هناك أسئلة لها علاقة بالمعرفة التي تُبلِّغها المدرسة للمتعلِّمين والتي أعتبرُها، أنا شخصيا، أسئلة أساسية ومن الضروري أن يطرحَها على نفسِه كلُّ مَن يمارسُ مهنةَ التَّدريسِ والتَّعليم. وأعني بالمعرفة المُبلَّغة للمتعلمين ما يُصطلحُ عليه ب"المعرفة المدرسية" savoir scolaire. من بين هذه الأسئلة، أخصُّ بالذكر ما يلي :
1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟…
أكاذ أكون، بحكم التَّجربة، متأكِّدا أن فئةً قليلةً من المدرسين هم الذين تشغلُهم مثلُ هذه الأسئلة. ما يشغلُ السَّوادَ الأعظم من المدرسين هو تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلمين. وما هو مؤكَّدٌ كذلك هو أن الإجابةَ عن هذه الأسئلة تستلزم من المُجيبِ أن يكونَ مُلِمّاً بقدر كافي من علوم التَّربية. ولكن هذا لا يمنع من أن يتساءلَ المدرسون عن وضعِ ما ينقلونه من معارف للمتعلمين وأن يقوموا ببحثٍ شخصي يجعلهم متموقعين فكريا بالنسبة لهذه المعارف.
1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
أولا وقبل كل شيء، تجب الإشارةُ إلى أن المدرسةَ لا تُنتِج المعرفةَ. إنها فقط تستهلكها. وهذا شيءٌ مهمٌّ للغاية حيث أن المدرسةَ، بحكم عدم إنتاجِها للمعرفة وبحكم السرعة التي تُنتَجُ بها المعرفة في المختبرات، مطالبةٌ، نظريا، بأن تُجدِّدَ باستمرار ما تنقلُه من معارف للمتعلمين. غير أن هذا التَّجديدَ لا يحدثُ وإن حدث، فبعد مرور سنوات طوالٍ، وبالتالي، يكون دائما تفاوتٌ بين ما تنقله المدرسةُ من معارف والمستوى الذي وصل إليه إنتاجُ المعرفة في المختبرات في عدة مجالات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، صناعية، زراعية، تكنولوجية…
وهذا شيءٌ طبيعي لأن المدرسةَ ليست مكانا لمواكبة ما يستجدُّ من معارف في مختلف مجالات البحث. المدرسة تنقل المعارف من أجل تثقيف المتعلمين، ولكن كذلك وبالأخص، من أجل مساهمة هذه المعارف في بناء شخصية هؤلاء المتعلمين. حينها، يصبح تبليغُ المعرفة للمتعلمين ليس هدفا في حد ذاته ولكن وسيلة لنقلِ شخصية المتعلمين من حسن إلى أحسن. وبكل أسف، في مؤسساتِنا التَّعليمية، أصبح تبليغُ النعرفة للمتعلمين هدفا أساسيا ورئيسيا بينما بناءُ شخصية المتعلمين طاله ويطالُه الإهمال.
والمعرفة، بصفة عامة، لها طبيعة، أي لها طعمٌ ومذاقٌ ولونٌ ورائحةٌ. لماذا؟ لأن المعرفةَ لا تُمطرها السماء. المعرفة مصدرُها فكر الإنسان، وبالأخص، فكرُ الإنسان الباحث. والإنسان المنتِج للمعرفة كائن اجتماعي وتاريخي sujet socio-historique. كائن اجتماعي لأنه يعيش في وسط اجتماعي يتأثَّر به و يؤثِّر عليه. وكائن تاريخي لأنه يجرُّ وراءه تجربةً أو تجارب راكمها من خلال التعامل مع الواقع والأحداث والظواهر…
وباختصار، الشخص الذي يُنتِج المعرفةَ، سواءً كان باحثا أو غير باحث، له خلفية فكرية وثقافية un background intellectuel et culturel هي التي تمكِّنه من إنتاج المعرفة. والخلفية الفكرية والثقافية أنواع، أو بعبارة أخرى، التيارات الفكرية les courants de pensée أنواع.
فهناك التيار الفكري الذي يعتبر المعرفة تفسيرا وفيّاً fidèle للواقع réalité، وبالتالي، فهي معرفة تُعتَبَر صحيحة وغير قابلة للنقاش indiscutable.
وهناك تيار فكري لا يعترف إلا بالمعرفة التي يبنيها فكرُ الإنسان لكن الإنسان الذي يتأثَّر بظروف الزمان والمكان، وبالتالي، فهي معرفة نسبية relative وقابلة للنقاش discutable.
وهناك تيار فكري لا يؤمن إلا بالمعرفة الناتجة عن التَّجربة والملاحظة، وبالتالي، قابلة للتَّحقُّق vérification…
هذه هي طبيعة المعرفة التي تستحق أن يكونَ المدرسون مُلمِّين بها. لماذا؟ لأن طبيعةَ المعرفة هي التي نتجت عنها نظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage.
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
بالطبع، تبليغَ المعرفة للمتعلمين له عدة أهداف. تثقيف المتعلمين واحدٌ من هذه الأهداف. وتثقيف المتعلمين عاملٌ له دورٌ في اندماج هؤلاء المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية. واندماج المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية ضروري لاستمرار التنمية بجميع أشكالها.
لكن الهدفَ الأساسي لتبليغ المعرفة للمتعلمين هو استغلالُها استغلالاً عقلانياً، بيداغوجياً، تربوياً وعلمياً من أجل بناء شخصية المتعلمين. لأن المعرفةَ قد يتم نسيانُها أو قد تصبح متجاوزةً. بينما صقل شخصية المتعلمين وتعويدُهم على الفكر النقدي والتَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين والاجتماعيين أمورٌ تصاحبهم طيلةَ حياتهم الاجتماعية والعملية.
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
بالطبع، هناك فرق كبير بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتْجها مختبراتُ البحث. أولا وللتذكير، ليست المدرسةُ هي التي أنتجت وتُنتِج المعارفَ التي تنقلها للمتعلمين. ثانيا، المعرفةُ المدرسية مقتبسة من المعرفة التي تُنتَجُ في المختبرات بعد إخضاعها لعدة عمليات. أول هذه العمليات هي التَّبسيط simplification، أي تحويل المعارف المختبرية أو العلمية من معارف قد تكون معقَّدة إلى معارف مبسَّطة. أما العملية الموالية، فتتمثَّل في تكييف المعارف مع النمو النفسي والمعرفي للمتعلمين développement psychologique et cognitif. ثم تأتي مرحلةُ صياغة المعارف على شكل برامج مدرسية programmes scolaires، أي بشكل آخر، المضمون المُصاغ على شكل عناوين ورؤوس أقلام têtes de chapitres. ثم في آخِر المطاف، تفصيل المضامين العامة لتحويلها إلى مضامين مفصَّلة والتي ستُتقَلُ فعليا إلى المتعلمين. وهي المضامين التي تحملها المراجع المدرسية.
غير أن الفرقَ الكبيرَ والأساسي بين هذين النوعين من المعارف هو أن المعارف المختبرية تم إنتاجُها في ظروف اجتماعية، اقتصادية وثقافية معيَّنة ومن طرف أشخاص اجتماعيين وتارخيين كما سبق الذكرُ. وبالتالي، فالمعارف المنتجة قابلة للتَّغيير حسب ما تجود به ظروف الزمان والمكان.
أما المعرفة المدرسية، فقد تمَّ تجريدُها من كل هذه الظروف عند القيام بعملية تبسيطها، وبالتالي، لم يعد هناك شيءٌ يوحي بأنها نسبية أو قابلة للنقاش. وهذا هو ما يحدثُ عند انتقالها من المراجع المدرسية إلى المدرسين ومن هؤلاء المدرسين إلى المتعلمين. لا أحدَ يتساءل عن طبيعتِها ولا عن ظروف إنتاجها ولا عن نِسبيتها relativité ولا عن أي تيار فكري courant de pensée تندرج فيه…
وما يؤسفُ له هو أن المتعلمين يعتبرون ما يتلقونه من معارف، معارف ثابتة invariables وغير قابلة للنقاش indiscutables…
إن هذه الطبيعة الجامدة التي تفرضها المدرسةُ على المعرفة المدرسية تحولُ دون نموِّ الفكرُ النقدي عند المتعلمين. كما تحول دون استقلالهم التَّعلُّمي leur autonomie d'apprentissage ونموِّ فضولُهم للاكتشاف و التَّنقيب curiosité de découverte et d'investigation…
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟
المدرس لا يجب أن يُعتبَرَ فقط كوسيلة لنقل المعارف. فإذا كان هذا المدرسُ ناقلاً للمعرفة من أجل التَّثقيف، فهو، في نفس الوقت، مربِّي وعنصر أساسي يساهم في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. غير أن القيامَ بدور المربِّي والمساهمِ في التنشئة الاجتماعية، يتطلَّب منه أن يكونَ مُلمّا بمُلزمات مهنة التدريس والتربية. وبعبارة أخرى، أن يكونَ المدرسُ على علمٍ بما توفِّره له علوم التربية من معطيات في هذين المجالين، أي التدريس والتربية. وأضعف الإيمان، هو أن يكون له موقفٌ علمي ومستنير فيما يخصُّ المعرفة التي ينقلها للمتعلمين. وهذا يعني أن تكوينَ المدرسين يجب أن يكونَ تكوينا شاملا يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط مهنةَ التدريس ولكن كذلك الدورَ التربوي المُناط بالمدرسين.
