5-
مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1
تعريف الخبر عند الجاحظ استنادا إلى كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري.
بعد عرض لتعريفات عديدة للخبر وتعليل التعريف الذي يبدو صالحا للاحتفاظ به، وهو التعريف الآتي: »الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر آخر، وهذه الإضافة إما أن تكون نفيا أو إثباتا« وينتقل مؤلف كتاب المعتمد إلى تقسيم الأخبار إلى صدق وكذب، ويشركنا في منظومة الجاحظ، حيث يورد النص الآتي: "فأما أقسام الخبر: الصدق والكذب، فعند أبي عثمان الجاحظ أن الخبر المتناول للشيء على ما هو به من شرط كونه صدقا أن يعتقد فاعله، أو يظن أنه كذلك. والمتناول للشيء. لا على ما هو به، من شرط كونه كذبا أن يعتقد فاعله، أو يظنه كذلك. ومتى لم يعتقده كذلك ولم يظنه، لم يكن صدقا ولا كذبا. و أجراه مجري الاعتقاد في خلوه من كونه علما أو جهلا، إذا تناول الشيء على ما هو به، ولم يقتض سكون النفس. وحجة أبي عثمان هي أن زيدا إذا كان في الدار فظن ظان أنه ليس فيها، فقال: "زيد في الدار". لم يصفه أحد بأنه صادق. فبطل أن يكون الخبر، إذا تناول الشيء على ما هو به، كان صدقا على كل حال. ولو قال: "زيد ليس في الدار"، لم يصفه أحد بأنه كاذب. فبطل أن يكون الخبر متى تناول الشيء، لا على ما هو، كان كذبا على كل حال ولو أخبر بأن زيدا في الدار، وكان فيها، وهو يعتقده أو يظنه فيها، وُصف بأنه صادق. ويكون كاذبا إذا أخبر بأنه ليس فيها، وهو يظنه أو يعتقده فيها."
القضية الأساس التي يثيرها الجاحظ وفق نص أبي الحسين البصري هي كالآتي: هل يمكن إقامة العلم على أساس الاعتقاد أم على أساس الظن أم على أساس سكون النفس؟ أو أكثر من ذلك: ما قيمة النظرية المعرفية لهذه المفاهيم؟ ما ضمانة تعميم مثل هذه المعايير على المعرفة الإنسانية؟.
يوازي الجاحظ بين الاعتقاد المتعلق بالخبر، باعتباره كذبا أو صدقا وبين الاعتقاد المتعلق بالعلم والجهل. ومن خلال ما أثاره الجاحظ من فرضيات، أراد أن يبين أن بناء العلم لا يتم بالاعتقاد والظن وسكون النفس.
ولفهم ما تضمنه نص الجاحظ، وإعطاء معناه الحقيقي، ينبغي الاستناد إلى إنتاج الجاحظ الأدبي. ولنرجع إلى كتاب "المسائل والجوابات"، وخاصة الفصل الخاص برفض الجاحظ لأطاريح النظام وتلاميذه. يقول لنا الجاحظ: إن النظَّام يقسم المعارف إلى ثمانية أجناس؛ أحدها يتعلق بالاختيار والباقي بالاضطرار.
ما هي المجالات التي يطبق فيها الاختيار؟
يتعلق الأمر بعلم التفسير، والرسل، والأحكام والاختلاف. وكل هذه المعارف المذكورة مصدرها الاختيار؛ أي الاكتساب وليس الاضطرار حسب النظَّام ومدرسته. غير أن موقع الجاحظ فيما يخص هذه المجالات يتعارض كليا مع موقع النظَّام وتلاميذه. وفي استدلال أسلوبي خالص، يوضح الجاحظ في الفصل المشار إليه ابتذال أطروحة النظَّام ونتائجها، والتدليل إثر ذلك على أطروحته الشخصية المتمثلة في «الاضطرار»؛ فالرسل، وتفسير القرآن (أو أكثر تحديدا جزء كبير يضمنه الجاحظ في كتابات أخرى)، والأحكام (خاصة أسسها التاريخية) هي معارف «تفرض» على الإنسان، ويتأتى كل ذلك عن طريق الأمر. فنفهم، أو على الأقل، هذا ما كنا ننتظره، رفض الجاحظ تأسيس معرفة قائمة على الاعتقاد، والظن، وسكون النفس، لأن كل هذه المعايير تقوم على مبدأ أن هذه المعايير نفسها لا تتميز أو تحوز رتبة بالنسبة إلى الواقع العياني. يرفض الجاحظ إذن المعيارين النفسي والذاتي باعتبارهما أساس المعرفة.
