الفرق شاسع بين الأناقة وتلك الهالة التي تحيط بها من جميع الجهات، وتتوّجها بالخصوص، التي أدعوها ما بعد الأناقة. الأولى لفظة مجرّدة وغير محدّدة، فما هو أنيق في عصر يتحوّل بمرور السنين إلى مصدر للهزء من لابسه، والمكان يتلاعب بالأزياء بين الأعلى والأسفل في تقدير الآخرين. الملابس المدنية - السّترة مع القميص والبِنطال - ربما أثارت السخرية في الريف العراقي وفي بعض دول أفريقيا والهند. بينما يمكننا وصف ما وراء الأناقة بأنها حالة شعورية ثابتة في كل زمان ومكان، يطغى فيها الانفعال الأخلاقي على الحس الجمالي، والأول لا علاقة له بنوع الثياب، إنما يتبع الشخص نفسه، ويتساوى فيه فتى الإسكيمو مع عجوز الصحراء. هي شيء غامض مؤثر وعاطفي، أو حالة وجدانية، إن صحّ التعبير؛ لكنها مهمة للغاية لأنها تمنحنا ذواتاً مستقرة وثابتة تساعدنا على إدارة الحديث بين الأصدقاء والخصوم على حد سواء، وتهبنا ما يشبه المَلَكة الطبيعية التي تقدّم لنا العون في تقديم الحجّة عند النقاش، وتساعدنا كذلك في السيطرة على الانفعال والغضب، ويتمّ كلّ هذا دون أي تدخّل منّا، ذلك أن تقدير الشعور والتحكم فيه ليسا من اختصاص عقلنا الواعي، وإنّما يقوم بهذه المهمّة ذلك الجزء المعقّد من الذهن الذي يُدعى باللاوعي، الذي ما زالت تلفه هالة من الأسرار، منها أن ما يجري فيه مُتمَلَّكٌ جزئياً أو كلّياً من قِبل قوى غيبية في الطبيعة هي التي تقرّر أن تنفخ في داخل الإنسان الاستقرار والطمأنينة وبالتالي السكينة، الثالوث الذي تقوم عليه أركان السعادة بين بني البشر.
كان الإمام الصّوفي عبد القادر الكيلاني متمسّكاً بعادة ظلّت ملازمة له، وهي أن يرتدي أبهى الثّياب عندما يتّجه إلى العامة في أثناء خطبة الجمعة أو العيد وغير ذلك، ورُوي عنه أنه عندما حضرته الوفاة، ظلّ يردّد فِعل «تعزَّزْ» بصيغة الأمر وهو غائب عن الوعي، وكانت هذه وصيته إلى ابنه عبد الرحمن الذي أسلم الروح بين يديه. هل كان الإمام يرد بهذا السلوك على معارضيه من المتصوّفة الذين كانوا يلبسون الخِرَق والمرقعات ويقضون حياتهم في فقر وعوز وزهد؟ إن العِزّ في الملبس يقود حتماً إلى أفكار عظيمة وخالدة، وهذه تجلب المنعة للنفس من أن تنحدر إلى الرّثاثة في المعتقد، الآفة التي لا قيام للمرء بعد أن يستقر في شركها.
ما توصّلنا إليه يؤدي إلى سؤال آخر: هل للأزياء علاقة بالإثارة والغبطة أو ما يمكن نعته بحالة النشوة التي يقع الإلهام عند عتباتها؟ لكن حالة التّغيير والانقلاب في الشعور الذي يصل حد النشوة، والذي مصدره اللاوعي، ربما كان مبعثه عند فئة من العمال ثياب لا علاقة لها بالأناقة من قريب أو بعيد، والتعبير الأدق عنها هو «ضد الأناقة». يعيش هؤلاء في بلدي ويختصون برفع الأنقاض، وندعوهم «كرّاكة»، أي حاملي «الكرك»، وهو المجراف الذي يستعملونه. إن ما وراء الأناقة تبتدع فنوناً من التّزيين خاصة بها، ويرتدي الكرّاكة ثياباً تميّزهم عن البقية، ويحرصون عليها، لأنها هي الدافع وراء المهارة والحِرفيّة العالية في عملهم، التي لا يجيدها غيرهم، فهم يرمون مخلفات عمليتي الهدم والبناء إلى سطح شاحنة متوقفة قريبة، ويستطيعون تقدير الموضع على السطح دون أن يطلوا عليه. يقف اثنان منهم على جانبي الشاحنة، ويقسمون السطح في خيالهم إلى نصفين متساويين بالضبط، كل منهما له نصفه، ثم يجزّئون النصف إلى ثلاثة أثلاث طولية، واحد قريب من حافة سطح الشاحنة، وآخر بعيد، وثالث يقع في الوسط. في خلال أقل من نصف ساعة يتمكن هذان العبقريان من ملء الشاحنة بالأنقاض، مع الحرص على ألا يعلو ارتفاعها عن مستوى السطح مليمتراً واحداً، ومن غير أن يتداخل عملهما، أو يتعدى أحد الأثلاث على آخر. يقدّر العامل موضع رميته دون رؤية السطح مجسداً أمامه، بل يتمّ ذلك بفضل صور ذهنية لعل الإلهام هو أحد أسباب اكتسابها، والعمل يجري بالطبع بسرعة بالغة كسباً للوقت، لأن هناك شاحنة ثانية وثالثة تنتظر دورها للتحميل، فإذا نظرت إلى سطح الشاحنة المحملة في الأخير رأيته يشبه كعكة مستطيلة الشكل بأضلاع متساوية وهيئة منتظمة، ولا يُلقي في الأخير أي من الكرّاكَين نظرة على نتائج عمله، فهو واثق تماماً أن الأمر لا يمكن أن ينتهي بصورة أفضل حتى لو قام به جوبيتر يساعده بقية الآلهة. أنا متأكد أن شعور الاثنين بالتعب البالغ من هذا العمل الشاق، سوف يخفّف منه التدفق الهائل للغبطة الجمالية التي تصاحب الإلهام.
لوصف زي هؤلاء العمال أستعين بشعر لآرثر رامبو، فهو ينتمي إلى مِلّتهم، ويمكننا عدّهُ واحداً منهم. نقرأ في «فصل من الجحيم»: «ذات مساء، أجلستُ الجمالَ على ركبتيّ، ووجدتُهُ مُرّاً، فأهنته». اختار الكرّاكون أن يهينوا فريق العمل المسؤول عن تصميم البدلة الجديدة والثمينة وخياطتها وصنعها من مادة خام جميعاً، ومع هذا قدّموا لنا أزياء خاصّة بهم، تشبه قصائد رامبو في الفرادة، وتمنحهم كذلك الثقة بالنفس والشعور العميق بالسكينة وبالوجاهة بين الآخرين، والرِّفعة، تماماً مثل شعور رامبو بين بقية الشعراء، وغرض التشبيه هنا هو إلقاء الضوء على الكلام، ولا يدخل في باب النقد.
عمّال البناء الآخرون، بمن فيهم الأسطوات، يمكنهم ارتداء دشداشة أو بيجامة أو بدلة عسكرية بالية، لكن الكرّاك ملتزم بهذا الزّي أكثر حتى من قبطان الطائرة. شوّقتُكم إلى معرفة ثياب هؤلاء الملائكة، أليس كذلك؟ إذن هاكم هذا الوصف الذي لا يمثّل الأصل بالطبع، ويمكننا عدّه نسخة مزورة: السُّترة مهترئة قديمة بالية وأطرافها ممزقة، وحائلة اللون بالطبع، وتحمل بالإضافة إلى ذلك أكثر من وزنها من غبار التراب والإسمنت والرمل والجَصّ. هي تمثال لسُترة، إن صحّ التعبير، منحوتة بطريقة الفن الحديث، ونقطة ارتكاز النصب - أي المكان الأكثر تعبيراً - تقع عند الكوعين، لأن القماش فُقد هنا وبانت البِطانة بطريقة أنها تقدّمت إلى الأمام وصارت هي القماش والبطانة معاً. لقد تحمّل الكوع أطنان الثقة بالنفس والشعور بالدَّعة والسَّكينة لدى الكرّاك، ونتيجة للحتّ المستمر على القماش على مدار السنين صار موضع الكوع منحوتة فريدة. القميصُ لا يبين منه إلا القليل لأنه محجوب (بما بعد أناقة) السترة. أما البنطال فأصله يعود إلى أرخص (البالات) المستوردة من قبل تجّار آخر زمان من دول يعيش ناسها تحت خط الفقر بدرجات، فهي لديهم من سقط المتاع، وأقلّ من ذلك.
