صيدنايا بلدة صغيرة بالقرب من دمشق، كل منازلها تقريبًا أكواخ بالمعنى الصحيح، وليس فيها بناء كبير يستحق الذكر سوى ديرها المشهور، وهو بناء على شيء من الفخامة، مبنيٌّ على ذروة تلٍّ تشرف على جميع الجهات التي حول البلدة القائمة في السفح، وليس في كل تلك الجهات موقع أجمل من موقعه — إنَّ احتلال الأديرة أجمل مواقع البلاد لَأمرٌ بديهيٌ عندنا؛ فالأديرة في بلادنا تقوم مقام قصور الأمراء والأشراف في البلدان الغربية — ويتألف دير صيدنايا من بناء صغير قديم جدًّا أضيفت أبنية جديدة إليه تدريجيًّا، والمعروف أنَّ جزءًا هامًّا منه أقامه بناءون شويريون كانوا مشهورين بالهندسة والبناء.
ليست أكواخ صيدنايا على شيء من الرواء والرونق؛ فلا شجر ولا نبات يكتنفها، ولكن في السهل المنبسط عند أسفل التل بستان كبير فيه أغراس زيتون عديدة، وأشجار جوز باسقة الأغصان وارفة الظلال، يرويه ماء نبع غزير، وتقوم فوقه هضبة لا تبعد عن التل القائم عليه الدير، في أعلاها وسفحها كروم عنب وتين قليلة، وفي سفح هذه الهضبة مغارة تسمى مغارة «أم بزاز» — ذات الأثدي، ويعتقد أهل تلك النواحي أنها مقدَّسة، ويعُدُّون الحجَّ إليها من جملة الفرائض.
أمَّا «أم بزاز» التي أطلق اسمها على هذه المغارة فهي قِدِّيسة قديمة — هكذا يقولون — أو هي «سيدة صيدنايا»، والقرويون يتناقلون عنها حكايات غريبة تدل على قوتها العجائبية، ويوقدون لها الشموع، ويوفون نذورهم لها على مذبح محفور في جانب المغارة إلى يمين المدخل، ولا يزال هؤلاء القرويون البسطاء يستدلون على صحة حكايات القديسة وعجائبها بوجود مكان معين في قبة المغارة يرشح منه ماء؛ قطرة كل ثلاث دقائق تقريبًا، يجدون في انتظام رشح الماء على الوصف المتقدم رمزًا لقوة أم بزاز السحرية، ومع أنَّ تعليل رشح الماء سهلٌ جدًّا؛ نظرًا لوجود الماء على الهضبة، فإن القرويين يرون في رشحه من مكان معين سرًّا مختصًّا بالسيدة أم بزاز، وهم يتبركون بقطرات الماء، حتى إنهم وضعوا تحت المكان الذي ترشح منه حجرًا يقعد عليه مَن أراد التبرك، ويتقبل قطرة الماء على جبينه.
يؤم صيدنايا في عيد السيدة خلق كثيرٌ من أنحاء كثيرة من القطر السوري؛ من دمشق العاصمة؛ أقدم مدينة موجودة في العالم، ومِن حلب وأنطاكية والإسكندرونة وحمص الغنيات بآثارهن التاريخية، ومن جبيل أو ببلوس القديمة؛ مدينة الإله أودنيس، ومن بيروت عروس المتوسط مدينة عشتروت القديمة ومنارة العلم في الشرق الأدنى قديمًا وحديثًا، ومن صيداء وصور المدينتين الخالدتي الأثر في تاريخ المدنية والعمران، ومن حيفا ويافا والقدس منائر الجنوب، ومن قرى لبنان الجبل الجميل الفخم، وبقية البلاد شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، فيجتمع في العيد المذكور خلق كثير، لا من المسيحيين فقط بل من المحمديين أيضًا؛ لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيدٍ شعبيٍّ لسكان تلك المنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نِحَلِه؛ الأمر الذي يُنبِّهنا إلى الفائدة الاجتماعية الجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية المحمدية والمسيحية الكبرى أعيادًا شعبية، يُوحِّد فيها السرورُ والابتهاجُ عواطفَ جميع السوريين، ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية.
يبتدئ القوم يتقاطرون إلى صيدنايا قبل العيد بأيام، ثم تَفِدُ جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول — مدة عيد سيدة صيدنايا ثلاثة أيام — وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية، بدلًا من العربات والخيل والحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلًا حتى عهد قريب، وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير مُعبَّد، فكلما مرت سيارة أثارت غبارًا، ولكن القادمين قلما يُبالُون بالغبار، فلا ينتصف نهار العيد الأول إلَّا وغُرَف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصَّت بالجموع، ولم يعد فيها متسعٌ للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة، وبينما الجماهير في غُدُوٍّ ورَوَاحٍ إذا بالشبان يؤلفون فرق «العراضات» التي تتجول في كل مكان ويملأ هتافها كل تلك الناحية، أمَّا أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم؛ لنزول القادمين الذين يضيق بهم الدير على رَحْبِه، والبعض الآخرون يَعُدُّون المآكل من لحمٍ مشويٍّ، وبيض مسلوق، وخبز وجبن وزيتون، أو يجيئون بالعنب والتين وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين، ويدور في الدير رقص «الدبكة» فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن، ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والمعاشرة، أو هو يعرفها ولا يعرف أنْ يحافظ عليها، فيكون سببًا في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.
وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شئون الخلق المزدحمين هناك: ملابسُ القرويات وحُلَلُهن الخاصة بالأعياد، فللقرويات السوريات حُلَلٌ زاهية الألوان، بديعة المنظر، حتى إنه يحق لهن أنْ يُباهِين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال المظهر، وملابس قروياتنا إجمالًا جميلة ولها رونق الزي القومي، بَيْدَ أنَّ قرويات معلولا يمتزْنَ بزيٍّ خاصٍّ هو من أجمل أزيائنا القروية القومية، وبقية زي القرويات السوريات القديم الأصلي.
قلتُ: إنه لا يخلو الأمر في الحوادث الشعبية؛ مثل عيد سيدة صيدنايا، من جاهل أو أحمق يُعكِّر بسوء تصرفه صفوَ الأفراح، والظاهر أنَّ الجهَّال والحمقى لا يتركون فرصة تمر دون أنْ يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة ١٩٣٠ عدد غير يسير، إلَّا أنَّ واحدًا منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه، وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال المرسحية والأدوار التمثيلية التي أتاها.
كان بين القادمين إلى دير صيدنايا في عيد السنة المذكورة شابٌّ من لبنان رَبْعَةٌ إلى الطول، مَرِيرُ القُوَى، مَسْمُور الجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صَدْرٍ يُشبِه بارتفاعه برجًا حصينًا، وهو مستوي الوقْفة، معتدل الخُطْوة، ولعينيه بريقٌ تظهر فيه قوة روحه، وهيئتُه إجمالًا تدل على أنه غير ميَّالٍ كثيرًا إلى الهزل، بَيْدَ أنه كان يُحبُّ مشاهدة الألعاب ويُسَرُّ بها سرورً الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبتْ أخلاقهم وفسدتْ طباعهم من شبان هذا العصر، الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبتْ مخالبَها بهم المشاربُ القديمةُ الفاسدة التي لا تجرُّ على مَن يتمسك بها في القرن الحاضر إلَّا الوبال، كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، وأسميتُه إبرهيم، لا أريد أنْ أدعوه باسمه الحقيقي ولا أنْ أذكر اسم البلدة التي جاء منها؛ لكيلا تتحول الحكاية إلى أمر شخصيٍّ وتُفقَد صفة الواقعة الروائية المقصودة، ومن المؤكد أنَّ إبرهيم لم يأتِ إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية؛ لأنه كان يحب الله والطبيعة حبًّا خاليًا من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية؛ لذلك كان إعجابه بالمشاهد الكثيرة التي وقعتْ عليها عيناه المُتَّقِدتان شديدًا، بل كان ابتهاجُ الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حُلَل القرويات المزركشة الزاهية.
لإبرهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل سير الأبطال، وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الجسد والروح، حتى إنه إذا وُجد بينهم وخطر لهم أنْ يدخلوا على الأُسُود في عَرائِنها، أو أنْ يتصدَّوْا لمحاربة جيش مسلحٍ ولا سلاح لهم إلَّا العصي، أقدَموا موقنين بالفوز، وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهورًا بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوته البدنية العظيمة على الناس، فخالف بذلك عادة الفتيان الذي لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم، حتى يعمدوا إلى إظهاره والمفاخرة به، وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصًا الجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويُعرِض عن الحِسان اللواتي كُنَّ يُخفِين في صدورهن شوقًا لاعجًا للاجتماع به مثيرًا كوامنَ غيظِهن بعدم مبالاته وعبثه، حتى أخذنَ يتناقلن عنه حكاياتٍ مختلفةً القصدُ منها الحطُّ من شأنه، وشارَكَهن في غيظهن كلُّ الشبان الذين كانوا يحسدونه؛ لعلوِّه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة، فجعلوا يُذيعون عنه حكايات قصدوا منها أنْ يطعنوه في رجولته، أمَّا هو فكان يترفَّع عنهم ويمرُّ بأقاصيصهم مرورَ الكرام، ومع ذلك لم يرَ بُدًّا من تأديب واحد أو اثنين بلغَتْ بهما الوقاحة حدًّا حملهم على الاقتناع بما كانوا يختلقونه عنه.
مما يجب ألَّا يُغفَل ذكره هنا أمرٌ له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أنَّ إبرهيم سُئل مرة: كيف يجب أنْ تكون امرأته فيما لو أراد أنْ يتزوج؟ وكان السائل صديقًا حميمًا لإبرهيم، فأجابه: أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، مورَّدة الخدَّيْن، وافرة العقل، حسنة المدارك، تعرف كيف تدير شئون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.
دخل إبرهيم الدير وأخذ يتجوَّل في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه، ثم إنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه، فوقعت عينه على حلقة «دبكة» في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات، والجمع يحدق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقةً ضمن حلقات، وبينما هو يتمتع بمرأى حلقة الرقص إذا بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة، وتأخذ في رقصٍ فرديٍّ مبتكر بينما رفيقاتها يُتابِعن الدبكة حولها، وكانت الفتاة معتدلة القدِّ، هيفاء القوام، تلعاء الجِيد، أسيلة الخد، ذَلْفاء الأنف، حوراء العينين، وَطْفاء الأهداب، وكانت لابسةً حُلَّةً أرجوانية، شادَّةً وسطها بنطاقٍ مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قُرْطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافَّة شعرَها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضية، ومن فوقه وشاحٌ أبيض مسدل على ظهرها، لم يكن إبرهيم قد رأى من قبلُ راقصة مثل هذه، ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بمرآها أيما إعجاب، وأخذ يتأمل قدَّها الجميل وهيئتها اللطيفة، ويراقبها في خطوها وتنقُّلها، وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها، وكانت بين حين وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز، وتُلقي على ما حولها ومَن حولها نظرات فيها كل معاني عدم المبالاة.
وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياحٍ تامٍّ، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه، وأحسَّ حرارة شديدة تغشى سطح بدنه دون أنْ ينتبه إلى هذه الحالة الجديدة التي صار إليها، ولو رآه على هذه الحالة مَن يعرفه جيدًا، لعجب كثيرًا من استئناسه بمرأى الفتيات، وإعجابه بمظهر الراقصة الحسناء وهو الذي كان يهرب من النساء، ومن كل مجتمع نسائيٍّ هربًا، ولا يرغب في أنْ يرى منهن إلَّا مَن كانت ممتلئة البدن.
لا شك في أنه لو انتبه إبرهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الحالة التي هو عليها، لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جريًا على عادته وهزَأَ من نفسه، كيف أطاق أنْ يطيل النظر إلى حلقة من النساء، ويبتهج بمرأى فتاة غريبة جدًّا عن نوع الجمال الذي كان يملأ تصوراته؟! ولكنه لم ينتبه قطُّ، لأن الرقصة كانت آية في الذوق والإبداع، ولها مدلولات نفسية تُثير كوامن الشعور، لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل إنَّ الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقًا متطاولة نحوها.
أخيرًا أتمَّت الراقصة رقصها الفردي فأقبلتْ عليها رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق تورَّدتْ لها وَجْنتاها، أمَّا إبرهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف، ولكنَّ عينيه كانتا تراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق، فإن فريقًا من الجمهور المزدحم في الباحة مؤلفًا من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذُّذ بأتْفَه الملذات وأحقرها، كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة، وصلابة جبين تظهر فيهما الغريزة الحيوانية بوضوحٍ تامٍّ — أَطْبَقَ على الراقصات وضَرَبَ حولهن نطاقًا ضيِّقًا أصبح اختراقُه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من المستحيل، فتضايقن جدًّا وعبثًا نظرنَ إلى مَن حولهن نظرات ملؤها التضرع، وكان بين الجمع شابٌّ أخذ يشقُّ طريقه نحو الفتيات، وعليه دلائل الجذل الممزوج بالخبث، فاغتاظ إبرهيم جدًّا من هذه الحال، خصوصًا من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات، وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن، ولم يتمالك أنْ انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفين هناك أنْ يُفسِحوا له مجالًا للتقدُّم، ولما رأى أنهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث، ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوته الملكارثية حتى شقَّ لنفسه بين الجمع طريقًا عريضة كافية لمرور شخص واحد دون انزعاج، فلما بلغ المكان الذي انحصرت فيه الفتيات، كان الشاب الذي انسلَّ بينَ الجمع قُدَّامه قد سبقه وجعل يُحادِث الراقصة الحسناء بتودُّد، أمَّا هي فامتعضتْ من وُجوده وازدادتِ اضطرابًا لما رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبرهيم مقبلًا والرجال تتطاير من يديه ذات اليمين وذات اليسار، دُهِشت دهشًا عظيمًا ثم إنها لم تلبث أنْ أدركتْ أنه آتٍ للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرتْ نخوتَه وشجاعته، فتقدَّم إبرهيم إلى هذه الفتاة ووقف لحظة يُبادِلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضًا لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلًا: «أيتها الآنسة، إنَّ الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك.» فأجابتْه بصوت خريد وقد تضرَّج خدَّاها: «إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك.» وعلى الأثر غضَّتْ نظرها وانطلقت في الممر الذي افتتحه إبرهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.
أمَّا إبرهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتًا حائرًا، وكان قد همَّ أولًا بالإجابة على شكر الفتاة، ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب المجاملات فلم يُسعِده النطقُ ولم يعد يعرف كيف يتصرف؛ لأن هذا اللقاء ربَّك رأيه تربيكًا.
