علوان السلمان - محاورة الذاكرة الجمعية في(فرن الخواجة)

(ان العمل الادبي سلسلة من الاصوات ينبعث منها المعنى).. كما جاء في نظرية الادب.. كون العلاقة بينه والواقع الموضوعي علاقة جدلية لها أثرها في تعزيز المدركات الحسية التي تشكل مصدر الهام معزز لأفكار المنتج بعدسته البصرية الراصدة لمحيطها والوجود الشيئي..المنتمي للزمكانيةالتي من خلالها يسمو بأفكاره وطرائق ادائه وتكنيكه واسلوبه الفني..
وباستحضار سرديات محمد الأحمد (فرن الخواجة) المنبعثة من ذاكرة مكتنزة الافكار التي لملمتها انامله ودونتها بشكل حلقات سردية ضمن حلقات البناء الستراتيجي للنصوص التي تفاوتت في بنائها الفني واللغوي والدلالي والتي تعزز الافق التخيلي للحالة التي تمتلك جماليتها..واسهمتدار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2019.. كونهاتطرح نفسها بمستويات متعددة يأتي في مقدمتها: جسدها اللغوي الشفيف وسردية الاحداث المتخيلة في زمنها..
(في البدء كانت حاجتي الماسة الى ايجاد اسم اتخفى خلفه لأكتب ما اريد كتابته تخلصا من اية ملاحقاتآنية.. فأنا اريد كتابة بوح خاص بي يحررني من تلك القضبان والتقيد والنفي..فالكتابة حرية مفترضة ومساحة نقية للتنفس. لاطلق الصوت الذي حبس في داخلي طويلا وخاصة بعد ان زادت الرقابات وصار المرء منا لايحسن الاختباء وراء اسمه..حيث الاسم يطارد صاحبهويجعله مطلوبا اينما حل..فصرت احتاج الى ثغرة لافك بها قليلا من ضائقتي وشعوري باني مكشوف امام الملأ..ولابد ان أجد طريقة لأعبر بها عن ذاتي واحلامي وكينونتي فوجدتني اكتشف لعبتي الخاصة..لعبة تمنحني المتعة الكبيرة التي لا تساويها اية لعبة..فلا غرابة ابدا عندما فتحت صفحة الهوتميل ورحت الفّق اسما انثويا لا يحتاج الى تعريف ورحت ادخله على(الـ(فيسبوك) وصار الاسم بعد يومين صاحبا لعشرات الاصدقاء واغلبهم من الرجال واغراقا في الاثبات استعنت ببرنامج(فديوي) بإمكانه ان يعرض ما اريد عرضه عبر الماسنجر..اي فديو اختاره من مكتبتي ويعرض للطرف الثاني كأني اعرض له من كامرتي..وهكذا بدأت ابحث عن مقاطع(فديوية)تفيدني في لعبتي وعبثي..) ص10..

فالنص يمتلك ارضية مكتنزة بمضامينه الاجتماعية المقترنة بالإنسان..وقد لاحقها المنتج(السارد) ليسجل لحظاته المشهدية المتوهجة..المنبثقة من منطق الحياة وحركتها ليشكل أحد معطيات المستوى الحسي للنص..فضلا عن تميزه بتماسك عناصره الفنية(احداث وشخوص وزمكانية ونسج لغوي واسلوبي جاذب... بتوظيف لغة واقعية.. مكثفة.. وثيقة الصلة بالشخصيات.. مستمدة من لغة الحياة اليومية.. وطبيعة الظروف التي يروي أحداثها(المنتج)..وهو يكشف عن الحالة الشعورية والنفسية بقدرة تعبيرية مختزلة لتراكيبها الجملية التي تستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي منساب بتدفق جمالي منطلق من وجدانه والواقع الموضوعي المنبعث من ضمير المتكلم(انا)..باعتماد البناء الدرامي والاسترسال الذي يفضي بعضه الى البعض الاخر من اجل خلق مشاهد تختزن الوجع الوجداني..مع تركيز على سطوة الانا من لحظة الاستهلال…

