسفة العرب النظرية والمحايدة عن جميع المواقف الممكنة في علاقتنا بالغرب. لأنها في العادة لا تخرج عن مجرد نقل لما جاء به الغرب في الأصل,أو هو مجرد تكرار غير أصيل لجهد كاتب عربي آخر. بل ويمكننا أن نزعم أنه جهد مشابه للفلاسفة الفرنسيين على سبيل المثال (فالحداثة الأمريكية مثال آخر بارز),وأقصد هنا الأربعة الكبار من رواد التفكيكية جاك دريدا ومشيل فوكو وجيل دولوز ورولان بارت. هؤلاء وآخرين حاولوا أخذ موقف حيادي أثناء تفكيك ونقد جميع المذاهب الفلسفية والنقدية في عصرهم.

وبرأيي أنه يجب أن نأخذ موقف,كما دعا حسن حنفي وتبعه أحمد خالد توفيق,من الاستشراق بتبني الاستغراب,ولكن يجب أيضا أن نبني عليه,لا أن نتوقف عنده. ورغم أن أهم اسم في بحوث التراث ينفي وجود علاقة بين تأليه الغرب والدعوة للمعاصرة في العالم العربي,وهو طيب تيزيني. "ها هنا ربما يخطر للبعض الادعاء باكتشاف علاقة بين (نزعة المعاصرة) ونزعة أخرى,هي (المركزية الأوروبية) العرقية".[33] نحو فهم آخر يشير إلى أننا كأننا نقاتل طواحين الهواء, وأن أي رؤية مضادة, هي بشكل أو بآخر, رؤية غربية أو تنبت من أفكار الغرب!. ورغم ما قد يجتره هذا الرأي من آراء مؤيدة, ولكني لازلت أميل للرأي الآخر.

[HR][/HR]
[31]مقدمة في علم الاستغراب / حسن حنفي / الدار الفنية للنشر والتوزيع,ص 21,22.
[32]المطابقة والاختلاف / عبد الله إبراهيم / مؤمنون بلا حدود,ص 26.
[33]من التراث إلى الثورة / طيب تيزيني / دار ابن خلدون,ص 134.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى