محمد جبريل - أحمد هاشم الشريف.. متى تصدر أعماله الكاملة؟

حين عرض سكرتير التحرير على محمد حسنين هيكل بروفات العدد الأسبوعي من” الأهرام”، استوقفته قصة بمساحة صفحة. أشار إلى اسم كاتب القصة، من هو؟.
قال سكرتير التحرير: قاص شاب موهوب.
جرى ” الأستاذ” بقلمه على اسم الكاتب بالحذف، وقال في نبرة غاضبة: الأهرام لا ينشر إلا للأسماء المتحققة.
كان الطابق السادس في الأهرام يضم توفيق الحكيم وحسين فوزي وبنت الشاطئ ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود ولويس عوض، وحين انتقل يوسف إدريس من” الجمهورية” إلى الأهرام” – وكانت مكانته كأهم كتاب القصة القصيرة قد ترسخت – قدمه هيكل موهبة طالعة أتاح له الأهرام أن يزامل كبار الكتاب!
قال د. لويس عوض رئيس القسم الثقافي آنذاك، في نبرة إعجاب: إنها قصة جميلة.
قال هيكل في حسم: لنكتف بنشر القصة دون اسم كاتبها.
القصة اسمها” اللصوص”، أحدث غياب اسم كاتبها تساؤلًا، فلما أذيعت الحقيقة، ثارت عاصفة من الرفض والاستنكار: هل يتحول المولود إلى لقيط في وجود أبيه، واعتزازه بنسبته إليه؟
وبقدر تأثر أحمد الشريف لحدف اسمه من القصة، فقد حقق له ذلك شهرة إعلامية، ووجدت إبداعاته طريقها إلى أعين القراء والنقاد. وصفه نجيب محفوظ بأنه صاحب موهبة فذة، وأعادت مجلة” جاليري 68 ” نشر القصة في أول أعدادها، واعتبر أحمد الخميسي قصة “اللصوص” من عيون القصص العربية، وقدم رجاء النقاش – أسميه مكتشف المواهب – قصة له في مجلة “الكواكب” بما يضعه في مقدمة مبدعي القصة القصيرة.
القلة من مبدعي الستينيات وجدوا في كلمة” المجايلة” ما يحفزهم إلى وضع الأسوار حول كتاباتهم، وقصر تسمية ” جيل الستينيات” على تلك الكتابات، واعتبار ماعداها غريبًا عن الفترة، أو أنه غير موجود. لم ينظر أحمد هاشم الشريف إلى نفسه، ولا إلى صداقات يعتز بها، أو شلة ينتمي إليها، لكن عينيه اللتين أجادتا الرؤية عبر نظارته المقعرة، بدلت النظرة إلى الواقع الثقافي بما يقارب الصورة الصحيحة. ثمة عشرات الأدباء الشباب يحملون بذور التمرد التي حملها طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، فأخصبت أرض الإبداع، ونمت من خلال كل نبتة شجرة متفردة في حديقة الثقافة العربية.
وجد في عدد من كبار المفكرين ما يهب المجتمع العربي نماذج متفوقة للمثقف الذي يعمل في صمت، بعيدًا عن أجهزة الإعلام: جمال حمدان، وعبد الرحمن بدوي، ومحمود شاكر وغيرهم ممن اختاروا العزلة، كي يتفرغرا لمشروعاتهم الفكرية. لم يحاولوا صراع الآخرين للحصول على الجوائز الرسمية، أو الشهرة التي ينقصها التبرير. نحن نري – والكلام للشريف – من يوصف بالفنان الكبير، بينما تقتصر موهبته على هواية الرسم، وقد يجرب البعض كتابة القصة القصيرة في مرحلة باكرة من حياته، فنطلق عليه” الأديب الكبير، وربما أغضبه تجاهل الدولة له في جوائزها.. وهو ما أضفى ظلالًا على أسماء مهمة كانت أجدر بالوقوف في دائرة الضوء.
