قبل أن يمتطي طريقَه لأول مرة نحو المدرسة، يمتلك الطفلُ نوعا من الثقافة التِّلقائمة une culture spontanée (مجموعة معارف un savoir، أفكار idées، صور images، تمثلات représentations، اعتقادات croyances) خاصة به. وهذه الثقافة التِّلقائية تم بناءُها من طَرَف الطفل نتيجةً لتفاعلِه مع الوسط الذي يعيش فيه ومع الآخرين. وهي، أي الثقافة التِّلقائية، التي تمكِّن هذا الطفلَ من التعامل مع الواقع ومع الأشياء ومع وسطِه العائلي والبيئة ُالاجتماعية environnement social… كل شيء يتم تفسيرُه حسب أنانيته égoïsme.
بالنسبة للطفل، دخولُه إلى المدرسة لأول مرة، هو بمثابة الدخول في عالم جديد ليس له مكان بعدُ في ثقافته الخاصة. والمدرسة، كما هو متعارفٌ عليها كونيا، هدفُها الأساسي هو أن توفِّرَ للقادم الجديد، أي الطفل، تعليما ينقله من عالم التِّلقائمة ĺa spontanéité إلى عالمٍ معارفُه مدروسةً، أي منظّمةً ومُعقلنةً، عكسَ المعرفة التِّلقائية التي بناها (اكتسبها) على امتداد تفاعلاته مع الوسط الأسري والبيئة الاجتماعية.
وهذا يعني أن الطفلَ، فجأةً، يجد نفسَه في مواجهةِ نوعين من المعرفة : معرفتُه الخاصة التِّلقائية ومعرفةُ المدرسة التي هي نتيجةٌ لسياقٍ فكري processus intellectuel يعتمد على التفكير la pensée والملاحظة l'observation والتجريب l'expérimentation والتبصر la perspicacité والاستنباط la déduction والمقارنة la comparaison والتحليل l'analyse والتركيب la synthèse والبرهنة la démonstration والاستقراء l'induction...
الأولى، أي معرفة الطفل، مرسَّخةٌ بقوة في رأس الطفل، الشيء الذي يجعل دورَ المدرسة أساسيا وحاسما. وهذا يعني أن هذه الأخيرة عليها أن تساعدَه ليخرجَ من تلقائيته نحو عالم العقل والتفكير المنظم... وبعبارة أخرى، تَخليصُه من تمثُّلاته ses représentations ومن أفكاره وتصوراته التلقائية لتعويضها بنمطٍ من التفكير العقلاني والمتناسق coordonné.
وسعيا إلى مزيدٍ من التوضيح، قد أقول إن الطفلَ، مند ازدياده إلى سن التمدرس âge de scolarisation ، بنى نموذجا ثقافيا خاصا به يقود ويوجّه تصرفاتِه داخل البيئة الاجتماعية. فعلى المدرسة أن تقودَه تدريجيا نحو بناء نموذج ثقافي جديد، لكن مُقتسَم على نطاق واسع والذي هو ناتج عن نشاط فكري مُنظّم.
الانتقال التدريجي من نموذج معرفي إلى آخر يُلقي على عاتق المدرسة الابتدائية مسئوليةً كبيرةً تتمثل في تحميل هذه المدرسة واجباً يمكِن تلخيصُه في الاضطلاعِ بمهمة تغيير شخصية الطفل رأسا على عقب.
وهذا التغيير يجب أن يحدثَ ويبدأَ تحقيقُه في هذا المستوى الابتدائي وليس في مكان آخر. لماذا؟ لأنه في هذا المستوى يبدأ رسمُ معالمِ مستقبلِ الطفل. وعندما نقول "رسم مستقبل الطفل"، فهذا معناه أن المدرسةَ هي بكل تأكيد مكانٌ للتهذيب moralisation والتعليم enseignement ولكن كذلك، وعلى الأخص، مكان للتربية éducation والتعلّم apprentissage.
وعندما نتحدث عن "التعليم والتهذيب"، يتعلق الأمر بتبليغ المعارف لكن معارف تمكّن الطفلَ من إدراك نفسه وإدراك ما يجري حوله ومن التفاعل مع بيئته الاجتماعية، المُشيدة والطبيعية، لكن برصيدٍ معرفي جديد.
وعندما نتحدث عن "التعلّم والتربية"، يتعلق الأمر بالاستفادة من التعليم والتهذيب للمساهمة في بناء شخصية الطفل، بمعنى أن هذا الأخير، منذ نعومة أظافره، يجب أن "يتعلّمَ كيف يتعلّم" ليتعوَّدَ، مستقبلاً، على استخدامِ قدراته واستعداداته الفكرية.
وهنا، لا بدَّ من الإشارةِ أنه لم يكن، في يوم من الأيام، هدفُ ذهاب الطفل إلى المدرسة هو خروجُه منها كموسوعة encyclopédie أو علاّمة savant. ليس هذا هو دورُها. دورُها هو أن تساهمَ في بناء شخصية المتعلِّم وتُثَقِّفَه، وبالأخص، أن تُعلِّمَه كيف يتعلَّم.
إنها إذن مرحلة أساسية، حاسمة، هامة، مصيرية من حياة الطفل.
بعد هذا التوضيح، بدون شك أنكم تساءلتم لماذا أعطيت لهذه المقالة العنوان التالي : "المعلم، الطباشير، السبورة، القلم، المحبرة والدفتر". قبل أن أُجيب عن هذا التساءل، أودُّ أن أطرح السؤال التالي : هل المدرسة الابتدائية الحالية أدت وتؤدِّي المهامَ المشار إليها أعلاه، أي : التعليم، التهذيب، التعلّم والتربية؟ اعتبارا للوسائل المادية، البيداغوجية والديداكتيكية التي تتوفر عليها اليوم، والاهتمام والعناية اللذان يوليهما المجتمعُ لها والمكان المختار الذي تحتله في السياسات العمومية التنموية، وبالأخص، في السياسات التربوية، شيء عادي أن تكون المدرسة في مستوى هذه المهام.
غير أن الواقع صادمٌ عن غير عادة! لماذا؟ مند زمان، فشلت المدرسةُ الحالية فشلا ذريعا في أداء مهامها ولم تعُد سوى جهاز ميكانيكي لملء (إن أمكن) الأدمغة بمعارف بعيدة ومعزولة عن الواقع الاجتماعي. المدرسة تشتغل في حلقة مفرغة، أي أنها تُداول معرفةً خاصةَ بها لم تعد تصلح إلا لضمان بقائها.
إنه من غير المعقول ومن المفاجئ أن يُلاحظَ أن المدرسة الابتدائية للأربعينيات والخمسينيات، وشيئا ما الستينيات، رغم تواضع الوسائل التي كانت تتوفر عليها، كانت مدرسةً مواطنةً متجذرةً كلِّيا في المجتمع وتستجيب لحاجياته.
بالفعل، فما هي الوسائل التي كانت تتوفر عليها، بالخصوص، مدرسةُ الأربعينيات والخمسينيات الابتدائية؟
أمام تلك التي تتوفر عليها المدرسة الحالية، إنها تبدو ضئيلة، متواضعة ولكن، في نفس الوقت، وسائلُ كم هي ناجعة ومُنتجة! كانت هذه الوسائل تُحسب على رؤوس أصابع اليدين، أي : المدرس، الطباشير، السبورة، القلم، المِحبرة والدفتر.
كان المدرس هو محرِّك عملية التعليم والتهذيب والتّعلم والتربية. كما كان، كذلك، تجسيدا حيا لمهمة المدرسة السامية. تصرُّفاتُه داخل القسم، بالساحة وخارج المدرسة تصب كلها في تحقيق هذه المهمة. كان يُعطي المثال donner l'exemple كمهذِّب moralisateur وبيداغوجي pédagogue، ولكن كذلك وعلى الأخص، كمُربّي éducateur. كان يُولِّد عند الطفل حبَّ وحاجةَ ورغبةَ الدراسة والتّعلم. كل ما كان لديه من وسائل بيداغوجية وديداكتيكية تتمثل في خطابه (التواصل)، في الطباشير والسبورة. الاستعمال المدروس والمنظَّم لهذه الوسائل كان بمثابة رهان لجذب اهتمام الطفل.
