كان في انتظارنا أمام الفندق عربة "كارو" فخمة، يجرها حصان أشهب تتدلى على صدره قلادات نحاسية، بعضها فضي، وأجراس ونواقيس صغيرة صفراء اللون، و"عثكال" من ريش الطاووس أو النعام فوق رأسه وما بين أذنيه، مرفوع بأبهة. كان الحصان رائعاً، يشبه حصان الإمام أحمد (الرعد) المشهور الذي كان يصول به ويجول وسيفه بيده اليمني في ميدان "العُرْضي" بتعز!
ركبت مع زميلي، وبجوارنا المرحوم "حسن الحبيشي" العربة "الكارو" التي ستنقلنا إلى محطة ميدان "رمسيس" القريبة من الفندق، بعد أن وضع حقائبنا بواب الفندق ذو الطربوش الأحمر متمنياً لنا رحلة سعيدة، ماداً يده اليمني حيث وضع مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" عدة نقود صغيرة فيها!
كان "العربجي" (صاحب العربة) قد همز حصانه وتحرك بوقع أقدامه المنتظمة على إسفلت الشارع، وسوطه مرفوع على يمينه.
كان "العربجي" في المقدمة وظهره إلينا. ابتسمت وكدت أضحك فرحاً بأنه يضع على رأسه الطربوش الأحمر بـ"عثكاله" الأسود!
لاحظ مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" ذلك، وجذبني إليه باسماً وقال:
- يا بني! لا تدهش لأن بواب الفندق أو "السفرجي" أو "العربجي" يضعون على رؤوسهم الطرابيش بعد أن كان الملك فاروق والباشوات والوزراء يضعونه على رؤوسهم في العهد الملكي البائد!
صمت قليلاً ثم قال:
- عندما قام جمال عبد الناصر بالثورة وقضى على الملكية والإقطاع والاستعمار والباشوات منع لبس الطرابيش لأنها رمز للماضي، ثم سمح بها ليلبسها "العربجية" وبوابو الفنادق و"السفرجية" والمترجمون في الأهرام من أجل السياح الأجانب؛ نكاية بالملك والباشوات. هل فهمت هذا؟
***
عالم عجيب ومدهش، يفرض على أي إنسان أن يدقق النظر في كل شيء، صغيراً كان أم كبيراً، وبالذات على يافع مثلي قدم من أدغال التخلف وكهوفها ونجا بأعجوبة من الموت والأمراض والجهل!
صعدنا درجات طويلة جداً من الرخام إلى بوابة المحطة الكبيرة الضخمة بعقودها وزخارفها العربية الأندلسية، ودخلنا منها إلى بهو صالة كبيرة بأرصفتها المبلطة على مدى البصر، وأصوات صفارات القطارات القادمة والمغادرة:
ما أشبه هذه القطارات بحشرة "الحليبان" ذات اللون الأسود التي نراها في طرقات مزارع قريتنا بألف رٍجْل حمراء تتموج!
قطع لنا مرافقنا التذاكر وانتظرنا على الكراسي لمجيء قطار الصعيد. عالم مكتظ في المحطة الكبيرة، ما بين مسافرين، ومودعين، بألبستهم المتنوعة من بدلات أو جلابيب، وباعة يحملون جميع المشروبات والمأكولات الخفيفة وصياحهم يعلو ليطغى على هدير محركات القطارات.
* * *
أقبل القطار وأطلقت عدة صفارات تنبئ بمقدمه والدخان ينبعث من مدخنته. أشعرنا مرافقنا بأن نستعد على الرصيف الخاص بقطار الصعيد.
لم أكن أتوقع أن القطار بهذا الطول؛ كنت أعتقد أنه بحجم "موتر الرصابي" في تعز أو أكبر منه أو أضعاف موتر "محمود"، العنترناش، المشهور! لكنه كان أطول، أطول بكثير!
ألم أقل لكم إن الأشياء التي كنت أتخيلها صغيرة أصبحت الآن بالواقع كبيرة، كبيرة جداً!
