«ليسمح لي الأستاذ توفيق الحكيم. ولم لا وهو الفنان الكبير الذي استباح لنفسه أن يجعل من زيد وعمرو، وكل من يخطر علي باله أبطالا لقصص ومسرحيات ليسمح لي أن أستعيره بطلا لهذه القصة، إذ يعلم الله إني قلبت في ذاكرتي وفي دفاتري الجديدة والقديمة فلم أجد غيره يصلح بطلا لها. لقد تصورت أنه صحا من نومه في الأسبوع الماضي وهو يكاد يختنق علي أثر كابوس مخيف كان جالسا كعادته في صالة فندق شبرد، ودقت الساعة التاسعة ولم يبق علي ميعاد انصرافه لكي ينام كعادته مبكرا إلا نصف ساعة لا بأس في قضائها يحملق في الغادين والرائحين والسائحات والسائحين ورواد هذا الفندق العالمي الغريب عساه يري في وجه إحداهن مشكلة تثير الفكر ويسرح لها الوجدان أو يلمح بين عجوز وشابه موقفا دراميا بقليل من التصرف والخيال والتخمين يصبح نواة "لبيجماليون" أخري أو "براكسا" من نوع جديد.
وهو جالس هكذا أيضا إذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله وهو السلام ينفع.. بالحضن يا توفيق بك بالحضن والله زمان فينك يا أخي وفين الأيام، كل هذا وهما واقفان ووجدها توفيق الحكيم بايخة قليلا، اتفضل. فقعد الرجل، وما كاد يجلس، ودون انتظار "لتصفيق" توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات سباتس وقهوة. ذهب الجرسون وعلي غير العادة في غمضة عين رجع حالا بالكازوزة والقهوة. وما كاد الرجل يرتشف بضع رشفات من الكوب المثلج حتي تهللت أساريره فجأة وكأنه رأي بعينيه ليلة القدر فقد رأي صديقا له مقبلا. وبالحضن أيضا قام أخذه واتفضل يا أخي وقعد الرجل.. تشرب إيه؟.. وسكي بالصودا.. وضايق الأستاذ توفيق هذا الطلب السخيف ولكن الرجل علي اية حال ليس صديقه، وليس بالتالي مسئولاً عن مزاجه وتصرفاته. وجاء الويسكي وما كاد الرجل يمصمص بشفتيه في أعقاب أول رشفة حتي طب رجل آخر لم يعرف توفيق الحكيم المكان صديقا للقادم الأول أم هو صديق الثاني. وما كاد يجلس حتي كان الجرسون فوق رأس المائدة إديني سندوتش فراخ ولندي وروزبيف واثنين جبنه رومي وبعدين قهوة وما كاد أول سندوتش ينتهي حتي جاء آخر سلم وصفق وطلب. وخامس وسادس وعاشر القعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسته المعهودة عن الأدب والفن النيابة وآرائه في أعضاء المجمع اللغوي، ولكن ولكن رغم حماسته الشديدة فالحقيقة أن أهم ما كان يشغل باله في ذلك الوقت هو الكوب الزجاجي الفارغ الذي يضع فيه الجرسون ورق الحساب، إذا كان الكوب قريبا جدا منه وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هم الآخر وكانت دقات قلب الأستاذ توفيق تزداد فصحيح أنه عارف تماما أنه لن يدفع من هذا الحساب كله شيئاً اللهم إلا كازوزة القادم الأول ولكن وجود هذه الكومة الرهيبة من الأوراق قريبة منه خطر علي أية حال أو هو علي الأقل وضع غير مريح وعلي هذا فطوال الحديث عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق مشغولا بزحزحة الكوب بعينه أحيانا وبدفعات خفيفة غير ملحوظة من عصاه مرة أخري دفعات تبدو دائما كأنها صدفة حتي أصبحت المسافة بينهم مأمونة أي بالقدر الذي لايسمح لابرد جرسون ان يأتي ويقف علي رأسه ساعة الحساب ولكن ساعة الحساب جاءت وجاء الجرسون الخواجة بسمنته وسترته البيضاء المترهلة وهلهيليته الاجريكية المعهودة ودونا عن الحاضرين أخطار الأستاذ توفيق ليقول له الحساب والله لخسن خلاص خ نمسوا دلوكتي.
