عبده جبير - القصة مع بائعة الزهور... قصة قصيرة

اسمي “علية رمضان” ليس بالضبط لأن اسمي في البطاقة الرقم القومي “علية أحمد محمد علي رمضان‏”،‏ وأنا اختصرته لما قررت أن أكتب قصة، مثل كل البنات اللواتي ذهبن للتحرير في المظاهرات وبدأن يكتبن قصصا، فأنا اخترت اسمي هذا، وهو اسم أدبي حتى يكون خفيفا على السمع، ويتم التداول فيه. … نسيت أن أقول أنه حتى البنات اللواتي كن يكتبن شعرا تحولن للقصة القصيرة..

وأنا رأيت بائعة الزهور هذه التي أكتب عنها هذه القصة، في الميدان مرة واحدة. واحدة فقط، وقررت أن أكتب عنها قصة، لأن القصص القصيرة تكتب عن ومضة، كما قرأت على النت، ولكن هذه شيء آخر، وهذه هي الحكاية الأصلية (أو بلغة الميدان الفيلم إياه) أي أنني أكتب قصصا الآن.

والفيلم أنه، وكما قلت، أن كل البنات اللواتي ذهبن إلى ميدان التحرير في المظاهرات يكتبن الآن قصصا، و(مقالات أيضا) لكنني ليس لي في المقالات لأنها شيء صعب (جربته لكنني لم أنجح) وقالت لي البنت علية، وهذه اسمها علية سيد وليس علية رمضان، (جارتنا في حارة الكرماني السيدة) أنها كتبت31 قصة، وهي بنت هبلاء، فكيف أنا وكل الناسى (حتى أمي التي لا يعجبها العجب) قالت إني أنفس منها، وأنا علي أي حال وجدت أن بائعة الزهور هذه ستعمل قصة ولعة، لأنها نزلت من السما، وكل من كان في الميدان قال أنه رآها تنزل من وراء المجمع ونزلت في الجنينة وسط الميدان، والكل رآها وهي تنزل بهدوء ولأنها كانت لابسة بنطلون استرتش لم يرتفع ذيل جونلتها ويرفرف، ولكن، في قصتي، سأجعلها تلبس جونلة واسعة واااااسعة وهي الجونلة عملت مثل البراشوت ولم تقع البنت بل رفرفت ورفرفت وحتي لفت ودارت ونزلت ولا وقعت من يدها لبشة الزهور التي نزلت بها من السماء، وأنا سمعت التصفيق بنفسي يدوي في الميدان والبنت تنزل وتنزل على مهلها، وتلف وتدور وتقف في الجنينة الوسطى بين الناس الذين كانوا في هذه اللحظة يصرخون بجنون لأن خبرا جاءهم، خبر هام، وأنا لم اسأل، ولكنهم كانوا يتنططون ويقولون الله أكبر الله أكبر، وكأن الزلزال قد جاء مرة أخرى، وأنا لا بد أن أجد طريقة لوضع هذه اللحظة في القصة إذا ماجاء ذكرها.
الإعلان

