د. عبدالله ابراهيم - دردشة متأخّرة جدا عن نيرودا: وعن مذكراته "أعترف أنّني قد عشتُ".

أحسبُ أن ما سوف أرويه قد حدث في خريف عام ١٩٧٧ بجامعة البصرة حينما كنت طالبا فيها، وكان ذلك في أول سنتي الدراسية الأولى بعد أن أخفق مسعاي في البقاء بجامعة "عين شمس" في القاهرة التي قصدتها مغامرا، وأنا صبيّ قروي نحيل، لم يألف بعدُ هوية المدن الكبيرة، وعدتُ منها خالي الوفاض بعد أشهر. يتعلّق الأمر، بمذكرات الشاعر التشيلي نيرودا "أعترفُ بأنني قد عشتُ". وكنت، إبان هوسي شويعرا في مقتبل عمري، قد أعرضتُ عن قراءة أشعاره التي كانت ملء السمع والبصر؛ لما فيها من جرعة أيديولوجية لم تستجب لها ذائقتي. ويعود ذلك إلى نزوع ارتضعته من أشعار رامبو وبودلير، وبعد ذلك من إليوت وبيرس، وهو ضرب من الشعر حال دون تقديري لأيّ شعر لا يجرى مجراه، قصدتُ به "الشعر الصافي" الذي دعا إليه فاليري، وقد تمكّن مني، وخلب لبّي؛ فعزفتُ عن أيّ شعر يجافي الصفاء، ويلتبس بالأيديولوجيا، ويجعل من نفسه خادما لها. ومعلوم بأن نيرودا حامل راية ذلك الضرب من الشعر المنغمس في الأيديولوجيا. ومادام كذلك، فما كان في واردي النظر إليه شاعرا بعين التقدير، فظنّي أن شفافية الشعر لا تستوعب حمولة الأيديولوجيا المناصرة للعمال والفلاحين، أو ما كانت الأدبيّات الماركسية تصطلح عليهم "الشغيلة". ذلك ما كان عليه حالي سواء جرى قبوله أو رفضه الآن. وفي أوج ذلك الجهل المركّب صدرت الترجمة العربية لمذكرات نيرودا، وانسجاما مع انكاري له شاعرا، فقد أنكرته صاحب مذكّرات.
وبحلولي طالبا في جامعة البصرة تمدّدت علاقاتي بأدبائها، مثل الجذر الباحث عن الأرض الرطبة، ولا نظير للرطوبة الأدبية للبصرة في سائر مدن العراق ما خلا بغداد، وإن كانت هجينا ثقافيا متعدّد المشارب والموارد، وكان أن تعرّفت على بعض أدبائها، ومن بينهم شاعر لم يسعفه الزمن بالشهرة التي يستحقّها، ويدعى "إسماعيل الخطّاب". وأدركتُ فورا أن نيرودا عنده قائد لواء الشعراء في العصر الحديث بلا خلاف. وفي ليلة من ليالي الأنس على ضفاف شطّ العرب، الذي كان عربيا بحقّ وحقيق، قادنا الحديث إلى شاعره المفضّل، وإلى مذكراته التي لم أكن قد سمعتُ بها حتى تلك اللحظة، بل ما كان في واردي الاطلاع عليها؛ لظنّي أنها تحتذي أشعاره، وتعبّر عن حياته "النضالية" في مناجم تشيلي. فنيرودا خارج مدار اهتمامي، فهو يكتب عن عامة الناس ولهم، وإن كان يتغنّى، أيضا، بنفسه متفاخرا، وذلك لم يحكّ صدأ تصوراتي الخاطئة عنه. وقبل ذلك كنت قرأت مذكرات آندريه مالرو، وعنوانها "لا مذكرات"، وفي الأصل هي بعنوان "المذكرات المضادة" ودهشتُ بها، وحينما اندلع النقاش الليلي بيننا ، ناصرتُ مالرو، وانحزتُ إليه، وبخستُ نيرودا مكانته، ولم أنصفه، وعلى خلافي ناصر الخطّاب نيرودا، وبخسَ مالرو، وانتقصه، ومثلي كان الخطّاب شابا عنيدا، ولا يعدلُ عن رأي انتهى إليه.
والآن، فإنّ الحكم على ذلك الخلاف الثقافي يندرج ضمن تحيّزات الشباب، وجهلهم، وعدم أحاطتهم، وأنا من جيل كان يختصم حول أهمية الأدباء. كنت أقول بثقة للخطّاب: إن كنت تريد الاطلاع على مذكرات عظيمة، فاقرأ لا مذكرات مالرو، وكان يردّ الصاع لي قائلا: إن كنت تريد أن ترتوي من عذب الكلام، فما عليك إلا بمذكرات نيرودا. وانفضّ سامرنا على ذلك الخلاف.