كان يرى في محمد حافظ رجب – على سبيل المثال – أحد رواد جيل الستينيات في فن القصة القصيرة. هدم العالم القصصي القديم، واستدعى شكلًا جديدًا لقص، له ديناميته الخاصة، والقدرة الجبارة المرنة معًا على استيعاب معطيات العالم في ظل المتغيرات الدائمة، رغم المكاسب على مستوى الشكل والمضمون في مجموعتيه” الكرة ورأس الرجل” و” مخلوقات براد الشاي المغلي” من سقوط للأنساق التقليدية، وإطلاق لحرية المخيلة الفانتازية إلى أبعد الحدود، واشتباك العوالم الداخلية والخارجية، أو الظاهر بالباطن، واتحاد المكان بالزمان، وبالإضافة إلى عدد كبير من القصص خارج هاتين المجموعتين، فقد ظهرت عوامل ومكاسب جديدة، مثل التناص، الانطلاق من متكأ واحد للقص وليس عدة متكآت، ظهور البعد السياسي، الحوار الطويل، أو كثرة الحوارات، خفوت تدريجي للعزف الجسدي، ضيق المساحة المكانية مع مهارة شديدة في التعامل معها فنيًا، إضافة إلى أن العالم صار أضيق، واللغة غاية في التكثيف والشاعرية، تكاد تكون صوفية، لولا انغرازها بعمق في صلب العلاقات البشري، واليومي، والمبتذل، والمهمل، والثانوي، واللامألوف. ومن ضمن التيمات التي ميزت محمد حافظ رجب، واستمرت معه تيمة التقطيع والبتر، تقطيع السرد، الذي وجد فيه بعض النقاد انعكاسًا لمجتمع ممزق الأوصال. هذا التقطيع – في تقدير الشريف – ينطوي على قسوة، من المجتمع والظروف المحيطة بالكاتب. اعتزل حافظ رجب الكتابة فترة، ولعلها كانت قسوة الولادة الجديدة، والرغبة في دفع الروح الفردية والجماعية للتطلع – ولو بالقوة – إلى عالم أفضل، وإلى سماع لحن الفرح الآتي. ويشير الشريف إلى كثرة النقاط ومساحات الفراغ بين الكلمات والجمل، كأنها دعوة للقارئ كي يملأ مكانها، ومن ثم يكمل القصة، أو يعيد تركيبها. القارئ يشعر أن القصص وكاتبها في حالة بداية مستمرة، مرجل يغلي باستمرار، لا يوجد صمت أو سكون، فترات التأمل الطويل لا توجد أيضًا، لكن القصص زاخرة بالجمل والعبارت الموحية، الرامزة، التي تحوي – بنسيجها – حكمة وخبرة السنين، وفلسفة الحياة.
مع أن الشريف وضع نفسه خارج أسوار النقد، فإنه كان يعيب على الطريقة التقليدية اقتصارها على فكرة سريعة عن العمل الفني، من خلال تلخيصه بصورة واضحة، يتمثلها المتلقي في ذهنه، عبر فطنة الناقد وخبرته، ثم اقتحام عالم المؤلف الضبابي في بعض المواضع، حيث تكمن وراء حجبه دلالات الألفاظ، ومعاني الرموز، فيرى الناقد – بعينه الواعية، المدربة – التيار الخفي البطيء الذي يتسكع في قاع النهر، بعيدًا عن الحركة الظاهرة لتدفق الكلمات. وعندئذ يتمكن الناقد من جمع الأجزاء في كل واحد. ولماذا يجهد الناقد نفسه، ويضيع ملكاته في ما لايفيد، وهو يعرف – مقدمًا – أنه يواجه أدب صدمة، يواجه اللا معنى، والإنكار التام لقواعد المنطق التي ورثناها من عهد أرسطو: قانون الذاتية، وقانون عدم التناقض، وقانون الوسط الممتنع. قد لا يكون الشيء هو نفسه. ومن الجائز أن يوجد في مكانين في وقت واحد. كما يجوز أن يكتسب الشيء صفتين متناقضتين.
يضيف الشريف: من المهم أن يدرك الناقد أنه يواجه مجموعة من الصرخات اليائسة أمام صمت الكون، ورتابة الحياة، فمن الطبيعي أن يضع على الرف أدواته القديمة مثل المقارنة والموازنة والتحليل، وأن يتهيأ نفسيًا للقيام بمهة جديدة، بمغامرة لا تختلف في مداها عن مغامرة الكاتب. فإلى جانب الكاتب الطليعي، لابد أن يكون هناك ناقد طليعي، يعرف أن الاختلاف بين صرخة وأخرى يكون في حدّتها، واستمرارها، أو تقطعها خلال حركة الزمن، ثم قدرتها على إثارة أكبر عدد من الناس، واجتماعهم حول أزمة إنسان العصر، اجتماعهم حول الفاجعة، وهي – باختصار – عجز الإنسان عن الالتحام بالأرض، ودورانه حولها، بحثًا عن مكان يصلح لسكناه واستقراره.