جاءنا تجارنا الجدد ببضاعة شبعت موتاً، وبعثوها حيّة في أسواق الفقراء. المقاسُ ضائعٌ بالطبع، فبنطلون الكرّاك عريض وقصير وطويل وضيّق. الأزرار مفقودة، وبدل الحزام نرى حبلاً مشدوداً ومعقوداً بإحكام، ونقطة الارتكاز في منحوتة البنطال تقع في الفتحة التي تؤدي إلى المنطقة الحسّاسة، فهي مفتوحة دائماً وأبداً لأنه لا أزرار أو سحّاب أو إبزيم يسدها. إنها تبدو مثل خطٍّ منحرف مزخرف يبين منه سواد ليس كمثله شيء.
من يتعرف على هؤلاء عن قرب ويعرف طباعَهم يتعلّم معنى أن يعيش المرء شخصاً مهذَّباً، أما عن لمستهم الخاصة بكيفية نقل ما في المجرفة من أنقاض إلى مكانه في الشاحنة وبالترتيب، فأعتقد أنها علامة العبقرية. تحمل أسمال هؤلاء العمّال سحراً غريباً ومحيّراً؛ حيث يذوب الجمال في الأخلاق، وينتج عنه شعور بالأناقة أرجواني بامتياز.
لو وقف بجوار الكرّاك شاب مترف وغندور بأبهى بدلة مستوردة من دنيا الأغنياء، لرأينا الفارق واضحاً بين الأناقة والشعور بها، الثانية تعطي النفس رزانة وثقلاً وهيبة تضاهي ما في تمثال دافنشي القائم في ميلانو، حيث نرى بوضوح السَّكينة التي يوفّرها الإلهام وهي تشحذ سِكّينها، وتحاول الهجوم على القُبح القديم والمتأصّل في العالم. بينما يقف شابنا الغندور الأنيق للغاية سابحاً في الهواء لفرط خفّته، تتنازعه مما لا أدريه من أفكار تدور حول الزينة والبطر والترف، فإذا صوّتتْ نملة مصابة بالحصبة بالقرب منه فقَدَ وعيَه من شدّة الخوف.
يعيش هؤلاء العمّال في العراق في أكثر أزمانه رخاءً، ومع هذا يقاسون الجوع والعوز. هل لي أن أقول إن الثّواب العظيم في البؤس يمكن أن يصقلهم ملوكاً؟! من يدري، ربما كانوا ملوكاً حقيقيين تخفّوا في ثياب عمال مرقعة موسخة، كي لا يكشفوا عن أنفسهم، ويثيروا عليهم الغوغاء! لنا أن نتخيّل عودة هؤلاء الملوك إلى بيوتهم؛ مسيل من منازل عتيقة مجذومة يميل أحدها على الآخر، وهذه تؤدي هي الأخرى دور التخفي عن العامة التي يدعونها أكواخاً، كي لا تعلن عن الترف الذي يعيشون فيه، ولا تفصح عن المنعة التي فيها، فهي آمنة ومحصنة والحق يُقال كأنها مبنية في قلب أحد الأهرامات. وبعد أن يحضر الزوج، تقوم إحدى النساء (الزوجة أو البنت أو الكنّة) بتحضير الطعام المؤلّف دائماً من خبز وخضراوات. الأول يوزَع طحينه بأسعار زهيدة ضمن البطاقة التموينية، والخضراوات التي تدخل مائدة هؤلاء الملوك تُزرع في أعماق البحر، حيث تتفشى أسماك القرش، وكان عليهم الفوز بها بعد صراع يوقع بعضهم صرعى بين أنياب تلك الوحوش.
كان الإمام الصّوفي عبد القادر الكيلاني متمسّكاً بعادة ظلّت ملازمة له، وهي أن يرتدي أبهى الثّياب عندما يتّجه إلى العامة في أثناء خطبة الجمعة أو العيد وغير ذلك، ورُوي عنه أنه عندما حضرته الوفاة، ظلّ يردّد فِعل «تعزَّزْ» بصيغة الأمر وهو غائب عن الوعي، وكانت هذه وصيته إلى ابنه عبد الرحمن الذي أسلم الروح بين يديه. هل كان الإمام يرد بهذا السلوك على معارضيه من المتصوّفة الذين كانوا يلبسون الخِرَق والمرقعات ويقضون حياتهم في فقر وعوز وزهد؟ إن العِزّ في الملبس يقود حتماً إلى أفكار عظيمة وخالدة، وهذه تجلب المنعة للنفس من أن تنحدر إلى الرّثاثة في المعتقد، الآفة التي لا قيام للمرء بعد أن يستقر في شركها.