* * *
فتحت أبواب عربات القطار، وصعدنا مع مرافقنا المحترم، وجلست مع زميلي على كرسي عريض، وجلس أمامنا مرافقنا وبجواره أحد المسافرين "الصعايدة" الذي تبادل معنا التحية:
- سلامات! سلامات! ورايحين الصعيد تعملوا إيه؟
وشرح له مرافقنا، فدهش قائلاً:
- ياخبر ! إنتو من اليمن، بلد الجدعان. ما لكم كده نحاف وقصيرين؟! هو "الريس" بتاعكم ما بيوكلكمش خالص وا لا إيه؟!
* * *
بدأ القطار بالتحرك بعد أن دوتْ صفارته، وتناهى إلى مسامعنا هدير عجلاته الحديدية ببطء، ثم ارتفع صوت إيقاعها بعد خروجه من المحطة، وانتظمت موازية لسرعته الرهيبة.
درت بجسمي كله أنظر من نافذة القطار نحو الحقول الخضراء على مدى البصر، وخيوط الكهرباء والتلفونات تعلو وتهبط بانتظام.
وعلى ضفاف النيل والترع قرى كثيرة مبعثرة بيوتها من الطين.
الفلاحون وجواميسهم السوداء، والسواقي والنواعير و"الطنابير"، وطيور "أبو قردان" البيضاء بأعناقها وأرجلها الطويلة التي قرأت عنها في كتاب "القراءة الرشيدة" أنها صديقة الفلاح المصري!
عدت إلى وضعي السليم وأرحت ظهري،. لكني مازلت أنظر إلى النافذة بلا ملل. ابتسمت وأنا أذكر ما قرأته في كتاب "القراءة الرشيدة" عن الطالب الذي كان مسافراً في رحلة على القطار وعندما نظر من نافذة القطار طار طربوشه من على رأسه.
لاحظني مرافقنا المحترم وأنا أنزل شنطتي من على الرف وأفتحها وأخرج منها ذلك الطربوش الذي شغفت به وألقيته من نافذة القطار!
ضحك لذلك، كما دهش بقية المسافرين المجاورين لنا، واسترخيت أنا على مقعدي مبتسماً مغمض العينين كأنني أزحت جبلاً من على ظهري أو من على "رأسي"!
---------- (1959)----------
-----------------------------------------
من كتاب القاهرة - الإنبهار والدهشة
ركبت مع زميلي، وبجوارنا المرحوم "حسن الحبيشي" العربة "الكارو" التي ستنقلنا إلى محطة ميدان "رمسيس" القريبة من الفندق، بعد أن وضع حقائبنا بواب الفندق ذو الطربوش الأحمر متمنياً لنا رحلة سعيدة، ماداً يده اليمني حيث وضع مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" عدة نقود صغيرة فيها!
كان "العربجي" (صاحب العربة) قد همز حصانه وتحرك بوقع أقدامه المنتظمة على إسفلت الشارع، وسوطه مرفوع على يمينه.
كان "العربجي" في المقدمة وظهره إلينا. ابتسمت وكدت أضحك فرحاً بأنه يضع على رأسه الطربوش الأحمر بـ"عثكاله" الأسود!
لاحظ مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" ذلك، وجذبني إليه باسماً وقال:
- يا بني! لا تدهش لأن بواب الفندق أو "السفرجي" أو "العربجي" يضعون على رؤوسهم الطرابيش بعد أن كان الملك فاروق والباشوات والوزراء يضعونه على رؤوسهم في العهد الملكي البائد!
صمت قليلاً ثم قال:
- عندما قام جمال عبد الناصر بالثورة وقضى على الملكية والإقطاع والاستعمار والباشوات منع لبس الطرابيش لأنها رمز للماضي، ثم سمح بها ليلبسها "العربجية" وبوابو الفنادق و"السفرجية" والمترجمون في الأهرام من أجل السياح الأجانب؛ نكاية بالملك والباشوات. هل فهمت هذا؟
***
عالم عجيب ومدهش، يفرض على أي إنسان أن يدقق النظر في كل شيء، صغيراً كان أم كبيراً، وبالذات على يافع مثلي قدم من أدغال التخلف وكهوفها ونجا بأعجوبة من الموت والأمراض والجهل!