ما يؤسفُ له هو أن المدرسين، بحكم تكوينهم الذي يكون أحيانا غير مكتمل أو بحكم وقوعهم في رتابة المهنة، يهملون كل ما له علاقة بالتربية ويكرسون جهودَهم للتَّبليغ الجاف للمعارف. والنتيجة الحتمية هي حشو أدمغة المتعلمين بمعارف قد لا تصلُح إلا للامتحانات. والنتيجة الحتمية الأخرى، هي تحويلُ المدرسة من مؤسسة للتَّنشئة الاجتماعية إلى معملٍ لإنتاج أدمغة منمَّطة، وفي نفس الوقت، غريبة عن ما يجري داخلَ المجتمع.
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟
إن أكبرَ ضحايا هذا الوضع هم المتعلمون الذين هم صورة طِبق الأصل لنوعية العلاقات البيداغوجية والتربوية التي يُقيمُها معهم المدرسون أثناء ممارستهم للأنشطة التعليمية التعلُّمية. فإذا كانت هذه العلاقات مبنيةً على التَّبليغ المحض للمعرفة، فالمتعلمون هم الخاسرون. خاسرون لأنهم، في أحسن الظروف، يُعتَبَرون أوعية يجب ملؤها بمعارف لا يعرفون، خارجَ الامتحانات، لماذا تُنقَلُ إليهم. والطامة الكبرى هي أن كل ما يجري داخلَ الأقسام يجعل المتعلمين يعتقدون أن كلَّ ما يُنقَلُ لهم من معارف هي معارف عبارة عن حقائق لا تقبل النقاشَ. بل دعونا نقول بأنهم يؤمنون إيمانا راسخا بأن ما يُنقل لهم من معارف، هي معارف لا تقبل النقاشَ.
لهذا، فلا يمكن، على الإطلاق، أن يكونَ للمتعلمين موقفٌ من المعرفة المدرسية لأنها، أولا، مفروضة عليهم. ثانيا، المدرسة لا تستهدف من شخصِهم إلا قدرتَه على الحِفظ والاستظهار، وفي نفس الوقت، تُهمِّشُ قدرتَهم على التَّحليل والنقد والتركيب والاستقراء والاستدلال والمقارنة والبرهنة والاستنتاج…
ما يجب أن أختمَ به هذه المقالةَ، هو أن الأسُسَ النظرية التي تستمد منها مدرستُنا وجودَها يجب أن تخضعَ لتغييرٍ جذري. و لتلخيص هذا التَّغيير، أقول : ما دام سِرُّ وجود المنظومة التربوية هو تعليمُ وتعلُّمُ المتعلمين، فأي نوع من المتعلِّمين يريد المحتمع المغربي؟ هل متعلِّمون أدمغتُهم محشوةٌ بالمعارف التي، في أحسن الأحوال، لا تصلح إلا للامتحانات أو متعلمون مشبَّعون بالفكر النقدي، متفتِّخون ومتحرٍّرون فكريا واجتماعيا وقادرون على المساهمة في تقدم البلاد وتطوُّرها وتنميتِها بشريا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، علميا، تكنولوجيا، صناعيا…؟ كل مجتمع يطمح أن يرى بلادَه في أسمى مرتبات الرقي والازدهار والتقدم، سيختار، بالطبع، البديلَ الثاني.
