مدخل :
وسد الآن رأسك
فوق التراب المقدس
واركع طويلا لدى حافة النهر
ثمة من سكنت روحه شجر النخيل
أو دخلت في الدجى الأبنوسي
أو خبأت ذاتها في نقـوش التضاريس
ثمة من لامست شفتاه
القرابين قبلك
مملكة الزرقة الوثنية قبلك
عاصفة اللحظات البطيئة ..قبلك
يا أيها الطيف منفلتا من عصور الرتابة والمسخ
ماذا وراءك في كتب الرمل؟
ماذا أمامك ؟
في كتب الغيم إلا الشموس التي هبطت في المحيطات
والكائنات التي انحدرت في الظلام
وامتلاؤك بالدمع حتى تراكمت تحت تراب الكلام
الشاعر الراحل /محمد مفتاح الفيتوري ..عاشق أفريقيا
**********
في رحاب النص الروائي
كان الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922م) يبحث في سيرة الزمن المفقود، وهو عمل سيري يريد دحض النظرية القائلة بانتهاء الوعي عند تحقيبه، وترميزه وتعبئته مشكولاً على صفة واحدة من مظنة الفهم.
هناك ثمة تماثل نجده عند الروائي السوداني الراحل ، إبراهيم اسحق مع سيرية مارسيل الفرنسي ،فالرجل القادم من غرب البلاد ، وهو مشبع بفناه وطقوسها وشعبياتها وفولكلورها واخيلتها الخصيبة ، كأنما يقصد أن يحاورنا عن ثقافي مفقود فينا، نحلم بعودته معاف سليم الطوية مستقر الهوية متوازن ومتصالحا مع من حوله من أشياء وأشخاص وأفكار ،في هذه الورقة سيكون طرحنا يدور حول الرائع الراحل/إبراهيم اسحق في إنجازاته المتنوعة سردا ودلالة ومغزى .
مختصر السيرة الذاتية
هو إبراهيم اسحق ،كاتب وروائي وقاص وباحث
الميلاد: ولد عام 1940م بمحلية" ودعة" شرق الفاشر
درس كل مراحل الدراسة بالفاشر ،وتخرج من معهد لمعلمين/كلية التربية
منجزاته تفوق على مجايله بأساليب سردية مختلفة شكلا ولغة وحوارا، فأصبح في طليعة المجددين في مضمار السرد السوداني ،له العديد من الروايات منها : (حدث في القرية 19969م، وأمال الليل والبلدة ،وأخبار البنت مياكايا 2001م، ،وفضيحة آل نورين وغيرها ) ،وله مساهمات معتبرة في كتابة النصوص القصيرة منها على سبيل المثال: ناس من كافا، عرضحالات كباشيه)
نقطة البدء:
وهكذا برز اسحق كمبدع يستمد الالق والبهاء والصور الفنية من منطقة ثرية بتراثها التاريخي والاثني والميثولوجي والانطولوجي الوجودي ،متنقلا بين أفياء السرد وفضاءات الحكي الرسالي ليلتقط ببراعة دفء اللطاة الإنسانية "ليعكس من خلال حكاياتهم الشفاهية ،وتصوراتهم ومعتقداتهم للحياة ولكون والانسان حيوات أولئك الناس ومعتقداتهم وخطوطهم الحمراء وشغفهم المتجذر بحب الحياة ويرصد احلامهم ومشاكلهم وتنبؤاتهم ومحاولاتهم الحثيثة الجادة نحو التقدم واقتحام عالم الحداثة مع التمسك بمنظومة القيم المتوارثة ودمجها مع القيم الإيجابية للحياة الحديثة ، والكاتب وان كانت منطلقاته من قرية في دارفور استطاع من خلال روايته المدهشة طرح كل ينتمي للحس الإنساني الشفيف هما وحلما متحدثا عن حقائق الطبع البشري السيكولوجيا المتناقض و المتضاد، كما تناول قضايا فلسفية وتاريخية وفكرية وعقدية وسياسية واجتماعية ، ليشرع في رحاة جراحية عميقة لتفكيك ايقونات الهوية والانتماء، والكثير من التساؤلات المصيرية .
ونبدأ تطوافنا مع رواية (أخبار البنت مياكايا) الصادرة من مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ،في العام 2001م ، وهي رواية قصيرة في حدود(80) صفحة .
حيث يدهشنا العنوان ويشعل فينا الفضول لما يتوارى خلف العتبة الموازية ،فتسري الرعبة في الذهن والوجدان لمعرفة التفاصيل ، فالرواية كما يقول المؤلف تستوحي وتستبطن تاريخا يمتد من القرن السادس عشر الميلادي زمانيا، وتستند مكانيا في مواقع على النيل الأبيض القادم من فكتوريا بيوغندا حتى يلتقي بالنيل الازرق الدفاق في مقرن النيلين .