عندما تؤدي الوسائل الثلاثة، أي المدرس والطباشير والسبورة مهامَّها : جلبُ انتباه المتعلِّمين، تفسير explication، إيضاح illustration، توضيح clarification...، يأتي دورُ الطفل ليؤديَّ، هو الآخرُ مهامَّه ليستبطنَ s'approprier ويسجِّلَ enregistrer ما تعلّمه وفهمه واستساغه. إنه ليس أكثر حظا من المدرس. إنه ليس لديه إلا القلم والمحبرة والدفتر. إنها وسائل لها أهميتُها كما هو الشأن بالنسبة لوسائل المدرس. كيفيةُ استعمالِها لها مكانة عند هذا الأخير. على الطفل أن لا يمسك القلم كما يحلو له! عليه أن لا يضع القلم في المحبرة كما يحلو له! عليه أن لا يكتب في الدفتر كما يحلو له! عليه أن لا يوسِّخَ أصابعَه والطاولةَ والدفترَ! الاشتغال بعناية وبنظافة والاعتناء بدفتره، أليست هذه أشياء لها علاقة بالتّعلم والتربية؟ باختصارٍ شديدٍ، دفترُ المتعلِّم كان يُجسِّد المدرسةَ كمكانٍ للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّربية.
وفضلا عن ذلك، إذا كان القلمُ والمحبرةُ والدفترُ من الأهمية بمكان بالنسبة للمدرس والطفل معا، فإن هذه الأهمية تزيد شيئا ما عند هذا الأخير بالنسبة للدفتر. إنه ذاكرتُه، مرجعُه، كتابُه، خزانته، طريقُه نحو النجاح ! إنه كنزه الثمين الذي يرسم معالِمَ مساره الدراسي وأوَّلَ الخطوات نحو بناء مستقبلِه!
قد لا أبالغ إذا قلتُ إن المدرسَ والطباشيرَ والسبورةَ والقلمَ والمحبرةَ والدفترَ قِيمٌ لا ثمن لها بالنسبة لمدرسة الماضي. إنها وحدها كانت تضمن التعليم والتهذيب والتعلّم والتربية.
وهنا، لا داعي للقول أن المدرسةَ الحاليةَ، رغم تنوُّع وجودة الوسائل البشرية والمادية التي تتوفر عليها، لم تعد قادرةً على القيام بمهمَّتها الإنسانية والاجتماعية. إنها أصبحت، بالأحرى، مصدرا للضياع البشري، للتبذير المالي، للأمية المرجحة، لتفاقم التفاوتات الاجتماعية، لتبخيس مبدأ تكافؤ الفرص...
وباختصار، مدرسة غريبة جوهريا عن المجتمع الذي يحتضنها. ورغم ضخامة الميزانيات التي تلتهمها والإصلاحات المتتالية وتكوين المدرسين والميثاق والبرنامج الاستعجالي وثِقَل المِحفظات وتقلُّب المقررات الدراسية والتعريب والتراجع عن التعريب والعودة إلى التعريب والخوصصة والتشريع والجهوية...، إن المدرسةَ المغربيةَ منغمِسةٌ مرضيا في سبات عميق. وهذا يعني أن قاعدةَ، أساسَ، ركائزَ، دعامةَ، تُربةَ التنشئة الاجتماعية أصابها مرضٌ مزمنٌ علما أن هذا المرضَ له انعكاس على المجتمع وتضررت ولا تزال تتصرَّرُ منه عدة أجيال!
