لسنا نعني بالنقد الثقافي نقد الثقافة، وإنما نعني به قراءة الثقافة للبحث عن الأنماط المضمرة،التي تختبئ تحت عباءة الجمالي في النقد الأدبي، فالنقد الثقافي يعتمد على أدوات النقد الأدبي المعدلة تعديلاً ثقافيًا.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكم� � نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وب التالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
· الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
· الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
· الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
· لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.
· نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا� � علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
· الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها:( إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).
تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).
نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).
خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما : الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
· إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
· كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
· يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
· الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
· كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
· تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال عن الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
· الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
· ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
· يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
·كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
· يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
" إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.
[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.
[2] المصدر السابق : 22.
[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.
[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.
[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.
[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.
[7] المصدر السابق: 18.
[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.
[9] المصدر السابق: 77.
[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.
[11] الإنسان والسلطة: 19.
[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.
[13] المصدر السابق: 84.
[14] النقد الأدبي: 93.
[15] النقد الثقافي: 89:55 .
[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.
[17] الدراسات الثقافية: 13.
[18] النقد الثقافي: 32.
[19] النقد الأدبي: 94.
[20] المصدر السابق: 91.
[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.
[22] النقد الأدبي: 91.
[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.النقد الثقافي
لسنا نعني بالنقد الثقافي نقد الثقافة، وإنما نعني به قراءة الثقافة للبحث عن الأنماط المضمرة،التي تختبئ تحت عباءة الجمالي في النقد الأدبي، فالنقد الثقافي يعتمد على أدوات النقد الأدبي المعدلة تعديلاً ثقافيًا.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكم� � نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وب التالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
· الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
· الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
· الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
· لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.
· نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا� � علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
· الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها:( إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).
تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).
نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).
خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما : الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
· إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
· كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
· يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
· الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
· كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
· تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال عن الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
· الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
· ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
· يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
·كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
· يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
" إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.
[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.
[2] المصدر السابق : 22.
[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.
[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.
[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.
[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.
[7] المصدر السابق: 18.
[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.
[9] المصدر السابق: 77.
[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.
[11] الإنسان والسلطة: 19.
[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.
[13] المصدر السابق: 84.
[14] النقد الأدبي: 93.
[15] النقد الثقافي: 89:55 .
[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.
[17] الدراسات الثقافية: 13.
[18] النقد الثقافي: 32.
[19] النقد الأدبي: 94.
[20] المصدر السابق: 91.
[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.
[22] النقد الأدبي: 91.
[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكم� � نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وب التالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
· الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
· الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
· الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
· لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.
· نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا� � علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
· الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها:( إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).
تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).
نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).
خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما : الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
· إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
· كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
· يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
· الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
· كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
· تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال عن الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
· الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
· ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
· يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
·كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
· يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
" إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.
[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.
[2] المصدر السابق : 22.
[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.
[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.
[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.
[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.
[7] المصدر السابق: 18.
[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.
[9] المصدر السابق: 77.
[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.
[11] الإنسان والسلطة: 19.
[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.
[13] المصدر السابق: 84.
[14] النقد الأدبي: 93.
[15] النقد الثقافي: 89:55 .
[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.
[17] الدراسات الثقافية: 13.
[18] النقد الثقافي: 32.
[19] النقد الأدبي: 94.
[20] المصدر السابق: 91.
[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.
[22] النقد الأدبي: 91.
[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.النقد الثقافي
لسنا نعني بالنقد الثقافي نقد الثقافة، وإنما نعني به قراءة الثقافة للبحث عن الأنماط المضمرة،التي تختبئ تحت عباءة الجمالي في النقد الأدبي، فالنقد الثقافي يعتمد على أدوات النقد الأدبي المعدلة تعديلاً ثقافيًا.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكم� � نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وب التالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
· الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
· الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
· الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
· لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.
· نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا� � علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
· الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها:( إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).
تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).
نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).
خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما : الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
· إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
· كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
· يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
· الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
· كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
· تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال عن الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
· الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
· ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
· يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
·كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
· يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
" إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.
[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.
[2] المصدر السابق : 22.
[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.
[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.
[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.
[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.
[7] المصدر السابق: 18.
[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.
[9] المصدر السابق: 77.
[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.
[11] الإنسان والسلطة: 19.
[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.
[13] المصدر السابق: 84.
[14] النقد الأدبي: 93.
[15] النقد الثقافي: 89:55 .
[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.
[17] الدراسات الثقافية: 13.
[18] النقد الثقافي: 32.
[19] النقد الأدبي: 94.
[20] المصدر السابق: 91.
[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.
[22] النقد الأدبي: 91.
[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.