تسوقنا الرواية في رحلة مفعمة بالخيال والجمال ، حينما تطل الشخصية المحورية(البطل) "غانم" المسافر في رحلة بحثية استكشافية عن وضع قد يكون أفضل مما هو منغمس فيه ،حيث سطوة جدته المهيمنة على كل شيء، فينطلق إلى (شولو بوجون)،أو أرض الشلك ، ليمارس طقسا جديدا ،و ينهمك ويعمل في تجارة سن الفيل(العاج) في إشارة ذكية لما تسببه هذه الممارسة من انتهاك للبيئة والحياة الفطرية، حيث يقول: "سن الفيل في مصر بجيب دهب أحمر" كأنما يريد المؤلف أن الناس أصبحوا في عصر الاستهلاك عبدة للمال والذهب دونما إحساس بأي تأنيب ضمير، أو حتى مجرد تفكير في شكل الدمار البيئي.
ومن ناحية أخرى تطل شخصية الجدة المثيرة للجدل والحريصة لدرجة التملك الاناني مرة أخرى ،فهاهي الجدة(أم المعاطي) وهكذا كانوا يسمونها ، فهي غارقة في دوامة من التساؤلات عن ابنها ، فتطلب من صاحبيه(موافي)و(عون الله ) البحث عن فلذة كبدها ، ينطلق الرجلان ويجدان في البحث حتى يعثرا عليه ،ولكنه ب=يرفض العودة فقد استمرأ حياته الجديدة ، خاصة بعد أن نمت علاقة غرامية مشبوبه العواطف مع (مياكايا) كريمة رث الشلك وتمليكهم ، وتتنامى احداث الراوية وتتصاعد في تسلسل دقيق وتشابك درامي ، وتفتح الاقدار(لعون الله) بوابة الحط السعيد فيلفى جدته"كوناتايا) في مشهد تراجيدي وانساني مؤثر يشير لمدى التداخل و التمازج بين الشمال والجنوب الذي طالته معاول الهدم والتشويه بمعاول الساسة الانتهازيين ، ثم تمر الراوية بمشاهد عديدة منها موت رث اوملك الشلك ،وتشتعل نار الفتنة من يخلفه ،وكانما يريد المؤلف أن يشير لصراع الساسة حول التساؤل المبكي و المضحك الذي يدور حول حقيقة الصراع في السلطة ،بل نحن في ازمة من يحكم السودان أم كيف يحكم السودان)، وتبلغ الراوية الذروة بهروب (مياكايا) مع غانم مستجيبة لوجيب قلبها وسحر الحب، فالحب حين يخترق القلوب ينعتق من أي سلطة وسلطان الا سلطان الهوى .
رواية أخبار البنت مياكايا من الروايات التي اتخذت من جنوب السودان مسرحا ومكانا لأحداثها ووقائعها المثيرة ، فالرواية تضج بالصور الجمالية والسرد الماتع والأجواء الحميمية المدهشة والطقوس المتفردة والاساطير الساحرة .
عندما تدعو الحاجة لعقد مقارنة في بعض أوجه الشبه والاختلاف بين الطيب صالح شيخ الراوية السودانية وكاتبنا المبجل إبراهيم اسحق ، نجدان شريحة من بنات جنوب السودان تعيش على هامش الحياة في رواية عرس الوين للطيب صال لا يأبه بهن أحد، نلحظ في رواية(أخبار البنت مياكايا) تنغمس في حياة الناس ،وتعلى من حملاتهم الثقافية والإنسانية من خلال الالتحام مع قبيلة(الشلك)معايشة وتقاربا وإثراء للتنوع الاثني والثقافي والعرقي لخلق لوحة زاهية الألوان منسجمة المشاعر والأفكار ،وهو المحك الذي فشل فيه الساسة في عوزهم للخيال والقدرة على إدارة التنوع .
ختاما نقول أن كتابات إبراهيم اسحق تنضح وتنبض بالنضج والعافية من حيث مفردات السرد ،و المشاهد الدرامية في "أخبار البنت مياكايا" حيث ينتقل السرد من (ود عشانا) مدينة صغير تتوسط العقد في شكل مثلث، فالرواية وبشيء من الذكاء رمزت وأشارت إلى المزيج الثقافي السوداني ،وكيف تقاربت وتداخلت عبر مسار زمني طويل فالسودان ارض الهجرات التي تفتح صدرها للغريب وتعلي شأنها ولا سيما إن كان من أولى الهيئات .الا رحم الله الراحل المبدع .