وفي الختام، قد يتساءل القارئُ عن أسباب نجاح مدرسة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في أداء مهامِّها؟ في نظري الشخصي، هناك سببٌ واحدٌ رئيسي وحاسم. إنه اتِّصاف المدرسين، حتى ىالنُّخاع، بروح المواطنة وحبِّ الصالح العام. كانت مصلحة الوطن تعلو كلَّ شيء، أي ان هذه المصلحةَ لا شيءَ يأتي قبلها. ومصلحة الوطن هي التي كانت تحثُّ المدرسين على بذلِ أكثر ما في وُسعِهم من جُهدٍ لإنجاح مهامِّهم. اليوم، السياسة، بمعناها اللاأخلاقي، أفسدت كلَّ شيءٍ!
بالنسبة للطفل، دخولُه إلى المدرسة لأول مرة، هو بمثابة الدخول في عالم جديد ليس له مكان بعدُ في ثقافته الخاصة. والمدرسة، كما هو متعارفٌ عليها كونيا، هدفُها الأساسي هو أن توفِّرَ للقادم الجديد، أي الطفل، تعليما ينقله من عالم التِّلقائمة ĺa spontanéité إلى عالمٍ معارفُه مدروسةً، أي منظّمةً ومُعقلنةً، عكسَ المعرفة التِّلقائية التي بناها (اكتسبها) على امتداد تفاعلاته مع الوسط الأسري والبيئة الاجتماعية.
وهذا يعني أن الطفلَ، فجأةً، يجد نفسَه في مواجهةِ نوعين من المعرفة : معرفتُه الخاصة التِّلقائية ومعرفةُ المدرسة التي هي نتيجةٌ لسياقٍ فكري processus intellectuel يعتمد على التفكير la pensée والملاحظة l'observation والتجريب l'expérimentation والتبصر la perspicacité والاستنباط la déduction والمقارنة la comparaison والتحليل l'analyse والتركيب la synthèse والبرهنة la démonstration والاستقراء l'induction...
الأولى، أي معرفة الطفل، مرسَّخةٌ بقوة في رأس الطفل، الشيء الذي يجعل دورَ المدرسة أساسيا وحاسما. وهذا يعني أن هذه الأخيرة عليها أن تساعدَه ليخرجَ من تلقائيته نحو عالم العقل والتفكير المنظم... وبعبارة أخرى، تَخليصُه من تمثُّلاته ses représentations ومن أفكاره وتصوراته التلقائية لتعويضها بنمطٍ من التفكير العقلاني والمتناسق coordonné.
وسعيا إلى مزيدٍ من التوضيح، قد أقول إن الطفلَ، مند ازدياده إلى سن التمدرس âge de scolarisation ، بنى نموذجا ثقافيا خاصا به يقود ويوجّه تصرفاتِه داخل البيئة الاجتماعية. فعلى المدرسة أن تقودَه تدريجيا نحو بناء نموذج ثقافي جديد، لكن مُقتسَم على نطاق واسع والذي هو ناتج عن نشاط فكري مُنظّم.
الانتقال التدريجي من نموذج معرفي إلى آخر يُلقي على عاتق المدرسة الابتدائية مسئوليةً كبيرةً تتمثل في تحميل هذه المدرسة واجباً يمكِن تلخيصُه في الاضطلاعِ بمهمة تغيير شخصية الطفل رأسا على عقب.
وهذا التغيير يجب أن يحدثَ ويبدأَ تحقيقُه في هذا المستوى الابتدائي وليس في مكان آخر. لماذا؟ لأنه في هذا المستوى يبدأ رسمُ معالمِ مستقبلِ الطفل. وعندما نقول "رسم مستقبل الطفل"، فهذا معناه أن المدرسةَ هي بكل تأكيد مكانٌ للتهذيب moralisation والتعليم enseignement ولكن كذلك، وعلى الأخص، مكان للتربية éducation والتعلّم apprentissage.
وعندما نتحدث عن "التعليم والتهذيب"، يتعلق الأمر بتبليغ المعارف لكن معارف تمكّن الطفلَ من إدراك نفسه وإدراك ما يجري حوله ومن التفاعل مع بيئته الاجتماعية، المُشيدة والطبيعية، لكن برصيدٍ معرفي جديد.