إن هذا الاختلاف حول نقطة أساس في المذهب يجعلنا نلمس القطيعة الإبستيمولوجية بين الأستاذ والتلميذ، ونتائجها المنهجية والتطبيقية (السياسية خاصة). هل هو تراجع الجاحظ عن تعاليم النظَّام؟ ذلك التراجع الذي ينبغي أن نفهمه باعتباره إعادة تكييف الفكر الاعتزالي مع الوضع التاريخي وقتئذ، وخوف الجاحظ ونظرائه من مخاطر تعميم مبادئهم لصالح الأمة الإسلامية.
لنستخلص، في كل الأحوال، من هذا التعريف الذي وضعه الجاحظ للأخبار أن مبدأ «العلوم الاضطرارية» يمثل بالنسبة إليه على المستوى الإلهي وبالتالي النبوي مبدأ غير محسوس.
وخلاصة القول إن الخبر يشمل القرآن، والأحاديث النبوية، والأخبار التاريخية، وكل التراث الثقافي القديم والمعاصر للجاحظ، وأخيرا الأدب. وهكذا ينطوي الخبر على مفهوم الإخبار، كيفما كانت طبيعته، بشرط أن يستجيب لمجموعة من الشروط المذكورة آنفا، كأن يكون دالا على معنى وقادرا على الإفهام. وبهذا الشرط يقصى الكلام النفسي من حقل تحديد الخبر. فالخبر إذن معطى اجتماعي وإنساني، مادام الخبر الذي حاولنا إدراكه من خلال مختلف المجالات كالنحو، وعلم الكلام، والتاريخ، والقرآن، والسنة... لا يمكن القبض عليه، على الرغم من التقارب الدلالي بينه وبين عدة ألفاظ مجاورة له.
خلاصة القول، لم يتم تناول هذا التحديد في طبيعته الذاتية، ولكن في ارتباطه بمعيار الصدق أو الكذب من جهة، ومن جهة أخرى عندما يأخذ صيغة أدق باندراجه ضمن مجال مخصوص(فالخبر النبوي لا يوضع في نفس الإشكال الذي يوضع فيه الخبر بمفهومه الشرعي). إن الخبر كيان مجرد، وعلى هذا النحو تعامل معه العلماء المسلمون.
مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1
تعريف الخبر عند الجاحظ استنادا إلى كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري.
بعد عرض لتعريفات عديدة للخبر وتعليل التعريف الذي يبدو صالحا للاحتفاظ به، وهو التعريف الآتي: »الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر آخر، وهذه الإضافة إما أن تكون نفيا أو إثباتا« وينتقل مؤلف كتاب المعتمد إلى تقسيم الأخبار إلى صدق وكذب، ويشركنا في منظومة الجاحظ، حيث يورد النص الآتي: "فأما أقسام الخبر: الصدق والكذب، فعند أبي عثمان الجاحظ أن الخبر المتناول للشيء على ما هو به من شرط كونه صدقا أن يعتقد فاعله، أو يظن أنه كذلك. والمتناول للشيء. لا على ما هو به، من شرط كونه كذبا أن يعتقد فاعله، أو يظنه كذلك. ومتى لم يعتقده كذلك ولم يظنه، لم يكن صدقا ولا كذبا. و أجراه مجري الاعتقاد في خلوه من كونه علما أو جهلا، إذا تناول الشيء على ما هو به، ولم يقتض سكون النفس. وحجة أبي عثمان هي أن زيدا إذا كان في الدار فظن ظان أنه ليس فيها، فقال: "زيد في الدار". لم يصفه أحد بأنه صادق. فبطل أن يكون الخبر، إذا تناول الشيء على ما هو به، كان صدقا على كل حال. ولو قال: "زيد ليس في الدار"، لم يصفه أحد بأنه كاذب. فبطل أن يكون الخبر متى تناول الشيء، لا على ما هو، كان كذبا على كل حال ولو أخبر بأن زيدا في الدار، وكان فيها، وهو يعتقده أو يظنه فيها، وُصف بأنه صادق. ويكون كاذبا إذا أخبر بأنه ليس فيها، وهو يظنه أو يعتقده فيها."
القضية الأساس التي يثيرها الجاحظ وفق نص أبي الحسين البصري هي كالآتي: هل يمكن إقامة العلم على أساس الاعتقاد أم على أساس الظن أم على أساس سكون النفس؟ أو أكثر من ذلك: ما قيمة النظرية المعرفية لهذه المفاهيم؟ ما ضمانة تعميم مثل هذه المعايير على المعرفة الإنسانية؟.
