أعرف مقهى القصر في حلب منذ طفولتي، فلقد كان قريباً من شركة والدي للأدوية، حيث كنتُ موجوداً معظم أوقات حياتي أراقب البزنس الدوائي، وكنتُ معجباً بشخصية صديق والدي رمزي، الذي كان يملك معملاً للأدوية، وكنا وكيله الحصري، كان يجلس في مقهى بسيط اسمه القصر، وعلى بساطته وأسعاره الشعبية وموقعه الاستراتيجي في مركز المدينة سيخيّل إليكَ أنّ زبائنه هم من العاديين،
ولكن لا.. فزبائنه من النخبة يا حبيب، أنتلجنسيا، قضاة ومحامون، رجال أعمال وصناعيون، أدباء وصحفيون، روائيون وقاصُّون، نقَّاد ومفكرون، مسؤولون ومناضلون، شعراء.... وغاوون، وكلّهم مثقفون، وفي الشأن العام لهم آراء وشجون، متدخلون، متحيزون، متعصبون، منفتحون، ديمقراطيون، مشكلون ملونون،... لكن كيف صار هذا الاجتماع، كيف لم يكن معرَّضاً لدخول العامة، وإفساد هذا المجتمع الذكوري الراقي، ذلك أنّه لم يتشرَّف بالزبونات الإناث، تماماً كما لم يتشرف بالمدام أركيلة، ولم يتشرَّف بكل أنواع المشروبات، ففنجان القهوة الإكسبريسو هو بضاعته الوحيدة مرفقاً بكأس ماء، يا للأكابرية، يا للرقي الذي لن يهضمه العامة من الناس، فكان الزبائن مفصَّلون بما يتلاءم مع هذا الفنجان الأبيض الستايل الخالي من أيّ زخرف وفذلكات، ولم يفسد هذا الرونق سوى بعض الرعاع الذين دخلوا على هيئة شعراء، فالشعر كما تعرفون بيجمع، لا يمكن توحيد مذاهبه ومشاربه، ولا يمكن التحكّم في تقييم مستواه، فالجملة التي ستكون ركيكة في رأيك هي قمّة التجديد والحداثة في رأي غيرك، والقصيدة غير المفهومة بالنسبة إلى عقلك وحسّك هي قمّة البلاغة والفصاحة والغموض الساحر الذكي بالنسبة إلى غيرك، وغيرك كتار، ومنذ طفولتي كنتُ على فضول لأعرف ما الذي يجري في هذا المقهى الهادئ لفترات، والصاخب في فترات الذروة، وفترات الذروة هي الثانية ظهراً والثامنة مساءً، حيث يكون كل العتاولة حاضرين، هذه ذروة المثقفين، ويا للبهاء والشرعية في مجتمع المقهى الراقي التي يرخي بها وليد إخلاصي بظلاله عليها، فلا مقهى قصر دونه، دون غليونه الأسطوري الذي داعب أحلامنا، فما من أحد يتجرأ على الإمساك بغليون في حضرته، فالغليون رمز غربي يا حبيب بدُّه رجل راقي ومثقف وداير بلدان غربية وبيعرف لغات أجنبية وخبير بالعادات الأوروبية لحتى يطلع له يمسكه بإيده، عداك عن فخامة التنباك المستورد من بريطانيا العظمى، والتي لا يقدر على ثمنها الجميع، هناك صفات محددة وواضحة لحامل الغليون، ميسور، مثقف، متعلم، شايف ناس وداير عالم، بلبل لغات، خبير عادات، لاعب ماهر بالشوكة والسكين، ما بياكل إلا ستيك وتسقط الشرحات، فما بالك بأناقة وليد إخلاصي ودماثته وبلاغة فهمه للمحيط من حلب إلى سان فرانسيسكو، مروراً بالشام وبغدانِ، إلا أن الشاعر الشاب حسين درويش تجرأ على حمل الغليون في ذلك الوقت منتصف الثمانينات، لكن في مقصف الجامعة فقط، بعيداً عن أنظار وليد إخلاصي، ثمّ، وبعد عدة أعوام، جاهرَ بالدعوة إلى حمل الغليون في مقهى السياحي وبحضرة الأستاذ وليد، فما كان من محمد أبو معتوق الروائي والكاتب إلا أن جعل من الغليون شعبياً، ويتبع غداً في سيرة مقهى القصر، وكيف دخلنا إليه.