وسد الآن رأسك
فوق التراب المقدس
واركع طويلا لدى حافة النهر
ثمة من سكنت روحه شجر النخيل
أو دخلت في الدجى الأبنوسي
أو خبأت ذاتها في نقـوش التضاريس
ثمة من لامست شفتاه
القرابين قبلك
مملكة الزرقة الوثنية قبلك
عاصفة اللحظات البطيئة ..قبلك
يا أيها الطيف منفلتا من عصور الرتابة والمسخ
ماذا وراءك في كتب الرمل؟
ماذا أمامك ؟
في كتب الغيم إلا الشموس التي هبطت في المحيطات
والكائنات التي انحدرت في الظلام
وامتلاؤك بالدمع حتى تراكمت تحت تراب الكلام
الشاعر الراحل /محمد مفتاح الفيتوري ..عاشق أفريقيا
**********
في رحاب النص الروائي
كان الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922م) يبحث في سيرة الزمن المفقود، وهو عمل سيري يريد دحض النظرية القائلة بانتهاء الوعي عند تحقيبه، وترميزه وتعبئته مشكولاً على صفة واحدة من مظنة الفهم.
هناك ثمة تماثل نجده عند الروائي السوداني الراحل ، إبراهيم اسحق مع سيرية مارسيل الفرنسي ،فالرجل القادم من غرب البلاد ، وهو مشبع بفناه وطقوسها وشعبياتها وفولكلورها واخيلتها الخصيبة ، كأنما يقصد أن يحاورنا عن ثقافي مفقود فينا، نحلم بعودته معاف سليم الطوية مستقر الهوية متوازن ومتصالحا مع من حوله من أشياء وأشخاص وأفكار ،في هذه الورقة سيكون طرحنا يدور حول الرائع الراحل/إبراهيم اسحق في إنجازاته المتنوعة سردا ودلالة ومغزى .
مختصر السيرة الذاتية
هو إبراهيم اسحق ،كاتب وروائي وقاص وباحث
الميلاد: ولد عام 1940م بمحلية" ودعة" شرق الفاشر
درس كل مراحل الدراسة بالفاشر ،وتخرج من معهد لمعلمين/كلية التربية
منجزاته تفوق على مجايله بأساليب سردية مختلفة شكلا ولغة وحوارا، فأصبح في طليعة المجددين في مضمار السرد السوداني ،له العديد من الروايات منها : (حدث في القرية 19969م، وأمال الليل والبلدة ،وأخبار البنت مياكايا 2001م، ،وفضيحة آل نورين وغيرها ) ،وله مساهمات معتبرة في كتابة النصوص القصيرة منها على سبيل المثال: ناس من كافا، عرضحالات كباشيه)
نقطة البدء:
وهكذا برز اسحق كمبدع يستمد الالق والبهاء والصور الفنية من منطقة ثرية بتراثها التاريخي والاثني والميثولوجي والانطولوجي الوجودي ،متنقلا بين أفياء السرد وفضاءات الحكي الرسالي ليلتقط ببراعة دفء اللطاة الإنسانية "ليعكس من خلال حكاياتهم الشفاهية ،وتصوراتهم ومعتقداتهم للحياة ولكون والانسان حيوات أولئك الناس ومعتقداتهم وخطوطهم الحمراء وشغفهم المتجذر بحب الحياة ويرصد احلامهم ومشاكلهم وتنبؤاتهم ومحاولاتهم الحثيثة الجادة نحو التقدم واقتحام عالم الحداثة مع التمسك بمنظومة القيم المتوارثة ودمجها مع القيم الإيجابية للحياة الحديثة ، والكاتب وان كانت منطلقاته من قرية في دارفور استطاع من خلال روايته المدهشة طرح كل ينتمي للحس الإنساني الشفيف هما وحلما متحدثا عن حقائق الطبع البشري السيكولوجيا المتناقض و المتضاد، كما تناول قضايا فلسفية وتاريخية وفكرية وعقدية وسياسية واجتماعية ، ليشرع في رحاة جراحية عميقة لتفكيك ايقونات الهوية والانتماء، والكثير من التساؤلات المصيرية .
ونبدأ تطوافنا مع رواية (أخبار البنت مياكايا) الصادرة من مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ،في العام 2001م ، وهي رواية قصيرة في حدود(80) صفحة .
حيث يدهشنا العنوان ويشعل فينا الفضول لما يتوارى خلف العتبة الموازية ،فتسري الرعبة في الذهن والوجدان لمعرفة التفاصيل ، فالرواية كما يقول المؤلف تستوحي وتستبطن تاريخا يمتد من القرن السادس عشر الميلادي زمانيا، وتستند مكانيا في مواقع على النيل الأبيض القادم من فكتوريا بيوغندا حتى يلتقي بالنيل الازرق الدفاق في مقرن النيلين .