بَيْدَ أنَّ حيرة إبرهيم لم تستمر طويلًا؛ لأن الشاب الآخر الذي ظلَّ لحظة واقفًا يُحَرِّق الأُرَّمَ على إبرهيم لقَطْعِه عليه ما كان آخذًا فيه، تحرَّك بغتة من موقفه وهمَّ باللحاق بالفتاة التي لما تكن قد توارت عن النظر، فنبَّه تحرُّكُه إبرهيم فمد إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح به بغضب: «إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الخروج منها.» وكانت صيحته قوية إلى حدِّ أنَّ الفتاة سمعتْها فالتفتتْ إلى ورائها ورأتْه قابضًا على عضد الشاب، فكرَّتْ عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرعٍ قائلة: «سامح هذا الشاب وأخلِ سبيله؛ لأنه لا يدري ما يفعل.» فتركه إبرهيم وقد دُهِش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذتْ بساعد الشاب، وحاولت أن تجره وهي تقول: «تعالَ عجِّل!» ولكن هذا بدلًا من أن يتبعها نظر إلى إبرهيم شزرًا وقال له: «سنلتقي مرة أخرى في هذا المساء وحينئذٍ أُرِيك كيف تكون نتيجة تعرضك لما لا يعنيك.» وأفلتَ على الأثر من الفتاة وسار منفردًا، وكان كلما بعُد عن المكان ازداد رأسه التهابًا وقلبه حقدًا.
حينئذٍ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتتْ كمَن يُريد الهرب من شيء يخشاه، وبقي إبرهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهولٍ حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبهه فرفع رأسه ونظر إلى الجمع بعينين ضاقت الدنيا بهما، ثم سدَّد خطاه نحو الممر المؤدي إلى خارج، وسار والناس تتراجع من طريقه كما مِن أمام جبار أو أمير.
لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلًا، ولم يكن إبرهيم يدري لمَ أراد الخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه، ولكنه لما صار في الخارج استرسل إلى إحساسه وهامَ على وجهه بين الهضاب التي بجانب الدير، ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مرَّ به كان يبدو له مُعمَّيات: مَن تكون تلك القروية الحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لماذا يُقلقني ذلك، وما يعنيني أنا من أمر الاثنين؟ ولماذا يجب أنْ أفكر دائمًا بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أنْ يُضعف من شأن هذه المسائل ازداد قلقُه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره، حتى أيقن أنه لا يمكنه أنْ ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أنْ يُسَرِّي همَّه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يمر بها، وإذا به يرى نفسه تجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناسًا واقفين عند مدخله وآخرين في داخله، فاقترب من صبيٍّ كان آتيًا من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس المجتمعين هناك فأجابه الصبي: «هذه مغارة القديسة أم بزاز، والناس يأتون لزيارتها.»
ولم يكد إبرهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه، ولم يتردد لحظة واحدة في تحقيق هذه الرغبة، فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئًا غير عاديٍّ في الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الجبلية سوى المذبح الصغير في جانبه الأيمن، وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تحت مرشح الماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبرهيم قطرة الماء تسقط على جبينها، وكيف أنَّ النساء ابتهجن لذلك، فاكتفى بما شاهد واقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتحول إلى المخرج، ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة: «تبرك أولًا ثم اخرج؛ لأنه لا يحسن أنْ يزور إنسان هذا المكان ويعود بدون بركة القديسة.» ولكن إبرهيم انحاز عنها وقفز إلى الخارج وعاد في طريق الدير.
وفيما هو في الطريق عاد يفكر: «إنَّ ذلك الشاب قال لي: إننا سنلتقي في هذا المساء. فكيف يعلم أننا سنلتقي؟ قد يخطر لي أنْ أغادر صيدنايا الآن؛ ومِن ثَمَّ لا نعود نلتقي، ولكن لمَ أبرح هذه البلدة؟ أيوجد ما يضطرني إلى ذلك؟ ثم ماذا سيحدث في هذه العشية؟ أهو شيء جديد، غريب يعرض لي لأول مرة؟ أفٍّ لهذه الوساوس، وهل يمكن أن أكون قد أمسيتُ عرضة لها؟»
لما بلغ إبرهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله، فإنه كان ليلًا داجيًا.
وكانت ساحات الدير الداخلية قد أُنيرت بقناديل البترول، والجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والمرج، إلَّا القروية الحسناء فإنها لم تعد تظهر لهم، فسار إبرهيم في ذلك المحيط الخضم على غير هدى، ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخره فرأته إحدى الراهبات ودعتْه إلى العَشاء، ولكنه لم يكن يشعر بميل للأكل فشكر واعتذر، وتحول إلى ممرٍّ قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحًا قليلًا، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتًا رخيمًا أدرك حالًا أنه صوت الراقصة القروية، فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية: «لا تكن عنيدًا يا جرجس، فيكفيني أنْ أكون تدخلتُ من أجلك أصيل هذا النهار، لا تنس أنَّ أمك مريضة وأنه يجب عليك ألَّا تجعلني سببًا للشر، وأنت قد توعدتَ شابًّا كريم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من المأزق الحرج الذي كنا فيه، وهو شابٌّ قويٌّ يُخشَى منه ولا يُخشَى عليه فلا تتعرض له.»
فأجابها المخاطب: «إذا كان الشاب قويًّا فإن ضربة سيفي لا تُرَدُّ، وسترَيْنَ صدقَ قولي.»
فأسرع إبرهيم بالابتعاد، موبخًا نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع، وصعد إلى أحد السطوح، وقد خطر له أنْ يُغادر صيدنايا في الحال، ولكنه عاد ففكر: «لماذا يجب أنْ أغادر صيدنايا، وهل من عادتي أنْ أهرب؟ ولكن ما هذا القلق المستولي عليَّ ولم أعهد في نفسي شيئًا من ذلك من قبل؟» وبعد أنْ هدأ رَوْعه قال في سِرِّه: «مَن تكون هذه الفتاة؟ إنها تقول: إني أُخشى ولا يُخشى عليَّ.» عند هذا الخاطر ابتسم ولم يشأ أنْ يطيل التفكير، فأخذ يجول ويتنقل من سطح إلى ساحة، ومن ساحة إلى سطح؛ لعله يزيل ما به من حيرة.
وبينما هو في جولانه إذا بفتًى لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، جميل الطلعة، حسن الهندام، معتدل القامة، شديد الأسر قبض على ساعده في إحدى الساحات وصاح به: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا إبرهيم؟ إنها والله لصدفة تستحق التسجيل.» فالتفت إبرهيم ليرى مَن ذا الذي أمسكه، ومرت عليه بضع ثوان قبل أنْ تمكن من استرداد أفكاره الشاردة، ثم ظهرت عليه علائم البشر وقال: «آه، هذا أنت يا رشيد! مرحبًا مرحبًا، لقد جئتُ أنا لحضور العيد وأنت ما الذي جاء بك؟»
– «وأنا أيضًا جئت لحضور العيد، ولكني جئتُ على ميعاد، وأرجو أنْ يكون مُواعِدي قد حضر، وإني أشكر التقادير التي جمعتني بك الآن لتكون شاهدًا على ما سيجري.»
– «ماذا سيجري؟» وتسارعتِ الخواطر في دماغ إبرهيم.
– «سيجري ضراب بالسيف، مبارزة حكمية أنا أحد المتنازلين فيها، ويسرني كثيرًا وجودك هنا، فقد لا يكون هنا أحد غيرك صديقًا وخبيرًا بهذه اللعبة الخطرة.»
– «من خصمك؟»
– «أرجو أنْ ألتقي به قريبًا فهل لك أنْ تصحبني؟»
– «بطيبة خاطر، ولكن ما هذا الميعاد الغريب للمبارزة؟»
– «إنَّ لذلك حكاية لا مجال لقصها عليك الآن، وقد تأتي فرصة أخرى لذلك، هلم نصعد إلى السطح.»
فصعد الاثنان إلى أحد السطوح وجعلا يتسامران، وكان رشيد لا يغفل عن مراقبة الساحة التي تحت، وبغتةً توقف وأمسك رفيقه وهزه قائلًا: «انظر إلى ذلك الشاب الذي يخوض عباب الجمع هناك! هذا هو خصمي، إنه ولا شك يبحث عني فهلم بنا نُلاقِه.»
فنظر إبرهيم ورأى شابًّا ما عتم أنْ عرف أنه نفس الشاب الذي توعَّده في النهار، فبُهِتَ لهذه الصدفة المفاجئة، وتبع رفيقه وهو يتمتم لنفسه: «إنه من لاعبي الحكم١ ويبارز في الليل على ميعاد، وأمه مريضة ولكنه لا يعبأ بها، ويوجد فتاة تتدخل من أجله وتنصحه من أجل أمه، ومع ذلك يظل على عناده.»
عندما لاقى رشيد خصمه ابتدره قائلًا: «لقد كدتُ أتأخر عن المجيء لأسباب، وأرجو ألَّا يكون الميعاد قد فات.»
فأجابه ذاك وهو ينظر إلى إبرهيم متعجبًا من وجوده: «لمَّا يَفُتِ الوقت، بل لا يزال أمامنا نحو نصف ساعة يمكننا أثناءها أنْ ندرس المكان ونعين الحكم.»
فقال رشيد: «اسمح لي أنْ أقدم صديقي إبرهيم إليك فهو غير مشهور في عالم الحكم، ولكنه أبرع مَن انتَضَى سيفًا.» والتفت إلى إبرهيم وقال له: «أقدم إليك السيد جرجس أحد البارعين بضرب السيف.»
فانحنى إبرهيم وانحنى الشاب ولكنهما لم يتصافحا، وسار الثلاثة يبحثون عن مكان موافق للمبارزة إلى أنْ اهتدَوْا إلى باحة صغيرة منعزلة، واقعة في القسم الخلفي من الدير، معلق في وسطها قنديلٌ غازيٌّ نوره كافٍ لإنارة المكان، ثم إنَّ جرجس قدم رجلًا عارفًا بأبواب الحكم ورشحه للقضاء بينه وبين خصمه، فقبله رشيد وزاد جرجس أنْ يكون لإبرهيم الحق في مراقبة المبارزة بما أنه ممن يحسنون الحكم، بعد ذلك افترق الخصمان فذهب جرجس مع الرجل الذي رشحه هو ليكون حكمًا، وانصرف رشيد برفقة إبرهيم، فقال إبرهيم: «إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مثل هذه الألغاز.»
فأجابه رشيد: «سترى أنَّ للألغاز لذَّتها، بل أنت تعلم ذلك؛ لأن حياتك كلها ألغاز بألغاز، ألم تقُمْ مرات كثيرة بأعمال غريبة كان يعدها الناس ألغازًا، ولكنك أنت كنت تعدها شيئًا طبيعيًّا بديهيًّا؟ إني أقتبس من نورك وأقتفي خطاك، وأعلم أنَّ ألغازي ليست شيئًا مذكورًا بالنسبة إلى ألغازك، وأرى أنَّ ألغاز حياتك المقبلة ستكون أعظم من ألغاز حياتك الماضية.»
لم يجب إبرهيم على كلام صديقه، إمَّا لأنه وجده مصيبًا أو لسبب آخر لم يُرِد إظهاره، وصمت رشيد أيضًا؛ لأنه كان عليه أنْ يستعد للمبارزة، ودخل الاثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه المدنية، ولبس بدلًا منها ثوبًا بسيطًا تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلًا خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفًا وترسًا يبدو حالًا من مظهرهما أنهما خصوصيان، فجرَّد السيف وجعل يمتحن حدَّه وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه، وأعاده على الأثر إلى غمده، وتأبَّطه وحمل الترس والتفت إلى صديقه وقال: «ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني؟»
– «أراك نشيطًا وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حدٍّ من الخطر ستبلغ المبارزة.»
– «إلى الحد الأخير.»
– «وهل هذا التصميم نهائيٌّ لا رجوع عنه؟»
– «إنه نهائيٌّ إلى النهاية.» ونظر إلى ساعته وقال: «هيا بنا فقد حان الميعاد.» وخرج من الغرفة وتبعه إبرهيم صامتًا، ولما بلغا الساحة المعينة وجدا أنهما الأولان للقدوم، ولم يكن هنالك جمع غفير فجعلا يتمشيان ذهابًا وإيابًا، ويتكلمان عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلًا للوقت، إلى أن قدم الاثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط المتعلقة بالأصول المتبعة في الجِلَاد بالسيف، ثم اتخذ كلٌّ من الخصمين مركزه مقابل الآخر، واتخذ الحكم موقفه، ووقف إبرهيم في طرف الساحة عند متوسطها، وأعطى الحكم الإشارة فتناول المتنازلان سيفيهما وترسيهما، وشرعا يتجاولان من بعيد تمهيدًا للالتحام.
ما كاد سيفا المتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسين حتى أقبل الجمع وضربوا نطاقًا عند مدار الساحة، وشعر القوم على السطوح بما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب واشرأبَّتِ الأعناق، وأمسى المتضاربان قبلة الأنظار، وكان الناس يظنون أنهما يلعبان بالسيف من قبيل اللهو.
تجاول الخصمان حتى سبر كلٌّ منهما غَوْرَ الآخر، ثم تقاربا والْتَحَما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسين، ولكن لم ينَلْ أحدهما من الآخر منالًا فأشار الحكم بالتراجع فتراجعا، ثم عادا إلى التجالد بين كرٍّ وفرٍّ، وفي هذه الأثناء أصاب سيفُ جرجس صدرَ رشيد فجرحه، ولاحظ إبرهيم أنَّ جرجس يستعمل في التسايف ضروبًا لا يستعملها مَن عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهًا في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش المسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى، ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيدًا في كتفه جرحًا بالغًا، مستعملًا نفس الضروب المعيبة لرجال السيف، فلم يُطِقْ إبرهيم صبرًا على ذلك، خصوصًا بعد أنْ رأى الحكم لا يتدخل، وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بين الخصمين في الوقت المناسب؛ لمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها وصاح بهذا: «ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم.»
فاستاء جرجس جدًّا من حئول إبرهيم بينه وبين خصمه وأجابه: «إذا كنت تدعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك!»
فأجابه إبرهيم وقد نسي أفكاره السابقة: «حذار يا هذا فإنك تعرض نفسك للإهانة.»