ما توصّلنا إليه يؤدي إلى سؤال آخر: هل للأزياء علاقة بالإثارة والغبطة أو ما يمكن نعته بحالة النشوة التي يقع الإلهام عند عتباتها؟ لكن حالة التّغيير والانقلاب في الشعور الذي يصل حد النشوة، والذي مصدره اللاوعي، ربما كان مبعثه عند فئة من العمال ثياب لا علاقة لها بالأناقة من قريب أو بعيد، والتعبير الأدق عنها هو «ضد الأناقة». يعيش هؤلاء في بلدي ويختصون برفع الأنقاض، وندعوهم «كرّاكة»، أي حاملي «الكرك»، وهو المجراف الذي يستعملونه. إن ما وراء الأناقة تبتدع فنوناً من التّزيين خاصة بها، ويرتدي الكرّاكة ثياباً تميّزهم عن البقية، ويحرصون عليها، لأنها هي الدافع وراء المهارة والحِرفيّة العالية في عملهم، التي لا يجيدها غيرهم، فهم يرمون مخلفات عمليتي الهدم والبناء إلى سطح شاحنة متوقفة قريبة، ويستطيعون تقدير الموضع على السطح دون أن يطلوا عليه. يقف اثنان منهم على جانبي الشاحنة، ويقسمون السطح في خيالهم إلى نصفين متساويين بالضبط، كل منهما له نصفه، ثم يجزّئون النصف إلى ثلاثة أثلاث طولية، واحد قريب من حافة سطح الشاحنة، وآخر بعيد، وثالث يقع في الوسط. في خلال أقل من نصف ساعة يتمكن هذان العبقريان من ملء الشاحنة بالأنقاض، مع الحرص على ألا يعلو ارتفاعها عن مستوى السطح مليمتراً واحداً، ومن غير أن يتداخل عملهما، أو يتعدى أحد الأثلاث على آخر. يقدّر العامل موضع رميته دون رؤية السطح مجسداً أمامه، بل يتمّ ذلك بفضل صور ذهنية لعل الإلهام هو أحد أسباب اكتسابها، والعمل يجري بالطبع بسرعة بالغة كسباً للوقت، لأن هناك شاحنة ثانية وثالثة تنتظر دورها للتحميل، فإذا نظرت إلى سطح الشاحنة المحملة في الأخير رأيته يشبه كعكة مستطيلة الشكل بأضلاع متساوية وهيئة منتظمة، ولا يُلقي في الأخير أي من الكرّاكَين نظرة على نتائج عمله، فهو واثق تماماً أن الأمر لا يمكن أن ينتهي بصورة أفضل حتى لو قام به جوبيتر يساعده بقية الآلهة. أنا متأكد أن شعور الاثنين بالتعب البالغ من هذا العمل الشاق، سوف يخفّف منه التدفق الهائل للغبطة الجمالية التي تصاحب الإلهام.
لوصف زي هؤلاء العمال أستعين بشعر لآرثر رامبو، فهو ينتمي إلى مِلّتهم، ويمكننا عدّهُ واحداً منهم. نقرأ في «فصل من الجحيم»: «ذات مساء، أجلستُ الجمالَ على ركبتيّ، ووجدتُهُ مُرّاً، فأهنته». اختار الكرّاكون أن يهينوا فريق العمل المسؤول عن تصميم البدلة الجديدة والثمينة وخياطتها وصنعها من مادة خام جميعاً، ومع هذا قدّموا لنا أزياء خاصّة بهم، تشبه قصائد رامبو في الفرادة، وتمنحهم كذلك الثقة بالنفس والشعور العميق بالسكينة وبالوجاهة بين الآخرين، والرِّفعة، تماماً مثل شعور رامبو بين بقية الشعراء، وغرض التشبيه هنا هو إلقاء الضوء على الكلام، ولا يدخل في باب النقد.