صعدنا درجات طويلة جداً من الرخام إلى بوابة المحطة الكبيرة الضخمة بعقودها وزخارفها العربية الأندلسية، ودخلنا منها إلى بهو صالة كبيرة بأرصفتها المبلطة على مدى البصر، وأصوات صفارات القطارات القادمة والمغادرة:
ما أشبه هذه القطارات بحشرة "الحليبان" ذات اللون الأسود التي نراها في طرقات مزارع قريتنا بألف رٍجْل حمراء تتموج!
قطع لنا مرافقنا التذاكر وانتظرنا على الكراسي لمجيء قطار الصعيد. عالم مكتظ في المحطة الكبيرة، ما بين مسافرين، ومودعين، بألبستهم المتنوعة من بدلات أو جلابيب، وباعة يحملون جميع المشروبات والمأكولات الخفيفة وصياحهم يعلو ليطغى على هدير محركات القطارات.
* * *
أقبل القطار وأطلقت عدة صفارات تنبئ بمقدمه والدخان ينبعث من مدخنته. أشعرنا مرافقنا بأن نستعد على الرصيف الخاص بقطار الصعيد.
لم أكن أتوقع أن القطار بهذا الطول؛ كنت أعتقد أنه بحجم "موتر الرصابي" في تعز أو أكبر منه أو أضعاف موتر "محمود"، العنترناش، المشهور! لكنه كان أطول، أطول بكثير!
ألم أقل لكم إن الأشياء التي كنت أتخيلها صغيرة أصبحت الآن بالواقع كبيرة، كبيرة جداً!
* * *
فتحت أبواب عربات القطار، وصعدنا مع مرافقنا المحترم، وجلست مع زميلي على كرسي عريض، وجلس أمامنا مرافقنا وبجواره أحد المسافرين "الصعايدة" الذي تبادل معنا التحية:
- سلامات! سلامات! ورايحين الصعيد تعملوا إيه؟
وشرح له مرافقنا، فدهش قائلاً:
- ياخبر ! إنتو من اليمن، بلد الجدعان. ما لكم كده نحاف وقصيرين؟! هو "الريس" بتاعكم ما بيوكلكمش خالص وا لا إيه؟!
* * *
بدأ القطار بالتحرك بعد أن دوتْ صفارته، وتناهى إلى مسامعنا هدير عجلاته الحديدية ببطء، ثم ارتفع صوت إيقاعها بعد خروجه من المحطة، وانتظمت موازية لسرعته الرهيبة.
درت بجسمي كله أنظر من نافذة القطار نحو الحقول الخضراء على مدى البصر، وخيوط الكهرباء والتلفونات تعلو وتهبط بانتظام.
وعلى ضفاف النيل والترع قرى كثيرة مبعثرة بيوتها من الطين.
الفلاحون وجواميسهم السوداء، والسواقي والنواعير و"الطنابير"، وطيور "أبو قردان" البيضاء بأعناقها وأرجلها الطويلة التي قرأت عنها في كتاب "القراءة الرشيدة" أنها صديقة الفلاح المصري!
عدت إلى وضعي السليم وأرحت ظهري،. لكني مازلت أنظر إلى النافذة بلا ملل. ابتسمت وأنا أذكر ما قرأته في كتاب "القراءة الرشيدة" عن الطالب الذي كان مسافراً في رحلة على القطار وعندما نظر من نافذة القطار طار طربوشه من على رأسه.
لاحظني مرافقنا المحترم وأنا أنزل شنطتي من على الرف وأفتحها وأخرج منها ذلك الطربوش الذي شغفت به وألقيته من نافذة القطار!
ضحك لذلك، كما دهش بقية المسافرين المجاورين لنا، واسترخيت أنا على مقعدي مبتسماً مغمض العينين كأنني أزحت جبلاً من على ظهري أو من على "رأسي"!
---------- (1959)----------
-----------------------------------------
من كتاب القاهرة - الإنبهار والدهشة