بعد سنتين من ذلك الوقت انتقلتُ إلى جامعة بغداد، واندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وقضى الخطاب نحبه جنديا في سنواتها الأولى، ثم أُلحقتُ أنا مجنّدا فيها أيضا كسائر أبناء جيلي، ولم يعد من المتاح مبادلته الدفاع الأعمى عن الآخرين، وبدا وكأنني الوحيد الذي يعرف بما وقع بيننا، وانعدم الأمل ليعرف أنني عدلتُ عن موقفي، ويستحقّ مني اعتذارا. ومن أسف أن ذلك حدث إثر غياب الذي لا رجعة فيه.
في بغداد دفعني الفضول لاقتناء مذكرات نيرودا، واعتكفتُ عليها، فإذا بها من المذكرات الخالدة التي قلّ نظيرها، وبالقطع فلا يمكن مقارنة مذكرات مالرو بها مع أهميتها، فكان أن استبدلتُ حكما بحكم، وعشتُ، من ذلك الوقت، غصّة تكاد تطبق على أنفاسي، جراء ذلك العناد الليلي الذي نأيت فيه عن الموضوعية في الحكم على ما لم أقرأ، ولسنوات طويلة سيطر على شعور بالاثم تجاه محدّثي الغائب، الذي تمنيتُ أن تمكنني الاقدار من اللقاء به، والاعتذار له عن تلك الهفوة الناتجة عن جهل لا عن معرفة.
بعد اطلاعي على مذكرات نيرودا تعلّقتُ بها، وصرتُ أذكرها في كلّ حديث ينفتح فيه ملف السير الذاتية الرفيعة، وما أتيتُ على ذكر لا مذكرات مالرو بعد ذلك؛ كأنني أكفّر عن جهل قديم. ولكي أزيد في التعبير عن قصوري اقترحتُ على ناشرها السيد ماهر كيالي، مدير المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إعادة نشرها، وأخذ بمقترحي فعلا، فصدرتْ منها طبعتان غير الطبعة الأولى.
ما الذي حرفَ حكمي من الإعراض إلى الاحتفاء؟ حرفه غزارة تجربة نيرودا إنسانا، وتنوّع حياته، والطريقة المبتكرة التي سجل بها تجاربه، ومعظم ذلك لم أكن على دراية به حينما حكمت على مذكراته، ومع أنني لم أتمكّن من استقبال أشعاره قبل ذلك وبعده، فقد احتفيتُ بمذكراته، التي ختمتْ بمقتل الرئيس سلفادور ألليندي في خريف عام ١٩٧٣ في انقلاب قادته الطغمة العسكرية بقيادة الجنرال"بينوشيه".
وأتذكّر ذلك جيدا، فقد كنتُ في سنتي الدراسية المتوسطة الثالثة في كركوك، وأتيتُ على ذكر ذلك الحدث في سيرتي الذاتية "أمواج"، ولم أكن أعرف، آنذاك، أن نيرودا من أشدّ أنصار اللينيدي، وهو الذي أرسله سفيرا لتشيلي في باريس. توفي نيرودا بالسرطان بعد عشرة أيام من مقتل صديقه الليندي بقصف الطائرات للقصر الرئاسي في العاصمة سانتياغو. وذكر ذلك في آخر فقرات مذكراته التي فرغ منها بعد ثلاثة أيام من الانقلاب العسكري.
في ربيع عام ٢٠٢٤ أعدتُ قراءة "اعترف بأنني قد عشت" في مكتبتي بكركوك بعد مرور خمس وأربعين سنة على قراءتها الأولى، وزهاء عشرين سنة على قراءتها الثانية، فتضاعف شغفي بها، ومع أنني أحذّر من الأخذ بالأساليب الشعرية في الكتابة السردية، كما أحذّر من اتباع الأساليب السردية في كتابة الشعر، للتمايز بين هوية الجنسيين الأدبيين: السرد والشعر، فأجيز بعض الاقتراض من هذا وذاك بحساب موزون كيلا تنتهك حدود الأجناس، وتتوارى أعرافها، وتفقد هوياتها، وقد تسلّل أسلوب الشاعر في سياق مذكرات نيرودا، ولكن بما لا يطعن القيمة السردية لمذكراته، وقد أجاد المترجمُ محمود صبح في تعريب رفيع الشأن لها، فوافى مقتضيات الشعر في سياق السرد. وأيّا كان الموقف الآن من تلك المذكرات، وأنا حريص على تعديل موقفي منها، فهي تصطف إلى جوار أهم المذكرات الأدبية التي زادت من رفعة أصحابها، فوق ما هم عليه من مقام رفيع.
أعلى