لذلك – والقول للشريف – قد يستغني العمل الفني عن صفته الدرامية، وعن تسلسل الحركة ونموها، وتشعب الحوادث وتجمعها وتعقدها، إلى جانب تخليه عن منطق العقل، وتيار العلاقات الاجتماعية. طبيعي – في الوقت نفسه – أن يفقد صفة الاكتمال، أو الحبكة، أو الصنعة المتقنة التي كانت تريح القارئ، وتبعد عنه مشقة التفكير، وعناء البحث. يصبح العمل الفني ناقصًا في التكوين، عالمًا تسوده الفوضى، ينتظر الفنان الذي أبدعه أن يكمله القارئ، يشاركه في عملية الخلق الناقصة التي بدأها الفنان، ومحاولة إتمامها بدلًا من ضياع الوقت في مقارنة هذا العمل الجديد بتراث قديم يختلف عنه.
من المهم كذلك أن ننظر إلى اللغة باعتبارها موصلًا مباشرًا بين الكاتب والمتلقي. بدون توفيق الكاتب في اختيار لغته، وتحقيق الانسجام بين مفرداتها، فإنه يفقد صفته ككاتب، إلًا إذا تغلب على كثرتها، وشدة كثافتها، وعرف كيف يتعامل مع ألفاظه دون صعوبة، ووصل إلى المرحلة التي لا يحار فيها وهو يختار الكلمات. وعندئذ تصبح الكلمات سهلة، طيعة في يده، وهي المرحلة التي يجتازها الكتاب العظام، فيكتبون – دون صعوبة – أعظم أعمالهم، وما يضيف إلى التراث الإنساني جديدًا متميزًا.
عاب على الإعلام – في السياق – أنه يتجه بمشاعر الجماهير نحو كرة القدم، هي محور اهتماتهم. صارت أصداء حركة الكرة بين أقدام اللاعبين أضعاف الصدى الذي كان يحدثه أحمد شوقي وهو يخاطب دمشق عندما ضربها الاحتلال الفرنسي بالقنابل، وأم كلثوم وهي تتغنى بقصائد كبار الشعراء، ومحمد عبد الوهاب وهو يشدو لفلسطين” أخي جاوز الظالمون المدى”، لذلك كان اختياره لعنوان” لغة القلب” بابًا ثابتًا في “صباح الخير” يعرض لرسائل القراء: ” ولدت فكرة الباب في ذهني يتأثير ملاحظتي قوة الاهتمام باللغة كوعاء ناقل للثقافة في رحلاتي الأوروبية. كنت أجد كتبًا بأسعار بسيطة تتحدث في الفنون المختلفة، وتستهدف رقي الإنسان. إنها لغة الإحساس، وأدركت أننا نحتاج إلى لغة جديدة، تبدأ بالمشاعر الإنسانية”.
اللافت – في تقدير الشريف – أن الإبداع لم يعد يضخ دماء جديدة في شرايين الإبداع المصري. الأسماء التي تدعى للمؤتمرات الثقافية، هي نفس أسماء المثقفين قبل الستينيات، والأفكار هي نفس الأفكار التي تدور في أروقة الأكاديميين من الصفوة، والتي انعزلت عن حركة المجتمع، والصفحات الثقافية في الصحف تحولت إلى سرادق عزاء لتأبين العمالقة الراحلين الذين لا يجود الزمان بأمثالهم، والإجابات قديمة لأسئلة جديدة، والأحداث التاريخية والتحديات الحضارية تتوالى، لكن طبقة عازلة تعزل الأجيال الجديدة، والدماء الشابة، عن التفاعل والتلاقح والإخصاب مع الأحداث.
تخرج في كلية الحقوق جامعة عين شمس. أول جوائزه في القصة القصيرة نالها – أثناء دراسته الجامعية – في المسابقات الأدبية التي كان ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ( المجلس الأعلى للثقافة ). حصل على الميدالية الذهبية في مسابقة نادي القصة. عين كاتبًا صحفيًا في مجلة” صباح الخير” ونشر فيها العديد من قصصه ورواياته، كما حرر بابًا بعنوان” لغة القلب”. أول كتبه مجموعة قصص” وجه المدينة”. مثل الأدباء المصريين في مؤتمر بفنلندة عن مشكلات الكتابة. تعددت أسفاره إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. توفي في الثالث والعشرين من إبريل 2018.
عندما يرحل مبدع موهوب، فإن الدعوات تتعالى، وتلح، بأهمية أن تصدر هيئة الكتاب أعماله الكاملة، وإذا كان أحمد هاشم الشريف قد وجد في نشر “صباح الخير” لرواياته وقصصه ما يرضيه، فإن ما يرضينا أن تتاح لنا قراءة هذه الأعمال التي تمثل ملمحًا مهمًا في إبداعنا الحديث.
أعلى