إذا انطلقنا من مفاهيم الشعر الكثيرة، والتي تتفق على أن هذا الفن هو الكلام الذي قوامه الوصف والتصوير، استنادا إلى اللغة المتينة ذات الأبعاد الفنية والجمالية، فإنه يتجلى لنا أن الصورة الشعرية المراد وضعها وتخييلها هي التي تحدد الشكل اللغوي الذي يليق بها، ويناسب معناها لتكون في تمام الشعرية وقمة الدهشة. فالشكل اللغوي بمثابة مكياج الصورة ومعناها، وهو في خدمتها دوما. وهذا ما اتجه إليه ميخائيل نعيمة عندما يقول بأن اللغة مجرد قشرة فقط، إذ أن الجوهر هو الصورة والمعنى، ولذلك فإن الإشتغال الشعري يكون على صورة النص قبل بناءه اللغوي، فاللغة تأتي بعد نضج الصورة وخلقها وصفا وتخييلا، ولا قيمة لهذه اللغة إلا من خلال المعنى الذي تحيل إليه، من هنا انطلق علم الدلالة في دراسته لمعنى المعنى.
هذا يعني أن كتابة الشعر تكون بتخييل الموضوع المراد تصويره، والتخمين في الأوصاف المراد إلحاقها به، أو وضعه فيها، وكذا اكتمال الرؤية الشعرية في كيفية طرح هذا الموضوع، ثم البدء في التشكيل اللغوي لهذه الصورة التي تفرض على الشكل اختيارات لغوية محدودة، فالصورة المتخيلة في ذهن الشاعر تكون قد فرضت قيودا على المفردات والتراكيب والأساليب التعبيرية والبلاغية التي ستنقل النص من صورته المعنوية إلى صورته الحسية. هذا الاشتغال وجدناه في شعر رشيد دحمون عندما أتينا عليه، حيث تجلى الإهتمام بالشكل من أجل أن يكون موافقا لمعنى الصورة، مانحا لها ما تحتاج إليه الشعرية المعاصرة.
1/ المعجم المفرداتي:
اعتمد الشاعر رشيد دحمون في صقل صورته الشعرية على مفردات لغوية موحية، ألبست المعنى عباءة الرمزية والتضمين، حيث أن الشاعر لم يوظف المفردة اللغوية بمعناها المعجمي الذي ورد في قواميس اللغة، أو بذاك المعنى الذي يحتويه حديث العامة، وإنما كان الإشتغال هنا على المعاني المجازية لهذه المفردات، ولذلك فقد كان الانتقاء المعجمي هنا يقوم على أساس الإبتكار والتوليد، من خلال توليد معان شعرية جديدة لمفردات معهودة.
يقول الشاعر:
ظِلٌّ..
بِلَا شَمْسٍ، ولَا قَمَرٍ، ولَا..!
ظِلٌّ؛ يُقَابِلُنِي، وفِيَّ يُحَدِّقُ!
حَجَرٌ، وإسْمَنْتٌ، وصَوْتٌ خَافِتٌ..
مَنْ ذَا يُكَلّمُنِي؟
رَصِيفٌ مُرْهَقُ!
جَسَدِي الّذِي..؟
جَسَدِي فَرَاغٌ!
أيْنَ رأْسِي؟
أيْنَ ذَاكَ العَقْلُ..؟
أيْنَ المَنْطِقُ؟
جبَلٌ مِن النّارِ الّتِي لَا تَنْطَفِي..
أتُرَاهُ ذَا ذَنْبِي..
وفِيهِ سَأُحْرَقُ!
أهِيَ القِيَامَةُ؟
دَاهَمَتْنِيَ بَغْتَةً..
وأنَا بِصَحْرَاءِ الغِوَايَةِ أَغْرَقُ
بَرْقٌ، وزِلْزَالٌ، ورِيحٌ صَرْصَرٌ تَعْوِي..
وغَيْمٌ غَاضِبٌ يَتَدَفّقُ
حَبْلٌ سَدِيمِيٌّ.. يُكبِّلُ ذَا الْمَدَىْ
ويَدٌ مِنَ الأَعْلَى، تَلُفُّ وتَشْنُقُ!
في هذا المقطع تحديداً تم صياغة الصورة الشعرية في شكل يسوده التكثيف اللغوي للمفردات وما تحيل إليه من معان أيضاً، فهذه المفردات تناسب سياق النص الهارب من ذاتية الشاعر وتجربته النفسية، فمفردات ( مرهق، أغرق، غاضب، سأحرق..)، ومفردات ( الشمس، البرق، القمر، النار..)، التي تمثل الطبيعة، تؤكد أن الانسان ابن بيئته ولذلك فهو أيضاً مزاجي يتقلب لتقلبها. كما شهد هذا المقطع أيضاً تأملا في هذا الوجود وتمثل لذلك الصور الشعرية المستوحاة من الطبيعة، فالتأمل في الطبيعة،هو تأمل في الوجود، وهذا ما تبينه تلك التساؤلات والاستفسارات التي طرحها النص، وفق رؤية شعرية تخاطب وعيها.
هذه المفردات تأتي متتابعة متلاحقة ببعضها البعض، فإن وردت مفردة النار ترد بعدها مفردة الحرق، وإن وردت مفردة البرق والغيم، وردت بعدها مفردة التدفق، كما هو وارد في هذا النص بالضبط، وهذا ما جعل المعنى يكتمل مشكلا مشهداً بصريا يمكن تخيله.
يقول أيضاً:
العَارِفُونَ بِمَا فِي الدَّهْرِ مِنْ كَبَدٍ
عادُوا إِلَىْ الطِّينِ..
مُكْتَظِّينَ بِالْعِفَّهْ!
ما صَدّقُوا الرِّيحَ، إذْ نَاحَتْ..
ولا انْخَدَعُوا بِالشّمْسِ..
إذْ ضَحِكَتْ فِي وجْهِهمْ صُدْفَهْ
قَدْ أدْركُوا أنّ وَعْدَ البَحْرِ.. مِنْ زَبَدٍ
مَنْ خَاضَهُ؛
خَاضَهُ مُسْتَعْجِلًا حَتْفَهْ
وأنَّ كُلَّ يَدٍ تَمْتَدُّ.. ما هِيَ إلّا..
مِخْلَبٌ جَاءَ مُغْتَالًا..
بِلَا رَأْفَهْ!
أنّ المُعَزِّينَ جَزّارُونَ..!
أدْمُعُهمْ مِثْلَ السّكَاكِينِ؛
حَوْلَ الرُّوحِ مُلْتَفّهْ
العَارِفُونَ يَتَامَى!
مَنْ سَيَمْنَحُهُمْ.. -غَيْرُ التّرَابِ- أَبًا..
يهْدِيهُمُ عَطْفَهْ..؟
المعجم المفرداتي لهذا النص أيضاً، تشكله بعض مفردات الطبيعة كالريح والشمس والطين والبحر، والتي كان لها طبعاً الدور البارز في تجسيد الصورة الشعرية وتوضيح ما ترمي إليه، فهي تصور الإنسان والإنسان ابن الطبيعة، ولقد كان معنى هذه المفردات إيحائيا يحتاج إلى القراءة والتفكيك، فهو يدل على معان لم تقصدها اللغة بعينها، كمعنى الموت الذي يقصده النص من مفردة الطين في قوله: العَارِفُونَ بِمَا فِي الدَّهْرِ مِنْ كَبَدٍ
عادُوا إِلَىْ الطِّينِ..
مُكْتَظِّينَ بِالْعِفَّهْ!
والملاحظ أن هذه المفردات إضافة إلى مفردات الروح والدمع والسكاكين واليتامى...، قد منحت هذه الصور التي تصف هذه الفئات من الناس، قوة في المعنى وجزالة في التعبير. فتصوير التراب على أنه الوحيد الذي يمنح العطف ووصفه بالأب، هي الصورة البليغة التي تلخص واقع اليتامى شكلا ومضموناً، وعلى الرغم من بساطة المفردة اللغوية في هذا التصوير إلا أن قيمتها تكمن في المعنى العميق الذي تؤديه داخل هذا السياق التصويري.
يقول رشيد دحمون في نصه قبَسُ النُّبوّة:
اِقْرَأْ..
فخَارجَ هَذَا الغَارِ أسْئِلَةٌ عَطْشَى إلَيْكَ؛
إلى (بِسْمِ الّذِي خَلَقَا)
إلَى الّذِي رَوّضَ المَعْنَى..
وصَيّرَهُ عصًا لَو اِنْغَمسَتْ في البَحْرِ لاِنْفَلَقَا!
إلَى الّذِي عَلّمَ الدُّنْيَا ابْتِسَامَتَهَا
وشَقَّ لِلحُبِّ في سَفْحِ الشَقَا نَفَقَا
اِقْرَأْ، فَوَحْدَكَ أبْوابُ السّمَا انْفتَحَتْ بكَ اِحْتِفَاءً..
فكُنتَ الشّمْسَ، والأُفُقَا
وكُنتَ بوْصَلةً لِلطّامِحِينَ إلى كَفٍّ مِن اللّه..
تَرْوِيهمْ كؤُوسَ تُقَى!
وكُنتَ، إذْ كُنتَ..
معْنى لَمْ يجِدْ لُغةً
وكُنتَ، إذْ كُنتَ..
رُوحًا ترْتَدِي خُلُقَا
تشْتَاقُكَ الأرْضُ، مُذْ عِيسَى رَوَى نبَأً؛
أن صَدّقُوه..
وسِيرُوا خلْفَهُ فِرَقَا
مُذْ أنْتَ فِي ظُلمَاتِ الغَارِ مُرْتَجِفٌ
وفَوقَكَ النُّورُ، يَتْلُو حوْلَكَ (العَلقَا)
مُذْ أخْرجُوكَ بِلا زَادٍ، ولَا حَرَسٍ
فزِدْتَ في البُعْدِ إيمَانًا..
وهُمْ.. أرَقَا!
تُهرّبُ الضّوءَ ليْلًا، والسُّيُوف دَمٌ
وبعْدَ كُلّ ظلامٍ.. تَرْسُمُ الشّفَقَا
كَمْ ظلّ قَبْلكَ هذَا الفجْرُ مُحْتَجِبَا؟
وحِينَ أذّنْتَ.. فَارَ النّورُ، وانْعَتقَا
وجاءَك النّاسُ أفْواجًا..
وقدْ وُئِدَتْ فيهمْ عدَاوتهمْ
واسْتعصَموا رُفَقا
كأنّما لمْ يكُن ثأْرٌ يشتّتهم
كأنّهمْ لمْ يكُونوا قَبلهُ فُرَقَا!
"اللّه أكبرُ"..
ما دوّتْ على صنَمٍ
إلا انْحنَى خجِلًا، وانْهدّ واِنْمَحقَا
"اللّهُ أكبرُ"..
ما اِنْسَلّت إلى أذُنٍ صَمّاءَ
إلّا -خُشُوعًا- سَمْعُها انْفَتقَا!
"اللّهُ أكْبَرُ"..
والرّايَاتُ مُشْرَعَةٌ
تمدُّ أحْبَالَ صَوْتٍ.. ظلَّ مُخْتَنِقَا!
مَشَيْتُ نَحْوَكَ، مُشتاقا، وبي ظمَأ
وكل بابٍ عدا أبوابكَ.. انغلقَا !
مشيت نحْوك، لا أدري، أتشفعُ لي
هذي الحُروف، فأُسقى مِنك.. لو رمَقا
يا يوم نأتي فُرادى، لا نرى أحدًا
وأنت وحدكَ فينا تجمعُ الرُفقَا
يُمناك ترفع هذا الدِّين مئذنة
وحولكَ المُخلصون، العامرُون نقَا!
الحالِمون بِوجْه الله، مُبْتسِمًا
ومنهُ هُمْ يعصِرُون النّورَ، والعبَقَا
أنّى الْتَفَتْنا، وجوهٌ للسّما شخصتْ
عطْشَى إلى شَربةٍ تمحُو بها الأرقَا
إلى شفَاعتِكَ الخضْرَاءُ، ترْفعُها معَ النّبيئين..
والنُسّاك، والعُتَقَا
اليومَ.. لا..
لا عصَا (مُوسى) ستُبعِد عن وجْهي فَحيحَ خطَايا..
تنقثُ الحُرَقَا
ولا سفينةُ (نوحٍ) سوْفَ تعْصِمُنِي
إنْ أذّن اللّه في الطُّوفانِ.. فانْدَفقَا!
أصِيحُ يا صاحبًا لِلحُوت.. ها جسَدِي
يغُورُ في التِّيهِ.. عطْشَانًا، ومُحْترِقَا
يا حدْسَ (يُوسفَ)، لي رُؤيا تُؤرّقُني
وأنتَ وحْدكَ.. منْ تأويلهُ صَدقَا
يا صَبْرَ (أيُّوب)، هلْ في الصّبر مِنْ أمَلٍ
إلى فُؤادٍ تَمنّى.. ثُمّ.. ما لحقَا
يا وجْهَ (أحْمدَ)، هذا القلبُ يحْمِلني
إليكَ.. والقَلبُ ميّالٌ.. لِمَن عشِقا !
كُنْ لي شَفِيعًا، حَبِيبًا..
يوْمَ لا.. وَلَد يغْنِي ولا والِد..
يشْتَقُّ لِيْ الطُّرُقَا
هذا النص الطويل يؤكد مقولة أن معنى المفردات تحددها السياقات، فكل مفردة لغوية ستأخد معنى جديداً بمجرد وضعها في سياقات مختلفة، ولأن سياق هذا النص هو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، كان لا بد على هذا النص اختيار مفردات في مستوى المدح والتبجيل، ومنح أعظم الأوصاف لأعظم خلق الله، فكانت هذه المفردات تزيد الصور الشعرية اكتمالا، لما تتضمنه من معان بليغة، والتي يقصد بها صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وخصاله، كمفردة النور التي تدل على نقاوة وصفاء وجهه، وكذلك مفردة شفاعة التي تعني أنه الشفيع لعبده، إضافة إلى مفرادت أخرى كالإيمان والشفق والتقى وغيرها.
في الأبيات الأخيرة من هذا النص انتقلت اللغة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وتصويره، إلى مناجاته وطلب عتقه، فالمفردات هنا تتغنى به آملة لقياه. وهو نوع من التصوف كما أجمع بعض النقاد، وهذا ما يجعلنا نقول أن المعجم المفرداتي هنا معجم صوفي أتى لتصوير غظمة نبي الله ومناجاة شفاعته.
