محمد الأحمد - العالم رواية 3 العجائبية في رواية "زمن للقتل" للكاتب "إينيوفلايانو"

لعلَّ رواية “زمن للقتل” للكاتب الإيطالي “إينيوفلايانو” (1910 - 1972) هي الرواية الفريدة، والغريبة التي لم تشبهها أية رواية في العالم على الأطلاق، وما برحت الدراسات النقدية تحلل وتمحّص لما فيها من محتوى كبير بقيّ يعد علامة في تاريخ الادب العالمي.. نقلها الى العربية عن الإيطالية ببراعة المترجم والسينمائي العراقي “عرفان رشيد”*، الذي سبق ان ترجم لنا رواية “الرفيق” الشهيرة لـ “تشيزَرِهباڨيزِه”. عجائبية هذه الرواية انها تعرض علينا تقانات لم تألفها مكتبة السرد الإنساني، حيث ليلها بلا صباح إذ تدور أحداثها في أربعة أيام، يتحصل عليها كإجازة.. ضابط إيطالي برتبة ملازم أول يخدم في الجيش الإيطالي عندما كانت وحدته العسكرية مشتركة في حماية نقطة تقع في افريقيا السريالية (دون ان يحدد المكان بالضبط).. مسار الرواية في أربعة أيام تمنحها له وحدته العسكرية للبحث عن طبيب يعالج له ضرسه، تبتدئ عند خروجه من الثكنة بعدها يتيه في مجاهل وأماكن منفتحة، أماكن تغريه بالاختصارات المتتابعة، حيث المجاهل التي تتصل بمجاهل أخرى نتيجة ميله الدائم للتمرد على المألوف، كأنما يؤكد “اينيوفلايانو” ان الاختصارات لا تعود بفائدة الى أحد وأنها تذهب بنا الى نتائج أخرى، تجعلنا نبتعد عن الحقائق.. فالحرب هي أول مفردة في قائمة الاختصارات لأنها فرض الهيمنة من انسان على انسان ودائما هي أقرب الطرق المختصرة للثراء، فمن يَرِدْ الدمار يريد ان يحسم بالدمار كل شيء لصالحه، انه يثرى على خصمه الذي يلحق فيه الهزيمة. رواية أسئلة كبيرة تندلع بمجرد ان يقترح عليه سائقه السير في طريق مختصر ويقبل بذلك، ليجدا نفسيهما أمام كوابيس للواقع الأغرب من الخيال كما يسرد الراوي علينا، حيث تتفرع حكايته المبنية على مقارنات سوداوية عهدناها متشابهة مع أجواء روايات “ كافكا”، (أرجع الحائط الحجري صدى صرختي، ولكن الحبشي لم يأتِ بأي حراك، وكل ما تحرك في المكان وجده مجرد مكان لطيور سوداء، نقرت من خلف ظهره، في احتفال كئيب ومصطبغ بالأسود، لكن الغربان السوداء سرعان ما عادت لتحطّ خلف ظهر الرجل- الرواية). وكذلك روايات “ كامو” في البحث عن “معلوم” ضائع بين كومة قش تغطيه. (كنتُ سائرا منذ ساعة واحدة، رأيتُ حرباء. تلك الزاحفة الوديعة. كانت تعبر الدرب بالحذر الذي يميّز لصاً يسير على حافة سقف الفندق المفضل لديه. بحذر هاديء، وبخوف صادق، مما قد يواجه في افريقيا الملآى بالمفاجآت والمزالق- الرواية)
“زمن للقتل” رواية استطاع بها مؤلفها البدء من ألم في الاسنان، وعلى مدى أكثر من 416 صفحة من القطع المتوسط، بضمير (أنا المتكلِّم) محولا ألم ذلك السن الى نقطة تتوزع منه الفصول، الى امتداداتها. تنطلق من وَجَعٍ عاديٍّ يصيب ضِرْسَ ملازمٍ في الجيش الإيطالي، يدفعه البحث عن طبيب، ويبتعد عن معسكره في إفريقيا السريالية. وقد أخطأ السير في طريق مختصرة، ويتوه لتبدأ مغامرته بالصدفة. هروب يتبع هروب، وكل فصل له هروب من قناعة ما تارة يقنع نفسه انه قد أصيب بالجذام حسب تهيؤاته وان العدوى انتقلت إليه، ودون شك سوف يجدونه ويسلمونه الى المحرقة. فيهرب، (بعدها تلبسه فكرة أنه مطلوب بتهمة القتل، وفي النهاية يتحول فعلاً إلى لص وإرهابي. حتى يصل إلى كوخ “يوهانس”، وهو مكان غامض لكن ربَّما يُمكِّنه من الشفاء من جميع ما يعتقده). بقيت رواية “زمن للقتل” الوحيدة للكاتب “إينيوفلايانو”، والتي بدأ كتابتها في إحدى أماسي “كانون الأول” بطلبٍ من صديقه وناشره “ليـو لونغانيـزي”، الذي فاجأه وهما يتجوّلان في ميلانو، قائلاً: - «بإمكانكَ أن تكتبَ لي روايةً، وتنتهي من كتابتها مع بدايات شهر آذار، وتخلصني من إحراج وقعت به؟». وفعلا اتمَّ كتابتها، ونشرها في ظرف أقل من شهرين كما ذكر الناشر حول الظروف الاستثنائية لظهور هذه الرواية في مقدمة طبعتها الأولى، وسرعان ما استطاعت ان تبرز على رفوف أهم المكتبات وتحظى بجائزة “ستريغا”، للعام 1947، والتي تُعدُّ من أهمِّ الجوائز الروائيَّة الإيطالية على الإطلاق، رواية “زمن القتل” شديدة الرمزية تحلل اسباب الحروب المباشرة، وتدينها من بدايتها الى نهايتها، حين يختمها صوت البوق بنغمة المارش العسكرية، بعدما يدعوهم إلى الاستعداد الى التعبئة منتصرين للعودة إلى الوطن. نجد البطل يقتل من دون عمد حبيبته التي تعرف اليها واعتبرها حبيبة عمره الابدية.
انها رواية إدانة لجرائم مؤكدة لوَّثت يَدَ العساكرالإيطاليين، أو (التاريخ الإيطالي كله). ومن الجدير ذكره ان المؤلف كان صديقا مقرباً الى المخرج العظيم الأشهر “فيديريكو فيلّيني” وشارك معه في مجمل أفلامه منذ فيلم “الحياة الحلوة” 1960م.. حيث عرف عن “إينيوفلايانو” سيناريست وكاتب مسرحي وصحفي وناقد درامي، وصانع ماهر من بين صناع أفلام بارزة بعد الحرب العالمية الثانية.
24-8-2022

منقول عن المترجم:
عرفان رشيد، صحفي ومترجم ومخرج وناقد سينمائي عراقي، ولد في مدينة خانقين عام 1952، يقيم في إيطاليا منذ 1978. مؤلف مشارك في كتاب 'سينما البلدان العربية'، وله تحت الطبع ثلاثية الكاتب الصقلّي ليوناردو شاشّا. عمل مراسلًا صحفيًّا وموفدًا لعدد من بلدان أوروبا، للعديد من الصحف والقنوات التلفزيونية العربية، يعمل كمستشار للعديد من المهرجانات الثقافية والسينمائية في ايطاليا والعالم العربي. مؤسّس ورئيس تحرير الموقع العربي الإيطالي 'هنا روما'. حصل على جائزة أسكيا للعام 2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى