كان المرحوم محمد أفندى زيدون كاتباً بقلم الشطب فى بلدية الأسكندرية . أين هو الآن إنه الآن نائم فى مقابر “الغفير” . إنه انتقل من صبر طويل ، إلى يوم طويل . من قصة احتملها بدون أن يفتح فمه إلى رقدة أطبق فيها فمه مكرهاً .
لو تكلمت مقابر الغفير لقالت إن جنازته سار فيها أربعة أشخاص بالعدد ، وأن من هؤلاء شخصاً أطلق لحيته ، وتجلل بالسواد من فرعه إلى قدمه حزناً على زيدون أفندى ” الصديق الوحيد له حياً وميتاً .
وتذكر مقابر الغفير أن هذا الصديق – الكردى أفندى – لم يعد مع العائدين إلى المدينة ، بل جلس على حجر قريب من المقبرة وجعل رأسه بين يديه ، وأخذ يفكر .
لقد نشأ هو وزيدون فى بيت واحد وكانا زميلى صبا . دخلا الكتَّاب معاً وتقدما للابتدائية معاً ، وسقطا فى الكفاءة معا ، وعين زيدون فى بلدية الأسكندرية ، والكردى فى السكة الحديدية فى يوم واحد ، على أنهما كانا يتلاقيان باستمرار ، وكان من السهل على الكردى أن يذهب خاصة لصديقهِ زيدون بالأسكندرية .
إلى أن اتفقا ذات يوم على أن يقدما على الزواج . فدل الكردى صديقه على عائلة كريمة ، فتياتها على فقرهن لهن صيت ذائع فى الجمـال ، ويرضى أهلهن عن تزويجهن ” لأى موظف ” لأن الموظف فى نظر هذه العائلة فوق كل شئ .
وفعلا تقدما لخطبة الأختين وكانت الكبرى منهما من نصيب زيدون ، والصغرى من نصيب الكردى .
كانت الأولى جميلة جمالاً فاضحاً . وكانت الثانية أنثى ذات إغراء شديد . لذلك كان أهل الحى يقولون ، إن على الزوج أن يحكم بيد من حديد ، وإلا فلتت الظبية الحسناء .
أما زيدون فكان وديعاً طيباً هادئاً . أما الكردى فكان وحشاً كاسراً ، كان يغلق النوافذ ، ويقيم السدود والحدود ، ويحكم القيود . فإذا ضحكت نوال ضربها على فمها وإذا شمرت عن ساعدها لوى هذا الساعد ، فقتل إغراء الأنثى بها قتلاً ، وقبر فتنتها ودفنها دفناً .
فلندع قصته ، ولننتقل إلى مسرح فكرة حيث تمثلت عليه قصة جمالات ، وزيدون .
هذه القصة تبدأ على حقيقتها فى منزل صغير فى محرم بك . كان ينزل به الكردى ضيفاً كلما أتيحت له مأمورية بالأسكندرية .
فكانت تلقاه جمالات مكشوفة الساعدين عارية الصدر ، وقد تعمدت أن تجعل فستانها قصيراً لتبدى ساقيها الممتلئتين الموردين ، فكان الكردى يخرج مسبحته ويطرق إلى الأرض كاتماً غيظه ولكنه كان لا يستطيع أن يقاوم هذه الفتنه الشعواء ، وكان يتمنى فى صميم ضميره لو أن قيود العرف والصداقة والضمير محاها ماحٍ من سجل الوجود . ثم يميل على صديقه زيدون فى همس ، ويقول له :
“يا خويه خلى جمالات تتحشم شوية ، وماتفتحش الشباك ، ده الشارع واقف على رجل” .
فيقول زيدون فى مذلة وصمت “والله غلبت ! ….” ، ثم يردف قائلا “الحمد لله على كدهً .
إلى أن حدث ذات يوم أن حل الكردى بالأسكندرية فى نهاية مأموريته ، بعد غياب طويل ، فقصد إلى دار صديقه ، فاستقبلته جمالات بذلك الإغراء الفتاك ، فسألها عن زيدزن فضربت صدرها بيدها وقالت فى حسرة وأسف :
انتقل إلى كفر الدوار . قال الكردى : وليه ما سافرتيش وياه ؟ قالت : أعمـل إيه فى العيال مش بقى عندنا ثلاثة بيروحوا المدرسة ، وما لبثت أقدام صغيرة ، أن حققت هـذا الكلام . فوضعت يدها على شعر سميرة بفخر وزهو وقالت “أكبر أولادى”.
ثم أردفت : “اتفضل عندنا سهرة هذا المساء ” قال مندهشاً : سهرة ؟ بتاعة إيه …؟ قالت ؟ أصدقاء .. فبقى الكردى ينتظر ، وأقبل الليل ، وجاء معه الأصدقاء وغيرت جمالات ثيابها وتعطرت ، ولم يكن شعرها يعنيها فقد كان مسترسلاً فى فوضى لطيفة لم يكن يكفلها غير مشط صغير تحفظه بين ثنايا ثيابها .
كانت ترتدى فستاناً أحمر تعمدت أن تجعل فتحته من أعلى إلى أدنى مما يجوز ؛ ليبدو جزء من نهديها ، فى بياضهما الناصع .
وجاء الأصدقاء .
أصدقاء يحملون أطعمة وشراباً وآخرون يحملون آلات موسيقية ويتقدمهم رجل بين الكهولة والشباب ما لبث أن ظهر حتى قال الخادم “البيه جه” .
***
ثم انتهت السهرة ، أو كادت وكان الكردى واجماً فى طرف الغرفة تحدثه نفسه بالذهاب مرة ومرة ثانية تحدثه بالانتظار ، ليرى آخر الرواية ، وكانت جمالات مرحة ، ثملة ، ولاتفتأ تروح وتجئ ، وتمر بالكردى أفندى لتقول له اشرب ياكردى . كل يا كردى . فلا يشرب الكردى ولا يأكل وإنما يخالسها النظر ، أى يخالس جسمها الغض ووجهها الفاضح الجمال .
لا يدرى كم من الزمن مر . وإنما شعر أن الفجر هم بالطلوع .
وإذا الباب يقرع ، الخادم يقوم مترنحاً من إغفاءة على السلم وهو يقول “سيدى سيدى” .. فلم يعبأ به أحد .. ودخل “سيدى” منزله كما يدخل الأغراب وضع الحقيبة فى جانب ، ودخل فحيا “البكوات” . وهرعت جمالات تقول “زيدون” قالتها مصطنعة الكذب والنفاق ، فتقدم الكردى لزيدون ، كما يتقــدم المعزون فى المصيبة ، وأخذه بيده وأجلسه كأنما يقول “البقية فى حياتكم” .
اقتحمت جمالات “الرجال” وذهبت تواً لزوجها قائلة : انت جعان لازم . ووضعت أمامه قطعة من الفراخ ، ثم عادت قائلة “وشوية كونياك يدفوك” فنظر إليها فى عتاب ذليل .
ثم انصرفت عنه إلى بكواتها ورجعت تقول “باقى لبكرة ولا مسافر ؟ ؟” .
فأجــاب على الفور “أنا هربان من شغلى وجاى أشوفك لأنى ما عنديش أجازة . ومعاى قرشين عشان مصاريف العيال” .
فضحكت وقالت “خليهم معاك ينفعوك .. ” وانثنت لبكواتها تضحك وتنكت .. “
عطف الكردى على صديقه ، وقال “ايه دى يالله نقوم .” فصاح البيك الكبير بسخرية ” بدرى ياجماعة ” ثم بسخرية أخرى : ” مش تحوشى جوزك يا جمالات . ” فأقبلت جمــالات على الزوج تقول بدلال : ” مش تفضل بكره ؟ ؟ هو اليوم ده يتحسب ؟ ” فغمزه الكردى بقسوة .
فأيقظت جمالات الخادم وقالت ” اصحى يا ولد خذ شنطة سيدك للمحطة ، ثم أردفت قائلة : مشر رايح تشوف الأولاد . ولا بلاش لحسن نايمين دى الوقت “
وأوشك الفجر أن يطلع ، وقد لف فى ضبابه آدميين الكردى ، وهو كاد ينفجر غيظاً ، وزيدون وهو يمشى فى ذهول ، ويكاد يسقط من الإعياء .. وحمل القطار الاثنين إلى القاهرة . وفى أثناء السفر أدرك الكردى أن زيدون محموم ، وأدرك أنه فى غمار غيبوبة فتمنى له أن لا يفيق أبداً !
ولقد صحت نبوءته ، فإن زيدون حُمَّ ، فلم تفارقه الغيبوبة .
ودفن فى الغفير يتبعه أربعة من أصحابـه .. بينما كانت جمالات مع البكوات تذوق أطايب الحياة .
لو تكلمت مقابر الغفير لقالت إن جنازته سار فيها أربعة أشخاص بالعدد ، وأن من هؤلاء شخصاً أطلق لحيته ، وتجلل بالسواد من فرعه إلى قدمه حزناً على زيدون أفندى ” الصديق الوحيد له حياً وميتاً .
وتذكر مقابر الغفير أن هذا الصديق – الكردى أفندى – لم يعد مع العائدين إلى المدينة ، بل جلس على حجر قريب من المقبرة وجعل رأسه بين يديه ، وأخذ يفكر .
لقد نشأ هو وزيدون فى بيت واحد وكانا زميلى صبا . دخلا الكتَّاب معاً وتقدما للابتدائية معاً ، وسقطا فى الكفاءة معا ، وعين زيدون فى بلدية الأسكندرية ، والكردى فى السكة الحديدية فى يوم واحد ، على أنهما كانا يتلاقيان باستمرار ، وكان من السهل على الكردى أن يذهب خاصة لصديقهِ زيدون بالأسكندرية .
إلى أن اتفقا ذات يوم على أن يقدما على الزواج . فدل الكردى صديقه على عائلة كريمة ، فتياتها على فقرهن لهن صيت ذائع فى الجمـال ، ويرضى أهلهن عن تزويجهن ” لأى موظف ” لأن الموظف فى نظر هذه العائلة فوق كل شئ .
وفعلا تقدما لخطبة الأختين وكانت الكبرى منهما من نصيب زيدون ، والصغرى من نصيب الكردى .
كانت الأولى جميلة جمالاً فاضحاً . وكانت الثانية أنثى ذات إغراء شديد . لذلك كان أهل الحى يقولون ، إن على الزوج أن يحكم بيد من حديد ، وإلا فلتت الظبية الحسناء .
أما زيدون فكان وديعاً طيباً هادئاً . أما الكردى فكان وحشاً كاسراً ، كان يغلق النوافذ ، ويقيم السدود والحدود ، ويحكم القيود . فإذا ضحكت نوال ضربها على فمها وإذا شمرت عن ساعدها لوى هذا الساعد ، فقتل إغراء الأنثى بها قتلاً ، وقبر فتنتها ودفنها دفناً .
فلندع قصته ، ولننتقل إلى مسرح فكرة حيث تمثلت عليه قصة جمالات ، وزيدون .
هذه القصة تبدأ على حقيقتها فى منزل صغير فى محرم بك . كان ينزل به الكردى ضيفاً كلما أتيحت له مأمورية بالأسكندرية .
فكانت تلقاه جمالات مكشوفة الساعدين عارية الصدر ، وقد تعمدت أن تجعل فستانها قصيراً لتبدى ساقيها الممتلئتين الموردين ، فكان الكردى يخرج مسبحته ويطرق إلى الأرض كاتماً غيظه ولكنه كان لا يستطيع أن يقاوم هذه الفتنه الشعواء ، وكان يتمنى فى صميم ضميره لو أن قيود العرف والصداقة والضمير محاها ماحٍ من سجل الوجود . ثم يميل على صديقه زيدون فى همس ، ويقول له :
“يا خويه خلى جمالات تتحشم شوية ، وماتفتحش الشباك ، ده الشارع واقف على رجل” .
فيقول زيدون فى مذلة وصمت “والله غلبت ! ….” ، ثم يردف قائلا “الحمد لله على كدهً .
إلى أن حدث ذات يوم أن حل الكردى بالأسكندرية فى نهاية مأموريته ، بعد غياب طويل ، فقصد إلى دار صديقه ، فاستقبلته جمالات بذلك الإغراء الفتاك ، فسألها عن زيدزن فضربت صدرها بيدها وقالت فى حسرة وأسف :
انتقل إلى كفر الدوار . قال الكردى : وليه ما سافرتيش وياه ؟ قالت : أعمـل إيه فى العيال مش بقى عندنا ثلاثة بيروحوا المدرسة ، وما لبثت أقدام صغيرة ، أن حققت هـذا الكلام . فوضعت يدها على شعر سميرة بفخر وزهو وقالت “أكبر أولادى”.
ثم أردفت : “اتفضل عندنا سهرة هذا المساء ” قال مندهشاً : سهرة ؟ بتاعة إيه …؟ قالت ؟ أصدقاء .. فبقى الكردى ينتظر ، وأقبل الليل ، وجاء معه الأصدقاء وغيرت جمالات ثيابها وتعطرت ، ولم يكن شعرها يعنيها فقد كان مسترسلاً فى فوضى لطيفة لم يكن يكفلها غير مشط صغير تحفظه بين ثنايا ثيابها .