2/ التراكيب النحوية:
لم يعتمد رشيد دحمون في البناء اللغوي لنصوصه على شكل واحد، ولا على تكرار تركيب نحوي محدد، فالتشكيل النحوي لصوره الشعرية كان متنوعا ومختلفا باختلاف الصورة الشعرية وتنوع دلالتها ومعانيها، ولذلك كان كل نص يحتفظ لنفسه بشكله النحوي وأساليبه التعبيرية.
2/1: الجمل:
إذا ما تحدثنا عن الجمل الواردة في مختلف النصوص، نقول عنها أنها جمل قصيرة إلى متوسطة الطول، فهي لم تكن طويلة جداً إلى درجة الحشو ورصف الكلمات بعضها إلى بعض، وإنما كانت في المستوى المطلوب لما يناسب الصورة الشعرية، فالجمل النحوية في أغلب نصوص هذا الشاعر، طولها مقترن باكتمالية المشهدية الشعرية التي يتم وصفها وتصويرها، ثم توزع على بحور الخليل بما تستدعيه من تفعيلات. أي أن البناء يكون مقرونا بالمشهد لا بمتطلبات الوزن.
يقول الشاعر:
لو كُنتِ تدْرينَ؛
كمْ عاثَ الزّمانُ بِهِ؟
كمْ رمّمَ الرُّوحَ، كيْ يأْتِيكِ مُجتمِعَا؟
كمْ طاوَعَ الطّفْلَ.. فِيه..
كمْ..؟
ليُسكِتهُ..
كمْ ظَلّ في البِئْرِ، كيْ تَلْقَيْهِ مُرتَفِعَا؟
يا أيّها النّجمُ.. كمْ قدْ بِتَّ مُحْتَرِقا
كيْ يهْتِفَ الكَونُ:
( يا أللّه.. كمْ سطَعَا..!)
التراكيب النحوية في هذا المقطع وكما هو واضح، تنتهي بانتهاء الصورة الشعرية، إذ تحتوي كل جملة نحوية على مشهد شعري يبدأ في الأولى وينتهي في الثانية، ممثلين صدر البيت وعجزه، ما جعل هذه الصور ترد في شكل موجز منحها عمق المعنى وجاذبية التوصيف.
هذه التراكيب النحوية لم تتميز بقصرها فقط، بل إنها جاءت في أغلب النصوص مسبوكة، يتوافق فيها المصطلح بالمعنى الشعري، وكذلك الروابط التي تربط بينهما، فكان التعالق النحوي والدلالي بين الجمل بارزاً، يبرز الإشتغال اللغوي على الصورة الشعرية، ومن أمثلة ذلك هذا المقطع الذي جاء فيه قول الشاعر:
كانُوا غِزَارًا..
ولَمْ تسْعِفْهمُ اللّغَةُ
فكَانَ أبْلغ ما قالُوهُ؛ إذْ سَكَتُوا!
وكَانَ أشْعَرهُمْ.. مَنْ ظَلّ مُبْتَسِمًا
يَبْتزُّهُ الحُزْنُ، لَكِنْ ليْسَ يَلْتَفِتُ.
مَرُّوا خِفَافًا.. من المَعْنَى..
وأنفُسُهمْ مُكْتَظّةٌ
لوْ أسَالُوا حِبْرَها.. انْفَلَتُوا!
معنى المقطع تمثله الجمل المشكلة له، والملاحظ أثناء قراءتها أنها سلسة وعذبة لسلاسة بناءها التركيبي والعلائق التي ربط بها الشاعر أفكاره، وهذا موجود في أغلب النصوص ومعظمها تقريباً، ما منحها جمالية المعنى، عذوبة اللفظ، وغنائية موسيقية أنتجها هذا التماسك اللغوي.
ما تميز به التركيب النحوي في الكتابة الإبداعية لرشيد دحمون أيضاً، تنويعه في الخطاب، حيث أنه في بعض النصوص، تقوم الذات الشاعرة بمخاطبة الآخر ثم تنتقل لمخاطبة ذاتها، ثم تعود لتخاطب الآخر مرة أخرى، وهو نوع من التنويع البنائي للتراكيب النحوية داخل النصوص.
يقول الشاعر:
ولْتَغْرُبِيْ إنْ شِئْتِ..
أنْتِ هُنَا مَعِي
ما بَيْنَ أفْرَاحِي، وبَيْنَ مَوَاجِعِي
إنْ تَضْحَك الدُّنْيَا؛
فَأَنْتِ سُرُورُهَا
إن يُبْكِنِي دَهْرِي؛
فَأَنْتِ مَدَامِعِي
كَلّ الّذِينَ مَضَوْا رُكَامُ (كَنَائِسٍ)..
جَهلَتْ عَلَيَّ
وأَنْتِ.. أوَّلُ (جَامِعِ)..!
إنْ كنْتُ أعْذَبَ شَاعِرٍ..
فَالفَضْلِ لِلْأُنْثَىْ الّتِيْ تُوحِيْ إليَّ مَطَالِعِي!
ويقول في موضع آخر:
حَمّلْتِني أثْقَلَ الأسْمَاءِ.."
قلْتُ لهَا:
ماذَا لوْ اخْتَرتِ لِيْ اِسْمًا بِلَا مَعْنَى؟
اِسْمًا كمَا الرِّيح، لا تَحْتَاجُ بَوْصَلَةً
لا تَسْألُ الأرْضَ.. إنْ تَاهَتْ بِهَا:
(أيْنَ..؟)
اِسْمًا كمَا النَّرْد، مَجنُونًا بِأوْجُهِهِ
دوْمًا يُبَدّلُهَا؛ لَوْنًا يَلِي لَوْنَا..
اِسْمًا يُحَرّرُنِي مِنِّي..
ومِنْ قَلَقِي
ومِنْ حُرُوفٍ أقَامْت حَوْلِيَ السِّجْنَا
أشْقَى، لأُثْبِتَ أنّي مِثْلهُ.. وَرِعٌ
وداخِلِي الرُّوحُ تُفْنِينِي، وبِي تَفْنَى!
يا أُمّيَ، "الرُشْدُ" أعْيَا الشّيْخَ..
كيْفَ فَتًى مِثْلِي..؟
لَو الطّيْشُ نَادَاهُ، لَهُ حَنّا..!
"الرُّشْدُ" لِلّهِ يا أُمِّيْ..
فَهَلْ أحَدٌ يُنافِسُ اللّهَ فِي أسْمَائِهُ الحُسْنَى..!؟
إن هذا التدرج بين جمل تخاطب الذات الشاعرة وتخاطب الآخر في بيت شعري واحد، يبرز قدرة الشكل اللغوي الذي تم خلقه في هذا النص على احتواء الصور الشعرية وتشخيص معانيها.
كما أن الانتقال بين المخاطبين ورد في جملة نحوية واحدة، مثل قوله: إن يُبْكِنِي دَهْرِي؛
فَأَنْتِ مَدَامِعِي
وهذا ما منح هذه التراكيب النحوية سيولة شعرية، وأوصافا جمالية تختلف من تركيب نحوي إلى آخر.