وعندما نتحدث عن "التعلّم والتربية"، يتعلق الأمر بالاستفادة من التعليم والتهذيب للمساهمة في بناء شخصية الطفل، بمعنى أن هذا الأخير، منذ نعومة أظافره، يجب أن "يتعلّمَ كيف يتعلّم" ليتعوَّدَ، مستقبلاً، على استخدامِ قدراته واستعداداته الفكرية.
وهنا، لا بدَّ من الإشارةِ أنه لم يكن، في يوم من الأيام، هدفُ ذهاب الطفل إلى المدرسة هو خروجُه منها كموسوعة encyclopédie أو علاّمة savant. ليس هذا هو دورُها. دورُها هو أن تساهمَ في بناء شخصية المتعلِّم وتُثَقِّفَه، وبالأخص، أن تُعلِّمَه كيف يتعلَّم.
إنها إذن مرحلة أساسية، حاسمة، هامة، مصيرية من حياة الطفل.
بعد هذا التوضيح، بدون شك أنكم تساءلتم لماذا أعطيت لهذه المقالة العنوان التالي : "المعلم، الطباشير، السبورة، القلم، المحبرة والدفتر". قبل أن أُجيب عن هذا التساءل، أودُّ أن أطرح السؤال التالي : هل المدرسة الابتدائية الحالية أدت وتؤدِّي المهامَ المشار إليها أعلاه، أي : التعليم، التهذيب، التعلّم والتربية؟ اعتبارا للوسائل المادية، البيداغوجية والديداكتيكية التي تتوفر عليها اليوم، والاهتمام والعناية اللذان يوليهما المجتمعُ لها والمكان المختار الذي تحتله في السياسات العمومية التنموية، وبالأخص، في السياسات التربوية، شيء عادي أن تكون المدرسة في مستوى هذه المهام.
غير أن الواقع صادمٌ عن غير عادة! لماذا؟ مند زمان، فشلت المدرسةُ الحالية فشلا ذريعا في أداء مهامها ولم تعُد سوى جهاز ميكانيكي لملء (إن أمكن) الأدمغة بمعارف بعيدة ومعزولة عن الواقع الاجتماعي. المدرسة تشتغل في حلقة مفرغة، أي أنها تُداول معرفةً خاصةَ بها لم تعد تصلح إلا لضمان بقائها.
إنه من غير المعقول ومن المفاجئ أن يُلاحظَ أن المدرسة الابتدائية للأربعينيات والخمسينيات، وشيئا ما الستينيات، رغم تواضع الوسائل التي كانت تتوفر عليها، كانت مدرسةً مواطنةً متجذرةً كلِّيا في المجتمع وتستجيب لحاجياته.
بالفعل، فما هي الوسائل التي كانت تتوفر عليها، بالخصوص، مدرسةُ الأربعينيات والخمسينيات الابتدائية؟
أمام تلك التي تتوفر عليها المدرسة الحالية، إنها تبدو ضئيلة، متواضعة ولكن، في نفس الوقت، وسائلُ كم هي ناجعة ومُنتجة! كانت هذه الوسائل تُحسب على رؤوس أصابع اليدين، أي : المدرس، الطباشير، السبورة، القلم، المِحبرة والدفتر.
كان المدرس هو محرِّك عملية التعليم والتهذيب والتّعلم والتربية. كما كان، كذلك، تجسيدا حيا لمهمة المدرسة السامية. تصرُّفاتُه داخل القسم، بالساحة وخارج المدرسة تصب كلها في تحقيق هذه المهمة. كان يُعطي المثال donner l'exemple كمهذِّب moralisateur وبيداغوجي pédagogue، ولكن كذلك وعلى الأخص، كمُربّي éducateur. كان يُولِّد عند الطفل حبَّ وحاجةَ ورغبةَ الدراسة والتّعلم. كل ما كان لديه من وسائل بيداغوجية وديداكتيكية تتمثل في خطابه (التواصل)، في الطباشير والسبورة. الاستعمال المدروس والمنظَّم لهذه الوسائل كان بمثابة رهان لجذب اهتمام الطفل.