1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟…
أكاذ أكون، بحكم التَّجربة، متأكِّدا أن فئةً قليلةً من المدرسين هم الذين تشغلُهم مثلُ هذه الأسئلة. ما يشغلُ السَّوادَ الأعظم من المدرسين هو تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلمين. وما هو مؤكَّدٌ كذلك هو أن الإجابةَ عن هذه الأسئلة تستلزم من المُجيبِ أن يكونَ مُلِمّاً بقدر كافي من علوم التَّربية. ولكن هذا لا يمنع من أن يتساءلَ المدرسون عن وضعِ ما ينقلونه من معارف للمتعلمين وأن يقوموا ببحثٍ شخصي يجعلهم متموقعين فكريا بالنسبة لهذه المعارف.
1.ما هي المعرفة المدرسية أو، بعبارة أخرى، ما هي طبيعة المعرفة المدرسية؟
أولا وقبل كل شيء، تجب الإشارةُ إلى أن المدرسةَ لا تُنتِج المعرفةَ. إنها فقط تستهلكها. وهذا شيءٌ مهمٌّ للغاية حيث أن المدرسةَ، بحكم عدم إنتاجِها للمعرفة وبحكم السرعة التي تُنتَجُ بها المعرفة في المختبرات، مطالبةٌ، نظريا، بأن تُجدِّدَ باستمرار ما تنقلُه من معارف للمتعلمين. غير أن هذا التَّجديدَ لا يحدثُ وإن حدث، فبعد مرور سنوات طوالٍ، وبالتالي، يكون دائما تفاوتٌ بين ما تنقله المدرسةُ من معارف والمستوى الذي وصل إليه إنتاجُ المعرفة في المختبرات في عدة مجالات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، صناعية، زراعية، تكنولوجية…
وهذا شيءٌ طبيعي لأن المدرسةَ ليست مكانا لمواكبة ما يستجدُّ من معارف في مختلف مجالات البحث. المدرسة تنقل المعارف من أجل تثقيف المتعلمين، ولكن كذلك وبالأخص، من أجل مساهمة هذه المعارف في بناء شخصية هؤلاء المتعلمين. حينها، يصبح تبليغُ المعرفة للمتعلمين ليس هدفا في حد ذاته ولكن وسيلة لنقلِ شخصية المتعلمين من حسن إلى أحسن. وبكل أسف، في مؤسساتِنا التَّعليمية، أصبح تبليغُ النعرفة للمتعلمين هدفا أساسيا ورئيسيا بينما بناءُ شخصية المتعلمين طاله ويطالُه الإهمال.
والمعرفة، بصفة عامة، لها طبيعة، أي لها طعمٌ ومذاقٌ ولونٌ ورائحةٌ. لماذا؟ لأن المعرفةَ لا تُمطرها السماء. المعرفة مصدرُها فكر الإنسان، وبالأخص، فكرُ الإنسان الباحث. والإنسان المنتِج للمعرفة كائن اجتماعي وتاريخي sujet socio-historique. كائن اجتماعي لأنه يعيش في وسط اجتماعي يتأثَّر به و يؤثِّر عليه. وكائن تاريخي لأنه يجرُّ وراءه تجربةً أو تجارب راكمها من خلال التعامل مع الواقع والأحداث والظواهر…
وباختصار، الشخص الذي يُنتِج المعرفةَ، سواءً كان باحثا أو غير باحث، له خلفية فكرية وثقافية un background intellectuel et culturel هي التي تمكِّنه من إنتاج المعرفة. والخلفية الفكرية والثقافية أنواع، أو بعبارة أخرى، التيارات الفكرية les courants de pensée أنواع.
فهناك التيار الفكري الذي يعتبر المعرفة تفسيرا وفيّاً fidèle للواقع réalité، وبالتالي، فهي معرفة تُعتَبَر صحيحة وغير قابلة للنقاش indiscutable.
وهناك تيار فكري لا يعترف إلا بالمعرفة التي يبنيها فكرُ الإنسان لكن الإنسان الذي يتأثَّر بظروف الزمان والمكان، وبالتالي، فهي معرفة نسبية relative وقابلة للنقاش discutable.