2/2: النداء:
من الأساليب النحوية التي اعتمدها شعر دحمون للتعبير عن الأفكار، وتصوير عواطفه وتأملاته الوجودية داخل مختلف نصوصه، أسلوب النداء، والذي ورد في أكثر من نص، كما أنه كان يتكرر أحياناً كثيرة، في أكثر من جملة داخل المقطع الواحد، وذلك لأن التراكيب النحوية تخلق من أجل نقل معان تصويرية يريد الشاعر إيصالها للآخر، ولأنه يقصده بها في أحيان كثيرة. فجاء النداء على رأس صور عديدة، ذكرنا بعضها فيما سبق. ومن أجل التوضيح لا حرج في الإعادة، ففي الإعادة إفادة.
يقول:
أصِيحُ يا صاحبًا لِلحُوت.. ها جسَدِي
يغُورُ في التِّيهِ.. عطْشَانًا، ومُحْترِقَا
يا حدْسَ (يُوسفَ)، لي رُؤيا تُؤرّقُني
وأنتَ وحْدكَ.. منْ تأويلهُ صَدقَا
يا صَبْرَ (أيُّوب)، هلْ في الصّبر مِنْ أمَلٍ
إلى فُؤادٍ تَمنّى.. ثُمّ.. ما لحقَا
يا وجْهَ (أحْمدَ)، هذا القلبُ يحْمِلني
إليكَ.. والقَلبُ ميّالٌ.. لِمَن عشِقا !
كُنْ لي شَفِيعًا، حَبِيبًا..
يوْمَ لا.. وَلَد يغْنِي ولا والِد..
يشْتَقُّ لِيْ الطُّرُقَا
النداء هنا كان مكملا للصورة الشعرية، إذ أنه يقصد وصفا من الأوصاف التي منحها المشهد الشعري للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي فإنه كأسلوب نحوي كان يساهم في تشكيل شعرية الصورة الفنية للموصوف وخلقها. بل إن هذا الأسلوب كان المحدد للصورة الشعرية في كل بيت شعري.
3/ الرمزية التراثية:
تحدثنا في ما سبق عن المعجم المفرداتي وتشكيله للصورة الشعرية، وفي هذا العنصر سنأتي على المفردات التي كانت رمزاً في حذ ذاتها وليس في ما تحيل إليه من معنى خفي ومضمن، تكشفه القراءات والتأويل. حيت اعتمد رشيد دحمون في بعض نصوصه، على مفردات لغوية تمثل في معناها الطبيعي رمزية تراثية، نابعة من ثقافة الشاعر وتراث البيئة التي ينتمي إليها. فكانت هذه المفردات ذا رمزية تراثية .
يقول الشاعر مرة أخرى:
وسْطَ الرّصافة) تبْدُو، ثُمّ تَحتَجِبُ
كَسَعْفِها المُتَعَالِي.. كانَت العَرَبُ!
مَمْشُوقَةٌ، تَحْمِلُ التّارِيخَ.. خُضْرَتُهَا
مُنْذُ (اِمْرِئِ القَيْس) لَمْ تتْعَبْ.. وقَدْ تَعِبُوا
غَرِيبَةٌ، مِثْلَما الفُصْحَى (…) بِمَوْطِنِها
فَكُلّ مَنْ حَوْلَهَا عُجْمٌ، وإنْ عَرُبُوا
ما بَيْنَ قِمّتِهَا، والسّفْحِ أزْمِنَةٌ حُبْلَى..
-وإنْ أنْكَرُوهَا- تشْهَد الكُتُبُ
ما بَيْنَ قِمّتِهَا، والسَّفْحِ (أنْدَلُسٌ) ضَاعَتْ..
و(أنْدَلُسٌ) أُخْرَى.. سَتُغْتَصَبُ!
شَدِيدَةٌ.. مِثْلَ (خَنْسَاءٍ)، وشَامِخَةٌ
كمْ راوَدُوهَا، فَظلَّتْ.. مِثْلِمَا يجِبُ
مبْسُوطَةُ الكَفّ، لَمْ تبْخَلْ عَلَى بَشَرٍ
مُذْ جِذْعُها اِهتَزّ، مُذْ (...) واِسّاقَطَ الرُّطَبُ
تُحَدّثُ النّاسَ عَنْ أمّ.. وعنْ ولَدٍ؛
كانَ النّبِيَّ الّذِي لَمْ يَكْتنِفْهُ أبُ
عَنْ رحْمَةِ اللّه، تَغْشَى الأنْبِيَاءَ.. وعَنْ
أنْوارِهِ كيْفَ يُبْدِيها لِمَنْ ركِبُوا
عنْ قَلْبِ (أحْمدَ).. إذْ حنّتْ لهُ، وبكَتْ
عنْ عَطْفِهِ.. فَوْقَ هَذِي الأرْضِ.. يَنْسَكِبُ!
لأنّهَا اِبْنةُ الصّحْرَاءِ.. تُشْبُههَا
فِيْ الصَّبْرِ عَنْ وحْشَةِ الدّنْيَا.. إذا ذَهبُوا
(وسْطَ الرُّصَافَةِ) كَانَتْ، في تغرّبها
واليَوْمَ فِي الأرْضِ، بيْنَ الأهْلِ.. تَغْتَرِبُ!
هذا النص مبني على الرمزية اللغوية المستمدة من التراث العربي في بيئته وحضارته وأدبه أيضاً، فكانت الصورة الشعرية هنا تخلق لذات هذه الرموز ومن أجل ذاتها. ولعل الرمزية التي تعم كل النص هي مفردة الرصافة التي يقصد بها تلك الحضارة العريقة في بلاد الشام، حيث جعلت في هذا النص رمزية على شموخ العرب وعراقتهم وعلو مكانتهم ( معظم أبيات القصيدة)، ثم استخدمت أيضاً كرمزية على تدهور حالة العرب وعيشهم كالغرباء في أوطانهم، ويتجلى ذلك في البيت الأخير من النص.
من أجل تكثيف أكثر لمعنى الأصالة والتاريخ والعراقة التي تحملها رمزية الرصافة، وظف الشاعر رموزا تراثية أخرى حتى تكون الصورة الشعرية أكثر إيحاء، فوردت رمزية إمرئ القيس، وهي رمزية تراثية أدبية، كدلالة على التاريخ الأصيل والإمتداد الطويل لهذه الحضارة العربية.
رمزية أدبية أخرى جاء بها هذا النص، وهي رمزية الخنساء التي حلت محل الشدة والشموخ، فالرصافة كما الخنساء تماماً، تميزت بالصلابة والشدة رغم ما عانته، فبقت شامخة كما يجب عليها أن تبقى.
من الرموز التي شكلت الصور الشعرية في هذا النص أيضاً، رمزية الصحراء التي وظفت خصيصاً في هذا المقطع للدلالة على البيئة العربية الموحشة التي تنتمي إليها هذه الحضارة العربية، والتي علمتها الغربة والوحدة، كإشارة إلى صد العرب عنها حيث أصبحت غريبة بين أهلها وفي أرضها.
في سياق تراجع هيبة العرب، وفي ظل ضياع قيمتهم وأصالتهم كحضارات عربية مرموقة، وظف النص رمزية الأندلس، كتجسيد لمعنى الضياع، فالعرب بعد أن أضاعوا الأندلس، سيضيعون حضارة الرصافة العريقة، عندما يقول: و(أنْدَلُسٌ) أُخْرَى.. سَتُغْتَصَبُ!.
