... كان أحمد يمضي في سبيله عبر الأزقة الغائصة في الوحل ، فاضطر حفاظاً على سرواله الوحيد من التلوث إلى رفعه بكلتا يديه ، مما جعل سيره مترنحاً مهدداً كل لحظة بالانكفاء على الأرض .
كان يقصد صديقه مصطفى وهو فراش دمث الخلق يعمل فراشاً في وزارة الأشغال له بعض الدالة على مرموق يعمل مديراً في إحدى الشُعب ، كان حامي مصطفى وشفيعه في الوزارة ، وقد التمسه غير مرة أن يحشر صديقه في وظيفة كتابية متواضعة تناسب ثقافته وتحصيله دون الثانوي .
وحال أن بلغ أحمد الوزارة أرتقى درجاتها العراض الضحلة ، ومضى في اتجاه صديقه مصطفى وهو على شبه يقين أن وعداً جديداً سيضاف إلى الوعود الماضية ، وأن تسويفاً آخر سيلحق بالتسويفات التي خلت ، رغم إنه أمرؤ عاطل منذ ستة أشهر يعاني برحاء البطالة بكل ثقلها ومحنتها ، قال مصطفى في تأمل :
ــ انتظر قليلاً إنني سأتحدث إلى المدير كرة أخرى .
وهمّ أحمد أن يوقفه ويوصيه بشيء ما ، إلا أنه ما عتم أن تلعثم وصمت ، ولاحظ مصطفى حيرته وتردده فأخذه الإشفاق على صديقه ، جالت في خاطره فكرة إلا أنه كتمها مخافة أن يجرح عواطفه ، فغاب بضع دقائق عاد بعدها وعلى محياه سيماء التفاؤل والارتياح .
ــ وعداً مفعولاً بعد بضعة أيام ستحصل الشواغر ، إنك من غير ريب ستنال أفضلها .
تردد أحمد مرة أخرى ، وهمّ أن يقول شيئاً فتلعثم وأرتج عليه ، ولاذ بالصمت على مضض ، كان يود أن يُفهِمَ صديقه إنه يقبل وظيفة فراش ، غير أنه لم يجرؤ ، حاسباً أن صديقه سيدهش لهذا التنازل الفجائي الدال على الاتضاع والمسكنة ، فمصطفى فراش بسبب أميته وجهله وافتقاره إلى أي من الشهادات، بينما هو في الصف الثالث المتوسط يقرأ ويكتب فالوظيفة أجدر به وأليق ، تنهد أخيراً :
ــ ماكو شاغر ، ربما يكتشفون علاجاً للسرطان والسل ، ولن يكتشفوا علاجاً لماكو شاغر ، هذهِ البصقة السرمدية يقذفونها دوماً في وجه طالب العمل .
غلبه الحزن وذهب بمزاجه ، فحاول مصطفى أن يرفه عنه ولم يفعل في هذا السبيل سوى أن دس درهماً في جيب صديقه قائلاً في ثقة وعزم :
ــ تريث إن الأمور تنتهي إلى الأحسن .
وهمّ مصطفى أن يضيف شيئاً ما إلى كلماته فتردد ولاذ بالصمت مثلما فعل صديقه قبل دقائق ، وقال في آخر الأمر بنبرة حزينة مواسية :
ــ مستقبلك أفضل من مستقبلي ، إنك أمرؤ متعلم تحمل شهادة ما ، وتقرأ وتكتب كما يقرأ ويكتب العلماء ، وثمة ألوف في دواوين الدولة يتناولون خبزهم عن طريق الوظائف تسندهم الوساطات ، كل الأمور تجري على هذا الوجه .
في المساء لقي صديقه مصطفى في المقهى ، كان الأسى قد بلغ بأحمد حد الألم ، ولم يعد في قوس صبره منزع ، واعتزم أن يصارح صديقه بقبول عمل فراش ، وجد مصطفى مقتعداً إحدى مصاطب المقهى يقرقر بنارجيلة موضوعة أمامه ، وينشر من فمه الدخان ، كان مهندماً بعض الشيء ، ولم تكن عليه بذلة الفراشين ، تدانى أحمد قليلاً ثم استجمع أطراف شجاعته وقال :
ــ قل للمدير إنني أقبل وظيفة فراش .
فانشده مصطفى وألقى النارجيلة جانباً هاتفاً في شبه غيظ :
ــ هكذا إذن ، لما لم تقل ذلك في هذا الصباح ، كان بإمكانك أن تتعين هذا اليوم ، شغرت وظيفة فراش ، ولكنني استحيتُ أن أجابهك لئلا تتكدر ، فترددتُ وأثرتُ الصمت .
غمغم أحمد في يأس :
ــ استحيتُ أن تهزأ بي .
هتف مصطفى في ندم :
ــ هممتُ أن أقول ولكن ؛ خيطاً غير منظور اعتقل لساني وأسكتني ، ربما قد يكون سوء الحظ نفسه .
ردد أحمد في شبه ذهول وهو يتخذ سبيله عبر الأوحال التي تهدده بالانكفاء على الأرض :
ــ أجل إنه سوء حظ .
ــ انتهت ــ
ادمون صبري
(عَنِ المَجْمُوعةِ القِصَصِيَّة ـ خُبْزُ الحكُومَة ــ لادمون صبري ، ص 50 ــ ص 52)
كان يقصد صديقه مصطفى وهو فراش دمث الخلق يعمل فراشاً في وزارة الأشغال له بعض الدالة على مرموق يعمل مديراً في إحدى الشُعب ، كان حامي مصطفى وشفيعه في الوزارة ، وقد التمسه غير مرة أن يحشر صديقه في وظيفة كتابية متواضعة تناسب ثقافته وتحصيله دون الثانوي .
وحال أن بلغ أحمد الوزارة أرتقى درجاتها العراض الضحلة ، ومضى في اتجاه صديقه مصطفى وهو على شبه يقين أن وعداً جديداً سيضاف إلى الوعود الماضية ، وأن تسويفاً آخر سيلحق بالتسويفات التي خلت ، رغم إنه أمرؤ عاطل منذ ستة أشهر يعاني برحاء البطالة بكل ثقلها ومحنتها ، قال مصطفى في تأمل :
ــ انتظر قليلاً إنني سأتحدث إلى المدير كرة أخرى .
وهمّ أحمد أن يوقفه ويوصيه بشيء ما ، إلا أنه ما عتم أن تلعثم وصمت ، ولاحظ مصطفى حيرته وتردده فأخذه الإشفاق على صديقه ، جالت في خاطره فكرة إلا أنه كتمها مخافة أن يجرح عواطفه ، فغاب بضع دقائق عاد بعدها وعلى محياه سيماء التفاؤل والارتياح .
ــ وعداً مفعولاً بعد بضعة أيام ستحصل الشواغر ، إنك من غير ريب ستنال أفضلها .
تردد أحمد مرة أخرى ، وهمّ أن يقول شيئاً فتلعثم وأرتج عليه ، ولاذ بالصمت على مضض ، كان يود أن يُفهِمَ صديقه إنه يقبل وظيفة فراش ، غير أنه لم يجرؤ ، حاسباً أن صديقه سيدهش لهذا التنازل الفجائي الدال على الاتضاع والمسكنة ، فمصطفى فراش بسبب أميته وجهله وافتقاره إلى أي من الشهادات، بينما هو في الصف الثالث المتوسط يقرأ ويكتب فالوظيفة أجدر به وأليق ، تنهد أخيراً :
ــ ماكو شاغر ، ربما يكتشفون علاجاً للسرطان والسل ، ولن يكتشفوا علاجاً لماكو شاغر ، هذهِ البصقة السرمدية يقذفونها دوماً في وجه طالب العمل .
غلبه الحزن وذهب بمزاجه ، فحاول مصطفى أن يرفه عنه ولم يفعل في هذا السبيل سوى أن دس درهماً في جيب صديقه قائلاً في ثقة وعزم :
ــ تريث إن الأمور تنتهي إلى الأحسن .
وهمّ مصطفى أن يضيف شيئاً ما إلى كلماته فتردد ولاذ بالصمت مثلما فعل صديقه قبل دقائق ، وقال في آخر الأمر بنبرة حزينة مواسية :
ــ مستقبلك أفضل من مستقبلي ، إنك أمرؤ متعلم تحمل شهادة ما ، وتقرأ وتكتب كما يقرأ ويكتب العلماء ، وثمة ألوف في دواوين الدولة يتناولون خبزهم عن طريق الوظائف تسندهم الوساطات ، كل الأمور تجري على هذا الوجه .
في المساء لقي صديقه مصطفى في المقهى ، كان الأسى قد بلغ بأحمد حد الألم ، ولم يعد في قوس صبره منزع ، واعتزم أن يصارح صديقه بقبول عمل فراش ، وجد مصطفى مقتعداً إحدى مصاطب المقهى يقرقر بنارجيلة موضوعة أمامه ، وينشر من فمه الدخان ، كان مهندماً بعض الشيء ، ولم تكن عليه بذلة الفراشين ، تدانى أحمد قليلاً ثم استجمع أطراف شجاعته وقال :
ــ قل للمدير إنني أقبل وظيفة فراش .
فانشده مصطفى وألقى النارجيلة جانباً هاتفاً في شبه غيظ :
ــ هكذا إذن ، لما لم تقل ذلك في هذا الصباح ، كان بإمكانك أن تتعين هذا اليوم ، شغرت وظيفة فراش ، ولكنني استحيتُ أن أجابهك لئلا تتكدر ، فترددتُ وأثرتُ الصمت .
غمغم أحمد في يأس :
ــ استحيتُ أن تهزأ بي .
هتف مصطفى في ندم :
ــ هممتُ أن أقول ولكن ؛ خيطاً غير منظور اعتقل لساني وأسكتني ، ربما قد يكون سوء الحظ نفسه .
ردد أحمد في شبه ذهول وهو يتخذ سبيله عبر الأوحال التي تهدده بالانكفاء على الأرض :
ــ أجل إنه سوء حظ .
ــ انتهت ــ
ادمون صبري
(عَنِ المَجْمُوعةِ القِصَصِيَّة ـ خُبْزُ الحكُومَة ــ لادمون صبري ، ص 50 ــ ص 52)