تسوقنا الرواية في رحلة مفعمة بالخيال والجمال ، حينما تطل الشخصية المحورية(البطل) "غانم" المسافر في رحلة بحثية استكشافية عن وضع قد يكون أفضل مما هو منغمس فيه ،حيث سطوة جدته المهيمنة على كل شيء، فينطلق إلى (شولو بوجون)،أو أرض الشلك ، ليمارس طقسا جديدا ،و ينهمك ويعمل في تجارة سن الفيل(العاج) في إشارة ذكية لما تسببه هذه الممارسة من انتهاك للبيئة والحياة الفطرية، حيث يقول: "سن الفيل في مصر بجيب دهب أحمر" كأنما يريد المؤلف أن الناس أصبحوا في عصر الاستهلاك عبدة للمال والذهب دونما إحساس بأي تأنيب ضمير، أو حتى مجرد تفكير في شكل الدمار البيئي.
ومن ناحية أخرى تطل شخصية الجدة المثيرة للجدل والحريصة لدرجة التملك الاناني مرة أخرى ،فهاهي الجدة(أم المعاطي) وهكذا كانوا يسمونها ، فهي غارقة في دوامة من التساؤلات عن ابنها ، فتطلب من صاحبيه(موافي)و(عون الله ) البحث عن فلذة كبدها ، ينطلق الرجلان ويجدان في البحث حتى يعثرا عليه ،ولكنه ب=يرفض العودة فقد استمرأ حياته الجديدة ، خاصة بعد أن نمت علاقة غرامية مشبوبه العواطف مع (مياكايا) كريمة رث الشلك وتمليكهم ، وتتنامى احداث الراوية وتتصاعد في تسلسل دقيق وتشابك درامي ، وتفتح الاقدار(لعون الله) بوابة الحط السعيد فيلفى جدته"كوناتايا) في مشهد تراجيدي وانساني مؤثر يشير لمدى التداخل و التمازج بين الشمال والجنوب الذي طالته معاول الهدم والتشويه بمعاول الساسة الانتهازيين ، ثم تمر الراوية بمشاهد عديدة منها موت رث اوملك الشلك ،وتشتعل نار الفتنة من يخلفه ،وكانما يريد المؤلف أن يشير لصراع الساسة حول التساؤل المبكي و المضحك الذي يدور حول حقيقة الصراع في السلطة ،بل نحن في ازمة من يحكم السودان أم كيف يحكم السودان)، وتبلغ الراوية الذروة بهروب (مياكايا) مع غانم مستجيبة لوجيب قلبها وسحر الحب، فالحب حين يخترق القلوب ينعتق من أي سلطة وسلطان الا سلطان الهوى .
رواية أخبار البنت مياكايا من الروايات التي اتخذت من جنوب السودان مسرحا ومكانا لأحداثها ووقائعها المثيرة ، فالرواية تضج بالصور الجمالية والسرد الماتع والأجواء الحميمية المدهشة والطقوس المتفردة والاساطير الساحرة .
عندما تدعو الحاجة لعقد مقارنة في بعض أوجه الشبه والاختلاف بين الطيب صالح شيخ الراوية السودانية وكاتبنا المبجل إبراهيم اسحق ، نجدان شريحة من بنات جنوب السودان تعيش على هامش الحياة في رواية عرس الوين للطيب صال لا يأبه بهن أحد، نلحظ في رواية(أخبار البنت مياكايا) تنغمس في حياة الناس ،وتعلى من حملاتهم الثقافية والإنسانية من خلال الالتحام مع قبيلة(الشلك)معايشة وتقاربا وإثراء للتنوع الاثني والثقافي والعرقي لخلق لوحة زاهية الألوان منسجمة المشاعر والأفكار ،وهو المحك الذي فشل فيه الساسة في عوزهم للخيال والقدرة على إدارة التنوع .
ختاما نقول أن كتابات إبراهيم اسحق تنضح وتنبض بالنضج والعافية من حيث مفردات السرد ،و المشاهد الدرامية في "أخبار البنت مياكايا" حيث ينتقل السرد من (ود عشانا) مدينة صغير تتوسط العقد في شكل مثلث، فالرواية وبشيء من الذكاء رمزت وأشارت إلى المزيج الثقافي السوداني ،وكيف تقاربت وتداخلت عبر مسار زمني طويل فالسودان ارض الهجرات التي تفتح صدرها للغريب وتعلي شأنها ولا سيما إن كان من أولى الهيئات .الا رحم الله الراحل المبدع .