*******
يتبين بعد هذا أنه يجدر الإشارة إلى أن الصور الشعرية الواردة في شعر دحمون، مزجت بين الشكل والمضمون ووافقت بينهما، فتميزت أغلب القصائد بثراء المعجم المفرداتي، وتنوع التراكيب النحوية، ودهشة في التعبير، وجودة في التوصيف ورسم المشاهد الشعرية.
هذا يعني أن كتابة الشعر تكون بتخييل الموضوع المراد تصويره، والتخمين في الأوصاف المراد إلحاقها به، أو وضعه فيها، وكذا اكتمال الرؤية الشعرية في كيفية طرح هذا الموضوع، ثم البدء في التشكيل اللغوي لهذه الصورة التي تفرض على الشكل اختيارات لغوية محدودة، فالصورة المتخيلة في ذهن الشاعر تكون قد فرضت قيودا على المفردات والتراكيب والأساليب التعبيرية والبلاغية التي ستنقل النص من صورته المعنوية إلى صورته الحسية. هذا الاشتغال وجدناه في شعر رشيد دحمون عندما أتينا عليه، حيث تجلى الإهتمام بالشكل من أجل أن يكون موافقا لمعنى الصورة، مانحا لها ما تحتاج إليه الشعرية المعاصرة.
1/ المعجم المفرداتي:
اعتمد الشاعر رشيد دحمون في صقل صورته الشعرية على مفردات لغوية موحية، ألبست المعنى عباءة الرمزية والتضمين، حيث أن الشاعر لم يوظف المفردة اللغوية بمعناها المعجمي الذي ورد في قواميس اللغة، أو بذاك المعنى الذي يحتويه حديث العامة، وإنما كان الإشتغال هنا على المعاني المجازية لهذه المفردات، ولذلك فقد كان الانتقاء المعجمي هنا يقوم على أساس الإبتكار والتوليد، من خلال توليد معان شعرية جديدة لمفردات معهودة.
يقول الشاعر:
ظِلٌّ..
بِلَا شَمْسٍ، ولَا قَمَرٍ، ولَا..!
ظِلٌّ؛ يُقَابِلُنِي، وفِيَّ يُحَدِّقُ!
حَجَرٌ، وإسْمَنْتٌ، وصَوْتٌ خَافِتٌ..
مَنْ ذَا يُكَلّمُنِي؟
رَصِيفٌ مُرْهَقُ!
جَسَدِي الّذِي..؟
جَسَدِي فَرَاغٌ!
أيْنَ رأْسِي؟
أيْنَ ذَاكَ العَقْلُ..؟
أيْنَ المَنْطِقُ؟
جبَلٌ مِن النّارِ الّتِي لَا تَنْطَفِي..
أتُرَاهُ ذَا ذَنْبِي..
وفِيهِ سَأُحْرَقُ!
أهِيَ القِيَامَةُ؟
دَاهَمَتْنِيَ بَغْتَةً..
وأنَا بِصَحْرَاءِ الغِوَايَةِ أَغْرَقُ
بَرْقٌ، وزِلْزَالٌ، ورِيحٌ صَرْصَرٌ تَعْوِي..
وغَيْمٌ غَاضِبٌ يَتَدَفّقُ
حَبْلٌ سَدِيمِيٌّ.. يُكبِّلُ ذَا الْمَدَىْ
ويَدٌ مِنَ الأَعْلَى، تَلُفُّ وتَشْنُقُ!
في هذا المقطع تحديداً تم صياغة الصورة الشعرية في شكل يسوده التكثيف اللغوي للمفردات وما تحيل إليه من معان أيضاً، فهذه المفردات تناسب سياق النص الهارب من ذاتية الشاعر وتجربته النفسية، فمفردات ( مرهق، أغرق، غاضب، سأحرق..)، ومفردات ( الشمس، البرق، القمر، النار..)، التي تمثل الطبيعة، تؤكد أن الانسان ابن بيئته ولذلك فهو أيضاً مزاجي يتقلب لتقلبها. كما شهد هذا المقطع أيضاً تأملا في هذا الوجود وتمثل لذلك الصور الشعرية المستوحاة من الطبيعة، فالتأمل في الطبيعة،هو تأمل في الوجود، وهذا ما تبينه تلك التساؤلات والاستفسارات التي طرحها النص، وفق رؤية شعرية تخاطب وعيها.
هذه المفردات تأتي متتابعة متلاحقة ببعضها البعض، فإن وردت مفردة النار ترد بعدها مفردة الحرق، وإن وردت مفردة البرق والغيم، وردت بعدها مفردة التدفق، كما هو وارد في هذا النص بالضبط، وهذا ما جعل المعنى يكتمل مشكلا مشهداً بصريا يمكن تخيله.
يقول أيضاً:
العَارِفُونَ بِمَا فِي الدَّهْرِ مِنْ كَبَدٍ
عادُوا إِلَىْ الطِّينِ..
مُكْتَظِّينَ بِالْعِفَّهْ!
ما صَدّقُوا الرِّيحَ، إذْ نَاحَتْ..
ولا انْخَدَعُوا بِالشّمْسِ..
إذْ ضَحِكَتْ فِي وجْهِهمْ صُدْفَهْ
قَدْ أدْركُوا أنّ وَعْدَ البَحْرِ.. مِنْ زَبَدٍ
مَنْ خَاضَهُ؛
خَاضَهُ مُسْتَعْجِلًا حَتْفَهْ
وأنَّ كُلَّ يَدٍ تَمْتَدُّ.. ما هِيَ إلّا..
مِخْلَبٌ جَاءَ مُغْتَالًا..
بِلَا رَأْفَهْ!
أنّ المُعَزِّينَ جَزّارُونَ..!
أدْمُعُهمْ مِثْلَ السّكَاكِينِ؛
حَوْلَ الرُّوحِ مُلْتَفّهْ
العَارِفُونَ يَتَامَى!
مَنْ سَيَمْنَحُهُمْ.. -غَيْرُ التّرَابِ- أَبًا..
يهْدِيهُمُ عَطْفَهْ..؟
المعجم المفرداتي لهذا النص أيضاً، تشكله بعض مفردات الطبيعة كالريح والشمس والطين والبحر، والتي كان لها طبعاً الدور البارز في تجسيد الصورة الشعرية وتوضيح ما ترمي إليه، فهي تصور الإنسان والإنسان ابن الطبيعة، ولقد كان معنى هذه المفردات إيحائيا يحتاج إلى القراءة والتفكيك، فهو يدل على معان لم تقصدها اللغة بعينها، كمعنى الموت الذي يقصده النص من مفردة الطين في قوله: العَارِفُونَ بِمَا فِي الدَّهْرِ مِنْ كَبَدٍ
عادُوا إِلَىْ الطِّينِ..
مُكْتَظِّينَ بِالْعِفَّهْ!