وهناك تيار فكري لا يؤمن إلا بالمعرفة الناتجة عن التَّجربة والملاحظة، وبالتالي، قابلة للتَّحقُّق vérification…
هذه هي طبيعة المعرفة التي تستحق أن يكونَ المدرسون مُلمِّين بها. لماذا؟ لأن طبيعةَ المعرفة هي التي نتجت عنها نظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage.
2.لماذا يتمُّ تبليغُ المعرفة المدرسية للمتعلِّمين؟
بالطبع، تبليغَ المعرفة للمتعلمين له عدة أهداف. تثقيف المتعلمين واحدٌ من هذه الأهداف. وتثقيف المتعلمين عاملٌ له دورٌ في اندماج هؤلاء المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية. واندماج المتعلمين في الحياة الاجتماعية والعملية ضروري لاستمرار التنمية بجميع أشكالها.
لكن الهدفَ الأساسي لتبليغ المعرفة للمتعلمين هو استغلالُها استغلالاً عقلانياً، بيداغوجياً، تربوياً وعلمياً من أجل بناء شخصية المتعلمين. لأن المعرفةَ قد يتم نسيانُها أو قد تصبح متجاوزةً. بينما صقل شخصية المتعلمين وتعويدُهم على الفكر النقدي والتَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين والاجتماعيين أمورٌ تصاحبهم طيلةَ حياتهم الاجتماعية والعملية.
3.هل هناك فرقٌ بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتِجُها مختبرات البحث؟
بالطبع، هناك فرق كبير بين المعرفة المدرسية والمعرفة التي تُنتْجها مختبراتُ البحث. أولا وللتذكير، ليست المدرسةُ هي التي أنتجت وتُنتِج المعارفَ التي تنقلها للمتعلمين. ثانيا، المعرفةُ المدرسية مقتبسة من المعرفة التي تُنتَجُ في المختبرات بعد إخضاعها لعدة عمليات. أول هذه العمليات هي التَّبسيط simplification، أي تحويل المعارف المختبرية أو العلمية من معارف قد تكون معقَّدة إلى معارف مبسَّطة. أما العملية الموالية، فتتمثَّل في تكييف المعارف مع النمو النفسي والمعرفي للمتعلمين développement psychologique et cognitif. ثم تأتي مرحلةُ صياغة المعارف على شكل برامج مدرسية programmes scolaires، أي بشكل آخر، المضمون المُصاغ على شكل عناوين ورؤوس أقلام têtes de chapitres. ثم في آخِر المطاف، تفصيل المضامين العامة لتحويلها إلى مضامين مفصَّلة والتي ستُتقَلُ فعليا إلى المتعلمين. وهي المضامين التي تحملها المراجع المدرسية.
غير أن الفرقَ الكبيرَ والأساسي بين هذين النوعين من المعارف هو أن المعارف المختبرية تم إنتاجُها في ظروف اجتماعية، اقتصادية وثقافية معيَّنة ومن طرف أشخاص اجتماعيين وتارخيين كما سبق الذكرُ. وبالتالي، فالمعارف المنتجة قابلة للتَّغيير حسب ما تجود به ظروف الزمان والمكان.
أما المعرفة المدرسية، فقد تمَّ تجريدُها من كل هذه الظروف عند القيام بعملية تبسيطها، وبالتالي، لم يعد هناك شيءٌ يوحي بأنها نسبية أو قابلة للنقاش. وهذا هو ما يحدثُ عند انتقالها من المراجع المدرسية إلى المدرسين ومن هؤلاء المدرسين إلى المتعلمين. لا أحدَ يتساءل عن طبيعتِها ولا عن ظروف إنتاجها ولا عن نِسبيتها relativité ولا عن أي تيار فكري courant de pensée تندرج فيه…
وما يؤسفُ له هو أن المتعلمين يعتبرون ما يتلقونه من معارف، معارف ثابتة invariables وغير قابلة للنقاش indiscutables…
إن هذه الطبيعة الجامدة التي تفرضها المدرسةُ على المعرفة المدرسية تحولُ دون نموِّ الفكرُ النقدي عند المتعلمين. كما تحول دون استقلالهم التَّعلُّمي leur autonomie d'apprentissage ونموِّ فضولُهم للاكتشاف و التَّنقيب curiosité de découverte et d'investigation…
4.ما هو موقف المدرس من المعرفة المدرسية ومن المعرفة بصفة عامة؟
المدرس لا يجب أن يُعتبَرَ فقط كوسيلة لنقل المعارف. فإذا كان هذا المدرسُ ناقلاً للمعرفة من أجل التَّثقيف، فهو، في نفس الوقت، مربِّي وعنصر أساسي يساهم في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. غير أن القيامَ بدور المربِّي والمساهمِ في التنشئة الاجتماعية، يتطلَّب منه أن يكونَ مُلمّا بمُلزمات مهنة التدريس والتربية. وبعبارة أخرى، أن يكونَ المدرسُ على علمٍ بما توفِّره له علوم التربية من معطيات في هذين المجالين، أي التدريس والتربية. وأضعف الإيمان، هو أن يكون له موقفٌ علمي ومستنير فيما يخصُّ المعرفة التي ينقلها للمتعلمين. وهذا يعني أن تكوينَ المدرسين يجب أن يكونَ تكوينا شاملا يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط مهنةَ التدريس ولكن كذلك الدورَ التربوي المُناط بالمدرسين.