عندما تؤدي الوسائل الثلاثة، أي المدرس والطباشير والسبورة مهامَّها : جلبُ انتباه المتعلِّمين، تفسير explication، إيضاح illustration، توضيح clarification...، يأتي دورُ الطفل ليؤديَّ، هو الآخرُ مهامَّه ليستبطنَ s'approprier ويسجِّلَ enregistrer ما تعلّمه وفهمه واستساغه. إنه ليس أكثر حظا من المدرس. إنه ليس لديه إلا القلم والمحبرة والدفتر. إنها وسائل لها أهميتُها كما هو الشأن بالنسبة لوسائل المدرس. كيفيةُ استعمالِها لها مكانة عند هذا الأخير. على الطفل أن لا يمسك القلم كما يحلو له! عليه أن لا يضع القلم في المحبرة كما يحلو له! عليه أن لا يكتب في الدفتر كما يحلو له! عليه أن لا يوسِّخَ أصابعَه والطاولةَ والدفترَ! الاشتغال بعناية وبنظافة والاعتناء بدفتره، أليست هذه أشياء لها علاقة بالتّعلم والتربية؟ باختصارٍ شديدٍ، دفترُ المتعلِّم كان يُجسِّد المدرسةَ كمكانٍ للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّربية.
وفضلا عن ذلك، إذا كان القلمُ والمحبرةُ والدفترُ من الأهمية بمكان بالنسبة للمدرس والطفل معا، فإن هذه الأهمية تزيد شيئا ما عند هذا الأخير بالنسبة للدفتر. إنه ذاكرتُه، مرجعُه، كتابُه، خزانته، طريقُه نحو النجاح ! إنه كنزه الثمين الذي يرسم معالِمَ مساره الدراسي وأوَّلَ الخطوات نحو بناء مستقبلِه!
قد لا أبالغ إذا قلتُ إن المدرسَ والطباشيرَ والسبورةَ والقلمَ والمحبرةَ والدفترَ قِيمٌ لا ثمن لها بالنسبة لمدرسة الماضي. إنها وحدها كانت تضمن التعليم والتهذيب والتعلّم والتربية.
وهنا، لا داعي للقول أن المدرسةَ الحاليةَ، رغم تنوُّع وجودة الوسائل البشرية والمادية التي تتوفر عليها، لم تعد قادرةً على القيام بمهمَّتها الإنسانية والاجتماعية. إنها أصبحت، بالأحرى، مصدرا للضياع البشري، للتبذير المالي، للأمية المرجحة، لتفاقم التفاوتات الاجتماعية، لتبخيس مبدأ تكافؤ الفرص...
وباختصار، مدرسة غريبة جوهريا عن المجتمع الذي يحتضنها. ورغم ضخامة الميزانيات التي تلتهمها والإصلاحات المتتالية وتكوين المدرسين والميثاق والبرنامج الاستعجالي وثِقَل المِحفظات وتقلُّب المقررات الدراسية والتعريب والتراجع عن التعريب والعودة إلى التعريب والخوصصة والتشريع والجهوية...، إن المدرسةَ المغربيةَ منغمِسةٌ مرضيا في سبات عميق. وهذا يعني أن قاعدةَ، أساسَ، ركائزَ، دعامةَ، تُربةَ التنشئة الاجتماعية أصابها مرضٌ مزمنٌ علما أن هذا المرضَ له انعكاس على المجتمع وتضررت ولا تزال تتصرَّرُ منه عدة أجيال!
وفي الختام، قد يتساءل القارئُ عن أسباب نجاح مدرسة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في أداء مهامِّها؟ في نظري الشخصي، هناك سببٌ واحدٌ رئيسي وحاسم. إنه اتِّصاف المدرسين، حتى ىالنُّخاع، بروح المواطنة وحبِّ الصالح العام. كانت مصلحة الوطن تعلو كلَّ شيء، أي ان هذه المصلحةَ لا شيءَ يأتي قبلها. ومصلحة الوطن هي التي كانت تحثُّ المدرسين على بذلِ أكثر ما في وُسعِهم من جُهدٍ لإنجاح مهامِّهم. اليوم، السياسة، بمعناها اللاأخلاقي، أفسدت كلَّ شيءٍ!