والملاحظ أن هذه المفردات إضافة إلى مفردات الروح والدمع والسكاكين واليتامى...، قد منحت هذه الصور التي تصف هذه الفئات من الناس، قوة في المعنى وجزالة في التعبير. فتصوير التراب على أنه الوحيد الذي يمنح العطف ووصفه بالأب، هي الصورة البليغة التي تلخص واقع اليتامى شكلا ومضموناً، وعلى الرغم من بساطة المفردة اللغوية في هذا التصوير إلا أن قيمتها تكمن في المعنى العميق الذي تؤديه داخل هذا السياق التصويري.
يقول رشيد دحمون في نصه قبَسُ النُّبوّة:
اِقْرَأْ..
فخَارجَ هَذَا الغَارِ أسْئِلَةٌ عَطْشَى إلَيْكَ؛
إلى (بِسْمِ الّذِي خَلَقَا)
إلَى الّذِي رَوّضَ المَعْنَى..
وصَيّرَهُ عصًا لَو اِنْغَمسَتْ في البَحْرِ لاِنْفَلَقَا!
إلَى الّذِي عَلّمَ الدُّنْيَا ابْتِسَامَتَهَا
وشَقَّ لِلحُبِّ في سَفْحِ الشَقَا نَفَقَا
اِقْرَأْ، فَوَحْدَكَ أبْوابُ السّمَا انْفتَحَتْ بكَ اِحْتِفَاءً..
فكُنتَ الشّمْسَ، والأُفُقَا
وكُنتَ بوْصَلةً لِلطّامِحِينَ إلى كَفٍّ مِن اللّه..
تَرْوِيهمْ كؤُوسَ تُقَى!
وكُنتَ، إذْ كُنتَ..
معْنى لَمْ يجِدْ لُغةً
وكُنتَ، إذْ كُنتَ..
رُوحًا ترْتَدِي خُلُقَا
تشْتَاقُكَ الأرْضُ، مُذْ عِيسَى رَوَى نبَأً؛
أن صَدّقُوه..
وسِيرُوا خلْفَهُ فِرَقَا
مُذْ أنْتَ فِي ظُلمَاتِ الغَارِ مُرْتَجِفٌ
وفَوقَكَ النُّورُ، يَتْلُو حوْلَكَ (العَلقَا)
مُذْ أخْرجُوكَ بِلا زَادٍ، ولَا حَرَسٍ
فزِدْتَ في البُعْدِ إيمَانًا..
وهُمْ.. أرَقَا!
تُهرّبُ الضّوءَ ليْلًا، والسُّيُوف دَمٌ
وبعْدَ كُلّ ظلامٍ.. تَرْسُمُ الشّفَقَا
كَمْ ظلّ قَبْلكَ هذَا الفجْرُ مُحْتَجِبَا؟
وحِينَ أذّنْتَ.. فَارَ النّورُ، وانْعَتقَا
وجاءَك النّاسُ أفْواجًا..
وقدْ وُئِدَتْ فيهمْ عدَاوتهمْ
واسْتعصَموا رُفَقا
كأنّما لمْ يكُن ثأْرٌ يشتّتهم
كأنّهمْ لمْ يكُونوا قَبلهُ فُرَقَا!
"اللّه أكبرُ"..
ما دوّتْ على صنَمٍ
إلا انْحنَى خجِلًا، وانْهدّ واِنْمَحقَا
"اللّهُ أكبرُ"..
ما اِنْسَلّت إلى أذُنٍ صَمّاءَ
إلّا -خُشُوعًا- سَمْعُها انْفَتقَا!
"اللّهُ أكْبَرُ"..
والرّايَاتُ مُشْرَعَةٌ
تمدُّ أحْبَالَ صَوْتٍ.. ظلَّ مُخْتَنِقَا!
مَشَيْتُ نَحْوَكَ، مُشتاقا، وبي ظمَأ
وكل بابٍ عدا أبوابكَ.. انغلقَا !
مشيت نحْوك، لا أدري، أتشفعُ لي
هذي الحُروف، فأُسقى مِنك.. لو رمَقا
يا يوم نأتي فُرادى، لا نرى أحدًا
وأنت وحدكَ فينا تجمعُ الرُفقَا
يُمناك ترفع هذا الدِّين مئذنة
وحولكَ المُخلصون، العامرُون نقَا!
الحالِمون بِوجْه الله، مُبْتسِمًا
ومنهُ هُمْ يعصِرُون النّورَ، والعبَقَا
أنّى الْتَفَتْنا، وجوهٌ للسّما شخصتْ
عطْشَى إلى شَربةٍ تمحُو بها الأرقَا
إلى شفَاعتِكَ الخضْرَاءُ، ترْفعُها معَ النّبيئين..
والنُسّاك، والعُتَقَا
اليومَ.. لا..
لا عصَا (مُوسى) ستُبعِد عن وجْهي فَحيحَ خطَايا..
تنقثُ الحُرَقَا
ولا سفينةُ (نوحٍ) سوْفَ تعْصِمُنِي
إنْ أذّن اللّه في الطُّوفانِ.. فانْدَفقَا!
أصِيحُ يا صاحبًا لِلحُوت.. ها جسَدِي
يغُورُ في التِّيهِ.. عطْشَانًا، ومُحْترِقَا
يا حدْسَ (يُوسفَ)، لي رُؤيا تُؤرّقُني
وأنتَ وحْدكَ.. منْ تأويلهُ صَدقَا
يا صَبْرَ (أيُّوب)، هلْ في الصّبر مِنْ أمَلٍ
إلى فُؤادٍ تَمنّى.. ثُمّ.. ما لحقَا
يا وجْهَ (أحْمدَ)، هذا القلبُ يحْمِلني
إليكَ.. والقَلبُ ميّالٌ.. لِمَن عشِقا !
كُنْ لي شَفِيعًا، حَبِيبًا..
يوْمَ لا.. وَلَد يغْنِي ولا والِد..
يشْتَقُّ لِيْ الطُّرُقَا
هذا النص الطويل يؤكد مقولة أن معنى المفردات تحددها السياقات، فكل مفردة لغوية ستأخد معنى جديداً بمجرد وضعها في سياقات مختلفة، ولأن سياق هذا النص هو مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، كان لا بد على هذا النص اختيار مفردات في مستوى المدح والتبجيل، ومنح أعظم الأوصاف لأعظم خلق الله، فكانت هذه المفردات تزيد الصور الشعرية اكتمالا، لما تتضمنه من معان بليغة، والتي يقصد بها صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وخصاله، كمفردة النور التي تدل على نقاوة وصفاء وجهه، وكذلك مفردة شفاعة التي تعني أنه الشفيع لعبده، إضافة إلى مفرادت أخرى كالإيمان والشفق والتقى وغيرها.
في الأبيات الأخيرة من هذا النص انتقلت اللغة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وتصويره، إلى مناجاته وطلب عتقه، فالمفردات هنا تتغنى به آملة لقياه. وهو نوع من التصوف كما أجمع بعض النقاد، وهذا ما يجعلنا نقول أن المعجم المفرداتي هنا معجم صوفي أتى لتصوير غظمة نبي الله ومناجاة شفاعته.
2/ التراكيب النحوية:
لم يعتمد رشيد دحمون في البناء اللغوي لنصوصه على شكل واحد، ولا على تكرار تركيب نحوي محدد، فالتشكيل النحوي لصوره الشعرية كان متنوعا ومختلفا باختلاف الصورة الشعرية وتنوع دلالتها ومعانيها، ولذلك كان كل نص يحتفظ لنفسه بشكله النحوي وأساليبه التعبيرية.