كانت ترتدى فستاناً أحمر تعمدت أن تجعل فتحته من أعلى إلى أدنى مما يجوز ؛ ليبدو جزء من نهديها ، فى بياضهما الناصع .
وجاء الأصدقاء .
أصدقاء يحملون أطعمة وشراباً وآخرون يحملون آلات موسيقية ويتقدمهم رجل بين الكهولة والشباب ما لبث أن ظهر حتى قال الخادم “البيه جه” .
***
ثم انتهت السهرة ، أو كادت وكان الكردى واجماً فى طرف الغرفة تحدثه نفسه بالذهاب مرة ومرة ثانية تحدثه بالانتظار ، ليرى آخر الرواية ، وكانت جمالات مرحة ، ثملة ، ولاتفتأ تروح وتجئ ، وتمر بالكردى أفندى لتقول له اشرب ياكردى . كل يا كردى . فلا يشرب الكردى ولا يأكل وإنما يخالسها النظر ، أى يخالس جسمها الغض ووجهها الفاضح الجمال .
لا يدرى كم من الزمن مر . وإنما شعر أن الفجر هم بالطلوع .
وإذا الباب يقرع ، الخادم يقوم مترنحاً من إغفاءة على السلم وهو يقول “سيدى سيدى” .. فلم يعبأ به أحد .. ودخل “سيدى” منزله كما يدخل الأغراب وضع الحقيبة فى جانب ، ودخل فحيا “البكوات” . وهرعت جمالات تقول “زيدون” قالتها مصطنعة الكذب والنفاق ، فتقدم الكردى لزيدون ، كما يتقــدم المعزون فى المصيبة ، وأخذه بيده وأجلسه كأنما يقول “البقية فى حياتكم” .
اقتحمت جمالات “الرجال” وذهبت تواً لزوجها قائلة : انت جعان لازم . ووضعت أمامه قطعة من الفراخ ، ثم عادت قائلة “وشوية كونياك يدفوك” فنظر إليها فى عتاب ذليل .
ثم انصرفت عنه إلى بكواتها ورجعت تقول “باقى لبكرة ولا مسافر ؟ ؟” .
فأجــاب على الفور “أنا هربان من شغلى وجاى أشوفك لأنى ما عنديش أجازة . ومعاى قرشين عشان مصاريف العيال” .
فضحكت وقالت “خليهم معاك ينفعوك .. ” وانثنت لبكواتها تضحك وتنكت .. “
عطف الكردى على صديقه ، وقال “ايه دى يالله نقوم .” فصاح البيك الكبير بسخرية ” بدرى ياجماعة ” ثم بسخرية أخرى : ” مش تحوشى جوزك يا جمالات . ” فأقبلت جمــالات على الزوج تقول بدلال : ” مش تفضل بكره ؟ ؟ هو اليوم ده يتحسب ؟ ” فغمزه الكردى بقسوة .
فأيقظت جمالات الخادم وقالت ” اصحى يا ولد خذ شنطة سيدك للمحطة ، ثم أردفت قائلة : مشر رايح تشوف الأولاد . ولا بلاش لحسن نايمين دى الوقت “
وأوشك الفجر أن يطلع ، وقد لف فى ضبابه آدميين الكردى ، وهو كاد ينفجر غيظاً ، وزيدون وهو يمشى فى ذهول ، ويكاد يسقط من الإعياء .. وحمل القطار الاثنين إلى القاهرة . وفى أثناء السفر أدرك الكردى أن زيدون محموم ، وأدرك أنه فى غمار غيبوبة فتمنى له أن لا يفيق أبداً !
ولقد صحت نبوءته ، فإن زيدون حُمَّ ، فلم تفارقه الغيبوبة .
ودفن فى الغفير يتبعه أربعة من أصحابـه .. بينما كانت جمالات مع البكوات تذوق أطايب الحياة .
إبراهيم ناجي الذي لا نعرفه. ملف خاص
ماذا تعرف عن إبراهيم ناجي غير أنه شاعر الأطلال التي غنتها أم كلثوم؟ لا بأس أن تتردد طويلا كما ترددت أنا، لتبحث في ذاكرتك عن شيء آخر لإبراهيم ناجي.. ربما تتذكر بالكاد أن له أربعة دواوين شعرية هي: ور…
sadazakera.wordpress.com