وحين وجد الأستاذ توفيق ان الجميع مشغولين عن الجرسون بالحديث الدائر فيما بينهم أشار للرجل ان يتحلي ببعض الذوق والدم وان ينتظر بعض الوقت فالدنيا لا تطير ورفع الجرسون كتفيه في تسليم غير مقتنع وانسحب الي الركن غير بعيد أبدا ووقف يتطلع إلي الجلسة الي ساعته ويرفع أكتافه أحيانا ينفخ بصوت مزعج كمواء الخنازير والي ان حل سكون ما قبل ان ينتهي كان الجرسون كان غرس نفسه بصعوبة بينهم الخساب أصلنا خلاص ماسين ولم ينتظر إجابة أو الإشارة مد يده وتناول الأوراق الموضوعة في الكوب الفارغ ومضي يحسب كمسه وكمسه أسرة. ستين ونص مائة وواحد تلتمية ربعمية واتنين وتسعة وعسرة يبقي كله خمسمية واسرين.
بدا الرقم مزعجا ومهولا للأستاذ توفيق حتي وهو لن يشارك فيه إلا بأقل القليل ولكنه حين وزعه بعملية حسابية طائرة علي الحاضرين ووجد ان الشخص سينوبه حوالي الخمسين قرشا هدأ جرمه بعض الشيء وأدار عينيه في وجوه الحاضرين. ولكنه لم يجد وجوههم انزعاجا ولا احتفالا كبيرا بكمية الحساب أو ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا واقفا بعد ان انتهي من جمعه وإضافاته مسندا الأوراق فوق قمة كرشه، في حالة انتظار مؤدب وان كان واضحا انه أدب صناعي لا اثر للطبيعة فيه.
وكان مفروضا طبعا ان يبدأ الجالسون يتحركون، وان يمد كل منهم يده في جيبه ويصر علي الحساب كله مقسما باغلظ الإيمان، أو حتي علي أقل القليل يصر علي دفع حسابه هو علي الطريقة الإنجليزية مثلا.. ولكن، وهذا هو العجب، لم يتحرك منهم أحد، أو يتنحنح أو يبدي اقل بادرة تدل علي ان في نيته ان يدفع الحساب أو يمد يده الي جيبه بأي حال ولو حتي لاستخراج منديل
الأستاذ توفيق هو الآخر، سرح وسهم، وانتابه ذلك الذهول الفني الحاد الذي ينتابه في بعض المناسبات وليس أنسب من هذه المناسبة للذهول الفني الحاد. وهكذا راح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، ويحدق في وجوه الحاضرين وكأنه يحدق في اللاشئ واللانهاية واللامعقول، أو يقول كلمة، من رابع المستحيل.
بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين تسمر أمام الأستاذ وأبي أن يتلحلح، ومضي يدعي مسح الترابيزة الممسوحة مرارا، وبركن عينه يختص توفيق الحكيم بنظراته الجرسونية المعروفة التي معناها بالعربي الفصيح: أيدك بقي علي الحساب.
وهكذا، من هذه النظرات الجرسونية، ومن جمود نظرات الآخرين ومن أشياء مجهولة كثيرة رانت علي الجو أدرك توفيق الحكيم كنه الفاجعة. انه مطالب بدفع هذا الحساب كله، سواء أراد أم لم يرد هو الذي ينتابه الأرق وتأنيب الضمير إذا اخطأ وعزم علي صديق في مكتبه بفنجال قهوة ودفع لفراش مجلس الفنون قرشين ثمنا له.
وانتابه غيظ جامح لا قبل له به لقد كان مستعدا ان يدفع ثمن قهوته مثلا أو حتي لو احتاج الأمر ان يدفع ثمن المشروب الأخر الذي طلبه ذلك القادم الأول، القادم الذي لا يذكر الآن أبدا انه يعرفه أو قابله أو كانت له به صلة. أما ان يتحمل حساب أناس لا يعرفهم ولن يعرفهم وليس به ادني رغبة أو حاجة لمعرفتهم لمجرد انهم جلسوا في المكان الذي يجلس فيه، فشئ يفجر الدم في الشرايين.. لقد كان في الطريق الي الخروج حين توافدوا ولم يقعد معهم أكثر من عشر دقائق، أيدفع في سبيلها خمسة جنيهات "إسرين" قرشا في حين أنه لم يطلب لأي منهم شيئا، هم الذين طلبوا بأنفسهم ولأنفسهم، فما ذنبه هو وأية ساعة نحس تلك التي جعلته يطأ بقدميه عتبة شبرد في تلك الليلاء.