«إنَّ مَن يعرض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر.» قال جرجس هذا وهز حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعيًا مخاطبه إلى المبارزة، فثار ثائر إبرهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أنْ يصبر على وقاحة وقِحٍ إلى هذا الحد، فأخذ رشيدًا إلى جانب وهو في حالة خطر شديد وأخذ حسامه منه، وأقبل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شررًا من شدة الغضب، ثم إنه لاعب سيفه مرسلًا منه بريقًا كوميض البرق، وحمل على خصمه والتحم معه توًّا، فدافع هذا عن نفسه بالترس وحاول أنْ يرد الضربة ضربة، ولكن سرعة دوران سيف إبرهيم عرقلت حركة سيفه وأبطلت أبواب خداعه، وافترق الخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحًا غير بالغ، وفيما إبرهيم يجول ليعيد الكرة على منازله، إذ حانت منه التفاتة إلى جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبه، وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها، والتحم المتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة، وحانت لإبرهيم فرصة يدرك كل مَن يعرفه أنها قاضية له، ولكنه بدلًا من أنْ يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده، وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه، فجرحته جرحًا بالغًا وقبل أنْ يتمكن الاثنان من العودة إلى الالتحام، ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال، وأقبلت إحدى راهبات الدير لترى ما الخبر فلما رأت إبرهيم ورشيدًا والدم يسيل منهما، قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتين أخريين ساعدتاها على ضمد جراحهما، ورأت ما حل بإبرهيم بعض النساء اللواتي التقين به في مغارة «أم بزاز»، وحالًا سرى بين القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا المتكبر الذي لم يشأ أنْ يطلب بركتها.
واتصل الخبر حالًا برجال الدرك المرسلين خصيصًا؛ لحفظ الأمن أثناء العيد فأسرع اثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنيين لا يحسنان التكلم بالعربية، فأقبلا على الجريحين المضطجعين في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير، واقترب أحدهما من إبرهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديد، وسأله: «مين بيضرب إنتِ؟» وتقدم الآخر إلى رشيد وسأله: «مين بيضربك إنتِ؟» فنسي إبرهيم جرحه واستغرق في الضحك، ولم يتمالك رشيد عن متابعته، ولكن لما أعاد الدركيان سؤاليهما نفد صبر إبرهيم فصاح بهما بصوتٍ دوَّت له الغرفة: «اخرجا حالًا من هنا! وإلَّا …» وحاول النهوض، ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالخروج وعادا إلى المركز، حيث قدما إلى الرئيس السوري تقريرًا لم يفهم منه شيئًا ولكنه أظهر اكتفاءه به.
بُعَيْد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما، وقبل أنْ تترك الغرفة ابتهلت إلى الله أنْ يرد عنهما الخطر.
أخيرًا خلت غرفة الجريحين من الناس فالتفت كلٌّ منهما إلى الآخر وهو يبتسم، وقال رشيد: «منذ هنيهة قلت لي يا إبرهيم أن ما قد قمت به لغز، وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز، ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت، فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك في حين أنَّ الضربة كانت لك لا له، وهذا أغرب ما رأيته منك.»
فأجابه إبرهيم: «أوَلم تقل لي إن للألغاز لذتها، فهل ابتدأتَ تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن؟»
قبل أنْ يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة، واقتربت ببطءٍ من سريري الجريحين ووقفت عند مضجع إبرهيم، وكان إبرهيم ينظر إليها ساكنًا متعجبًا؛ لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: «قد رأيتُ وفهمتُ … كيف جرحك؟»
– «إنه بالغ ولكنه ليس خطرًا.» أجاب إبرهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها، كأنه يرى فيهما لغزًا يريد أنْ يستجليه.
– «أشكرك وأتمنى لك شفاءً سريعًا.» قالت ذلك وتحولت إلى رشيد وسألته: «وأنت أيها السيد كيف جراحك؟»
– «لا أظن أنها ذات بال شكرًا لك.»
– «شفاك الله عاجلًا.» ثم نظرت إلى إبرهيم طويلًا وعادت أدراجها مسرعة، فشيعها الاثنان بأنظارهما إلى أنْ توارت وراء الباب ولم يعودا ينْبِسا ببِنْتِ شفة.
بعد قليل كان رشيد قد نام، أمَّا إبرهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس مَنَعَتْه من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات، وكان بين حين وآخر يستعيد ما مرَّ به في العشية ويسائل نفسه: «أما كان يجب عليَّ أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينين كانت تنظر إليَّ الفتاة؟» وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة، ومشى الهويناء في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب حتى إذا بلغها، أراد أنْ يعود ليصعد إلى السطح، وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القرويين محلًّا لهم، وكان مُنارًا بقنديل ضئيل النور، فاقترب إبرهيم من ذلك المربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات، ولا فرش تحتهم سوى بسط وأغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الجيداء، وللحال عرف الراقصة القروية وكانت نائمة بين أترابها، فخفق فؤاده لهذه المفاجأة وتقدم من حافة المربع المرتفعة، وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتين فتململت الفتاة تحت نظره ولكنها لم تستيقظ؛ لأن النوم كان مثقلها.
وبقي إبرهيم في مكانه ساهرًا يكلأ الفتاة ويسامر نجواه، حتى انقطعت ضوضاء القوم في الخارج وهدأت الرِّجْل، وفيما هو كذلك لاحظ أشباحًا تقترب نحوه ثم تعود أدراجها، وبدا له أنَّ لهذه الأشباح قصدًا، وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوه، فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.
في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها، وغادر إبرهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق، حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان، وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاءً تامًّا.
•••
منذ ذلك الحادث طرأ على حياة إبرهيم تغيُّر كبير لم يخفَ على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح إلى الفتور والتأمل، وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه، فلاحظ أصحابُه ذلك منه وعبثًا حاولوا أنْ يُعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لمتابعة دروسه فلم يعد إبرهيم يراه، وظلَّ وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أنْ يستجلي غوامضها، ثم ابتدأ يشعر بسأم مما هو فيه، فجرَّب أنْ يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثًا ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أنْ يبعد فكره عن التصورات؛ لأن تساقط الثلج في الخارج وتوهج نار الموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور، وتفتح إلى النفس طريقًا للمؤثرات، فرأى أنْ يسلو بالمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى، وتجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص، وحين زارته بعد جرحه وزودتْه نظرة لم يفقه معناها في الحال، ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان، وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام، حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب، الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكًّا بقرونه الجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله، التحم وإياه بمعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكًا يقضي على كليهما بالهلاك، بل إنه أبصر في الحُلم وعلًا عظيمًا وقف على قُنَّة جبل عالٍ، وقد اعلَوْلَتْ قرونُه إلى الجو، ثم رآه ينقضُّ على وعل آخر عظيم مثله، فسرَّه ذلك وأقلقه معًا.
ظلت الحال بإبرهيم على هذا المنوال إلى أنْ حسر الثلج عن وجه الأرض، وأورَق الشجر ونوَّر الزهر، واكتست الأرض حلة سندسية فلَهَا إبرهيم قليلًا بمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح وكل مساء، ولكنه لم يعُد إلى مَرَحِه السابق، وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من المدرسة إلَّا أنَّ الصديقين لم يجتمعا إلَّا نادرًا، إلى أن لم يبقَ لعيد سيدة صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبرهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة؛ لأن له ما يريد أنْ يُحدِّثه به، فلبَّى إبرهيم الدعوة وسار الاثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تامًّا وهناك اضطجعا تحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد: «هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الماضي؟»
– «أذكر.»
– «كنت وعدتك بأن أُحدِّثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب، وقد رأيت أنْ أَفِيَ بوعدي الآن: أنت لا بُدَّ تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا.» فخفق قلب إبرهيم خفقانًا شديدًا ولكنه ظلَّ صامتًا ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع: «اعلم أنَّ هذه الفتاة رصيفة التلمذة، وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها، وأظنك لم تنسَ أنه يُدعَى جرجس، ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بيروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتابًا من أبيها، وفي اليوم التالي قام بزيارةٍ أخرى للفتاة، وكنتُ أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حادٌّ انتهى بأن الشاب حاول اختطافها فأسرعتُ وحُلتُ بينه وبين تنفيذ ما عقد العزيمة عليه، فحقد عليَّ جرجس منذ ذلك اليوم، وصار كلما رآني تهدَّدني وتوعدني، إلى أنْ كان ذات يوم اتفقنا فيه على المبارزة، فاقترحتُ أنْ يكون ذلك في دير صيدنايا فقَبِل وهكذا كان كما تعلم.
أمَّا الفتاة فلم تكن تعلم شيئًا من أمري، ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها، فعلمتُ أنَّ الفتاة تُدعَى نَجْلا، وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس؛ لأن أمه كانت قد اعتنتْ بها في صغرها بعد وفاة أمها، وهي كانت ترجو منها أنْ تفعل ذلك من أجلها، والظاهر أنَّ أم جرجس كانت تأمل أنْ تُولِّد هذه المجاملة حبًّا ينتهي بزواج الاثنين؛ لأنها أحبت صفات نجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تحب الأم وتفعل ما يرضيها، ولكن البَوْن الشاسع بين نفسها ونفس جرجس يجعل مبادلتها إياه الحب أمرًا مستحيلًا، وعلمتُ أيضًا أنَّ أم نجلا كانت قد نذرتْ عن ابنتها زيارتين لدير صيدنايا، وأنَّ الابنة تريد أنْ توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أنْ تكون المبارزة هناك؛ لأني كنتُ موقنًا أنه سيتبعها إلى هناك، ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نجلا إلى مجاملة ابنها، فكتبتْ إلى صديقتِها نسيبتي تقول: إنَّ جرجس يُلاحِقها الآن ملاحقة شديدة تتألَّم منها، وذكرتْ لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء؛ لكي تقوم بالزيارة الثانية من أجل أمها، ويقيني أنَّ جرجس سيتبعها إلى هناك هذه المرة كما في المرة السابقة ويحاول اختطافها هناك؛ لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك.»
عند هذا الحد انتهى حديث رشيد، أمَّا إبرهيم فإنه كان يُصغي إلى الحديث المتقدم بصمت وإمعان، ثم إنه استرسل في تأملات عميقة، واستغرق فيها استغراقًا لم يعُد يَعِي معه على شيء، فقام رشيد وانصرف على مهل دون أنْ يتنبَّه إبرهيم إلى انصرافه، أخيرًا انتبه ووجد نفسه وحيدًا فتعجَّب من حاله، ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدَّثه بها رشيد، ولكن أمرًا واحدًا رسخ في ذهنه ورسا رُسُوَّ الجبال، فلم يعد شيء في العالم يتمكَّن من زحزحته: نجلا – صيدنايا.
في تلك الليلة حلم إبرهيم كثيرًا، ومرة أخرى أبصر في حُلمه وعلًا عظيمًا على قمة جبل عالٍ، رافعًا رأسه مطاولًا بقرونه السحاب، وحدَّق إبرهيم في قرونه فوجدها محدَّدة كرءوس الحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدهما ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم، فهي مستقيمة وحادة، وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة؛ لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظرًا رائعًا يأخذ بمجامع القلب، أخيرًا رآه يتنشق الهواء بسرعة بمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم، ويحول رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبرهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح، ولكنه لم ينهض حالًا، بل ظلَّ مستلقيًا يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.
ظلَّ إبرهيم منفردًا خاليًا بنفسه، متحاشيًا الاجتماع بأيٍّ كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لمجيء عيد سيدة صيدنايا، وكان صامتًا هادئًا، وفي هدوئه دلائل انصباب الفكر على مسألة معينة هامة، كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار المرسح المُسدَل الذي يدل على الاستعدادات المتخذة وراءه، فبعث تصرفه هذا على استغراب معارفه أمره استغرابًا شديدًا، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرفه الجديد الذين وقفوا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين كانوا يعدون أنفسهم صحبَه وتلاميذه، ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردون التهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لمجرد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم، وابتدأ ضعاف الثقة منهم يشكون في مصير هذا البطل، الذي كان آية في القوة والبطش، ومثالًا للشجاعة والإقدام، وقدوة صالحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهَّن بأفول نجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظلَّ يوده ويحترمه ويؤمن به وقعًا أثار أسفهم الشديد، وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبين أولئك المتكهنين.
وقع عيد سيدة صيدنايا هذه المرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبرهيم باكرًا ونهض إلى تمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطًا في قوته، رائق النفس، مرتاح البال، ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة، وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: «هلمَّ نسافر معًا يا أنيس.»
– «ماذا؟ هذا أنت يا إبرهيم؟ وإلى أين نسافر؟»
– «إلى صيدنايا، فإن لي نذرًا يجب عليَّ أنْ أوفيه هناك في هذا العيد.»
فاكتفى أنيس بهذا الجواب؛ لأنه كان يعرف مزاج إبرهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه، فبادر إلى إعداد سيارته وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما، ولم يعلم أمرَهما أحدٌ في البلدة، وفي طريقهما عرَّجا على دمشق حيث تغدَّيا معًا وشاهدا بعض أسواقها القديمة، ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر، وكان الدير قد امتلأ بالخلق وسيارات القادمين لا تزال تتوافد بكثرة، ولاحظ إبرهيم أنَّ الإقبال على العيد هذه السنة يُربي على الإقبال في السنة الماضية، فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى المساء.
عندما دخل إبرهيم الدير وجده غاصًّا بالخلق كما في المرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيمين، ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرة، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق؛ حلقات للرجال وحلقات للنساء، والجماعات المحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الحماسة في الراقصين، فلما شاهد إبرهيم هذه الحلقات خفق قلبه خفقانًا شديدًا، وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أنْ تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يُجيل نظرَه في الناس بسرعة، ولكنه لم يجد مَن يستقر عليه، وبينما هو كذلك رأتْه بعض النساء وجعلنَ يتهامسنَ قائلات: «انظرن، هذا هو الرجل الذي جازتْه القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جُرح من خصمه في البراز بالحكم.» وبأسرع من البرق تنوقلتْ هذه العبارة وتجاوزت النساء إلى الرجال، أمَّا إبرهيم فإنه لم يسمع شيئًا قط، وهو لو سمع شيئًا لما كان أعاره اهتمامه؛ فقد كان له من شواغل نفسه ما يغنيه عن شواغل الناس.
بعد أن أجال إبرهيم نظره في تلك الجموع طويلًا دون أنْ يَحظَى بما يستوقفه، ترك مكانه وشرع يتنقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره وأنيس يرافقه صامتًا متعجبًا، حتى أشرفتِ الشمس على المغيب، وكان أنيس قد لاحظ قلقَ إبرهيم الداخلي وشرودَ فِكْرِه، فقرَّر أن يبقى في الساحة الكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبرهيم تجواله دون أنْ ينتبه إلى تخلُّف صديقه عنه، ثم إنه عاد فمر في الساحة الكبرى، حيث كان أنيس دون أنْ يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى ممرٍّ يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من المدخل، فمشى فيه إلى آخره وإذا هناك مدخل صغير فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، في مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى، فولج هذا الباب ووقف قريبًا منه؛ لأن الغرفة كانت مظلمة لمَن يأتي من الخارج، فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلَّا من كوَّة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب، بل على حائط من حيطان الدير.
