علي عبدالأمير عجام - أنوار خديجة ومعارف قاسم

بدأت معرفتي الأولى (1960-1966) بالكتاب لا من خلال مكتبة أخي قاسم الواقعة في غرفة واسعة بالطابق الثاني والتي كنا نتخذها في الشتاء مناما، بل من خلال تقليد درّبني عليه، ففي أواسط الستينيات كانت المطبوعات المصرية الكثيرة تصل إلى كل مدن العراق بانتظام، وكم كانت تسحرني عبارة "وصلت بالطائرة" المطبوعة على أغلفة الكتب والمجلات، ومنها كان أخي اختار المسلسل الشهري لكتاب " مروج الذهب " ثم " رحلات إبن بطوطة"، فاشترك فيهما عند " مكتبة أبو سعد"، وأوصاني بان أجلبها أول كل شهر، ومع كل مرة أحمل عددا من الكتاب المسلسل كانت أسئلة تتصاعد في رأسي عن قيمة هذه التي يحرص على اقتنائها أخي رغم غيابه للدراسة في بغداد، بل وحتى في فترات سجنه. كنت أتطلع أيضا في عناوين وأسماء المؤلفين :" عالم شتاينبك الرحيب"، " الأيام" أو " بطل من هذا الزمان" وما بدا وصفاً مبهماً حين قال قاسم لشقيقتي وهو يحمل كتاب "الجنس الآخر": هذا أفضل ما كتب عنكن .
كم كانت دهشتي كبيرة حين أخذني أخي في صيف 1965 حين كنت أنهيت دراستي متفوقاً في الخامس الابتدائي إلى المكتبة العامة في مدينة المسيب، وعلّمني استعارة الكتب واختار لي أحد كتب جورجي زيدان التاريخية وقال لي انه كتاب يناسب عمري.
ومع "اكتشاف" الكتاب سقط وهم كان قد كبر في طفولتي من خلال التربية الأخلاقية الصارمة التي نهلت منها في بيت عائلتي، فإلى جوار المكتبة كان هناك " نادي الموظفين" الذي كان يختلط في ذاكرتي بحكايات عن سكارى، هم في هيئة "وحوش أنذال"، فسألت أخي عن المكان وروّاده، فأخبرني انهم أناس عاديون مثلنا ولكنهم يشربون سائلاً يجعلهم في حالات سلوكية غير طبيعية حزناً أو فرحا، وقد يتسببون في شجارات بينهم أو في داخل بيوتهم حين يعودون اليها وهم في أوضاع غير طبيعية.
قبل قاسم كانت أمي، خديجة، دليلي المبكر إلى الكتاب، فهي تختار من الشعر قصائد من ارث والدها الشيخ محمد حسن في مخطوطاته، التي لطالما فتنني خطها الجميل وأشكاله العجيبة، فكان " شيخ شريف" كما طاب لأهل المسيب أن يكنوه لخلقه العالي ودرجته العلمية يكتب ضمن أشكال هندسية على امتداد الصفحات، وأغرب تلك الأشكال هو الدائري حيث يبدأ النص من مركز الورقة ( مركز الدائرة) ثم تستدير الكلمات في سطور لابد من تدوير الكتاب لتقرأ كلماتها.
*الصورة لأخي ومعلّمي قاسم في سنته الدراسية الثانية بكلية الزراعة 1964
أعلى