عمّال البناء الآخرون، بمن فيهم الأسطوات، يمكنهم ارتداء دشداشة أو بيجامة أو بدلة عسكرية بالية، لكن الكرّاك ملتزم بهذا الزّي أكثر حتى من قبطان الطائرة. شوّقتُكم إلى معرفة ثياب هؤلاء الملائكة، أليس كذلك؟ إذن هاكم هذا الوصف الذي لا يمثّل الأصل بالطبع، ويمكننا عدّه نسخة مزورة: السُّترة مهترئة قديمة بالية وأطرافها ممزقة، وحائلة اللون بالطبع، وتحمل بالإضافة إلى ذلك أكثر من وزنها من غبار التراب والإسمنت والرمل والجَصّ. هي تمثال لسُترة، إن صحّ التعبير، منحوتة بطريقة الفن الحديث، ونقطة ارتكاز النصب - أي المكان الأكثر تعبيراً - تقع عند الكوعين، لأن القماش فُقد هنا وبانت البِطانة بطريقة أنها تقدّمت إلى الأمام وصارت هي القماش والبطانة معاً. لقد تحمّل الكوع أطنان الثقة بالنفس والشعور بالدَّعة والسَّكينة لدى الكرّاك، ونتيجة للحتّ المستمر على القماش على مدار السنين صار موضع الكوع منحوتة فريدة. القميصُ لا يبين منه إلا القليل لأنه محجوب (بما بعد أناقة) السترة. أما البنطال فأصله يعود إلى أرخص (البالات) المستوردة من قبل تجّار آخر زمان من دول يعيش ناسها تحت خط الفقر بدرجات، فهي لديهم من سقط المتاع، وأقلّ من ذلك.
جاءنا تجارنا الجدد ببضاعة شبعت موتاً، وبعثوها حيّة في أسواق الفقراء. المقاسُ ضائعٌ بالطبع، فبنطلون الكرّاك عريض وقصير وطويل وضيّق. الأزرار مفقودة، وبدل الحزام نرى حبلاً مشدوداً ومعقوداً بإحكام، ونقطة الارتكاز في منحوتة البنطال تقع في الفتحة التي تؤدي إلى المنطقة الحسّاسة، فهي مفتوحة دائماً وأبداً لأنه لا أزرار أو سحّاب أو إبزيم يسدها. إنها تبدو مثل خطٍّ منحرف مزخرف يبين منه سواد ليس كمثله شيء.
من يتعرف على هؤلاء عن قرب ويعرف طباعَهم يتعلّم معنى أن يعيش المرء شخصاً مهذَّباً، أما عن لمستهم الخاصة بكيفية نقل ما في المجرفة من أنقاض إلى مكانه في الشاحنة وبالترتيب، فأعتقد أنها علامة العبقرية. تحمل أسمال هؤلاء العمّال سحراً غريباً ومحيّراً؛ حيث يذوب الجمال في الأخلاق، وينتج عنه شعور بالأناقة أرجواني بامتياز.
لو وقف بجوار الكرّاك شاب مترف وغندور بأبهى بدلة مستوردة من دنيا الأغنياء، لرأينا الفارق واضحاً بين الأناقة والشعور بها، الثانية تعطي النفس رزانة وثقلاً وهيبة تضاهي ما في تمثال دافنشي القائم في ميلانو، حيث نرى بوضوح السَّكينة التي يوفّرها الإلهام وهي تشحذ سِكّينها، وتحاول الهجوم على القُبح القديم والمتأصّل في العالم. بينما يقف شابنا الغندور الأنيق للغاية سابحاً في الهواء لفرط خفّته، تتنازعه مما لا أدريه من أفكار تدور حول الزينة والبطر والترف، فإذا صوّتتْ نملة مصابة بالحصبة بالقرب منه فقَدَ وعيَه من شدّة الخوف.
يعيش هؤلاء العمّال في العراق في أكثر أزمانه رخاءً، ومع هذا يقاسون الجوع والعوز. هل لي أن أقول إن الثّواب العظيم في البؤس يمكن أن يصقلهم ملوكاً؟! من يدري، ربما كانوا ملوكاً حقيقيين تخفّوا في ثياب عمال مرقعة موسخة، كي لا يكشفوا عن أنفسهم، ويثيروا عليهم الغوغاء! لنا أن نتخيّل عودة هؤلاء الملوك إلى بيوتهم؛ مسيل من منازل عتيقة مجذومة يميل أحدها على الآخر، وهذه تؤدي هي الأخرى دور التخفي عن العامة التي يدعونها أكواخاً، كي لا تعلن عن الترف الذي يعيشون فيه، ولا تفصح عن المنعة التي فيها، فهي آمنة ومحصنة والحق يُقال كأنها مبنية في قلب أحد الأهرامات. وبعد أن يحضر الزوج، تقوم إحدى النساء (الزوجة أو البنت أو الكنّة) بتحضير الطعام المؤلّف دائماً من خبز وخضراوات. الأول يوزَع طحينه بأسعار زهيدة ضمن البطاقة التموينية، والخضراوات التي تدخل مائدة هؤلاء الملوك تُزرع في أعماق البحر، حيث تتفشى أسماك القرش، وكان عليهم الفوز بها بعد صراع يوقع بعضهم صرعى بين أنياب تلك الوحوش.