يوازي الجاحظ بين الاعتقاد المتعلق بالخبر، باعتباره كذبا أو صدقا وبين الاعتقاد المتعلق بالعلم والجهل. ومن خلال ما أثاره الجاحظ من فرضيات، أراد أن يبين أن بناء العلم لا يتم بالاعتقاد والظن وسكون النفس.
ولفهم ما تضمنه نص الجاحظ، وإعطاء معناه الحقيقي، ينبغي الاستناد إلى إنتاج الجاحظ الأدبي. ولنرجع إلى كتاب "المسائل والجوابات"، وخاصة الفصل الخاص برفض الجاحظ لأطاريح النظام وتلاميذه. يقول لنا الجاحظ: إن النظَّام يقسم المعارف إلى ثمانية أجناس؛ أحدها يتعلق بالاختيار والباقي بالاضطرار.
ما هي المجالات التي يطبق فيها الاختيار؟
يتعلق الأمر بعلم التفسير، والرسل، والأحكام والاختلاف. وكل هذه المعارف المذكورة مصدرها الاختيار؛ أي الاكتساب وليس الاضطرار حسب النظَّام ومدرسته. غير أن موقع الجاحظ فيما يخص هذه المجالات يتعارض كليا مع موقع النظَّام وتلاميذه. وفي استدلال أسلوبي خالص، يوضح الجاحظ في الفصل المشار إليه ابتذال أطروحة النظَّام ونتائجها، والتدليل إثر ذلك على أطروحته الشخصية المتمثلة في «الاضطرار»؛ فالرسل، وتفسير القرآن (أو أكثر تحديدا جزء كبير يضمنه الجاحظ في كتابات أخرى)، والأحكام (خاصة أسسها التاريخية) هي معارف «تفرض» على الإنسان، ويتأتى كل ذلك عن طريق الأمر. فنفهم، أو على الأقل، هذا ما كنا ننتظره، رفض الجاحظ تأسيس معرفة قائمة على الاعتقاد، والظن، وسكون النفس، لأن كل هذه المعايير تقوم على مبدأ أن هذه المعايير نفسها لا تتميز أو تحوز رتبة بالنسبة إلى الواقع العياني. يرفض الجاحظ إذن المعيارين النفسي والذاتي باعتبارهما أساس المعرفة.
إن هذا الاختلاف حول نقطة أساس في المذهب يجعلنا نلمس القطيعة الإبستيمولوجية بين الأستاذ والتلميذ، ونتائجها المنهجية والتطبيقية (السياسية خاصة). هل هو تراجع الجاحظ عن تعاليم النظَّام؟ ذلك التراجع الذي ينبغي أن نفهمه باعتباره إعادة تكييف الفكر الاعتزالي مع الوضع التاريخي وقتئذ، وخوف الجاحظ ونظرائه من مخاطر تعميم مبادئهم لصالح الأمة الإسلامية.
لنستخلص، في كل الأحوال، من هذا التعريف الذي وضعه الجاحظ للأخبار أن مبدأ «العلوم الاضطرارية» يمثل بالنسبة إليه على المستوى الإلهي وبالتالي النبوي مبدأ غير محسوس.
وخلاصة القول إن الخبر يشمل القرآن، والأحاديث النبوية، والأخبار التاريخية، وكل التراث الثقافي القديم والمعاصر للجاحظ، وأخيرا الأدب. وهكذا ينطوي الخبر على مفهوم الإخبار، كيفما كانت طبيعته، بشرط أن يستجيب لمجموعة من الشروط المذكورة آنفا، كأن يكون دالا على معنى وقادرا على الإفهام. وبهذا الشرط يقصى الكلام النفسي من حقل تحديد الخبر. فالخبر إذن معطى اجتماعي وإنساني، مادام الخبر الذي حاولنا إدراكه من خلال مختلف المجالات كالنحو، وعلم الكلام، والتاريخ، والقرآن، والسنة... لا يمكن القبض عليه، على الرغم من التقارب الدلالي بينه وبين عدة ألفاظ مجاورة له.
خلاصة القول، لم يتم تناول هذا التحديد في طبيعته الذاتية، ولكن في ارتباطه بمعيار الصدق أو الكذب من جهة، ومن جهة أخرى عندما يأخذ صيغة أدق باندراجه ضمن مجال مخصوص(فالخبر النبوي لا يوضع في نفس الإشكال الذي يوضع فيه الخبر بمفهومه الشرعي). إن الخبر كيان مجرد، وعلى هذا النحو تعامل معه العلماء المسلمون.