ما يؤسفُ له هو أن المدرسين، بحكم تكوينهم الذي يكون أحيانا غير مكتمل أو بحكم وقوعهم في رتابة المهنة، يهملون كل ما له علاقة بالتربية ويكرسون جهودَهم للتَّبليغ الجاف للمعارف. والنتيجة الحتمية هي حشو أدمغة المتعلمين بمعارف قد لا تصلُح إلا للامتحانات. والنتيجة الحتمية الأخرى، هي تحويلُ المدرسة من مؤسسة للتَّنشئة الاجتماعية إلى معملٍ لإنتاج أدمغة منمَّطة، وفي نفس الوقت، غريبة عن ما يجري داخلَ المجتمع.
5.ما هو موقف المتعلِّم من المعرفة المدرسية؟
إن أكبرَ ضحايا هذا الوضع هم المتعلمون الذين هم صورة طِبق الأصل لنوعية العلاقات البيداغوجية والتربوية التي يُقيمُها معهم المدرسون أثناء ممارستهم للأنشطة التعليمية التعلُّمية. فإذا كانت هذه العلاقات مبنيةً على التَّبليغ المحض للمعرفة، فالمتعلمون هم الخاسرون. خاسرون لأنهم، في أحسن الظروف، يُعتَبَرون أوعية يجب ملؤها بمعارف لا يعرفون، خارجَ الامتحانات، لماذا تُنقَلُ إليهم. والطامة الكبرى هي أن كل ما يجري داخلَ الأقسام يجعل المتعلمين يعتقدون أن كلَّ ما يُنقَلُ لهم من معارف هي معارف عبارة عن حقائق لا تقبل النقاشَ. بل دعونا نقول بأنهم يؤمنون إيمانا راسخا بأن ما يُنقل لهم من معارف، هي معارف لا تقبل النقاشَ.
لهذا، فلا يمكن، على الإطلاق، أن يكونَ للمتعلمين موقفٌ من المعرفة المدرسية لأنها، أولا، مفروضة عليهم. ثانيا، المدرسة لا تستهدف من شخصِهم إلا قدرتَه على الحِفظ والاستظهار، وفي نفس الوقت، تُهمِّشُ قدرتَهم على التَّحليل والنقد والتركيب والاستقراء والاستدلال والمقارنة والبرهنة والاستنتاج…
ما يجب أن أختمَ به هذه المقالةَ، هو أن الأسُسَ النظرية التي تستمد منها مدرستُنا وجودَها يجب أن تخضعَ لتغييرٍ جذري. و لتلخيص هذا التَّغيير، أقول : ما دام سِرُّ وجود المنظومة التربوية هو تعليمُ وتعلُّمُ المتعلمين، فأي نوع من المتعلِّمين يريد المحتمع المغربي؟ هل متعلِّمون أدمغتُهم محشوةٌ بالمعارف التي، في أحسن الأحوال، لا تصلح إلا للامتحانات أو متعلمون مشبَّعون بالفكر النقدي، متفتِّخون ومتحرٍّرون فكريا واجتماعيا وقادرون على المساهمة في تقدم البلاد وتطوُّرها وتنميتِها بشريا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، علميا، تكنولوجيا، صناعيا…؟ كل مجتمع يطمح أن يرى بلادَه في أسمى مرتبات الرقي والازدهار والتقدم، سيختار، بالطبع، البديلَ الثاني.