المهم أنني لما قررت أن أكتب قصة مثل كل البنات في الميدان، وأنا كنت اشتريت لاب مستعمل من سوق البستان من أسبوع، وأنا كنت ألعب علي الكمبيوتر لأنني أدرس في الثانوي التجاري، في آخر سنة، ولكن لم يكن عندي لاب وأخذت أزن وأزن في أذن أمي، وضحكت عليها، لأنني قلت لها إنني يمكن أن أشتغل عليه في البيت وأجيب ثمنه في شهر، وهي صدقتني وذهبت معي لسوق البستان واشترينا اللاب من فلوس الجمعية التي كانت تنوي أن تشتري بها جهازي، أي تلك الأشياء لزوم تجهيز البنت لبيت العدل (كالحلل والكبايات وقماش التنجيد وخلافه) والأمهات في المناطق الشعبية يحوشن لبناتهن هذه الأشياء (التي أحيانا ما تأكلها الفئران، إذا تأخرت البنت في الذهاب إلي بيت العدل) وهن في الإعدادي، وربما يكون هذا من باب الفأل الحسن، أو من هذا القبيل، أو غيره، وأنا أقول هذا لأن البنات على النت يقلن هذه الأيام بعد الثورة المجيدة أن على الشعب المصري أن يتواضع ولا يقول شيئا بشكل قاطع، بل يقول هذا رأيي، وكفى، وأنا أجد أن هذا شيء يجعل البنات اللواتي يشغلن النت هذه الأيام أكثر من الأولاد يعرفن حدودهن ولايقلن الشيء وكأنه مقدس، فما هن إلا بنات يتعكر مزاجهن ويقلن أي شيء فهن بنات مزاجهن معكر، المهم أنني الآن بصدد أن أكتب قصة هذه البنت التي نزلت من السماء، وأنا طبعا أعرف أن هذه البنت بائعة الزهور، وفي هذا كلام، لم تنزل من السماء في الواقع، ولكن لأن الخبر الذي جاء للميدان كالصاعقة جعل الجميع يدوخ ويتخيل مثل هذه الأشياء التي هي إن حدثت فهي معجزة، ولكن الحقيقة أن الخيال في القصة هو الذي جعلها تنزل من السماء، وأنا قرأت في الفيس أن أحد الكتَّاب الأجانب، الذي سمعت الكثيرات من البنات السيس بتوع الجامعة الأمريكية ويسكن إما في الزمالك أو جاردن سيتي، يذكرنه كثيرا وهن قلن أنه، هذا الكاتب الأجنبي، جعل الملابس النسائية (بما فيها الأندر) تطير مع حبل الغسيل وترتفع إلى السماء، وإذا كان هو كتب ذلك وصدقنه، فأنا بإمكاني أن أجعل فتاة الزهور تنزل من السماء، وسيصدقنني، خاصة أن هناك المجمع العالي الذي يمكن أن تقفز منه، وتستعمل جونلتها الواسعة كبارا شوت وتنزل بهدوء في وسط الميدان، ولا يكون عليها أو أي من الناس أي خطر، بل هي، وبمجرد أن تضع قدميها على الأرض تبدأ في مد يدها بوردة لكل واحد، وهي تمسك بلبشة الزهور في يدها الأخرى ومعها كيس بلاستك به نقود أشكال وألوان (فئة جنيه ونصف جنيه وخمسة جنيهات وقليل من العشرات) وتنتظر لحظة، وهذا الواحد، أحيانا يهز رأسه (أي لا يريد) أو يقول أنه ليس معه فكة (فتقول البنت: أنا معي) وتفك له، وتنتظر، فهو أحيانا يعطيها نصف جنيه، أو أي شيء، وهي لا تفاصل وتدس النصف في الكيس وتذهب إلى غيره، وهي لا تقف أمام البنات أو النساء كثيرا لأن الرجال يتجاوبون أكثر مع البنات البائعات، خاصة إذا كانت البنت تلبس بنطلون استرتش وفوقه حجاب أي ممتازة من كله (أنوثة ومحترمة) وهي، البنت بائعة الزهور كانت أيضا واضعة مكياجا خفيفا يظهر أنها بنت لونة، ومهتمة بشفتيها بالخصوص، والبودي مقموط عليها بما يسمح به الوضع في الميدان الذي امتلأ عن آخره بالناس، حتى أنني خفت أن تتوه البنت مني ولا أستطيع متابعتها وهي تبيع الزهور، بهذه الطريقة، والناس، خاصة الأطفال، بدأوا يشيرون إليها ويقولون: هذه بائعة الزهور يا ماما، وهي تبتسم للجميع وتعطي الأطفال الزهور بلا مقابل، وتحجل وهي تنتقل من مكان إلى آخر، وسمعت رجلا ملتحيا يقول للمرأة المنتقبة التي تمسك بكمه: هذه بنت بركة، وأنا تعبت جدا، خصوصا أن الزحام بدأ يشتد وماهي إلا هوجة، وأنا وقعت دائخة، وما أنا إلا وأجدني في المستشفي الميداني والدكاترة يحيطون بي، وأحدهم يشير بكفه لكنني كنت أحس أن فم الجمل يقضم ذراعي وأنا أصرخ وأصرخ، والبنات اللواتي لعبن دور الممرضات (ويبدو عليهن أنهن بنات كلاس من مصر الجديدة، ويتكلمن بالفرنساوي والانجليزي) يقلن: أضة خفيفة أضة خفيفة، وغرزت إحداهن سرنجة في ذراعي، فإذا بالحياة تصبح رائعة والجمل يداعب وجهي بشفتيه وهو يضحك ويحدثني عن البنت التي نزلت من السماء وفي يدها لبشة الزهور وهي تنزل بهدوء وسط الميدان وتوزع الزهور علي الناس وهي تحجل وتحجل ويبدو أنهم ضحكوا علي وأعطوني منوما لأ لأ أأ ن ن نني……………
أعلى