2/1: الجمل:
إذا ما تحدثنا عن الجمل الواردة في مختلف النصوص، نقول عنها أنها جمل قصيرة إلى متوسطة الطول، فهي لم تكن طويلة جداً إلى درجة الحشو ورصف الكلمات بعضها إلى بعض، وإنما كانت في المستوى المطلوب لما يناسب الصورة الشعرية، فالجمل النحوية في أغلب نصوص هذا الشاعر، طولها مقترن باكتمالية المشهدية الشعرية التي يتم وصفها وتصويرها، ثم توزع على بحور الخليل بما تستدعيه من تفعيلات. أي أن البناء يكون مقرونا بالمشهد لا بمتطلبات الوزن.
يقول الشاعر:
لو كُنتِ تدْرينَ؛
كمْ عاثَ الزّمانُ بِهِ؟
كمْ رمّمَ الرُّوحَ، كيْ يأْتِيكِ مُجتمِعَا؟
كمْ طاوَعَ الطّفْلَ.. فِيه..
كمْ..؟
ليُسكِتهُ..
كمْ ظَلّ في البِئْرِ، كيْ تَلْقَيْهِ مُرتَفِعَا؟
يا أيّها النّجمُ.. كمْ قدْ بِتَّ مُحْتَرِقا
كيْ يهْتِفَ الكَونُ:
( يا أللّه.. كمْ سطَعَا..!)
التراكيب النحوية في هذا المقطع وكما هو واضح، تنتهي بانتهاء الصورة الشعرية، إذ تحتوي كل جملة نحوية على مشهد شعري يبدأ في الأولى وينتهي في الثانية، ممثلين صدر البيت وعجزه، ما جعل هذه الصور ترد في شكل موجز منحها عمق المعنى وجاذبية التوصيف.
هذه التراكيب النحوية لم تتميز بقصرها فقط، بل إنها جاءت في أغلب النصوص مسبوكة، يتوافق فيها المصطلح بالمعنى الشعري، وكذلك الروابط التي تربط بينهما، فكان التعالق النحوي والدلالي بين الجمل بارزاً، يبرز الإشتغال اللغوي على الصورة الشعرية، ومن أمثلة ذلك هذا المقطع الذي جاء فيه قول الشاعر:
كانُوا غِزَارًا..
ولَمْ تسْعِفْهمُ اللّغَةُ
فكَانَ أبْلغ ما قالُوهُ؛ إذْ سَكَتُوا!
وكَانَ أشْعَرهُمْ.. مَنْ ظَلّ مُبْتَسِمًا
يَبْتزُّهُ الحُزْنُ، لَكِنْ ليْسَ يَلْتَفِتُ.
مَرُّوا خِفَافًا.. من المَعْنَى..
وأنفُسُهمْ مُكْتَظّةٌ
لوْ أسَالُوا حِبْرَها.. انْفَلَتُوا!
معنى المقطع تمثله الجمل المشكلة له، والملاحظ أثناء قراءتها أنها سلسة وعذبة لسلاسة بناءها التركيبي والعلائق التي ربط بها الشاعر أفكاره، وهذا موجود في أغلب النصوص ومعظمها تقريباً، ما منحها جمالية المعنى، عذوبة اللفظ، وغنائية موسيقية أنتجها هذا التماسك اللغوي.
ما تميز به التركيب النحوي في الكتابة الإبداعية لرشيد دحمون أيضاً، تنويعه في الخطاب، حيث أنه في بعض النصوص، تقوم الذات الشاعرة بمخاطبة الآخر ثم تنتقل لمخاطبة ذاتها، ثم تعود لتخاطب الآخر مرة أخرى، وهو نوع من التنويع البنائي للتراكيب النحوية داخل النصوص.
يقول الشاعر:
ولْتَغْرُبِيْ إنْ شِئْتِ..
أنْتِ هُنَا مَعِي
ما بَيْنَ أفْرَاحِي، وبَيْنَ مَوَاجِعِي
إنْ تَضْحَك الدُّنْيَا؛
فَأَنْتِ سُرُورُهَا
إن يُبْكِنِي دَهْرِي؛
فَأَنْتِ مَدَامِعِي
كَلّ الّذِينَ مَضَوْا رُكَامُ (كَنَائِسٍ)..
جَهلَتْ عَلَيَّ
وأَنْتِ.. أوَّلُ (جَامِعِ)..!
إنْ كنْتُ أعْذَبَ شَاعِرٍ..
فَالفَضْلِ لِلْأُنْثَىْ الّتِيْ تُوحِيْ إليَّ مَطَالِعِي!
ويقول في موضع آخر:
حَمّلْتِني أثْقَلَ الأسْمَاءِ.."
قلْتُ لهَا:
ماذَا لوْ اخْتَرتِ لِيْ اِسْمًا بِلَا مَعْنَى؟
اِسْمًا كمَا الرِّيح، لا تَحْتَاجُ بَوْصَلَةً
لا تَسْألُ الأرْضَ.. إنْ تَاهَتْ بِهَا:
(أيْنَ..؟)
اِسْمًا كمَا النَّرْد، مَجنُونًا بِأوْجُهِهِ
دوْمًا يُبَدّلُهَا؛ لَوْنًا يَلِي لَوْنَا..
اِسْمًا يُحَرّرُنِي مِنِّي..
ومِنْ قَلَقِي
ومِنْ حُرُوفٍ أقَامْت حَوْلِيَ السِّجْنَا
أشْقَى، لأُثْبِتَ أنّي مِثْلهُ.. وَرِعٌ
وداخِلِي الرُّوحُ تُفْنِينِي، وبِي تَفْنَى!
يا أُمّيَ، "الرُشْدُ" أعْيَا الشّيْخَ..
كيْفَ فَتًى مِثْلِي..؟
لَو الطّيْشُ نَادَاهُ، لَهُ حَنّا..!
"الرُّشْدُ" لِلّهِ يا أُمِّيْ..
فَهَلْ أحَدٌ يُنافِسُ اللّهَ فِي أسْمَائِهُ الحُسْنَى..!؟
إن هذا التدرج بين جمل تخاطب الذات الشاعرة وتخاطب الآخر في بيت شعري واحد، يبرز قدرة الشكل اللغوي الذي تم خلقه في هذا النص على احتواء الصور الشعرية وتشخيص معانيها.
كما أن الانتقال بين المخاطبين ورد في جملة نحوية واحدة، مثل قوله: إن يُبْكِنِي دَهْرِي؛
فَأَنْتِ مَدَامِعِي
وهذا ما منح هذه التراكيب النحوية سيولة شعرية، وأوصافا جمالية تختلف من تركيب نحوي إلى آخر.
2/2: النداء:
من الأساليب النحوية التي اعتمدها شعر دحمون للتعبير عن الأفكار، وتصوير عواطفه وتأملاته الوجودية داخل مختلف نصوصه، أسلوب النداء، والذي ورد في أكثر من نص، كما أنه كان يتكرر أحياناً كثيرة، في أكثر من جملة داخل المقطع الواحد، وذلك لأن التراكيب النحوية تخلق من أجل نقل معان تصويرية يريد الشاعر إيصالها للآخر، ولأنه يقصده بها في أحيان كثيرة. فجاء النداء على رأس صور عديدة، ذكرنا بعضها فيما سبق. ومن أجل التوضيح لا حرج في الإعادة، ففي الإعادة إفادة.