اغتاظ الأستاذ توفيق الحكيم جدا. وأحس بالحنق يكتم أنفاسه حتي كاد يصرخ بأعلي صوته ومن هول ما يحس به: والله مانا دافع واللي معاكم اعملوه ولكنه آثر الحسني والتروي، واعتقد أنه قابل الأمر بتشاؤم سريع لا مبرر له واعتقد أنه لأنه يخاف دائما من عفريت الحساب سيطلع له، في حين أنه لابد ان يتحرك أي واحد منهم أن آجلا أو عاجلا أو يتحركوا كلهم ويمدوا أيديهم إلي جيوبهم وينتهي الموقف نهاية متفائلة سعيدة ولا يصبح هناك محل لما تصوره من مأساة.
ولكن المشهد طال وزاد عن حده، والجرسون واقف أمامه مباشرة، والجالسون ينظرون فيما حولهم بهبل واستعباط يتجاهلون وجوده كلية لإحساسهم أنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه التام من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث، حتي لو شنقوه لن يدفع أبدا مثل ذلك الحساب.
والوضع هكذا يطول، ويمتد ويبقي لا حل له، ولا بادرة بحل، ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوة كونية غير منظورة قد أوقفت الزمن عند هذه اللحظة الحرجة وأبت أن تحركه قيد أنملة.. وبدأ الأستاذ توفيق يختنق، أحس بالغيظ القاهر الشديد يضع أيد قاسية حديدية تلتف حول عنقه وتمضي تضغط وتضغط وهو عاجز تماما عن مقامتها أو الكف عن الغيظ، الجرسون أمامه بعينيه المطالبتين في إلحاح اصبح وقحا مصرا خارج عن حدود الأدب والجالسون متشاغلون والزمن ثابت لا يتحرك.
والموقف يتأزم، وهو يختنق ويتفصد جسده عرقا ويختنق، ويتأزم وينتفض محاولا أن يقف أو يجري أو يتحرك، وقوي كأنها نفس القوي الكونية تبقيه في مكانه وتشله تماما عن إبداء أي حركة، وأخيرا جدا وبما يشبه المعجزة الشديدة الصعوبة وجد نفسه يري، وكأن ما رآه ظلاما لا أثر فيه لشبرد أو الجرسون أو الجالسون، والأهم من هذا لا حساب بالمرة فيه.
وحين أوقد النور وجد نفسه فوق فراشه في حجرة النوم، ولكنه أبدا لم يطمئن إلا بعد أن قام وتحرك، أشعل النور وأطفأه مرات ليتأكد أن ما حدث لم يحدث أبدا، وأنه كان حلما بل كان كابوسا مخيفا لا يدري سببه ولا علة مجيئه علي تلك الصورة الخانقة.
وحين أدرك دون ادني شك انه كان حقيقة مجرد كابوس أحس براحة حقيقية متصاعدة من أعماق صدره وانتابه فرح غامر وكأنه أخذ البراءة لتوه أو نجا من حادث خطير.
وهو جالس هكذا أيضا إذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله وهو السلام ينفع.. بالحضن يا توفيق بك بالحضن والله زمان فينك يا أخي وفين الأيام، كل هذا وهما واقفان ووجدها توفيق الحكيم بايخة قليلا، اتفضل. فقعد الرجل، وما كاد يجلس، ودون انتظار "لتصفيق" توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات سباتس وقهوة. ذهب الجرسون وعلي غير العادة في غمضة عين رجع حالا بالكازوزة والقهوة. وما كاد الرجل يرتشف بضع رشفات من الكوب المثلج حتي تهللت أساريره فجأة وكأنه رأي بعينيه ليلة القدر فقد رأي صديقا له مقبلا. وبالحضن أيضا قام أخذه واتفضل يا أخي وقعد الرجل.. تشرب إيه؟.. وسكي بالصودا.. وضايق الأستاذ توفيق هذا الطلب السخيف ولكن الرجل علي اية حال ليس صديقه، وليس بالتالي مسئولاً عن مزاجه وتصرفاته. وجاء الويسكي وما كاد الرجل يمصمص بشفتيه في أعقاب أول رشفة حتي طب رجل آخر لم يعرف توفيق الحكيم المكان صديقا للقادم الأول أم هو صديق الثاني. وما كاد يجلس حتي كان الجرسون فوق رأس المائدة إديني سندوتش فراخ ولندي وروزبيف واثنين جبنه رومي وبعدين قهوة وما كاد أول سندوتش ينتهي حتي جاء آخر سلم وصفق وطلب. وخامس وسادس وعاشر القعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسته المعهودة عن الأدب والفن النيابة وآرائه في أعضاء المجمع اللغوي، ولكن ولكن رغم حماسته الشديدة فالحقيقة أن أهم ما كان يشغل باله في ذلك الوقت هو الكوب الزجاجي الفارغ الذي يضع فيه الجرسون ورق الحساب، إذا كان الكوب قريبا جدا منه وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هم الآخر وكانت دقات قلب الأستاذ توفيق تزداد فصحيح أنه عارف تماما أنه لن يدفع من هذا الحساب كله شيئاً اللهم إلا كازوزة القادم الأول ولكن وجود هذه الكومة الرهيبة من الأوراق قريبة منه خطر علي أية حال أو هو علي الأقل وضع غير مريح وعلي هذا فطوال الحديث عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق مشغولا بزحزحة الكوب بعينه أحيانا وبدفعات خفيفة غير ملحوظة من عصاه مرة أخري دفعات تبدو دائما كأنها صدفة حتي أصبحت المسافة بينهم مأمونة أي بالقدر الذي لايسمح لابرد جرسون ان يأتي ويقف علي رأسه ساعة الحساب ولكن ساعة الحساب جاءت وجاء الجرسون الخواجة بسمنته وسترته البيضاء المترهلة وهلهيليته الاجريكية المعهودة ودونا عن الحاضرين أخطار الأستاذ توفيق ليقول له الحساب والله لخسن خلاص خ نمسوا دلوكتي.
وحين وجد الأستاذ توفيق ان الجميع مشغولين عن الجرسون بالحديث الدائر فيما بينهم أشار للرجل ان يتحلي ببعض الذوق والدم وان ينتظر بعض الوقت فالدنيا لا تطير ورفع الجرسون كتفيه في تسليم غير مقتنع وانسحب الي الركن غير بعيد أبدا ووقف يتطلع إلي الجلسة الي ساعته ويرفع أكتافه أحيانا ينفخ بصوت مزعج كمواء الخنازير والي ان حل سكون ما قبل ان ينتهي كان الجرسون كان غرس نفسه بصعوبة بينهم الخساب أصلنا خلاص ماسين ولم ينتظر إجابة أو الإشارة مد يده وتناول الأوراق الموضوعة في الكوب الفارغ ومضي يحسب كمسه وكمسه أسرة. ستين ونص مائة وواحد تلتمية ربعمية واتنين وتسعة وعسرة يبقي كله خمسمية واسرين.
بدا الرقم مزعجا ومهولا للأستاذ توفيق حتي وهو لن يشارك فيه إلا بأقل القليل ولكنه حين وزعه بعملية حسابية طائرة علي الحاضرين ووجد ان الشخص سينوبه حوالي الخمسين قرشا هدأ جرمه بعض الشيء وأدار عينيه في وجوه الحاضرين. ولكنه لم يجد وجوههم انزعاجا ولا احتفالا كبيرا بكمية الحساب أو ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا واقفا بعد ان انتهي من جمعه وإضافاته مسندا الأوراق فوق قمة كرشه، في حالة انتظار مؤدب وان كان واضحا انه أدب صناعي لا اثر للطبيعة فيه.
وكان مفروضا طبعا ان يبدأ الجالسون يتحركون، وان يمد كل منهم يده في جيبه ويصر علي الحساب كله مقسما باغلظ الإيمان، أو حتي علي أقل القليل يصر علي دفع حسابه هو علي الطريقة الإنجليزية مثلا.. ولكن، وهذا هو العجب، لم يتحرك منهم أحد، أو يتنحنح أو يبدي اقل بادرة تدل علي ان في نيته ان يدفع الحساب أو يمد يده الي جيبه بأي حال ولو حتي لاستخراج منديل
الأستاذ توفيق هو الآخر، سرح وسهم، وانتابه ذلك الذهول الفني الحاد الذي ينتابه في بعض المناسبات وليس أنسب من هذه المناسبة للذهول الفني الحاد. وهكذا راح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، ويحدق في وجوه الحاضرين وكأنه يحدق في اللاشئ واللانهاية واللامعقول، أو يقول كلمة، من رابع المستحيل.
بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين تسمر أمام الأستاذ وأبي أن يتلحلح، ومضي يدعي مسح الترابيزة الممسوحة مرارا، وبركن عينه يختص توفيق الحكيم بنظراته الجرسونية المعروفة التي معناها بالعربي الفصيح: أيدك بقي علي الحساب.