ولكن لا.. فزبائنه من النخبة يا حبيب، أنتلجنسيا، قضاة ومحامون، رجال أعمال وصناعيون، أدباء وصحفيون، روائيون وقاصُّون، نقَّاد ومفكرون، مسؤولون ومناضلون، شعراء.... وغاوون، وكلّهم مثقفون، وفي الشأن العام لهم آراء وشجون، متدخلون، متحيزون، متعصبون، منفتحون، ديمقراطيون، مشكلون ملونون،... لكن كيف صار هذا الاجتماع، كيف لم يكن معرَّضاً لدخول العامة، وإفساد هذا المجتمع الذكوري الراقي، ذلك أنّه لم يتشرَّف بالزبونات الإناث، تماماً كما لم يتشرف بالمدام أركيلة، ولم يتشرَّف بكل أنواع المشروبات، ففنجان القهوة الإكسبريسو هو بضاعته الوحيدة مرفقاً بكأس ماء، يا للأكابرية، يا للرقي الذي لن يهضمه العامة من الناس، فكان الزبائن مفصَّلون بما يتلاءم مع هذا الفنجان الأبيض الستايل الخالي من أيّ زخرف وفذلكات، ولم يفسد هذا الرونق سوى بعض الرعاع الذين دخلوا على هيئة شعراء، فالشعر كما تعرفون بيجمع، لا يمكن توحيد مذاهبه ومشاربه، ولا يمكن التحكّم في تقييم مستواه، فالجملة التي ستكون ركيكة في رأيك هي قمّة التجديد والحداثة في رأي غيرك، والقصيدة غير المفهومة بالنسبة إلى عقلك وحسّك هي قمّة البلاغة والفصاحة والغموض الساحر الذكي بالنسبة إلى غيرك، وغيرك كتار، ومنذ طفولتي كنتُ على فضول لأعرف ما الذي يجري في هذا المقهى الهادئ لفترات، والصاخب في فترات الذروة، وفترات الذروة هي الثانية ظهراً والثامنة مساءً، حيث يكون كل العتاولة حاضرين، هذه ذروة المثقفين، ويا للبهاء والشرعية في مجتمع المقهى الراقي التي يرخي بها وليد إخلاصي بظلاله عليها، فلا مقهى قصر دونه، دون غليونه الأسطوري الذي داعب أحلامنا، فما من أحد يتجرأ على الإمساك بغليون في حضرته، فالغليون رمز غربي يا حبيب بدُّه رجل راقي ومثقف وداير بلدان غربية وبيعرف لغات أجنبية وخبير بالعادات الأوروبية لحتى يطلع له يمسكه بإيده، عداك عن فخامة التنباك المستورد من بريطانيا العظمى، والتي لا يقدر على ثمنها الجميع، هناك صفات محددة وواضحة لحامل الغليون، ميسور، مثقف، متعلم، شايف ناس وداير عالم، بلبل لغات، خبير عادات، لاعب ماهر بالشوكة والسكين، ما بياكل إلا ستيك وتسقط الشرحات، فما بالك بأناقة وليد إخلاصي ودماثته وبلاغة فهمه للمحيط من حلب إلى سان فرانسيسكو، مروراً بالشام وبغدانِ، إلا أن الشاعر الشاب حسين درويش تجرأ على حمل الغليون في ذلك الوقت منتصف الثمانينات، لكن في مقصف الجامعة فقط، بعيداً عن أنظار وليد إخلاصي، ثمّ، وبعد عدة أعوام، جاهرَ بالدعوة إلى حمل الغليون في مقهى السياحي وبحضرة الأستاذ وليد، فما كان من محمد أبو معتوق الروائي والكاتب إلا أن جعل من الغليون شعبياً، ويتبع غداً في سيرة مقهى القصر، وكيف دخلنا إليه.