بعد قليل ابتدأ إبرهيم يتبيَّن ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها، فرأى أنَّ جدرانها مبطنة بصور القديسين فتزحزح من موقفه، وأخذ يطوف بالمكان ويُدقِّق النظر في الأُطُر المعلَّقة حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة، مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلًا من بقية الشموع، فلم يشك في أنَّ الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أنْ يُخرِجْنَها من ذلك المكان المظلم، ويعرضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتين ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب، وما إنْ فعل حتى استلفتَ نظرَه شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بين الشمعتين، وهي كأنها تتأملها أو تناجيها، فبُهت إبرهيم لهذه المفاجأة وتعجَّب من أنه لم يتنبَّه إلى وجود إنسان آخر في هذا المكان من قبلُ وهمَّ بالتراجع، ولكن المرأة كانت قد شعرت بوجوده قُربَها وحوَّلت وجهها إليه لترى مَن هو، وكم كانت دهشتُه عظيمةً حين تبيَّن على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نجلا؛ الراقصة القروية التي ظلت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تامٍّ، حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقلَّ من دهشته حين رأت قامته وعرفت وجهه، فوقف الاثنان ينظر كلٌّ منهما إلى الآخر نظرَ مَن هو على يقين مِن أنَّ ما يراه حقيقة لا حلم.
لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبَيْ هذين الاثنين في هذه الدقيقة؛ لأنه يعلم أنَّ لبعض العواطف البشرية لغة لا يمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة، بل يُفضِّل متابعة سرد القصة.
– «أنت هنا؟» قالت الفتاة بصوت خافت يُقارب الهمس، فطرق هذا السؤال مسامع إبرهيم بشكل مخصوص فهم منه: «أعن قصد مجيئك؟»
فأجابها بصوت لا يعلو كثيرًا عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة «نعم، أنا هنا!»
عند هذا الجواب لمعتْ عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: «لقد كنتُ أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: هل يجيء؟»
– «هل شككتِ في مجيئي؟»
– «أرجوك ألَّا تَحْمِلَني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بين عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم.»
فأخذ إبرهيم يدها بين يديه وقال: «لقد جئتُ وفي نيتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيتك أنت؟»
– «أنت الشخص الوحيد الذي تمنيتُ من كل قلبي أنْ يبقى إلى جانبي دائمًا؛ فقد أرعبني الكثيرون وملئوا نفسي اشمئزازًا وخوفًا!»
فضمها إبرهيم إلى صدره بلهفة، وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها: «إننا لن نفترق، ولن يخيفوك بعد الآن!» وخرج وإياها من الحجرة وهو يُطوِّقها بيمينه القوية.
كان الليل قد غشي تلك النواحي، ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة، فاجتاز إبرهيم ونجلا الممر المؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الحالة التي كانا عليها حين خرجا من غرفة العذراء، ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفين أو مارين فيه، أمَّا هؤلاء فإنهم حالما رأوهما شُغِلوا بهما عما كانوا فيه، وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبِّي الأعناق نحوهما، مستغربين مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل، فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل المبارز في السنة الماضية نفسه، وهو يحمل بيده اليمنى سيفًا مصلتًا وباليسرى ترسًا، وذراعاه متقاطعتان على صدره ومن حوله لفيف من الرجال هم مزيج من أهل القرى وأهل المدن، وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال المحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلتقطهما، فلما رأى إبرهيم هذا المشهد ضمَّ الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تحديق النسر، حينئذٍ أدرك أولئك الرجال والجمع الذي وراءهم أنَّ شيئًا غير اعتياديٍّ سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبتْ سِحَنُ الرجال الذين يحفُّون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تماثيل الشبه.
ولم يشأ إبرهيم أنْ يبقى واقفًا في مكانه، فمشى برفيقته بضع خطوات محاولًا أنْ يتابع سيره فاعترضه جرجس وهو لا يزال على الشكل المتقدم وصفه وقال له: «إنَّ ذاك السيف الذي تراه على الأرض ينتظرك لإنهاء البراز الذي بدأناه السنة الماضية في مثل هذا اليوم.»
ما كاد جرجس ينتهي من عبارته هذه حتى أحس إبرهيم أنَّ نجلا قد ارتعشت مع أنَّ ذراعه اليمنى مطوقتها، فالتفتَ إلى مَن حوله وإذا أنيس واقف إلى جانبه وفي يده عصاه الكبيرة التي لا تفارقه فقال له: «أعطني عصاك وخذ هذه الفتاة إلى السيارة، وأنا أكون هناك بعد دقيقة.» وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة ليقودها، ولكنها أبَتْ الذهابَ، وقالت لإبرهيم: «إمَّا أنْ نبقى معًا وإمَّا أنْ نذهب معًا.» فنظر إليها إبرهيم بحنان وقال لأنيس: «إذن ابقَ إلى جانبها إلى أن أعود.» ثم تحوَّل إلى جرجس وقال له: «لا حاجة إلى ذاك السيف؛ فإن هذه العصا تكفي لتأديبك فخذ مكانك سريعًا!»
فأراد جرجس أنْ يمتنع ولكن إبرهيم أمسكه من عضده وضغط عليه بأصابعه الفولاذية وهزَّه بشدة، وقال له: «إذا لم تقبل اضطررت إلى ضربك كما يُضرب الأولاد الصغار الطائشون.» فأدرك جرجس مِن قوة خصمه ولهجته الثابتة أن لا مناص له من الإذعان، فالتفتَ إلى رفقائه وقال لهم: «اشهدوا أني بريء مما سيحدث.» ثم تراجع إلى متوسط الساحة وتقدم إبرهيم أيضًا بضع خطوات وقبض على عصاه من طرفها الدقيق، وأدار رأسها الضخم في الهواء.
أخذ جرجس أولًا في اللعب بسيفه وضربه على ترسه، وما كاد ينتهي من ذلك ويتحول إلى المجاولة حتى أقبل إبرهيم نحوه بخفة الأسد وثباته، وجاوله مرة واحدة فقط أطبق بعدها عليه مديرًا عصاه بسرعة ومهارة عظيمتين، ثم فرَّ منه وعاد فكرَّ عليه كرَّة لم يكن ذاك يتوقعها وباغته مباغتة خبلته، حتى لم يعُد يُحسن الدفاع وحانتِ الفرصة فأهوى عليه بضربة شديدة أصابته في قمة رأسه وألقتْه على الأرض صريعًا، وبينما الناس في دهشة عظيمة مما حدث ذهب إبرهيم إلى رفيقَيْه، وأحاط نجلا بذراعه اليمنى كما في الأول، واجتاز بها الممر المؤدي إلى الخارج وتبعهما أنيس يحمل عصاه التي استعادها.
في هذه الأثناء كان رجال جرجس قد تغلَّبوا على دهشتهم فخرج أربعة منهم في أثر إبرهيم، فتصدَّى أنيس بعصاه لاثنين منهم وكرَّ إبرهيم على الاثنين الآخرين فأمسكهما من عنقهما، ودق رأسيهما الواحد بالآخر دقًّا أفقدهما الصواب وألقاهما برفق على الأرض، فلما رأى الاثنان الباقيان ما حلَّ برفيقيهما فرَّا هاربين ودخلا الدير وهما يقولان: «إنَّ الشيطان يحميه!» فأجابتْهما إحدى النساء المشاهدات: «بل العذراء تحميه!» وسمع جوابها بعض القرويين فعدُّوا هذا الحادث من عجائب سيدة صيدنايا الكلية القداسة وهم لا يزالون يروُونه من هذا القبيل.
أمَّا إبرهيم ونجلا وأنيس فتابعوا سيرهم إلى السيارة وركبوها وساق أنيس في طريق قرية ن. حيث تقطن نجلا، فبلغوها بعد سير ساعتين تقريبًا، وترجَّلوا أمام بيت قرويٍّ معتدل وطرقت نجلا الباب، وبعد هنيهة فُتح الباب ودخلوا البيت، ولم يكن فيه أحد سوى والد نجلا الشيخ.
في صباح اليوم التالي جرى عرس بسيط جدًّا جمع الفرح والرضى، ولم يجمع شيئًا من الضوضاء، وأصبح إبرهيم ونجلا زوجين.
•••
لا يستطيع مَن لم يشهد الحادث بنفسه أنْ يتصوَّر مبلغ دهشة أهل بيت إبرهيم عندما عاد مصطحبًا نجلا وقدمها إليهم بصفة كونها امرأته، ولا شدة وَقْع ذلك عند معارفه والذين كانوا يعرفون عنه، خلا رشيدًا؛ فإنه كان قد قدَّر الحادث وأخذ ينتظره منذ علم أنَّ إبرهيم برح البلدة يوم العيد، وأقبل كثيرون يريدون تهنئته، ولكنه كان حالَمَا يشعر بقدوم أحد لزيارته يأخذ نجلا ويخرج وإياها من الباب الخلفي ويذهب الاثنان يتنزهان في الغابات، فأدرك أهل البلدة الحيلة وأخذوا يرصدونهما وهم يكادون يذوبون شوقًا إلى رؤية الفتاة التي أصبحت امرأته، ولم يكن بينهم مَن لم يتوقَّع أنْ يراها امرأة بدينة رجراجة، فلمَّا أُتيح لهم أنْ يلحظوها ووجدوها فتاة ضامرة الحشى، لطيفة الجوانح، بهتوا وانصرفوا وهم يشكُّون فيما رأوا.
أخيرًا أجمع الناس الذين يجعلون أنفسهم دائمًا المُثُل الطبيعية للأطوار البشرية على أنَّ الحادث أمر غير طبيعي، ولم يعدم الشبان الذين كانوا يحسدون إبرهيم والشابات اللواتي كان يغيظهن بتصرفه السابق شيئًا جديدًا يضيفونه إلى اختلاقاتهم الماضية.
أمَّا إبرهيم ونجلا فلا يزالان يعيشان سعيدين جدًّا، وكلما عاد إبرهيم إلى نفسه تذكر صديقه رشيدًا، وتلك الحكاية التي قصَّها عليه في الغابة، والوعل العظيم الذي أبصره في الحلم، أمَّا صور الجمال التي كانت أفكاره السابقة تحوم حولها فقد نسيها بتاتًا.
١ الحكم: لعبة السيف السورية القومية.
ليست أكواخ صيدنايا على شيء من الرواء والرونق؛ فلا شجر ولا نبات يكتنفها، ولكن في السهل المنبسط عند أسفل التل بستان كبير فيه أغراس زيتون عديدة، وأشجار جوز باسقة الأغصان وارفة الظلال، يرويه ماء نبع غزير، وتقوم فوقه هضبة لا تبعد عن التل القائم عليه الدير، في أعلاها وسفحها كروم عنب وتين قليلة، وفي سفح هذه الهضبة مغارة تسمى مغارة «أم بزاز» — ذات الأثدي، ويعتقد أهل تلك النواحي أنها مقدَّسة، ويعُدُّون الحجَّ إليها من جملة الفرائض.
أمَّا «أم بزاز» التي أطلق اسمها على هذه المغارة فهي قِدِّيسة قديمة — هكذا يقولون — أو هي «سيدة صيدنايا»، والقرويون يتناقلون عنها حكايات غريبة تدل على قوتها العجائبية، ويوقدون لها الشموع، ويوفون نذورهم لها على مذبح محفور في جانب المغارة إلى يمين المدخل، ولا يزال هؤلاء القرويون البسطاء يستدلون على صحة حكايات القديسة وعجائبها بوجود مكان معين في قبة المغارة يرشح منه ماء؛ قطرة كل ثلاث دقائق تقريبًا، يجدون في انتظام رشح الماء على الوصف المتقدم رمزًا لقوة أم بزاز السحرية، ومع أنَّ تعليل رشح الماء سهلٌ جدًّا؛ نظرًا لوجود الماء على الهضبة، فإن القرويين يرون في رشحه من مكان معين سرًّا مختصًّا بالسيدة أم بزاز، وهم يتبركون بقطرات الماء، حتى إنهم وضعوا تحت المكان الذي ترشح منه حجرًا يقعد عليه مَن أراد التبرك، ويتقبل قطرة الماء على جبينه.
يؤم صيدنايا في عيد السيدة خلق كثيرٌ من أنحاء كثيرة من القطر السوري؛ من دمشق العاصمة؛ أقدم مدينة موجودة في العالم، ومِن حلب وأنطاكية والإسكندرونة وحمص الغنيات بآثارهن التاريخية، ومن جبيل أو ببلوس القديمة؛ مدينة الإله أودنيس، ومن بيروت عروس المتوسط مدينة عشتروت القديمة ومنارة العلم في الشرق الأدنى قديمًا وحديثًا، ومن صيداء وصور المدينتين الخالدتي الأثر في تاريخ المدنية والعمران، ومن حيفا ويافا والقدس منائر الجنوب، ومن قرى لبنان الجبل الجميل الفخم، وبقية البلاد شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، فيجتمع في العيد المذكور خلق كثير، لا من المسيحيين فقط بل من المحمديين أيضًا؛ لأن عيد صيدنايا يتخذ صفة عيدٍ شعبيٍّ لسكان تلك المنطقة، فيبتهج فيه الشعب على اختلاف نِحَلِه؛ الأمر الذي يُنبِّهنا إلى الفائدة الاجتماعية الجليلة التي يجنيها الشعب السوري كله من جعل الأعياد الدينية المحمدية والمسيحية الكبرى أعيادًا شعبية، يُوحِّد فيها السرورُ والابتهاجُ عواطفَ جميع السوريين، ويجعلهم يشعرون بوحدتهم القومية والاجتماعية.
يبتدئ القوم يتقاطرون إلى صيدنايا قبل العيد بأيام، ثم تَفِدُ جموعهم في اليوم السابق للعيد ويوم العيد الأول — مدة عيد سيدة صيدنايا ثلاثة أيام — وهم يستخدمون وسائل النقل العصرية كالسيارات والدراجات النارية، بدلًا من العربات والخيل والحمير وغيرها التي كانت تستعمل قبلًا حتى عهد قريب، وطريق صيدنايا سهلة غير أنه لا يزال قسم منها غير مُعبَّد، فكلما مرت سيارة أثارت غبارًا، ولكن القادمين قلما يُبالُون بالغبار، فلا ينتصف نهار العيد الأول إلَّا وغُرَف الدير وكنيسته وساحاته الداخلية وسطوحه قد غصَّت بالجموع، ولم يعد فيها متسعٌ للجموع الأخرى التي لا تنقطع وفودها كل ذلك النهار، فيحدث هرج ومرج عظيمان تضطرب لهما البلدة الصغيرة، وبينما الجماهير في غُدُوٍّ ورَوَاحٍ إذا بالشبان يؤلفون فرق «العراضات» التي تتجول في كل مكان ويملأ هتافها كل تلك الناحية، أمَّا أهل البلدة فبعضهم ينصرفون إلى إعداد بيوتهم؛ لنزول القادمين الذين يضيق بهم الدير على رَحْبِه، والبعض الآخرون يَعُدُّون المآكل من لحمٍ مشويٍّ، وبيض مسلوق، وخبز وجبن وزيتون، أو يجيئون بالعنب والتين وأنواع البزور إلى الدير ليبيعوها للزائرين، ويدور في الدير رقص «الدبكة» فيؤلف الرجال حلقاتهم وتؤلف النساء حلقاتهن، ولا يخلو الأمر من جاهل أو أحمق لا يعرف آداب السلوك والمعاشرة، أو هو يعرفها ولا يعرف أنْ يحافظ عليها، فيكون سببًا في تشويه العيد على القوم وعلى نفسه.
وأهم ما يسترعي انتباه الزائر القادم إلى العيد لأول مرة من شئون الخلق المزدحمين هناك: ملابسُ القرويات وحُلَلُهن الخاصة بالأعياد، فللقرويات السوريات حُلَلٌ زاهية الألوان، بديعة المنظر، حتى إنه يحق لهن أنْ يُباهِين بها قرويات العالم في سلامة الذوق وجمال المظهر، وملابس قروياتنا إجمالًا جميلة ولها رونق الزي القومي، بَيْدَ أنَّ قرويات معلولا يمتزْنَ بزيٍّ خاصٍّ هو من أجمل أزيائنا القروية القومية، وبقية زي القرويات السوريات القديم الأصلي.
قلتُ: إنه لا يخلو الأمر في الحوادث الشعبية؛ مثل عيد سيدة صيدنايا، من جاهل أو أحمق يُعكِّر بسوء تصرفه صفوَ الأفراح، والظاهر أنَّ الجهَّال والحمقى لا يتركون فرصة تمر دون أنْ يغتنموها لإظهار جهلهم وحماقتهم، فاجتمع منهم في عيد سيدة صيدنايا سنة ١٩٣٠ عدد غير يسير، إلَّا أنَّ واحدًا منهم امتاز عنهم بجرأته وإقدامه، وجعل للحادث التالي أهمية روائية ما كان ليكتسبها لولا الأعمال المرسحية والأدوار التمثيلية التي أتاها.
كان بين القادمين إلى دير صيدنايا في عيد السنة المذكورة شابٌّ من لبنان رَبْعَةٌ إلى الطول، مَرِيرُ القُوَى، مَسْمُور الجسم، في قامته استقامة الرمح، ذو صَدْرٍ يُشبِه بارتفاعه برجًا حصينًا، وهو مستوي الوقْفة، معتدل الخُطْوة، ولعينيه بريقٌ تظهر فيه قوة روحه، وهيئتُه إجمالًا تدل على أنه غير ميَّالٍ كثيرًا إلى الهزل، بَيْدَ أنه كان يُحبُّ مشاهدة الألعاب ويُسَرُّ بها سرورً الطفل، والناظر إليه يدرك لأول وهلة أنه ليس من الذين ذهبتْ أخلاقهم وفسدتْ طباعهم من شبان هذا العصر، الذين لم يحصلوا حين نشأتهم على تربية عائلية اجتماعية صحيحة، ولا من الذين أنشبتْ مخالبَها بهم المشاربُ القديمةُ الفاسدة التي لا تجرُّ على مَن يتمسك بها في القرن الحاضر إلَّا الوبال، كانت نفسه بسيطة وكان في مقتبل العمر، وأسميتُه إبرهيم، لا أريد أنْ أدعوه باسمه الحقيقي ولا أنْ أذكر اسم البلدة التي جاء منها؛ لكيلا تتحول الحكاية إلى أمر شخصيٍّ وتُفقَد صفة الواقعة الروائية المقصودة، ومن المؤكد أنَّ إبرهيم لم يأتِ إلى صيدنايا للقيام بفروض كنسية؛ لأنه كان يحب الله والطبيعة حبًّا خاليًا من الرهبة التي تدعو إلى السجود وتقديم القرابين، ويهرب من الطقوس، ورغبته الوحيدة كانت أن يشترك في العيد ويرى مظاهر جديدة من مظاهر قومه الشعبية؛ لذلك كان إعجابه بالمشاهد الكثيرة التي وقعتْ عليها عيناه المُتَّقِدتان شديدًا، بل كان ابتهاجُ الطفل يبدو على وجهه كلما رأى حُلَل القرويات المزركشة الزاهية.
لإبرهيم في بلدته سيرة بطولة مشهورة يعرفها كل الذين يهتمون بتناقل سير الأبطال، وكان الشبان الذين يعرفونه ينظرون إليه نظرهم إلى مثال فخم لقوة الجسد والروح، حتى إنه إذا وُجد بينهم وخطر لهم أنْ يدخلوا على الأُسُود في عَرائِنها، أو أنْ يتصدَّوْا لمحاربة جيش مسلحٍ ولا سلاح لهم إلَّا العصي، أقدَموا موقنين بالفوز، وفيما سوى ذلك كان هذا الشاب مشهورًا بغرابة الأطوار، من ذلك أنه كان يكره الظهور ويأنف من عرض قوته البدنية العظيمة على الناس، فخالف بذلك عادة الفتيان الذي لا يكادون يطمئنون إلى شيء من القوة في عضلاتهم، حتى يعمدوا إلى إظهاره والمفاخرة به، وكان يبتعد عن مخالطة الناس خصوصًا الجنس اللطيف، فكان يفارق كل مجلس يضم سيدات أو آنسات، ويُعرِض عن الحِسان اللواتي كُنَّ يُخفِين في صدورهن شوقًا لاعجًا للاجتماع به مثيرًا كوامنَ غيظِهن بعدم مبالاته وعبثه، حتى أخذنَ يتناقلن عنه حكاياتٍ مختلفةً القصدُ منها الحطُّ من شأنه، وشارَكَهن في غيظهن كلُّ الشبان الذين كانوا يحسدونه؛ لعلوِّه عن مستواهم في القوة البدنية وقوة الإرادة، فجعلوا يُذيعون عنه حكايات قصدوا منها أنْ يطعنوه في رجولته، أمَّا هو فكان يترفَّع عنهم ويمرُّ بأقاصيصهم مرورَ الكرام، ومع ذلك لم يرَ بُدًّا من تأديب واحد أو اثنين بلغَتْ بهما الوقاحة حدًّا حملهم على الاقتناع بما كانوا يختلقونه عنه.
مما يجب ألَّا يُغفَل ذكره هنا أمرٌ له علاقة كبيرة بنهاية هذه القصة، وهو أنَّ إبرهيم سُئل مرة: كيف يجب أنْ تكون امرأته فيما لو أراد أنْ يتزوج؟ وكان السائل صديقًا حميمًا لإبرهيم، فأجابه: أنه يرى انتخاب امرأة صحيحة الجسم، قوية البنية، مليئة، مكتنزة، مورَّدة الخدَّيْن، وافرة العقل، حسنة المدارك، تعرف كيف تدير شئون بيتها ويكون من صحتها صحة لأولادها.
دخل إبرهيم الدير وأخذ يتجوَّل في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه، ثم إنه أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة التي أمامه، فوقعت عينه على حلقة «دبكة» في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات، والجمع يحدق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقةً ضمن حلقات، وبينما هو يتمتع بمرأى حلقة الرقص إذا بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة، وتأخذ في رقصٍ فرديٍّ مبتكر بينما رفيقاتها يُتابِعن الدبكة حولها، وكانت الفتاة معتدلة القدِّ، هيفاء القوام، تلعاء الجِيد، أسيلة الخد، ذَلْفاء الأنف، حوراء العينين، وَطْفاء الأهداب، وكانت لابسةً حُلَّةً أرجوانية، شادَّةً وسطها بنطاقٍ مذهب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قُرْطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافَّة شعرَها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضية، ومن فوقه وشاحٌ أبيض مسدل على ظهرها، لم يكن إبرهيم قد رأى من قبلُ راقصة مثل هذه، ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بمرآها أيما إعجاب، وأخذ يتأمل قدَّها الجميل وهيئتها اللطيفة، ويراقبها في خطوها وتنقُّلها، وسرعة دورانها ورشاقتها في انحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوة عاطفتها وشدة إحساسها، وكانت بين حين وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز، وتُلقي على ما حولها ومَن حولها نظرات فيها كل معاني عدم المبالاة.
وقف صاحبنا ينظر إلى هذه الراقصة برغبة عظيمة وارتياحٍ تامٍّ، ولأول مرة في حياته شعر بخفقان في قلبه، وأحسَّ حرارة شديدة تغشى سطح بدنه دون أنْ ينتبه إلى هذه الحالة الجديدة التي صار إليها، ولو رآه على هذه الحالة مَن يعرفه جيدًا، لعجب كثيرًا من استئناسه بمرأى الفتيات، وإعجابه بمظهر الراقصة الحسناء وهو الذي كان يهرب من النساء، ومن كل مجتمع نسائيٍّ هربًا، ولا يرغب في أنْ يرى منهن إلَّا مَن كانت ممتلئة البدن.
لا شك في أنه لو انتبه إبرهيم إلى نفسه في هذه الآونة ورأى الحالة التي هو عليها، لكان أخلى مكانه بغاية السرعة وهرب جريًا على عادته وهزَأَ من نفسه، كيف أطاق أنْ يطيل النظر إلى حلقة من النساء، ويبتهج بمرأى فتاة غريبة جدًّا عن نوع الجمال الذي كان يملأ تصوراته؟! ولكنه لم ينتبه قطُّ، لأن الرقصة كانت آية في الذوق والإبداع، ولها مدلولات نفسية تُثير كوامن الشعور، لم يكن هو الوحيد الذي ترك كل شيء آخر وأقبل لمشاهدة الراقصة الأنيقة، بل إنَّ الباحة التي كانت ترقص فيها كانت كلها أعناقًا متطاولة نحوها.
أخيرًا أتمَّت الراقصة رقصها الفردي فأقبلتْ عليها رفيقاتها يهنئنها وسط عاصفة من التصفيق تورَّدتْ لها وَجْنتاها، أمَّا إبرهيم فبقي في مكانه لا يصفق ولا يهتف، ولكنَّ عينيه كانتا تراقبان ما يجري في الأسفل باضطراب وقلق، فإن فريقًا من الجمهور المزدحم في الباحة مؤلفًا من أولئك البلهاء الذين يظنون الفطنة كل الفطنة في انتهاز مثل هذه الفرصة للتلذُّذ بأتْفَه الملذات وأحقرها، كملامسة أجساد الفتيات والنظر إلى وجوههن عن كثب بوقاحة، وصلابة جبين تظهر فيهما الغريزة الحيوانية بوضوحٍ تامٍّ — أَطْبَقَ على الراقصات وضَرَبَ حولهن نطاقًا ضيِّقًا أصبح اختراقُه من الصعب عليهن، إذا لم يكن من المستحيل، فتضايقن جدًّا وعبثًا نظرنَ إلى مَن حولهن نظرات ملؤها التضرع، وكان بين الجمع شابٌّ أخذ يشقُّ طريقه نحو الفتيات، وعليه دلائل الجذل الممزوج بالخبث، فاغتاظ إبرهيم جدًّا من هذه الحال، خصوصًا من الشاب الذي كان يتقدم نحو الفتيات، وليس في هيئته ما يدل على أنه يقصد الإفراج عنهن، ولم يتمالك أنْ انحدر إلى الساحة وطلب من جمهور الرجال الواقفين هناك أنْ يُفسِحوا له مجالًا للتقدُّم، ولما رأى أنهم قابلوا طلبه بعدم الاكتراث، ابتدأ يجذب بعضهم ويدفع آخرين بقوته الملكارثية حتى شقَّ لنفسه بين الجمع طريقًا عريضة كافية لمرور شخص واحد دون انزعاج، فلما بلغ المكان الذي انحصرت فيه الفتيات، كان الشاب الذي انسلَّ بينَ الجمع قُدَّامه قد سبقه وجعل يُحادِث الراقصة الحسناء بتودُّد، أمَّا هي فامتعضتْ من وُجوده وازدادتِ اضطرابًا لما رأت مضايقة القوم لها ولرفيقاتها، فلما رأت إبرهيم مقبلًا والرجال تتطاير من يديه ذات اليمين وذات اليسار، دُهِشت دهشًا عظيمًا ثم إنها لم تلبث أنْ أدركتْ أنه آتٍ للإفراج عنها وعن رفيقاتها فأكبرتْ نخوتَه وشجاعته، فتقدَّم إبرهيم إلى هذه الفتاة ووقف لحظة يُبادِلها النظر وهو لا يدري ماذا يفعل، وكأن الفتاة أيضًا لم تكن تدري ماذا تفعل، ثم خاطبها قائلًا: «أيتها الآنسة، إنَّ الطريق مفتوحة لك ولرفيقاتك.» فأجابتْه بصوت خريد وقد تضرَّج خدَّاها: «إني أشكرك من كل قلبي فإنك قد أنقذتنا وحدك.» وعلى الأثر غضَّتْ نظرها وانطلقت في الممر الذي افتتحه إبرهيم وسارت رفيقاتها في أثرها.
أمَّا إبرهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتًا حائرًا، وكان قد همَّ أولًا بالإجابة على شكر الفتاة، ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب المجاملات فلم يُسعِده النطقُ ولم يعد يعرف كيف يتصرف؛ لأن هذا اللقاء ربَّك رأيه تربيكًا.
بَيْدَ أنَّ حيرة إبرهيم لم تستمر طويلًا؛ لأن الشاب الآخر الذي ظلَّ لحظة واقفًا يُحَرِّق الأُرَّمَ على إبرهيم لقَطْعِه عليه ما كان آخذًا فيه، تحرَّك بغتة من موقفه وهمَّ باللحاق بالفتاة التي لما تكن قد توارت عن النظر، فنبَّه تحرُّكُه إبرهيم فمد إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح به بغضب: «إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الخروج منها.» وكانت صيحته قوية إلى حدِّ أنَّ الفتاة سمعتْها فالتفتتْ إلى ورائها ورأتْه قابضًا على عضد الشاب، فكرَّتْ عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرعٍ قائلة: «سامح هذا الشاب وأخلِ سبيله؛ لأنه لا يدري ما يفعل.» فتركه إبرهيم وقد دُهِش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذتْ بساعد الشاب، وحاولت أن تجره وهي تقول: «تعالَ عجِّل!» ولكن هذا بدلًا من أن يتبعها نظر إلى إبرهيم شزرًا وقال له: «سنلتقي مرة أخرى في هذا المساء وحينئذٍ أُرِيك كيف تكون نتيجة تعرضك لما لا يعنيك.» وأفلتَ على الأثر من الفتاة وسار منفردًا، وكان كلما بعُد عن المكان ازداد رأسه التهابًا وقلبه حقدًا.
حينئذٍ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتتْ كمَن يُريد الهرب من شيء يخشاه، وبقي إبرهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهولٍ حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبهه فرفع رأسه ونظر إلى الجمع بعينين ضاقت الدنيا بهما، ثم سدَّد خطاه نحو الممر المؤدي إلى خارج، وسار والناس تتراجع من طريقه كما مِن أمام جبار أو أمير.
لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلًا، ولم يكن إبرهيم يدري لمَ أراد الخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه، ولكنه لما صار في الخارج استرسل إلى إحساسه وهامَ على وجهه بين الهضاب التي بجانب الدير، ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مرَّ به كان يبدو له مُعمَّيات: مَن تكون تلك القروية الحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لماذا يُقلقني ذلك، وما يعنيني أنا من أمر الاثنين؟ ولماذا يجب أنْ أفكر دائمًا بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أنْ يُضعف من شأن هذه المسائل ازداد قلقُه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره، حتى أيقن أنه لا يمكنه أنْ ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أنْ يُسَرِّي همَّه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يمر بها، وإذا به يرى نفسه تجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناسًا واقفين عند مدخله وآخرين في داخله، فاقترب من صبيٍّ كان آتيًا من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس المجتمعين هناك فأجابه الصبي: «هذه مغارة القديسة أم بزاز، والناس يأتون لزيارتها.»
ولم يكد إبرهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه، ولم يتردد لحظة واحدة في تحقيق هذه الرغبة، فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئًا غير عاديٍّ في الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الجبلية سوى المذبح الصغير في جانبه الأيمن، وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تحت مرشح الماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبرهيم قطرة الماء تسقط على جبينها، وكيف أنَّ النساء ابتهجن لذلك، فاكتفى بما شاهد واقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتحول إلى المخرج، ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة: «تبرك أولًا ثم اخرج؛ لأنه لا يحسن أنْ يزور إنسان هذا المكان ويعود بدون بركة القديسة.» ولكن إبرهيم انحاز عنها وقفز إلى الخارج وعاد في طريق الدير.
وفيما هو في الطريق عاد يفكر: «إنَّ ذلك الشاب قال لي: إننا سنلتقي في هذا المساء. فكيف يعلم أننا سنلتقي؟ قد يخطر لي أنْ أغادر صيدنايا الآن؛ ومِن ثَمَّ لا نعود نلتقي، ولكن لمَ أبرح هذه البلدة؟ أيوجد ما يضطرني إلى ذلك؟ ثم ماذا سيحدث في هذه العشية؟ أهو شيء جديد، غريب يعرض لي لأول مرة؟ أفٍّ لهذه الوساوس، وهل يمكن أن أكون قد أمسيتُ عرضة لها؟»
لما بلغ إبرهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله، فإنه كان ليلًا داجيًا.
وكانت ساحات الدير الداخلية قد أُنيرت بقناديل البترول، والجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والمرج، إلَّا القروية الحسناء فإنها لم تعد تظهر لهم، فسار إبرهيم في ذلك المحيط الخضم على غير هدى، ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخره فرأته إحدى الراهبات ودعتْه إلى العَشاء، ولكنه لم يكن يشعر بميل للأكل فشكر واعتذر، وتحول إلى ممرٍّ قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحًا قليلًا، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتًا رخيمًا أدرك حالًا أنه صوت الراقصة القروية، فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية: «لا تكن عنيدًا يا جرجس، فيكفيني أنْ أكون تدخلتُ من أجلك أصيل هذا النهار، لا تنس أنَّ أمك مريضة وأنه يجب عليك ألَّا تجعلني سببًا للشر، وأنت قد توعدتَ شابًّا كريم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من المأزق الحرج الذي كنا فيه، وهو شابٌّ قويٌّ يُخشَى منه ولا يُخشَى عليه فلا تتعرض له.»
فأجابها المخاطب: «إذا كان الشاب قويًّا فإن ضربة سيفي لا تُرَدُّ، وسترَيْنَ صدقَ قولي.»
فأسرع إبرهيم بالابتعاد، موبخًا نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع، وصعد إلى أحد السطوح، وقد خطر له أنْ يُغادر صيدنايا في الحال، ولكنه عاد ففكر: «لماذا يجب أنْ أغادر صيدنايا، وهل من عادتي أنْ أهرب؟ ولكن ما هذا القلق المستولي عليَّ ولم أعهد في نفسي شيئًا من ذلك من قبل؟» وبعد أنْ هدأ رَوْعه قال في سِرِّه: «مَن تكون هذه الفتاة؟ إنها تقول: إني أُخشى ولا يُخشى عليَّ.» عند هذا الخاطر ابتسم ولم يشأ أنْ يطيل التفكير، فأخذ يجول ويتنقل من سطح إلى ساحة، ومن ساحة إلى سطح؛ لعله يزيل ما به من حيرة.
وبينما هو في جولانه إذا بفتًى لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، جميل الطلعة، حسن الهندام، معتدل القامة، شديد الأسر قبض على ساعده في إحدى الساحات وصاح به: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا إبرهيم؟ إنها والله لصدفة تستحق التسجيل.» فالتفت إبرهيم ليرى مَن ذا الذي أمسكه، ومرت عليه بضع ثوان قبل أنْ تمكن من استرداد أفكاره الشاردة، ثم ظهرت عليه علائم البشر وقال: «آه، هذا أنت يا رشيد! مرحبًا مرحبًا، لقد جئتُ أنا لحضور العيد وأنت ما الذي جاء بك؟»
– «وأنا أيضًا جئت لحضور العيد، ولكني جئتُ على ميعاد، وأرجو أنْ يكون مُواعِدي قد حضر، وإني أشكر التقادير التي جمعتني بك الآن لتكون شاهدًا على ما سيجري.»
– «ماذا سيجري؟» وتسارعتِ الخواطر في دماغ إبرهيم.
– «سيجري ضراب بالسيف، مبارزة حكمية أنا أحد المتنازلين فيها، ويسرني كثيرًا وجودك هنا، فقد لا يكون هنا أحد غيرك صديقًا وخبيرًا بهذه اللعبة الخطرة.»
– «من خصمك؟»
– «أرجو أنْ ألتقي به قريبًا فهل لك أنْ تصحبني؟»
– «بطيبة خاطر، ولكن ما هذا الميعاد الغريب للمبارزة؟»
– «إنَّ لذلك حكاية لا مجال لقصها عليك الآن، وقد تأتي فرصة أخرى لذلك، هلم نصعد إلى السطح.»
فصعد الاثنان إلى أحد السطوح وجعلا يتسامران، وكان رشيد لا يغفل عن مراقبة الساحة التي تحت، وبغتةً توقف وأمسك رفيقه وهزه قائلًا: «انظر إلى ذلك الشاب الذي يخوض عباب الجمع هناك! هذا هو خصمي، إنه ولا شك يبحث عني فهلم بنا نُلاقِه.»
فنظر إبرهيم ورأى شابًّا ما عتم أنْ عرف أنه نفس الشاب الذي توعَّده في النهار، فبُهِتَ لهذه الصدفة المفاجئة، وتبع رفيقه وهو يتمتم لنفسه: «إنه من لاعبي الحكم١ ويبارز في الليل على ميعاد، وأمه مريضة ولكنه لا يعبأ بها، ويوجد فتاة تتدخل من أجله وتنصحه من أجل أمه، ومع ذلك يظل على عناده.»
عندما لاقى رشيد خصمه ابتدره قائلًا: «لقد كدتُ أتأخر عن المجيء لأسباب، وأرجو ألَّا يكون الميعاد قد فات.»
فأجابه ذاك وهو ينظر إلى إبرهيم متعجبًا من وجوده: «لمَّا يَفُتِ الوقت، بل لا يزال أمامنا نحو نصف ساعة يمكننا أثناءها أنْ ندرس المكان ونعين الحكم.»
فقال رشيد: «اسمح لي أنْ أقدم صديقي إبرهيم إليك فهو غير مشهور في عالم الحكم، ولكنه أبرع مَن انتَضَى سيفًا.» والتفت إلى إبرهيم وقال له: «أقدم إليك السيد جرجس أحد البارعين بضرب السيف.»
فانحنى إبرهيم وانحنى الشاب ولكنهما لم يتصافحا، وسار الثلاثة يبحثون عن مكان موافق للمبارزة إلى أنْ اهتدَوْا إلى باحة صغيرة منعزلة، واقعة في القسم الخلفي من الدير، معلق في وسطها قنديلٌ غازيٌّ نوره كافٍ لإنارة المكان، ثم إنَّ جرجس قدم رجلًا عارفًا بأبواب الحكم ورشحه للقضاء بينه وبين خصمه، فقبله رشيد وزاد جرجس أنْ يكون لإبرهيم الحق في مراقبة المبارزة بما أنه ممن يحسنون الحكم، بعد ذلك افترق الخصمان فذهب جرجس مع الرجل الذي رشحه هو ليكون حكمًا، وانصرف رشيد برفقة إبرهيم، فقال إبرهيم: «إنها المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها مثل هذه الألغاز.»
فأجابه رشيد: «سترى أنَّ للألغاز لذَّتها، بل أنت تعلم ذلك؛ لأن حياتك كلها ألغاز بألغاز، ألم تقُمْ مرات كثيرة بأعمال غريبة كان يعدها الناس ألغازًا، ولكنك أنت كنت تعدها شيئًا طبيعيًّا بديهيًّا؟ إني أقتبس من نورك وأقتفي خطاك، وأعلم أنَّ ألغازي ليست شيئًا مذكورًا بالنسبة إلى ألغازك، وأرى أنَّ ألغاز حياتك المقبلة ستكون أعظم من ألغاز حياتك الماضية.»
لم يجب إبرهيم على كلام صديقه، إمَّا لأنه وجده مصيبًا أو لسبب آخر لم يُرِد إظهاره، وصمت رشيد أيضًا؛ لأنه كان عليه أنْ يستعد للمبارزة، ودخل الاثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه المدنية، ولبس بدلًا منها ثوبًا بسيطًا تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلًا خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفًا وترسًا يبدو حالًا من مظهرهما أنهما خصوصيان، فجرَّد السيف وجعل يمتحن حدَّه وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه، وأعاده على الأثر إلى غمده، وتأبَّطه وحمل الترس والتفت إلى صديقه وقال: «ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني؟»
– «أراك نشيطًا وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حدٍّ من الخطر ستبلغ المبارزة.»
– «إلى الحد الأخير.»
– «وهل هذا التصميم نهائيٌّ لا رجوع عنه؟»
– «إنه نهائيٌّ إلى النهاية.» ونظر إلى ساعته وقال: «هيا بنا فقد حان الميعاد.» وخرج من الغرفة وتبعه إبرهيم صامتًا، ولما بلغا الساحة المعينة وجدا أنهما الأولان للقدوم، ولم يكن هنالك جمع غفير فجعلا يتمشيان ذهابًا وإيابًا، ويتكلمان عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلًا للوقت، إلى أن قدم الاثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط المتعلقة بالأصول المتبعة في الجِلَاد بالسيف، ثم اتخذ كلٌّ من الخصمين مركزه مقابل الآخر، واتخذ الحكم موقفه، ووقف إبرهيم في طرف الساحة عند متوسطها، وأعطى الحكم الإشارة فتناول المتنازلان سيفيهما وترسيهما، وشرعا يتجاولان من بعيد تمهيدًا للالتحام.
ما كاد سيفا المتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسين حتى أقبل الجمع وضربوا نطاقًا عند مدار الساحة، وشعر القوم على السطوح بما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب واشرأبَّتِ الأعناق، وأمسى المتضاربان قبلة الأنظار، وكان الناس يظنون أنهما يلعبان بالسيف من قبيل اللهو.
تجاول الخصمان حتى سبر كلٌّ منهما غَوْرَ الآخر، ثم تقاربا والْتَحَما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسين، ولكن لم ينَلْ أحدهما من الآخر منالًا فأشار الحكم بالتراجع فتراجعا، ثم عادا إلى التجالد بين كرٍّ وفرٍّ، وفي هذه الأثناء أصاب سيفُ جرجس صدرَ رشيد فجرحه، ولاحظ إبرهيم أنَّ جرجس يستعمل في التسايف ضروبًا لا يستعملها مَن عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيهًا في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش المسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى، ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيدًا في كتفه جرحًا بالغًا، مستعملًا نفس الضروب المعيبة لرجال السيف، فلم يُطِقْ إبرهيم صبرًا على ذلك، خصوصًا بعد أنْ رأى الحكم لا يتدخل، وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بين الخصمين في الوقت المناسب؛ لمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها وصاح بهذا: «ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم.»
فاستاء جرجس جدًّا من حئول إبرهيم بينه وبين خصمه وأجابه: «إذا كنت تدعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك!»
فأجابه إبرهيم وقد نسي أفكاره السابقة: «حذار يا هذا فإنك تعرض نفسك للإهانة.»
«إنَّ مَن يعرض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر.» قال جرجس هذا وهز حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعيًا مخاطبه إلى المبارزة، فثار ثائر إبرهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أنْ يصبر على وقاحة وقِحٍ إلى هذا الحد، فأخذ رشيدًا إلى جانب وهو في حالة خطر شديد وأخذ حسامه منه، وأقبل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شررًا من شدة الغضب، ثم إنه لاعب سيفه مرسلًا منه بريقًا كوميض البرق، وحمل على خصمه والتحم معه توًّا، فدافع هذا عن نفسه بالترس وحاول أنْ يرد الضربة ضربة، ولكن سرعة دوران سيف إبرهيم عرقلت حركة سيفه وأبطلت أبواب خداعه، وافترق الخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحًا غير بالغ، وفيما إبرهيم يجول ليعيد الكرة على منازله، إذ حانت منه التفاتة إلى جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبه، وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها، والتحم المتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة، وحانت لإبرهيم فرصة يدرك كل مَن يعرفه أنها قاضية له، ولكنه بدلًا من أنْ يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده، وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه، فجرحته جرحًا بالغًا وقبل أنْ يتمكن الاثنان من العودة إلى الالتحام، ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال، وأقبلت إحدى راهبات الدير لترى ما الخبر فلما رأت إبرهيم ورشيدًا والدم يسيل منهما، قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتين أخريين ساعدتاها على ضمد جراحهما، ورأت ما حل بإبرهيم بعض النساء اللواتي التقين به في مغارة «أم بزاز»، وحالًا سرى بين القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا المتكبر الذي لم يشأ أنْ يطلب بركتها.
واتصل الخبر حالًا برجال الدرك المرسلين خصيصًا؛ لحفظ الأمن أثناء العيد فأسرع اثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنيين لا يحسنان التكلم بالعربية، فأقبلا على الجريحين المضطجعين في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير، واقترب أحدهما من إبرهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديد، وسأله: «مين بيضرب إنتِ؟» وتقدم الآخر إلى رشيد وسأله: «مين بيضربك إنتِ؟» فنسي إبرهيم جرحه واستغرق في الضحك، ولم يتمالك رشيد عن متابعته، ولكن لما أعاد الدركيان سؤاليهما نفد صبر إبرهيم فصاح بهما بصوتٍ دوَّت له الغرفة: «اخرجا حالًا من هنا! وإلَّا …» وحاول النهوض، ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالخروج وعادا إلى المركز، حيث قدما إلى الرئيس السوري تقريرًا لم يفهم منه شيئًا ولكنه أظهر اكتفاءه به.
بُعَيْد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما، وقبل أنْ تترك الغرفة ابتهلت إلى الله أنْ يرد عنهما الخطر.
أخيرًا خلت غرفة الجريحين من الناس فالتفت كلٌّ منهما إلى الآخر وهو يبتسم، وقال رشيد: «منذ هنيهة قلت لي يا إبرهيم أن ما قد قمت به لغز، وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز، ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت، فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك في حين أنَّ الضربة كانت لك لا له، وهذا أغرب ما رأيته منك.»
فأجابه إبرهيم: «أوَلم تقل لي إن للألغاز لذتها، فهل ابتدأتَ تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن؟»
قبل أنْ يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة، واقتربت ببطءٍ من سريري الجريحين ووقفت عند مضجع إبرهيم، وكان إبرهيم ينظر إليها ساكنًا متعجبًا؛ لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: «قد رأيتُ وفهمتُ … كيف جرحك؟»
– «إنه بالغ ولكنه ليس خطرًا.» أجاب إبرهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها، كأنه يرى فيهما لغزًا يريد أنْ يستجليه.
– «أشكرك وأتمنى لك شفاءً سريعًا.» قالت ذلك وتحولت إلى رشيد وسألته: «وأنت أيها السيد كيف جراحك؟»
– «لا أظن أنها ذات بال شكرًا لك.»
– «شفاك الله عاجلًا.» ثم نظرت إلى إبرهيم طويلًا وعادت أدراجها مسرعة، فشيعها الاثنان بأنظارهما إلى أنْ توارت وراء الباب ولم يعودا ينْبِسا ببِنْتِ شفة.
بعد قليل كان رشيد قد نام، أمَّا إبرهيم فأصيب بأرق شديد وهواجس مَنَعَتْه من النوم، فاستلقى وأطلق فكره في مجال التصورات، وكان بين حين وآخر يستعيد ما مرَّ به في العشية ويسائل نفسه: «أما كان يجب عليَّ أن أضربه لينال جزاءه؟ ولو فعلت ذلك فبأي عينين كانت تنظر إليَّ الفتاة؟» وطال به الأمر حتى نبا جنبه عن الفراش فنهض وخرج من الغرفة، ومشى الهويناء في الرواق المؤدي إلى غرفة الطعام وهو لا يدري إلى أين يذهب حتى إذا بلغها، أراد أنْ يعود ليصعد إلى السطح، وكان إلى جانب باب قاعة الطعام مربع منكشف اتخذه بعض القرويين محلًّا لهم، وكان مُنارًا بقنديل ضئيل النور، فاقترب إبرهيم من ذلك المربع وجعل يتأمل النيام وأكثرهم من النساء والفتيات، ولا فرش تحتهم سوى بسط وأغطيتهم شراشف خفيفة، ونظر تحت ضوء القنديل رأس فتاة تدلى منه شعر مسود ستر بعض وجهها الأسيل وعنقها الجيداء، وللحال عرف الراقصة القروية وكانت نائمة بين أترابها، فخفق فؤاده لهذه المفاجأة وتقدم من حافة المربع المرتفعة، وقعد عليه يتأمل وجه الفتاة وعينيها الساحرتين فتململت الفتاة تحت نظره ولكنها لم تستيقظ؛ لأن النوم كان مثقلها.
وبقي إبرهيم في مكانه ساهرًا يكلأ الفتاة ويسامر نجواه، حتى انقطعت ضوضاء القوم في الخارج وهدأت الرِّجْل، وفيما هو كذلك لاحظ أشباحًا تقترب نحوه ثم تعود أدراجها، وبدا له أنَّ لهذه الأشباح قصدًا، وأنه يرى بينها قامة جرجس وطريقة خطوه، فما برح مكانه حتى طلع الفجر وقامت الراهبات إلى صلواتهن.
في ذلك الصباح برحت الراقصة وزمرة من رفيقاتها الدير عائدة إلى قريتها، وغادر إبرهيم ورشيد صيدنايا إلى دمشق، حيث أسعفا بالعلاج ورجعا بعد ذلك إلى بلدتهما في لبنان، وبعد مدة قصيرة شفيت جراحهما شفاءً تامًّا.
•••
منذ ذلك الحادث طرأ على حياة إبرهيم تغيُّر كبير لم يخفَ على أحد من الذين كانت لهم به صلة، فتبدلت أطواره من النشاط والانشراح إلى الفتور والتأمل، وانقطع عن التحدث إلى رفقائه، كما كان يفعل من قبل، وصار يفضل الصمت وأخذت علائم الكآبة تظهر على محياه، فلاحظ أصحابُه ذلك منه وعبثًا حاولوا أنْ يُعيدوه إلى سابق عهده، وانتقل رشيد إلى بيروت لمتابعة دروسه فلم يعد إبرهيم يراه، وظلَّ وحده في البلدة يستعيد حوادث صيدنايا ويحاول أنْ يستجلي غوامضها، ثم ابتدأ يشعر بسأم مما هو فيه، فجرَّب أنْ يصرف صيدنايا عن فكره ولكن عبثًا ففي الشتاء في لبنان، لا يستطيع ذو العاطفة أنْ يبعد فكره عن التصورات؛ لأن تساقط الثلج في الخارج وتوهج نار الموقد في الداخل والسكون الذي يشمل الطبيعة، كل هذه العوامل تطلق للفكر مجال التصور، وتفتح إلى النفس طريقًا للمؤثرات، فرأى أنْ يسلو بالمطالعة وكاد ينجح لولا صور كانت تنتصب أمامه فتقاطع مطالعاته أو أفكاره الأخرى، وتجلب معها كل الذكريات التي اكتنفتها، ألا وهي صور الفتاة الراقصة في صيدنايا حين كانت ترقص، وحين زارته بعد جرحه وزودتْه نظرة لم يفقه معناها في الحال، ولكنه أخذ يشعر بتأثيرها أكثر فأكثر مع مرور الزمان، وابتدأت معانيها تنجلي له مع تعاقب الأيام، حتى صار يشعر لأول مرة في حياته بذلك الشعور السري العجيب، الذي يدفع الوعل إلى الهيام على وجهه في أيام الربيع، حاكًّا بقرونه الجديدة سوق الأشجار وأغصانها حتى إذا التقى بوعل آخر حاله كحاله، التحم وإياه بمعركة فاصلة تشتبك فيها قرونهما اشتباكًا يقضي على كليهما بالهلاك، بل إنه أبصر في الحُلم وعلًا عظيمًا وقف على قُنَّة جبل عالٍ، وقد اعلَوْلَتْ قرونُه إلى الجو، ثم رآه ينقضُّ على وعل آخر عظيم مثله، فسرَّه ذلك وأقلقه معًا.
ظلت الحال بإبرهيم على هذا المنوال إلى أنْ حسر الثلج عن وجه الأرض، وأورَق الشجر ونوَّر الزهر، واكتست الأرض حلة سندسية فلَهَا إبرهيم قليلًا بمناظر الطبيعة، فكان يخرج للتفرج كل صباح وكل مساء، ولكنه لم يعُد إلى مَرَحِه السابق، وزال هذا الفصل وجاء الصيف وعاد رشيد من المدرسة إلَّا أنَّ الصديقين لم يجتمعا إلَّا نادرًا، إلى أن لم يبقَ لعيد سيدة صيدنايا سوى أيام معدودة، ففي صباح يوم جميل أقبل رشيد على إبرهيم عند الفجر ودعاه إلى النزهة؛ لأن له ما يريد أنْ يُحدِّثه به، فلبَّى إبرهيم الدعوة وسار الاثنان إلى إحدى الغابات البعيدة ليكون انفرادهما تامًّا وهناك اضطجعا تحت أشجار الصنوبر، فقال رشيد: «هل تذكر ذلك الشاب الذي بارزناه في صيدنايا في العام الماضي؟»
– «أذكر.»
– «كنت وعدتك بأن أُحدِّثك في الأمر الذي دعاني إلى مبارزة ذلك الشاب، وقد رأيت أنْ أَفِيَ بوعدي الآن: أنت لا بُدَّ تذكر الفتاة التي دخلت إلى غرفتنا ونحن جريحان وتفقدت حالنا.» فخفق قلب إبرهيم خفقانًا شديدًا ولكنه ظلَّ صامتًا ينتظر تتمة حديث صديقه الذي تابع: «اعلم أنَّ هذه الفتاة رصيفة التلمذة، وكانت تأتي كل سنة إلى مدرسة البنات القومية في بيروت، وذلك الشاب الذي بارزته من بلدتها ومن عائلة لها نفوذ كبير فيها، وأظنك لم تنسَ أنه يُدعَى جرجس، ففي ذات يوم جاء جرجس إلى بيروت وذهب إلى مدرسة البنات حيث قابل الفتاة بحجة أنه يحمل إليها كتابًا من أبيها، وفي اليوم التالي قام بزيارةٍ أخرى للفتاة، وكنتُ أنا هناك في زيارة لنسيبة لي هي صديقة حميمة للفتاة، فجرى له معها حديث حادٌّ انتهى بأن الشاب حاول اختطافها فأسرعتُ وحُلتُ بينه وبين تنفيذ ما عقد العزيمة عليه، فحقد عليَّ جرجس منذ ذلك اليوم، وصار كلما رآني تهدَّدني وتوعدني، إلى أنْ كان ذات يوم اتفقنا فيه على المبارزة، فاقترحتُ أنْ يكون ذلك في دير صيدنايا فقَبِل وهكذا كان كما تعلم.
أمَّا الفتاة فلم تكن تعلم شيئًا من أمري، ولكني وقفت من نسيبتي على الكثير من أمرها، فعلمتُ أنَّ الفتاة تُدعَى نَجْلا، وأنها مضطرة إلى مجاملة جرجس؛ لأن أمه كانت قد اعتنتْ بها في صغرها بعد وفاة أمها، وهي كانت ترجو منها أنْ تفعل ذلك من أجلها، والظاهر أنَّ أم جرجس كانت تأمل أنْ تُولِّد هذه المجاملة حبًّا ينتهي بزواج الاثنين؛ لأنها أحبت صفات نجلا وأخلاقها، وكانت الفتاة تحب الأم وتفعل ما يرضيها، ولكن البَوْن الشاسع بين نفسها ونفس جرجس يجعل مبادلتها إياه الحب أمرًا مستحيلًا، وعلمتُ أيضًا أنَّ أم نجلا كانت قد نذرتْ عن ابنتها زيارتين لدير صيدنايا، وأنَّ الابنة تريد أنْ توفي نذر أمها وهو ما جعلني أقترح على جرجس أنْ تكون المبارزة هناك؛ لأني كنتُ موقنًا أنه سيتبعها إلى هناك، ولقد ماتت أم جرجس منذ بضعة أشهر وزال ما كان يدعو نجلا إلى مجاملة ابنها، فكتبتْ إلى صديقتِها نسيبتي تقول: إنَّ جرجس يُلاحِقها الآن ملاحقة شديدة تتألَّم منها، وذكرتْ لها في آخر الكتاب أنها ذاهبة إلى صيدنايا في عيد العذراء؛ لكي تقوم بالزيارة الثانية من أجل أمها، ويقيني أنَّ جرجس سيتبعها إلى هناك هذه المرة كما في المرة السابقة ويحاول اختطافها هناك؛ لأنه قد لا يجد فرصة أوفق من هذه للقيام بذلك.»
عند هذا الحد انتهى حديث رشيد، أمَّا إبرهيم فإنه كان يُصغي إلى الحديث المتقدم بصمت وإمعان، ثم إنه استرسل في تأملات عميقة، واستغرق فيها استغراقًا لم يعُد يَعِي معه على شيء، فقام رشيد وانصرف على مهل دون أنْ يتنبَّه إبرهيم إلى انصرافه، أخيرًا انتبه ووجد نفسه وحيدًا فتعجَّب من حاله، ونهض وعاد إلى البيت وقد نسي كل القصة التي حدَّثه بها رشيد، ولكن أمرًا واحدًا رسخ في ذهنه ورسا رُسُوَّ الجبال، فلم يعد شيء في العالم يتمكَّن من زحزحته: نجلا – صيدنايا.
في تلك الليلة حلم إبرهيم كثيرًا، ومرة أخرى أبصر في حُلمه وعلًا عظيمًا على قمة جبل عالٍ، رافعًا رأسه مطاولًا بقرونه السحاب، وحدَّق إبرهيم في قرونه فوجدها محدَّدة كرءوس الحراب، ثم نظر إلى عينيه فوجدهما ترسلان أشعة تشبه الأشعة التي ترسلها الشمس من خلال الغيوم، فهي مستقيمة وحادة، وكان منظره وهو يتنشق الهواء بلهفة؛ لعله يجد فيه رائحة مخصوصة يرتاح إليها، منظرًا رائعًا يأخذ بمجامع القلب، أخيرًا رآه يتنشق الهواء بسرعة بمنخريه اللذين كانا يهتزان للشم، ويحول رأسه نحو جهة معلومة وينطلق كالسهم! فتململ إبرهيم في فراشه واستيقظ وإذا الفجر قد لاح، ولكنه لم ينهض حالًا، بل ظلَّ مستلقيًا يتأمل في حلمه والوعل العظيم الذي رآه.
ظلَّ إبرهيم منفردًا خاليًا بنفسه، متحاشيًا الاجتماع بأيٍّ كان من أصدقائه ومعارفه كل الأيام القليلة الباقية لمجيء عيد سيدة صيدنايا، وكان صامتًا هادئًا، وفي هدوئه دلائل انصباب الفكر على مسألة معينة هامة، كان ذلك الهدوء أشبه شيء بستار المرسح المُسدَل الذي يدل على الاستعدادات المتخذة وراءه، فبعث تصرفه هذا على استغراب معارفه أمره استغرابًا شديدًا، فمن جميع تصرفاته الغريبة لم يستغربوا أكثر من تصرفه الجديد الذين وقفوا حياله حيارى لا يدرون ما يبدون ولا ما يعيدون، وهم الذين كانوا يعدون أنفسهم صحبَه وتلاميذه، ويدافعون عن كل تصرفاته السابقة ويردون التهم التي كان جماعة يحاولون إلصاقها به لمجرد أنهم لم يكونوا يستطيعون فهم أطواره وشذوذه عن أساليب تفكيرهم وطرائق فهمهم، وابتدأ ضعاف الثقة منهم يشكون في مصير هذا البطل، الذي كان آية في القوة والبطش، ومثالًا للشجاعة والإقدام، وقدوة صالحة في الاعتماد على النفس، وأخذ بعضهم يتكهَّن بأفول نجمه وتداعي بنائه الفخم، فوقع ذلك عند الفريق الذي ظلَّ يوده ويحترمه ويؤمن به وقعًا أثار أسفهم الشديد، وكاد يؤدي إلى الشقاق بينهم وبين أولئك المتكهنين.
وقع عيد سيدة صيدنايا هذه المرة في يوم أحد، فلما كان الصباح استيقظ إبرهيم باكرًا ونهض إلى تمريناته وحمامه البارد، وكان نشيطًا في قوته، رائق النفس، مرتاح البال، ثم بادر إلى لوازم سفره فجمعها في حقيبة يدوية صغيرة وودع أهل بيته بعبارات مقتضبة، وتوجه إلى صديق له عنده سيارة وقال له: «هلمَّ نسافر معًا يا أنيس.»
– «ماذا؟ هذا أنت يا إبرهيم؟ وإلى أين نسافر؟»
– «إلى صيدنايا، فإن لي نذرًا يجب عليَّ أنْ أوفيه هناك في هذا العيد.»
فاكتفى أنيس بهذا الجواب؛ لأنه كان يعرف مزاج إبرهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه، فبادر إلى إعداد سيارته وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما، ولم يعلم أمرَهما أحدٌ في البلدة، وفي طريقهما عرَّجا على دمشق حيث تغدَّيا معًا وشاهدا بعض أسواقها القديمة، ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر، وكان الدير قد امتلأ بالخلق وسيارات القادمين لا تزال تتوافد بكثرة، ولاحظ إبرهيم أنَّ الإقبال على العيد هذه السنة يُربي على الإقبال في السنة الماضية، فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى المساء.
عندما دخل إبرهيم الدير وجده غاصًّا بالخلق كما في المرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيمين، ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرة، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق؛ حلقات للرجال وحلقات للنساء، والجماعات المحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الحماسة في الراقصين، فلما شاهد إبرهيم هذه الحلقات خفق قلبه خفقانًا شديدًا، وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أنْ تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يُجيل نظرَه في الناس بسرعة، ولكنه لم يجد مَن يستقر عليه، وبينما هو كذلك رأتْه بعض النساء وجعلنَ يتهامسنَ قائلات: «انظرن، هذا هو الرجل الذي جازتْه القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جُرح من خصمه في البراز بالحكم.» وبأسرع من البرق تنوقلتْ هذه العبارة وتجاوزت النساء إلى الرجال، أمَّا إبرهيم فإنه لم يسمع شيئًا قط، وهو لو سمع شيئًا لما كان أعاره اهتمامه؛ فقد كان له من شواغل نفسه ما يغنيه عن شواغل الناس.
بعد أن أجال إبرهيم نظره في تلك الجموع طويلًا دون أنْ يَحظَى بما يستوقفه، ترك مكانه وشرع يتنقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره وأنيس يرافقه صامتًا متعجبًا، حتى أشرفتِ الشمس على المغيب، وكان أنيس قد لاحظ قلقَ إبرهيم الداخلي وشرودَ فِكْرِه، فقرَّر أن يبقى في الساحة الكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبرهيم تجواله دون أنْ ينتبه إلى تخلُّف صديقه عنه، ثم إنه عاد فمر في الساحة الكبرى، حيث كان أنيس دون أنْ يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى ممرٍّ يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من المدخل، فمشى فيه إلى آخره وإذا هناك مدخل صغير فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، في مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى، فولج هذا الباب ووقف قريبًا منه؛ لأن الغرفة كانت مظلمة لمَن يأتي من الخارج، فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلَّا من كوَّة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب، بل على حائط من حيطان الدير.
بعد قليل ابتدأ إبرهيم يتبيَّن ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها، فرأى أنَّ جدرانها مبطنة بصور القديسين فتزحزح من موقفه، وأخذ يطوف بالمكان ويُدقِّق النظر في الأُطُر المعلَّقة حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة، مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلًا من بقية الشموع، فلم يشك في أنَّ الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أنْ يُخرِجْنَها من ذلك المكان المظلم، ويعرضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتين ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب، وما إنْ فعل حتى استلفتَ نظرَه شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بين الشمعتين، وهي كأنها تتأملها أو تناجيها، فبُهت إبرهيم لهذه المفاجأة وتعجَّب من أنه لم يتنبَّه إلى وجود إنسان آخر في هذا المكان من قبلُ وهمَّ بالتراجع، ولكن المرأة كانت قد شعرت بوجوده قُربَها وحوَّلت وجهها إليه لترى مَن هو، وكم كانت دهشتُه عظيمةً حين تبيَّن على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نجلا؛ الراقصة القروية التي ظلت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تامٍّ، حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقلَّ من دهشته حين رأت قامته وعرفت وجهه، فوقف الاثنان ينظر كلٌّ منهما إلى الآخر نظرَ مَن هو على يقين مِن أنَّ ما يراه حقيقة لا حلم.
لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبَيْ هذين الاثنين في هذه الدقيقة؛ لأنه يعلم أنَّ لبعض العواطف البشرية لغة لا يمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة، بل يُفضِّل متابعة سرد القصة.
– «أنت هنا؟» قالت الفتاة بصوت خافت يُقارب الهمس، فطرق هذا السؤال مسامع إبرهيم بشكل مخصوص فهم منه: «أعن قصد مجيئك؟»
فأجابها بصوت لا يعلو كثيرًا عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة «نعم، أنا هنا!»
عند هذا الجواب لمعتْ عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: «لقد كنتُ أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: هل يجيء؟»
– «هل شككتِ في مجيئي؟»
– «أرجوك ألَّا تَحْمِلَني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بين عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم.»
فأخذ إبرهيم يدها بين يديه وقال: «لقد جئتُ وفي نيتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيتك أنت؟»
– «أنت الشخص الوحيد الذي تمنيتُ من كل قلبي أنْ يبقى إلى جانبي دائمًا؛ فقد أرعبني الكثيرون وملئوا نفسي اشمئزازًا وخوفًا!»
فضمها إبرهيم إلى صدره بلهفة، وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها: «إننا لن نفترق، ولن يخيفوك بعد الآن!» وخرج وإياها من الحجرة وهو يُطوِّقها بيمينه القوية.
كان الليل قد غشي تلك النواحي، ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة، فاجتاز إبرهيم ونجلا الممر المؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الحالة التي كانا عليها حين خرجا من غرفة العذراء، ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفين أو مارين فيه، أمَّا هؤلاء فإنهم حالما رأوهما شُغِلوا بهما عما كانوا فيه، وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبِّي الأعناق نحوهما، مستغربين مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل، فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل المبارز في السنة الماضية نفسه، وهو يحمل بيده اليمنى سيفًا مصلتًا وباليسرى ترسًا، وذراعاه متقاطعتان على صدره ومن حوله لفيف من الرجال هم مزيج من أهل القرى وأهل المدن، وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال المحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلتقطهما، فلما رأى إبرهيم هذا المشهد ضمَّ الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تحديق النسر، حينئذٍ أدرك أولئك الرجال والجمع الذي وراءهم أنَّ شيئًا غير اعتياديٍّ سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبتْ سِحَنُ الرجال الذين يحفُّون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تماثيل الشبه.
ولم يشأ إبرهيم أنْ يبقى واقفًا في مكانه، فمشى برفيقته بضع خطوات محاولًا أنْ يتابع سيره فاعترضه جرجس وهو لا يزال على الشكل المتقدم وصفه وقال له: «إنَّ ذاك السيف الذي تراه على الأرض ينتظرك لإنهاء البراز الذي بدأناه السنة الماضية في مثل هذا اليوم.»
ما كاد جرجس ينتهي من عبارته هذه حتى أحس إبرهيم أنَّ نجلا قد ارتعشت مع أنَّ ذراعه اليمنى مطوقتها، فالتفتَ إلى مَن حوله وإذا أنيس واقف إلى جانبه وفي يده عصاه الكبيرة التي لا تفارقه فقال له: «أعطني عصاك وخذ هذه الفتاة إلى السيارة، وأنا أكون هناك بعد دقيقة.» وتناول العصا وتقدم أنيس من الفتاة ليقودها، ولكنها أبَتْ الذهابَ، وقالت لإبرهيم: «إمَّا أنْ نبقى معًا وإمَّا أنْ نذهب معًا.» فنظر إليها إبرهيم بحنان وقال لأنيس: «إذن ابقَ إلى جانبها إلى أن أعود.» ثم تحوَّل إلى جرجس وقال له: «لا حاجة إلى ذاك السيف؛ فإن هذه العصا تكفي لتأديبك فخذ مكانك سريعًا!»
فأراد جرجس أنْ يمتنع ولكن إبرهيم أمسكه من عضده وضغط عليه بأصابعه الفولاذية وهزَّه بشدة، وقال له: «إذا لم تقبل اضطررت إلى ضربك كما يُضرب الأولاد الصغار الطائشون.» فأدرك جرجس مِن قوة خصمه ولهجته الثابتة أن لا مناص له من الإذعان، فالتفتَ إلى رفقائه وقال لهم: «اشهدوا أني بريء مما سيحدث.» ثم تراجع إلى متوسط الساحة وتقدم إبرهيم أيضًا بضع خطوات وقبض على عصاه من طرفها الدقيق، وأدار رأسها الضخم في الهواء.
أخذ جرجس أولًا في اللعب بسيفه وضربه على ترسه، وما كاد ينتهي من ذلك ويتحول إلى المجاولة حتى أقبل إبرهيم نحوه بخفة الأسد وثباته، وجاوله مرة واحدة فقط أطبق بعدها عليه مديرًا عصاه بسرعة ومهارة عظيمتين، ثم فرَّ منه وعاد فكرَّ عليه كرَّة لم يكن ذاك يتوقعها وباغته مباغتة خبلته، حتى لم يعُد يُحسن الدفاع وحانتِ الفرصة فأهوى عليه بضربة شديدة أصابته في قمة رأسه وألقتْه على الأرض صريعًا، وبينما الناس في دهشة عظيمة مما حدث ذهب إبرهيم إلى رفيقَيْه، وأحاط نجلا بذراعه اليمنى كما في الأول، واجتاز بها الممر المؤدي إلى الخارج وتبعهما أنيس يحمل عصاه التي استعادها.
في هذه الأثناء كان رجال جرجس قد تغلَّبوا على دهشتهم فخرج أربعة منهم في أثر إبرهيم، فتصدَّى أنيس بعصاه لاثنين منهم وكرَّ إبرهيم على الاثنين الآخرين فأمسكهما من عنقهما، ودق رأسيهما الواحد بالآخر دقًّا أفقدهما الصواب وألقاهما برفق على الأرض، فلما رأى الاثنان الباقيان ما حلَّ برفيقيهما فرَّا هاربين ودخلا الدير وهما يقولان: «إنَّ الشيطان يحميه!» فأجابتْهما إحدى النساء المشاهدات: «بل العذراء تحميه!» وسمع جوابها بعض القرويين فعدُّوا هذا الحادث من عجائب سيدة صيدنايا الكلية القداسة وهم لا يزالون يروُونه من هذا القبيل.
أمَّا إبرهيم ونجلا وأنيس فتابعوا سيرهم إلى السيارة وركبوها وساق أنيس في طريق قرية ن. حيث تقطن نجلا، فبلغوها بعد سير ساعتين تقريبًا، وترجَّلوا أمام بيت قرويٍّ معتدل وطرقت نجلا الباب، وبعد هنيهة فُتح الباب ودخلوا البيت، ولم يكن فيه أحد سوى والد نجلا الشيخ.
في صباح اليوم التالي جرى عرس بسيط جدًّا جمع الفرح والرضى، ولم يجمع شيئًا من الضوضاء، وأصبح إبرهيم ونجلا زوجين.
•••
لا يستطيع مَن لم يشهد الحادث بنفسه أنْ يتصوَّر مبلغ دهشة أهل بيت إبرهيم عندما عاد مصطحبًا نجلا وقدمها إليهم بصفة كونها امرأته، ولا شدة وَقْع ذلك عند معارفه والذين كانوا يعرفون عنه، خلا رشيدًا؛ فإنه كان قد قدَّر الحادث وأخذ ينتظره منذ علم أنَّ إبرهيم برح البلدة يوم العيد، وأقبل كثيرون يريدون تهنئته، ولكنه كان حالَمَا يشعر بقدوم أحد لزيارته يأخذ نجلا ويخرج وإياها من الباب الخلفي ويذهب الاثنان يتنزهان في الغابات، فأدرك أهل البلدة الحيلة وأخذوا يرصدونهما وهم يكادون يذوبون شوقًا إلى رؤية الفتاة التي أصبحت امرأته، ولم يكن بينهم مَن لم يتوقَّع أنْ يراها امرأة بدينة رجراجة، فلمَّا أُتيح لهم أنْ يلحظوها ووجدوها فتاة ضامرة الحشى، لطيفة الجوانح، بهتوا وانصرفوا وهم يشكُّون فيما رأوا.
أخيرًا أجمع الناس الذين يجعلون أنفسهم دائمًا المُثُل الطبيعية للأطوار البشرية على أنَّ الحادث أمر غير طبيعي، ولم يعدم الشبان الذين كانوا يحسدون إبرهيم والشابات اللواتي كان يغيظهن بتصرفه السابق شيئًا جديدًا يضيفونه إلى اختلاقاتهم الماضية.
أمَّا إبرهيم ونجلا فلا يزالان يعيشان سعيدين جدًّا، وكلما عاد إبرهيم إلى نفسه تذكر صديقه رشيدًا، وتلك الحكاية التي قصَّها عليه في الغابة، والوعل العظيم الذي أبصره في الحلم، أمَّا صور الجمال التي كانت أفكاره السابقة تحوم حولها فقد نسيها بتاتًا.
١ الحكم: لعبة السيف السورية القومية.