يقول:
أصِيحُ يا صاحبًا لِلحُوت.. ها جسَدِي
يغُورُ في التِّيهِ.. عطْشَانًا، ومُحْترِقَا
يا حدْسَ (يُوسفَ)، لي رُؤيا تُؤرّقُني
وأنتَ وحْدكَ.. منْ تأويلهُ صَدقَا
يا صَبْرَ (أيُّوب)، هلْ في الصّبر مِنْ أمَلٍ
إلى فُؤادٍ تَمنّى.. ثُمّ.. ما لحقَا
يا وجْهَ (أحْمدَ)، هذا القلبُ يحْمِلني
إليكَ.. والقَلبُ ميّالٌ.. لِمَن عشِقا !
كُنْ لي شَفِيعًا، حَبِيبًا..
يوْمَ لا.. وَلَد يغْنِي ولا والِد..
يشْتَقُّ لِيْ الطُّرُقَا
النداء هنا كان مكملا للصورة الشعرية، إذ أنه يقصد وصفا من الأوصاف التي منحها المشهد الشعري للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي فإنه كأسلوب نحوي كان يساهم في تشكيل شعرية الصورة الفنية للموصوف وخلقها. بل إن هذا الأسلوب كان المحدد للصورة الشعرية في كل بيت شعري.
3/ الرمزية التراثية:
تحدثنا في ما سبق عن المعجم المفرداتي وتشكيله للصورة الشعرية، وفي هذا العنصر سنأتي على المفردات التي كانت رمزاً في حذ ذاتها وليس في ما تحيل إليه من معنى خفي ومضمن، تكشفه القراءات والتأويل. حيت اعتمد رشيد دحمون في بعض نصوصه، على مفردات لغوية تمثل في معناها الطبيعي رمزية تراثية، نابعة من ثقافة الشاعر وتراث البيئة التي ينتمي إليها. فكانت هذه المفردات ذا رمزية تراثية .
يقول الشاعر مرة أخرى:
وسْطَ الرّصافة) تبْدُو، ثُمّ تَحتَجِبُ
كَسَعْفِها المُتَعَالِي.. كانَت العَرَبُ!
مَمْشُوقَةٌ، تَحْمِلُ التّارِيخَ.. خُضْرَتُهَا
مُنْذُ (اِمْرِئِ القَيْس) لَمْ تتْعَبْ.. وقَدْ تَعِبُوا
غَرِيبَةٌ، مِثْلَما الفُصْحَى (…) بِمَوْطِنِها
فَكُلّ مَنْ حَوْلَهَا عُجْمٌ، وإنْ عَرُبُوا
ما بَيْنَ قِمّتِهَا، والسّفْحِ أزْمِنَةٌ حُبْلَى..
-وإنْ أنْكَرُوهَا- تشْهَد الكُتُبُ
ما بَيْنَ قِمّتِهَا، والسَّفْحِ (أنْدَلُسٌ) ضَاعَتْ..
و(أنْدَلُسٌ) أُخْرَى.. سَتُغْتَصَبُ!
شَدِيدَةٌ.. مِثْلَ (خَنْسَاءٍ)، وشَامِخَةٌ
كمْ راوَدُوهَا، فَظلَّتْ.. مِثْلِمَا يجِبُ
مبْسُوطَةُ الكَفّ، لَمْ تبْخَلْ عَلَى بَشَرٍ
مُذْ جِذْعُها اِهتَزّ، مُذْ (...) واِسّاقَطَ الرُّطَبُ
تُحَدّثُ النّاسَ عَنْ أمّ.. وعنْ ولَدٍ؛
كانَ النّبِيَّ الّذِي لَمْ يَكْتنِفْهُ أبُ
عَنْ رحْمَةِ اللّه، تَغْشَى الأنْبِيَاءَ.. وعَنْ
أنْوارِهِ كيْفَ يُبْدِيها لِمَنْ ركِبُوا
عنْ قَلْبِ (أحْمدَ).. إذْ حنّتْ لهُ، وبكَتْ
عنْ عَطْفِهِ.. فَوْقَ هَذِي الأرْضِ.. يَنْسَكِبُ!
لأنّهَا اِبْنةُ الصّحْرَاءِ.. تُشْبُههَا
فِيْ الصَّبْرِ عَنْ وحْشَةِ الدّنْيَا.. إذا ذَهبُوا
(وسْطَ الرُّصَافَةِ) كَانَتْ، في تغرّبها
واليَوْمَ فِي الأرْضِ، بيْنَ الأهْلِ.. تَغْتَرِبُ!
هذا النص مبني على الرمزية اللغوية المستمدة من التراث العربي في بيئته وحضارته وأدبه أيضاً، فكانت الصورة الشعرية هنا تخلق لذات هذه الرموز ومن أجل ذاتها. ولعل الرمزية التي تعم كل النص هي مفردة الرصافة التي يقصد بها تلك الحضارة العريقة في بلاد الشام، حيث جعلت في هذا النص رمزية على شموخ العرب وعراقتهم وعلو مكانتهم ( معظم أبيات القصيدة)، ثم استخدمت أيضاً كرمزية على تدهور حالة العرب وعيشهم كالغرباء في أوطانهم، ويتجلى ذلك في البيت الأخير من النص.
من أجل تكثيف أكثر لمعنى الأصالة والتاريخ والعراقة التي تحملها رمزية الرصافة، وظف الشاعر رموزا تراثية أخرى حتى تكون الصورة الشعرية أكثر إيحاء، فوردت رمزية إمرئ القيس، وهي رمزية تراثية أدبية، كدلالة على التاريخ الأصيل والإمتداد الطويل لهذه الحضارة العربية.
رمزية أدبية أخرى جاء بها هذا النص، وهي رمزية الخنساء التي حلت محل الشدة والشموخ، فالرصافة كما الخنساء تماماً، تميزت بالصلابة والشدة رغم ما عانته، فبقت شامخة كما يجب عليها أن تبقى.
من الرموز التي شكلت الصور الشعرية في هذا النص أيضاً، رمزية الصحراء التي وظفت خصيصاً في هذا المقطع للدلالة على البيئة العربية الموحشة التي تنتمي إليها هذه الحضارة العربية، والتي علمتها الغربة والوحدة، كإشارة إلى صد العرب عنها حيث أصبحت غريبة بين أهلها وفي أرضها.
في سياق تراجع هيبة العرب، وفي ظل ضياع قيمتهم وأصالتهم كحضارات عربية مرموقة، وظف النص رمزية الأندلس، كتجسيد لمعنى الضياع، فالعرب بعد أن أضاعوا الأندلس، سيضيعون حضارة الرصافة العريقة، عندما يقول: و(أنْدَلُسٌ) أُخْرَى.. سَتُغْتَصَبُ!.
*******
يتبين بعد هذا أنه يجدر الإشارة إلى أن الصور الشعرية الواردة في شعر دحمون، مزجت بين الشكل والمضمون ووافقت بينهما، فتميزت أغلب القصائد بثراء المعجم المفرداتي، وتنوع التراكيب النحوية، ودهشة في التعبير، وجودة في التوصيف ورسم المشاهد الشعرية.