وهكذا، من هذه النظرات الجرسونية، ومن جمود نظرات الآخرين ومن أشياء مجهولة كثيرة رانت علي الجو أدرك توفيق الحكيم كنه الفاجعة. انه مطالب بدفع هذا الحساب كله، سواء أراد أم لم يرد هو الذي ينتابه الأرق وتأنيب الضمير إذا اخطأ وعزم علي صديق في مكتبه بفنجال قهوة ودفع لفراش مجلس الفنون قرشين ثمنا له.
وانتابه غيظ جامح لا قبل له به لقد كان مستعدا ان يدفع ثمن قهوته مثلا أو حتي لو احتاج الأمر ان يدفع ثمن المشروب الأخر الذي طلبه ذلك القادم الأول، القادم الذي لا يذكر الآن أبدا انه يعرفه أو قابله أو كانت له به صلة. أما ان يتحمل حساب أناس لا يعرفهم ولن يعرفهم وليس به ادني رغبة أو حاجة لمعرفتهم لمجرد انهم جلسوا في المكان الذي يجلس فيه، فشئ يفجر الدم في الشرايين.. لقد كان في الطريق الي الخروج حين توافدوا ولم يقعد معهم أكثر من عشر دقائق، أيدفع في سبيلها خمسة جنيهات "إسرين" قرشا في حين أنه لم يطلب لأي منهم شيئا، هم الذين طلبوا بأنفسهم ولأنفسهم، فما ذنبه هو وأية ساعة نحس تلك التي جعلته يطأ بقدميه عتبة شبرد في تلك الليلاء.
اغتاظ الأستاذ توفيق الحكيم جدا. وأحس بالحنق يكتم أنفاسه حتي كاد يصرخ بأعلي صوته ومن هول ما يحس به: والله مانا دافع واللي معاكم اعملوه ولكنه آثر الحسني والتروي، واعتقد أنه قابل الأمر بتشاؤم سريع لا مبرر له واعتقد أنه لأنه يخاف دائما من عفريت الحساب سيطلع له، في حين أنه لابد ان يتحرك أي واحد منهم أن آجلا أو عاجلا أو يتحركوا كلهم ويمدوا أيديهم إلي جيوبهم وينتهي الموقف نهاية متفائلة سعيدة ولا يصبح هناك محل لما تصوره من مأساة.
ولكن المشهد طال وزاد عن حده، والجرسون واقف أمامه مباشرة، والجالسون ينظرون فيما حولهم بهبل واستعباط يتجاهلون وجوده كلية لإحساسهم أنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه التام من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث، حتي لو شنقوه لن يدفع أبدا مثل ذلك الحساب.
والوضع هكذا يطول، ويمتد ويبقي لا حل له، ولا بادرة بحل، ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوة كونية غير منظورة قد أوقفت الزمن عند هذه اللحظة الحرجة وأبت أن تحركه قيد أنملة.. وبدأ الأستاذ توفيق يختنق، أحس بالغيظ القاهر الشديد يضع أيد قاسية حديدية تلتف حول عنقه وتمضي تضغط وتضغط وهو عاجز تماما عن مقامتها أو الكف عن الغيظ، الجرسون أمامه بعينيه المطالبتين في إلحاح اصبح وقحا مصرا خارج عن حدود الأدب والجالسون متشاغلون والزمن ثابت لا يتحرك.
والموقف يتأزم، وهو يختنق ويتفصد جسده عرقا ويختنق، ويتأزم وينتفض محاولا أن يقف أو يجري أو يتحرك، وقوي كأنها نفس القوي الكونية تبقيه في مكانه وتشله تماما عن إبداء أي حركة، وأخيرا جدا وبما يشبه المعجزة الشديدة الصعوبة وجد نفسه يري، وكأن ما رآه ظلاما لا أثر فيه لشبرد أو الجرسون أو الجالسون، والأهم من هذا لا حساب بالمرة فيه.
وحين أوقد النور وجد نفسه فوق فراشه في حجرة النوم، ولكنه أبدا لم يطمئن إلا بعد أن قام وتحرك، أشعل النور وأطفأه مرات ليتأكد أن ما حدث لم يحدث أبدا، وأنه كان حلما بل كان كابوسا مخيفا لا يدري سببه ولا علة مجيئه علي تلك الصورة الخانقة.
وحين أدرك دون ادني شك انه كان حقيقة مجرد كابوس أحس براحة حقيقية متصاعدة من أعماق صدره وانتابه فرح غامر وكأنه أخذ البراءة لتوه أو نجا من حادث خطير.