) بعدما هم بالنزول رجاني ان اتصل به ان احتجت اليه..وعدته بذلك فكتب رقم هاتفه المحمول على جزء من غلاف علبة سجائره وناولني اياه..قال معرفا عن اسمه(جوفاني).. ثم قلت له:تشرفت بمعرفتك سيد(جوفاني).. اسمي (كنشت/ بطل رواية لعبة الكريات الزجاجية للكاتب الألماني هيرمان هيسه)..فما ان ابتعدت عنه..حتى عدت الى تشغيل الاغنية محاولا معها عبور مخاوف الطريق الباقية ومن ثم رحت اعب الهواء الى صدري بحرية. كأني كنت غاطسا في عمق البحر المالح المتوسط من بعد ان فشلت جديا في ايجاد معنى لتلك(الحلزونيات) وان ابحرت في متون اوهام الكتب..شيئا فشيئا وجدتني باني لم اغادر بيتي وانا في سريري ولم أكن مسافرا الى تلك المدينة البعيدة..)..بعد ذلك جلست استحضر ما رأيت وقررت ان اكتب هذه اللعبة بين الحقيقة والواقع..ورحت ارسم صورة ذلك الشاب الضاحك بحزنه. الذي لم يتجاوز العشرين وهو يلوح لي كأني قلت له ناصحا انتبه لنفسك وابعد اصبعك عن الزناد فربما تطلق الرصاص وقد تستقر واحدة في ذاكرتك وتتسبب بعذابك الى الابد..) ص59ـ ص60..

فالمنتج (السارد)لايعني بتصوير الواقع - بشقيه الفعلي والتخيلي - تصويرا تقريريا مباشراً.. بل إنه يهتم بالتعبير عنه إبداعيا وجماليا من خلال دلالات رمزية شفيفة سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا أو التعامل مع العنصر المكاني بوصفه بؤرة ثقافية مضافة أو العنصر الزماني باستحضار الازمان.فضلا عن اتكائه على عملية التجريد الذي يحيل الجزئي إلى الكلي والخاص إلى عام.. وهو ذروة التفاعل بين الذات والموضوع..

اما نصوصه القصيرة جدا فهي تقوم على الاقتصاد اللغوي واللفظة الموحية..المتعدد الدلالاتوالتأويلات.. فضلا عن التكثيف والايجاز الجملي والابتعاد عن الاستطراد الوصفي.. كونها تشكل نص الفكرة التي تعتمد السياق الدلالي والفني وتستمد بريقها من هذا السياق.. لذا فهي تأملية تتسم بالدينامية باعتمادها المفردة المكتنزة الدلالة والاشتغال على مكوناتها وتأويلاتهاومخزونها الدلالي..فكانت الخيار الجمالي الذي تأسس على الايحاء والرمز في معالجة الحدث...

(خيوط عناكب دلّت له ان لا أحد قد وصل اليها منذ زمن بعيد. حشر في متاهة بعد اخرى..وقد تقلص عليه المكان..المساحة الاخرى تتسع في الطرف الآخر. بينما تضيق عليه من جانبه..معادلة منطقية. كل ازاحة في الكون على حساب اخرى..فكر مليا(الصوت يقتله وما من ملتفت).. مواصلة التنقيب في كومة المخطوطات المتراكمة تختصر له مستقبله. يبوح لنفسه بكل ذلك التفكير لأجل ان لا تنهرس ذاته بين الجدران المتراصة..(هم من يتربص للتاريخ).. يطل بنظره الى خارج المكان..اكتشف ارتيابهم وما زالوا يرقبونه بكل حواسهم(هم يدركون خطورة الكشف عن اسرارهم)..)ص131ـ ص132..
فالنصيعبرعن لحظة شعورية مكثفة تحتضن فكرة مركزية تحتمل عدة تفسيرات نتيجة التكثيف والايجاز المتأني من ضيق العبارة ورمزية المفردة.. اذ (كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى) كما يقول النفري. لذا فالمفردة دالة على حقل من الدلالات والايحاءات..فضلا عن انه
يتميز بالبساطة والعمق كدلالتين تشكيليتين تتساوقان مع مونتاج سيمي في تركيب جزئيات النص الذي صار ينتمي الى السهل الممتنع باعتماده الكلمة المألوفة المرتبطة بالإيحاء والرمز الفكري..

من كل هذا نستنتج ان سرديات الاحمد الرائعة في مجموعة فرن الخواجة قد تراوحت بين الواقعية الانتقادية والرومانسية مع توظيف تقنيات فنية واسلوبية متفاوتة كل نص منها يقترب من الرواية القصيرة.. عبر سرد مركب ثاقف بين عناصر السرد (الحدث والحبكة والبيئة والشخوص على اختلافاتها(النفسية والطبيعية والاجتماعية..) والحوار الخارجي والداخلي مع محاورة الذاكرة الجمعية واعتماد الدرامية الإحتدامية المتصارعة مع الموروث وهويعتمد حركة تصاعدية جعلت من الواقع واقعا غير مألوف لأنها حملت لغة سردية ذات عمق ودلالة.. حتى ان حواراته كثيرا ماتقترب من اللغة اليومية لكنها حوارات ذات طبيعة فنية بسبب تركيزها وتكثيفهاودراميتهاوالتي تفصح عن اوضاع نفسية متراكبة..كشفتعن معرفة.

‏02‏ تشرين الأول‏، 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى