بهذا الاستطلاع تقدم "العربي" إطلالة جديدة على المدن العربية. فهي تزورها من خلال عيون كتابها وأدبائها. فالكاتب يحكي هنا عن علاقته الحميمة بالمكان الذي عاش فيه والناس الذين عرفهم وتفاعل معهم واستمد منهم مفردات لغته. إنها محاولة لاستجلاء روح المدينة وعبقها الخفي.
والعربي تقدم دعوة لكل كتاب العربية لأن يكتبوا لنا عن مدنهم. تاريخها وتطورها وذكرياتهم فيها والأماكن التي عشقوها. وكيف امتدت رموز المكان إلى أغوار الرؤية الأدبية.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها = ولكن أخلاق الرجال تضيق
ما أكثر ما جعلت هذا البيت جوابي عن سؤال يوجه إليّ عن احتمالي ورضاي وسروري بالإقامة في بلدة صغيرة كانت- ولاسيما في الزمن الذي قبلت فيه خيار البقاء فيها- مجرد قرية كبيرة. إنها بلدة الرقة، بلدتي الملقاة على شاطئ الفرات في شمالي سورية، بين مدينتي حلب ودير الزور. يقال لي: وأنت من أنت، تثقفت فقرأت عن العالم كله قراءة متعمق، وتزودت من العلم بما يفتح لك كل باب، وسلطت عليك أضواء الشهرة من جوانب متعددة، وتسنمت مناصب وعرفت الدنيا قاصيها ودانيها، كيف تحتمل وترضى وتسر بالإقامة في هذه القرية التي تضيق بمن هو دونك مادة ومعنى؟
بيت الشعر هذا، على كثرة مارددته على نفسي وعلى الآخرين، هو أحد أجوبتي على المستفهمين والمستغربين، وليس كلها. في المرات التي تقارب أخلاقي فيها الضيق مما أعانيه في بلدتي المستهان بها يكون جوابي عن السؤال الدائم جواب الساخر المستسلم لقدر وردت حكمته في الحديث النبوي "لولا حب الوطن لهلك منبت السوء". ومرات أخرى أقول للمتسائل: أنت الذي لا يرى كم هي واسعة وغنية بلدتي، مستشهدا بقول هنري دافيد ثورو: ما أكثر ما سحت وتجولت في دسكرة "والدبوند" الصغيرة! ومرات أخرى أقول غير هذا وذاك، فيما خلاصته أني محتمل وراض ومسرور بهذه الإقامة التي تستغرب مني وتنعى علي.
هل ينطبق الاسم على المسمى؟
نعم إن اسمها الرقة، بفتح الراء. بعضهم يصر على أن يلفظ اسمها بكسر الراء، ويسألني هل ينطبق فيها الاسم على المسمى؟ أقول له حينذاك مازحا إن العكس هو الصحيح. وإنها من باب تسمية الشيء بضده، كما يسمى الملدوغ سليما والضرير بصيراً، إلا إن اللفظ الصحيح للرقة هو بفتح الراء، وجمعها رقاق. وهي بقعه الماء الرقيقة والمنبسطة التي تتخلف في منخفض إلى جانب نهر أو بحر بعد انحسار. الفيضان أو المد. من هذا كانت رقاق كثيرة في البلاد العربية، في العراق على شاطئ دجلة وفي مصر على شاطئ النيل، وفي الكويت على ساحل الخليج.. والرقاق على شاطئ الفرات أكثر من واحدة. منها رقة واسط والرقة السوداء، والحمراء، والرقة البيضاء. وهذه الأخيرة هي رقتنا موضع حديثي، وهي التي عناها الشاعر في حملة عياض بن غنم، عندما فتحها عام 17 للهجرة، بقوله:
وصادمنا الفرات غداة سرنا = إلى أهل الجزيرة بالعوالي
أخذنا الرقة البيضاء لما = رأينا الشهر لوح بالهلال
هذا هو اسم المدينة حين فتحها العرب المسلمون، وكان اسمها أيضا قبل الفتح باماد طويلة.
فقد كانت آنذاك عاصمة ديار مضر، مثلما كانت الموصل عاصمة ديار ربيعة وكانت آمد عاصمة ديار بكر في شرقي ما يدعى اليوم بالأناضول. نزحت هذه القبائل العربية إلى تلك الديار المخصبة في مواسم جدب جزيرة العرب، ثم استوطنتها فنسبت إليها.
ولم يكن العرب بالطبع أول من سكن شواطئ الفرات في موقع بلدتنا الحالي، كذلك لم يكن اسم الرقة هو أول أسمائها. في القرن الثالث قبل الميلاد كان اسمها نيقفوريوم، باسم أحد قواد الإسكندر الكبير ممن ورثوا سلطانه الواسع بعد موته. ثم أصبح اسمها كالينيكوس، باسم قائد آخر أو باسم راهب وثني اشتهر فيها. وقبل ذلك بزمن بعيد، في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانت تعرف باسم " تتول "، وهو اسم تردد كثيرا في الرقم التي اكتشفت في مكتبة مدينة ماري، على شاطئ الفرات الجنوبي قرب بلدة البوكمال الحالية. أسماء تتالت ونسخ أخرها أولها، فلم يبق منها غير الاسم الذي فرضه عليها نهر الفرات بقيامها على شاطئه: الرقة. بل إن العرب، في أشعارهم القديمة، ثنوا هذا الاسم فأصبح عندهم "الرقتان ".
قال عبيد الله بن قيس الرقيات في مديحه لعبدالله بن جعفر:
ذكرتك إذ فاض الفرات بأرضنا = وفاض بأعلى الرقتين بحارها
وحولي مما خول الله هجمة = عطاؤك منها شولها وعشارها
وقال عوف بن محلم يستعطف عبد الله بن طاهر كي يسمح له بالعودة إلى موطنه:
فقرباني بأبي أنتما = من موطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة = مسكنها حران والرقتان
من أين جاءت التثنية لاسم الرقة؟ قبل العهد العباسي كان يقصد بالرقتين البيضاء، وهي المدينة الرئيسية، والسوداء وهي قرية تقع على بعد فرسخ في شرقيها. ثم أطلقت التسمية لتشمل مع الرقة البيضاء بلدة جديدة أمر ببنائها الخليفة العباسي المنصور على بعد ثلاثمائة ذراع في غربيها، سماها الرافقة. بنيت الرافقة على مثال بغداد التي بناها المنصور قبل ذلك ضمن سور بشكل دائرة. غير أن سور الرافقة- ولاتزال آثاره باقية حتى الآن- أخذ شكل نعل فرس وتره شاطئ الفرات. لعل الذي دفع المنصور إلى الأمر بإنشاء الرافقة هو اشتهار مدينة الرقة نفسها بأنها أموية الهوى، أحبها خلفاء بني أمية وأحبتهم. من هؤلاء الخلفاء هشام بن عبدالملك الذي أجرى قربها نهرين جرهما من الفرات هما الهني والمري.
درة وادي الفرات
ربما وجدنا، نحن أبناء الرقة الحاضرة، لبلدتنا بعض موجبات التعلق بها أو الإعجاب بها. أما الآخرون، ومنهم أولئك الذين ينعون إقامتي فيها علي، فقد يصل الأمر بهم إلى أن يحملونا جناية تحويل مدينة مهمة، يقول التاريخ إنها كانت ملء السمع والبصر في فترات سابقه متعددة، جناية تحويلها إلى قرية نفخت فيها عوامل العصر المضخمة فتحولت إلى بلدة صغيرة. يقولون لنا: ماذا فعلتم بالرقة التي كانت درة وادي الفرات في سالف الأيام؟ أين قصورها ورياضها وأديارها والشجر الذي كان يسير في ظلاله هارون الرشيد فلا تراه الشمس من بغداد إلى الرقة؟ أليست هي المدينة التي هجر من أجلها الرشيد بغداد وجعلها عاصمته في السنين الثلاث عشرة الأخيرة من خلافته؟ ألم تكن قاعدة هذه الخليفة التي غزا فيها الروم مرات فهدم أسوار حاضرتهم هرقلة وسبى ابنة بطريقها، وأكرمها فبنى لها قصرا على الطراز البيزنطي على الفرات على مقربة من الرقة؟ ماذا فعلتم بالهني والمري نهري هشام بن عبد الملك، وبالقصور ذات الأبواب الحديدية المزخرفة التي اقتلعها سيف الدولة.
إنه الظلم والإزعاج. ظلم وإزعاج يفصلهما التاريخ في روايته للنكبات التي نزلت ببلدتنا هذه خلال العصور المتتالية.
أولى تلك النكبات وأكبرها أثرا كانت عام 657 للهجرة- 1259 للميلاد حين سار هولاكو إلى الجزيرة بعد استيلائه على بغداد وتقويضه خلافة بني العباس فيها. هجر أهل الرقة، إلا القليل منهم، مدينتهم قبل أن تبلغها جيوش السفاح المغولي، وحين دخلها أنزل فيها الحريق والدمار وذبح القلة الباقية من السكان فيها. وبعد هولاكو جاء تيمورلنك فأجهز عليها، فتحولت البلدة والمنطقة المزدهرة التي كانت قلبها إلى قفار مهجورة. لم يبق من بنيانها إلا خرائبها القائمة اليوم، وأهمها سور الرافقة والبوابة المسماة باب بغداد في زاويته الجنوبية الشرقية، وقناطر الجامع الكبير إلى جانب مئذنته السامقة، وقصر في وسط الخرائب سماه الناس قصر البنات. أصبحت المدينة وما حولها بادية قفراء تنتجعها القبائل المختلفة، فتتنازع فيها على المراعي ويغزو فيها بعضها بعضا. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وفي محاولة لفرض النظام وإحلال الأمن في هذه السهوب الواسعة، أقامت الدولة العثمانية مخفرا لرجالها المسلحين في خرائب المدينة القديمة قرب نهر الفرات، فوضعت بذلك الركيزة الأولى لوجود بلدتنا الحالية.
المدينة تتكون
حول هذا المخفر النواة، الذي كان منطقة الأمن الوحيدة في المسافات الشاسعة بين دجلة والفرات من أرض الجزيرة، أخذت تتجمع عناصر تواقة إلى الاستقرار من الباعة وذوي الحرف اليدوية والصناعة البدائية، مما يحتاج إليه المجتمع في أوائل تكوينه. وانضمت إلى هؤلاء وأولئك أسر نزحت لسبب أواخر من بقاع متباعدة من العراق وجنوبي الأناضول من سكانه العرب، ومن بلاد الشام المختلفة. من كل هؤلاء الوافدين تألف سكان قرية كبيرة دخلت القرن العشرين بمؤهلات مدينة مستقبلية، واستمرت في النمو حتى أصبحت في نهاية هذا القرن المدينة المتوسطة المكانة التي هي البلدة التي أناصت أهلها والتي أكتب منها للقراء هذه الكلمات.
من الأسر التي وردت على موقع الرقة في الثلث الأخير من القرن الفائت كانت الأسرة التي أنتمي إليها. جاءها أسلافي من جوار الموصل، حيث كانت تقيم عشيرتهم، عشيرة البو بدران الحسينية النسب، في قرية اسمها الجرن أو القرن. وفي الرقة فتحت عيني على الحياة وهي لا تزال كما قلت قرية كبيرة. قرية يسكن الناس فيها دورا معمورة بالآجر والخشب ولكنها في حياتها الاجتماعية، وفي تقاليدها وأعرافها، أقرب إلى البادية منها إلى الحضر. بل إن الطبيعة فيها كانت طبيعة البادية.
وإذا كان آباؤنا الأقربون عاشوا صدر حياتهم في هذا الوسط الذي وصفته، في زمن حكم الأتراك العثمانيين للبلاد الشامية والجزيرة الفراتية منها، فإني وأبناء جيلي تنسمنا في مطلع حياتنا، في هذا الوسط نفسه، هواء حرا تطهر من عكر أنفاس الترك المضطهدين لأمتنا ولم يتلوث بعد بأنفاس الفرنسيين المستعمرين لها. ذلك أنه في صيف عام 1918، وهو الصيف الذي ولدت فيه، سحبت السلطنة العثمانية جيوشها من بلاد الشام بعد انكسارها في الحرب العالمية الأولى. أما فرنسا فقد وقفت مترددة على عتبة المنطقة الفراتية قبل أن تقدم على احتلالها. ففي هذه المنطقة، وفي بلدة الرقة ذاتها، أعلن قيام حكومة عربية حره، عجب بين الحكومات. حكومة أعلنت سيادتها الكاملة واستقلالها التام بزعامة أمير عربي، هو شيخ قبيلة عنزة الأمير حاجم بن مهيد.
هذه الحكومة العجب التي تعتبر صفحة مشرفة في تاريخ النضال القومي العربي، كنت سردت أنا وقائعها في محاضرة لي بعنوان " تاريخ دولة مجهولة "، تضمنها كتابي " أحاديث العشيات ".
المدينة والطابع البدوي
فتحت عيني على الدنيا في وسط جوه جو بادية وعاداته وتقاليده عادات وتقاليد بدوية. كان قاطنو الرقة يبنون لسكناهم دورا حجرية من آجر خرائب المدينة القديمة، إلا أنهم ما كانوا يسكنون تلك الدور إلا في أشهر الخريف والشتاء. ففي الربيع والصيف كان الناس هناك، إلا أقلهم، يخرجون بالماشية التي يمتلكونها إلى المراعى المحيطة بالبلدة، وربما أبعدوا عنها، انتجاعا للكلأ. وفي السهوب التي تضم تلك المراعي كانت تعيش قبائل متنقلة، قوية في عدد أفرادها وفى عصبيتها، تفرض على سكان البلدة المتفرقي الأصول قوانين البادية وأعرافها وقيمها المبجلة. من تلك الأعراف كان الثأر والدية وسياسات التحالف وسنن التزاوج، ومن القيم الشجاعة والسخاء والعفة الحنسية وعصبية الأسرة والعشيرة. وهي قيم تظل مثلا عليا في النفوس وإن لم يلتزم بها كل أفراد المجتمع الالتزام الكامل.
في هذه البيئة ذات الطابع البدوي، وذات الأسلوب نصف المتحضر في العيش، كان والدي واحدا من أوائل الذين تحولوا من نصف الحضرية إلى الحضرية التامة. كنا نملك ماشية وأفراسا ونمارس الزراعة الموسمية، ولكننا تخلينا عن بيت الشعر ذي الأعمدة والأطناب، وسكنا المنزل الحجري بصورة مستمرة. غير أن صلتي، أنا الصبي الصغير، لم تنقطع بارتياد البراري وبالعيش في الهواء الطلق. كنت أغتنم عطلة الصيف وأيام الخميس والجمع في الربيع لأنفلت من المدرسة الابتدائية التي كنت تلميذها، فألتحق بأعمامي الذين نصبوا مضاربهم في السهول المبعدة عن البلدة. هناك، في الليل، أنام تحت بيت الشعر المفتوح للريح من كل جوانبه، وفي النهار أرافق ولداتي إلى السهول المعشبة لننبش بعصينا الأرض عن جذور النباتات البرية الصالحة للأكل. وعند الأصيل كنت أحتبس معهم الخراف الرضع في دورة المساء للحليب، ريثما تفرغ النساء من حلب ضروع النعاج. وعندما يشار إلينا. نطلق سراح تلك الصغار فتروح تعدو مسرعة إلى أمهاتها ونحن نعدو معها : الخراف تبغم والنعاج تثغو، ونحن الصبية نركض وراءها حفاة، تهتز العصى في أيدينا وتعلو أصواتنا بالصيحات والآهازيج.
طبيعي أن ترسخ صور الصبا الباكر في وعيي، وفي لا وعيي، أعمق الرسوخ. النهر العريض، نهر الفرات، بهدوئه في الصيف وتعاظم مجراه في الشتاء وطغيان فيضانه في الربيع. والمدينة التي يحتضن بيوتها الآجرية المتواضعة سور مدينة الرافقة القديم محيطا بها على شكل نعل فرس. والخرائب التي تتوسطها مئذنة علوها خمسة وعشرون مترا، تواجه ما بقي من قناطر مسجد جامع بناه المنصور ورممه نور الدين الشهيد. والمقبرة التي تصم رفات عمار بن ياسر وأويس القرني وسواهما من شهداء معركة صفين بين علي ومعاوية. هذا في البلدة. أما فيه حولها، فالسهول المترامية التي يرويها مطر الشتاء فتعشب، فإذا حل الصيف ذوي عشبها وغدت بادية قاحلة على غزارة مياه الفرات قربها. وفي هذه السهول قبائل امتلأت ذاكرتي بتفرعات أنسابها وقصص التناحر والوقائع بين بطونها، وبأسماء مشاهير فرسانها في القديم والحديث. بل إني رأيت نماذج من أولئك الفرسان ينزلون في مضافة أسرتنا أيام عزوة بين عشيرتي شمر وعنزة في بادية الرقة. وذلك حين بات زعيم عشيرة شمر مع ثلة من رجاله المدججين بالسلاح في المضافة ليلتهم، قبل أن يقصدوا ساحة المعركة في الصباح. وفي هذه المضافة نفسها سمعت ضروبا من الحكايات والأخبار، وحضرت أمسيات من رمضان كان شيخ من أعمامي، له حظ في المعرفة في وسط تعم فيه الأمية، يقرأ فيها كل ليلة على المجتمعين فيها فصلا من تاريخ فتوح الشام للواقدي أو من رواية السلطان عبد الحميد وصالحة خانم معربة عن مؤلف تركي مشهور.
تلك الصور التي رسخت في الوعي واللا وعي أصبحت، فيما تلا من الأيام، زادا غنيا لي في إبداعي الأدبي ككاتب، كما أصبحت قاعدة لتفكيري كمواطن مهموم بقضايا مجتمع أمتي العربي، أتحرى مواطن القوة والضعف فيه وأبحث عن طرائق السير به إلى الأفضل. في مجال الإبداع الأدبي تظاهرت صور النشأة في بلدتي وأجوائها حتى حين بعدت عنها في سني دراستي الثانوية والجامعية في حلب ثم دمشق. فما كان في الرقة من معاهد التعليم غير المدرسة الابتدائية ففي الشعر، وقد بدأت به إنتاجي في الأدب. رحت أصوغ صور الطبيعة الفراتية معبرا عن أحاسيس الوحشة والحرمان، وعن الحنين والاشتياق، في قصائد عناصرها نجوم ليل البادية وأمواج النهر وكثبان الرمل التي تحول بين خميلة الصفصاف وبين ارتوائها من ماء الفرات القريب .
الفرات سلطان
مثلما ينمو الكائن الحي فيشب ويكتهل ويهرم، تنمو التجمعات السكانية فتصبح بلدانا ومدنا بعد أن كانت قرى ودساكر. بل لعل الأصح أن نقول إن المجتمعات السكانية هي بدورها كائنات حية، تولد ويلحقها النماء ثم يدركها الفناء نموت أن ولداتي، منتقلين من الطفولة إلى الصب ثم اليفع ونمت مثلنا دسكرتنا، الرقة، شيئا فشيئا. كانت تكبر بتكاثر سكانها وتوسع موارد الرزق فيها، من زراعة وتربية ماشية وما يلحقهما من نشاط تجارى. الكائن الرئيسي في هذه الدسكرة هو النهر العظيم، نهر الفرات. حين يهدأ الفرات يجد الناس فيه ينبوع خيرات، وحين يفيض ويطغى يصبح طوفانا لا يبقي ولايذر. أذكر فيضانه الكبير في ربيع عام 1929. كنت عامذاك في الحادية عشرة من عمري تلميذا في السنة الأخيرة من الدراسة الابتدائية، بلغ عرض مجراه آنذاك أمام البلدة نحوا من تسعة كيلومترات. اقتحمت أمواهه دور البلدة المتاخمة لفراشة فهدمتها، مثلما جرفت في طريقها القري والزروع القائمة على ضفتيه. وكنت معنيا مثل غيري وأكثر من غيري بذلك الطوفان المروع. والدي كان متعهد السفن التي تعبر النهر وتنقل الناس والبضائع المجتلبة من مدينة حلب من الضفة الشامية إلى ضفة الجزيرة. سفن بدائية، مسطحة لقاع، تستير بالمردي والمجداف. آخر سفينة عبرت النهر في ذلك الفيضان قطعت مجراه في أثنتي عشرة ساعة، من مطلع الشمس إلى مغربها. وفوق ذلك كنا نمتلك مطحنة يعمل محركها الثقيل على المازوت، قاربت مياه الفيضان أن تحيط بها وتقتحم بناءها. كانت أيدينا على قلوبنا أن نضطر إلى تفكيك الآلات الكثيرة والمعقدة لتلك المطحنة فننقلها من مكانها قبل أن تغمرها المياه المتلاطمة. وحمدنا الله أن توقف تقدم الطوفان في اللحظة الأخيرة تحت الجدار القبلي للبناء، وكفى الله المؤمنين القتال.
نعم، لقد ظل الفرات الكائن الرئيسي في حياة الرقة وحيوات أهلها. رأيت منه وسمعت عنه في مطلع حياتي أفعالا وأخبارا وحكايات أصبحت مستندا لأفكاري وأحاسيسي ومصادر ذات قيمة لإبداعي الأدبي. أحد مظاهر تأثيره على بلدتي أنه كان حاجزا يفصلها عن المراكز الرئيسية في وطننا سورية، التي تقع كلها جنوبية. يفصلها عن دمشق العاصمة السياسية، وعن حلب العاصمة التجارية. عبوره كان لايتم إلا بالسفن البدائية التي ذكرتها آنفا، والتي كانت لا تعمل إلا في وضح النهار، إذ تتوقف عن نقل الناس والبضائع عند هبوط الظلام. كم قاسيت في فترة دراستي الثانوية في حلب، وفي بدء دراستي الجامعية في دمشق، من عبور الفرات في تلك السفن، أو من المبيت في الخان الخرب على شاطئه حين لاتبلغ السيارة التي تقلنا الشاطى إلا بعد مغيب الشمس. كانت معاناة لي ولأمثالي يضطرنا إليها فقدان معاهد التعليم العالي في بلدتنا الصغيرة. وهي على كل حال أهون من معاناة سكان الضفتين الذين كانوا يلقون من غارة الفرات على قراهم وزروعهم، أو من تباعد مجراه عن هذه وتلك، ما جعلهم يتصورونه حاكما طاغية أو سلطانا غاشما لا مرد لحكمه. كانت الكلمة المتداولة على الألسن حين يدور الحديث عما ينزله الفرات بمن حوله من ضرر لا تعويض له: الفرات سلطان!
كان الفرات إذن سلطانا، سلطانا تراه الرعية جائرا وتبحث عن الوسائل التي تضع بها حدا لجوره. أول انتقاص لسلطة ذلك المتحكم كان حين أقيم عليه جسر يصل بين ضفتيه، الضفة الشامية وضفة الجزيرة، في عام 1942. أصبح عبوره ميسرا في الصيف والشتاء، وفي موسم المد وموسم الانحسار، فأسرع بذلك نمو الرقة بأن سهل استثمار السهول المخصبة حولها وزاد في المبادلات التجارية والاجتماعية بينها وبين المدن السورية الأخرى. وكان هذا بلا شك مبعث رضا لي أنا ابن هذه البلدة، كنت في تلك الأثناء قد أنهيت دراستي الجامعية وأصبحت أول طبيب من أبنائها. بل كنت فيها الطبيب الوحيد إلى جانب الطبيب الحكومي المجتلب إليها من داخل البلاد. بعد ذلك بقليل أصبحت ممثلها في المجلس النيابي. وهذان الوضعان، في الطب والنيابة، كانا عملا ومنصبا ترجما ارتباطي ببلدتي وفسّرا لكل مغر لي بترك هذه البلدة بواعث عزمي على البقاء فيهما، ضاربا بعرض الحائط ما كان يزين لي من الاستفادة من علمي وثقافتي وموهبتي الأدبية في مدن القطر الكبرى.
القوقعة الضيقة والعالم الفسيح
ومع ذلك فإن الرقة، هذه البلدة الصغيرة، لم تكن لي قوقعة ضيقة. فعدا عن كونها أصبحت لي نقطة انطلاق أجوب به العالم قاصيه ودانيه، في رحلات امتدت من دائرة القطب الشمالي حتى عاصمة الأرجنتين في الجنوب، وفي الشرق الأقصى حتى اليابان، وحتى جزر هاواي في الغرب الأقصى، عدا هذا فإن فضولي وحبي للاستقصاء جعلاني اكتشف في الفسحة المحدودة التي أعيش فيها، بين رحلاتي المبعدة، عوالم غنية تملأ محتوياتها الوجدان وتستحث التأمل والتفكير.
اكتشفت هذا في محيط بلدتي حتى قبل أن أعمل فيها طبيبا، وقبل أن أنتخب نائبا عنها في مجلس، أو أصبح وزيرا بعد ذلك. اكتشفته منذ صباي ويفعي وفي خلال مراحل دراستي المختلفة. في تلك المراحل لم أكن أقضى العطل المدرسية كما يقضيها لداتي، أعني في اللهو والترويح عن النفس. كان والدي، في إيمانه بالعمل وتعلقه به، يلحقني بإدارة المطحنة التي كنا نملكها والتي ذكرتها فيما سلف، كلما وجدني متحررا من الدراسة. كنت أراقب العمال وعملهم فيها، وأقف وراء القبان لأزن القمح المطحون وأستوفي الأجر من الزبائن.
تلك هي بعض جوانب عالم الصبا للتلميذ الذي كنته في بلدتي، الموزع بين كتبه المدرسية وقراءاته النهمة لكل ما يقع في يديه من كتب الدين والتاريخ والقصص الشعبية، وبين اختزان مشاهداته في ذاكرة طرية، النقش فيها في الصغر كالنقش في الحجر. أما حين شببت، أنا ذلك التلميذ، وعملت طبيبا في هذه البلدة فإن مشاهداتي تحولت من الملاحظة السطحية إلى تعمق واستقصاء فيما كان ينفضه المترددون على عيادتي من شكاوى جسدية. وهواجس نفسية، مستشفا ما وراءها من خبايا الضمائر ودوافع السلوك وأزمات المجتمع. من كل ذلك تكون لي زاد وفير من المعرفة والتجربة، وفي الأحاسيس والأفكار، ما أكثر ما استفاد منه الأديب الذي صرته. بل أكاد أقول إن وفرة ذلك الزاد فرضت علي بشكل ما أن أكون أديبا على الرغم من محاولتي التنصل من أن أسمى بهذا الاسم. وذلك حين انضافت إلى وفرته رغبتي في التعبير عنه وموهبتي في ذلك التعبير.
غرفت من ذلك الزاد، في كتاباتي المباشرة عنه، شعرا " رعويا "، كما سماه الناقد الكبير الراحل مارون عبود، نسبة إلى الرعاة الشعراء، تضمنه ديواني اليتيم " الليالي والنجوم "، وأشطرا أخرى لم أجمعها في ديوان. واستعنت به في قصص قصيره حوتها المجموعات المتعددة التي صدرت لي. وسجلت منه لوحات حية مستقاة من ممارستي الطبية في كتابين هما " عيادة في الريف " و "حكايات طبيه ". أما في كتاباتي الأخرى التي أجواؤها المدن الكبيرة في سورية، والمدن التي عرفتها في رحلاتي إلى البلدان الأجنبية، فإن مخزون تأثري بجو بلدتي وأحداثها وأشخاصها يظل بارزا فيها، إما بتقصد مني أو بعفوية غير متقصدة. أبطال رواياتي المدنية، أعني التي تدور وقائعها في المدن الكبيرة، هم شخصيات قادمة من الريف، كما هي شخصية سليمان عطا الله في رواية "باسمة بين الدموع"، وطارق عمران في رواية "قلوب على الأسلاك"، والفتى عباس الذي تتحدث عنه قصة "رصيف العذراء السوداء" في باريس، وغيره من أبطال قصصي الأوربية، هم شباب من الرقة وإن نسبتهم قصصي إلى بغداد أو حلب. وفي آخر رواية صدرت لي وهي "المغمورون"، كانت المباشرة واضحة ومقصودة. إنها عمل أدبي يتحدث عمن غمرتهم مياه السد الذي بني على نهر الفرات ليخضد شوكته ويقمع طغيانه. فشخصيات هذه الرواية هم أبناء بلدتي والقرى المحيطة بها، بأسمائهم وعقلياتهم وتصرفات سلوكهم. هؤلاء وأولئك حصيلة البيئة التي نشأت فيها ولصقت بها والتزمت بها. وهم عناصر ثابتة الأثر في نتاجي الأدبي.
الجنة هي سوق الرقة
هنا قد يعترضني معترض على هذا الكلام الكثير الذي تحدثت به عن بلدتي فيقول لي بلهجة العاتب الساخر:
- على هونك ياصاحبي. حديثك الرومنتيكي هذا يوحي بأنك ترى في بلدتك، هذه القرية الكبيرة، الجنة ! تناسب قيظها اللاهب وزوابع الغبار في صيفها وخريفها حين يظلم فيها النهار وتنسد منها المنافس. وتناسيت شظف العيش في بيئتك وخشونة طباع سكانها وتخلفهم وعاداتهم الجاهلية في الثأر والتنازعات القبلية والتزاوج. حتى النهر الذي وصفته بالعظم والجبروت والطغيان أصبح ساقية ضحلة لا بقيام السد المفيد عليه، بل باحتجاز جيرانك الأتراك مباهه وتحويلها إلى أراضيهم. كبرت قريتك حقا، ولكنها لم تقارب المدنية لا بأسلوب العيش فيها ولا بلحاق أهلها بالحضارة الصحيحة في صلاتهم الاجتماعية وعلاقتهم بالقانون والنظم العصرية.
هذا المعترض العاتب الساخر على حق في بعض ما يقوله. إني أرى بوضوح نقائص بيئتي ولا أغض طرفي عن تلك النقائص. بل إني أحاول السعي بما في مقدوري لمعالجتها وإصلاحها بعملي وبسلوكي وبكتاباتي. كبرت بلدتي الصغيرة حقا، لم تعد تلك الدسكرة التي وصفت ظروف الحياة فيها في صباي ومستهل شبابي. فبعد الجسر الذي كان بناؤه أول انتقاص نتحكم نهر الفرات بها، قام سد الفرات الضخم فلجم طغيانه وغير ظروف العيش للناس على ضفتيه كل التغيير. وكانت فكرة بناء سد على هذا النهر، قبل أن ترسم مخططات بنائه، موحية لي بكتابة قصتي "النهر سلطان " التي بثت في الإذاعات العالمية وعلى شاشة التليفزيون في مسلسلات وحلقات. كما أن إنشاء السد واستثماره أوحيا لي رواية "المغمورون" التي ذكرتها فيما سبق، والتي اعتبرت مرجعا في دراسات علمية أجنبية، إنجليزية وألمانية.
أما عن اعتبار بلدتي الصغيرة جنة، فإذا لم أقل أنا هذا عنها فإن أناسا سذجا مات يعيشون حولها قالوها أكثر من مرة. من هؤلاء امرأة من قرية حويجة فرج - والحويجة جزيرة صغيرة وسط الفرات، يملك أقارب لي مزرعة فيها - جاءت تزور أولئك الأقارب مرة في دارهم بالرقة، فحدثتهم عن رؤيا رأتها البارحة في منامها.
قالت : حلمت أمس أني مت، وأن الله بعد أن توفاني أدخلني الجنة! قالت إحدى النساء ضاحكة: هنيئا لك يا أم جاسم، صفي لنا الجنة، كيف رأيتها؟ قالت أم جاسم: بماذا أصفها؟ لكن الجنة شيء عجيب! كأنها سوق الرقة!
فإذا كانت أم جاسم رأت الجنة تشبه سوق الرقة في أوائل الخمسينيات، حين كانت سوقا وحيدة ضيقة معوجة تزدحم في جوانيتها القليلة بضائع القرويين والبداة، فهل الأم أنا إذ وجدت في بلدتي، لا الجنة نفسها، وإنما بعضا من معطياتها كالرضا وراحة الضمير؟ قبلي قال المتنبي:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
أحسب بعض القراء سيبتسمون من هذا الكلام وسيعجبون منه كما عجب كثيرون ممن عابوا عليّ نقص طموحي ورضاي بما أستحق أكثر منه. كنت أقول لهؤلاء، كالمصدق لحكمهم عليّ: ليس هذا ذنبى؟ إنه تصديق للمثل التركي الذي يقول إن البحيرة الصغيرة لا تربي سمكا كبيرا. إنه إذن ذنب صغر البحيرة التي عشت فيها، فهي لم تتح لي أن أزداد طولا وعرضا! هذا ما أقوله للعاتبين والعائبين، أما لنفسي فإني أظل أردد عليها بيت الشعر الذي بدأت به هذه الصفحات:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
* مجلة العربي
والعربي تقدم دعوة لكل كتاب العربية لأن يكتبوا لنا عن مدنهم. تاريخها وتطورها وذكرياتهم فيها والأماكن التي عشقوها. وكيف امتدت رموز المكان إلى أغوار الرؤية الأدبية.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها = ولكن أخلاق الرجال تضيق
ما أكثر ما جعلت هذا البيت جوابي عن سؤال يوجه إليّ عن احتمالي ورضاي وسروري بالإقامة في بلدة صغيرة كانت- ولاسيما في الزمن الذي قبلت فيه خيار البقاء فيها- مجرد قرية كبيرة. إنها بلدة الرقة، بلدتي الملقاة على شاطئ الفرات في شمالي سورية، بين مدينتي حلب ودير الزور. يقال لي: وأنت من أنت، تثقفت فقرأت عن العالم كله قراءة متعمق، وتزودت من العلم بما يفتح لك كل باب، وسلطت عليك أضواء الشهرة من جوانب متعددة، وتسنمت مناصب وعرفت الدنيا قاصيها ودانيها، كيف تحتمل وترضى وتسر بالإقامة في هذه القرية التي تضيق بمن هو دونك مادة ومعنى؟
بيت الشعر هذا، على كثرة مارددته على نفسي وعلى الآخرين، هو أحد أجوبتي على المستفهمين والمستغربين، وليس كلها. في المرات التي تقارب أخلاقي فيها الضيق مما أعانيه في بلدتي المستهان بها يكون جوابي عن السؤال الدائم جواب الساخر المستسلم لقدر وردت حكمته في الحديث النبوي "لولا حب الوطن لهلك منبت السوء". ومرات أخرى أقول للمتسائل: أنت الذي لا يرى كم هي واسعة وغنية بلدتي، مستشهدا بقول هنري دافيد ثورو: ما أكثر ما سحت وتجولت في دسكرة "والدبوند" الصغيرة! ومرات أخرى أقول غير هذا وذاك، فيما خلاصته أني محتمل وراض ومسرور بهذه الإقامة التي تستغرب مني وتنعى علي.
هل ينطبق الاسم على المسمى؟
نعم إن اسمها الرقة، بفتح الراء. بعضهم يصر على أن يلفظ اسمها بكسر الراء، ويسألني هل ينطبق فيها الاسم على المسمى؟ أقول له حينذاك مازحا إن العكس هو الصحيح. وإنها من باب تسمية الشيء بضده، كما يسمى الملدوغ سليما والضرير بصيراً، إلا إن اللفظ الصحيح للرقة هو بفتح الراء، وجمعها رقاق. وهي بقعه الماء الرقيقة والمنبسطة التي تتخلف في منخفض إلى جانب نهر أو بحر بعد انحسار. الفيضان أو المد. من هذا كانت رقاق كثيرة في البلاد العربية، في العراق على شاطئ دجلة وفي مصر على شاطئ النيل، وفي الكويت على ساحل الخليج.. والرقاق على شاطئ الفرات أكثر من واحدة. منها رقة واسط والرقة السوداء، والحمراء، والرقة البيضاء. وهذه الأخيرة هي رقتنا موضع حديثي، وهي التي عناها الشاعر في حملة عياض بن غنم، عندما فتحها عام 17 للهجرة، بقوله:
وصادمنا الفرات غداة سرنا = إلى أهل الجزيرة بالعوالي
أخذنا الرقة البيضاء لما = رأينا الشهر لوح بالهلال
هذا هو اسم المدينة حين فتحها العرب المسلمون، وكان اسمها أيضا قبل الفتح باماد طويلة.
فقد كانت آنذاك عاصمة ديار مضر، مثلما كانت الموصل عاصمة ديار ربيعة وكانت آمد عاصمة ديار بكر في شرقي ما يدعى اليوم بالأناضول. نزحت هذه القبائل العربية إلى تلك الديار المخصبة في مواسم جدب جزيرة العرب، ثم استوطنتها فنسبت إليها.
ولم يكن العرب بالطبع أول من سكن شواطئ الفرات في موقع بلدتنا الحالي، كذلك لم يكن اسم الرقة هو أول أسمائها. في القرن الثالث قبل الميلاد كان اسمها نيقفوريوم، باسم أحد قواد الإسكندر الكبير ممن ورثوا سلطانه الواسع بعد موته. ثم أصبح اسمها كالينيكوس، باسم قائد آخر أو باسم راهب وثني اشتهر فيها. وقبل ذلك بزمن بعيد، في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانت تعرف باسم " تتول "، وهو اسم تردد كثيرا في الرقم التي اكتشفت في مكتبة مدينة ماري، على شاطئ الفرات الجنوبي قرب بلدة البوكمال الحالية. أسماء تتالت ونسخ أخرها أولها، فلم يبق منها غير الاسم الذي فرضه عليها نهر الفرات بقيامها على شاطئه: الرقة. بل إن العرب، في أشعارهم القديمة، ثنوا هذا الاسم فأصبح عندهم "الرقتان ".
قال عبيد الله بن قيس الرقيات في مديحه لعبدالله بن جعفر:
ذكرتك إذ فاض الفرات بأرضنا = وفاض بأعلى الرقتين بحارها
وحولي مما خول الله هجمة = عطاؤك منها شولها وعشارها
وقال عوف بن محلم يستعطف عبد الله بن طاهر كي يسمح له بالعودة إلى موطنه:
فقرباني بأبي أنتما = من موطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة = مسكنها حران والرقتان
من أين جاءت التثنية لاسم الرقة؟ قبل العهد العباسي كان يقصد بالرقتين البيضاء، وهي المدينة الرئيسية، والسوداء وهي قرية تقع على بعد فرسخ في شرقيها. ثم أطلقت التسمية لتشمل مع الرقة البيضاء بلدة جديدة أمر ببنائها الخليفة العباسي المنصور على بعد ثلاثمائة ذراع في غربيها، سماها الرافقة. بنيت الرافقة على مثال بغداد التي بناها المنصور قبل ذلك ضمن سور بشكل دائرة. غير أن سور الرافقة- ولاتزال آثاره باقية حتى الآن- أخذ شكل نعل فرس وتره شاطئ الفرات. لعل الذي دفع المنصور إلى الأمر بإنشاء الرافقة هو اشتهار مدينة الرقة نفسها بأنها أموية الهوى، أحبها خلفاء بني أمية وأحبتهم. من هؤلاء الخلفاء هشام بن عبدالملك الذي أجرى قربها نهرين جرهما من الفرات هما الهني والمري.
درة وادي الفرات
ربما وجدنا، نحن أبناء الرقة الحاضرة، لبلدتنا بعض موجبات التعلق بها أو الإعجاب بها. أما الآخرون، ومنهم أولئك الذين ينعون إقامتي فيها علي، فقد يصل الأمر بهم إلى أن يحملونا جناية تحويل مدينة مهمة، يقول التاريخ إنها كانت ملء السمع والبصر في فترات سابقه متعددة، جناية تحويلها إلى قرية نفخت فيها عوامل العصر المضخمة فتحولت إلى بلدة صغيرة. يقولون لنا: ماذا فعلتم بالرقة التي كانت درة وادي الفرات في سالف الأيام؟ أين قصورها ورياضها وأديارها والشجر الذي كان يسير في ظلاله هارون الرشيد فلا تراه الشمس من بغداد إلى الرقة؟ أليست هي المدينة التي هجر من أجلها الرشيد بغداد وجعلها عاصمته في السنين الثلاث عشرة الأخيرة من خلافته؟ ألم تكن قاعدة هذه الخليفة التي غزا فيها الروم مرات فهدم أسوار حاضرتهم هرقلة وسبى ابنة بطريقها، وأكرمها فبنى لها قصرا على الطراز البيزنطي على الفرات على مقربة من الرقة؟ ماذا فعلتم بالهني والمري نهري هشام بن عبد الملك، وبالقصور ذات الأبواب الحديدية المزخرفة التي اقتلعها سيف الدولة.
إنه الظلم والإزعاج. ظلم وإزعاج يفصلهما التاريخ في روايته للنكبات التي نزلت ببلدتنا هذه خلال العصور المتتالية.
أولى تلك النكبات وأكبرها أثرا كانت عام 657 للهجرة- 1259 للميلاد حين سار هولاكو إلى الجزيرة بعد استيلائه على بغداد وتقويضه خلافة بني العباس فيها. هجر أهل الرقة، إلا القليل منهم، مدينتهم قبل أن تبلغها جيوش السفاح المغولي، وحين دخلها أنزل فيها الحريق والدمار وذبح القلة الباقية من السكان فيها. وبعد هولاكو جاء تيمورلنك فأجهز عليها، فتحولت البلدة والمنطقة المزدهرة التي كانت قلبها إلى قفار مهجورة. لم يبق من بنيانها إلا خرائبها القائمة اليوم، وأهمها سور الرافقة والبوابة المسماة باب بغداد في زاويته الجنوبية الشرقية، وقناطر الجامع الكبير إلى جانب مئذنته السامقة، وقصر في وسط الخرائب سماه الناس قصر البنات. أصبحت المدينة وما حولها بادية قفراء تنتجعها القبائل المختلفة، فتتنازع فيها على المراعي ويغزو فيها بعضها بعضا. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وفي محاولة لفرض النظام وإحلال الأمن في هذه السهوب الواسعة، أقامت الدولة العثمانية مخفرا لرجالها المسلحين في خرائب المدينة القديمة قرب نهر الفرات، فوضعت بذلك الركيزة الأولى لوجود بلدتنا الحالية.
المدينة تتكون
حول هذا المخفر النواة، الذي كان منطقة الأمن الوحيدة في المسافات الشاسعة بين دجلة والفرات من أرض الجزيرة، أخذت تتجمع عناصر تواقة إلى الاستقرار من الباعة وذوي الحرف اليدوية والصناعة البدائية، مما يحتاج إليه المجتمع في أوائل تكوينه. وانضمت إلى هؤلاء وأولئك أسر نزحت لسبب أواخر من بقاع متباعدة من العراق وجنوبي الأناضول من سكانه العرب، ومن بلاد الشام المختلفة. من كل هؤلاء الوافدين تألف سكان قرية كبيرة دخلت القرن العشرين بمؤهلات مدينة مستقبلية، واستمرت في النمو حتى أصبحت في نهاية هذا القرن المدينة المتوسطة المكانة التي هي البلدة التي أناصت أهلها والتي أكتب منها للقراء هذه الكلمات.
من الأسر التي وردت على موقع الرقة في الثلث الأخير من القرن الفائت كانت الأسرة التي أنتمي إليها. جاءها أسلافي من جوار الموصل، حيث كانت تقيم عشيرتهم، عشيرة البو بدران الحسينية النسب، في قرية اسمها الجرن أو القرن. وفي الرقة فتحت عيني على الحياة وهي لا تزال كما قلت قرية كبيرة. قرية يسكن الناس فيها دورا معمورة بالآجر والخشب ولكنها في حياتها الاجتماعية، وفي تقاليدها وأعرافها، أقرب إلى البادية منها إلى الحضر. بل إن الطبيعة فيها كانت طبيعة البادية.
وإذا كان آباؤنا الأقربون عاشوا صدر حياتهم في هذا الوسط الذي وصفته، في زمن حكم الأتراك العثمانيين للبلاد الشامية والجزيرة الفراتية منها، فإني وأبناء جيلي تنسمنا في مطلع حياتنا، في هذا الوسط نفسه، هواء حرا تطهر من عكر أنفاس الترك المضطهدين لأمتنا ولم يتلوث بعد بأنفاس الفرنسيين المستعمرين لها. ذلك أنه في صيف عام 1918، وهو الصيف الذي ولدت فيه، سحبت السلطنة العثمانية جيوشها من بلاد الشام بعد انكسارها في الحرب العالمية الأولى. أما فرنسا فقد وقفت مترددة على عتبة المنطقة الفراتية قبل أن تقدم على احتلالها. ففي هذه المنطقة، وفي بلدة الرقة ذاتها، أعلن قيام حكومة عربية حره، عجب بين الحكومات. حكومة أعلنت سيادتها الكاملة واستقلالها التام بزعامة أمير عربي، هو شيخ قبيلة عنزة الأمير حاجم بن مهيد.
هذه الحكومة العجب التي تعتبر صفحة مشرفة في تاريخ النضال القومي العربي، كنت سردت أنا وقائعها في محاضرة لي بعنوان " تاريخ دولة مجهولة "، تضمنها كتابي " أحاديث العشيات ".
المدينة والطابع البدوي
فتحت عيني على الدنيا في وسط جوه جو بادية وعاداته وتقاليده عادات وتقاليد بدوية. كان قاطنو الرقة يبنون لسكناهم دورا حجرية من آجر خرائب المدينة القديمة، إلا أنهم ما كانوا يسكنون تلك الدور إلا في أشهر الخريف والشتاء. ففي الربيع والصيف كان الناس هناك، إلا أقلهم، يخرجون بالماشية التي يمتلكونها إلى المراعى المحيطة بالبلدة، وربما أبعدوا عنها، انتجاعا للكلأ. وفي السهوب التي تضم تلك المراعي كانت تعيش قبائل متنقلة، قوية في عدد أفرادها وفى عصبيتها، تفرض على سكان البلدة المتفرقي الأصول قوانين البادية وأعرافها وقيمها المبجلة. من تلك الأعراف كان الثأر والدية وسياسات التحالف وسنن التزاوج، ومن القيم الشجاعة والسخاء والعفة الحنسية وعصبية الأسرة والعشيرة. وهي قيم تظل مثلا عليا في النفوس وإن لم يلتزم بها كل أفراد المجتمع الالتزام الكامل.
في هذه البيئة ذات الطابع البدوي، وذات الأسلوب نصف المتحضر في العيش، كان والدي واحدا من أوائل الذين تحولوا من نصف الحضرية إلى الحضرية التامة. كنا نملك ماشية وأفراسا ونمارس الزراعة الموسمية، ولكننا تخلينا عن بيت الشعر ذي الأعمدة والأطناب، وسكنا المنزل الحجري بصورة مستمرة. غير أن صلتي، أنا الصبي الصغير، لم تنقطع بارتياد البراري وبالعيش في الهواء الطلق. كنت أغتنم عطلة الصيف وأيام الخميس والجمع في الربيع لأنفلت من المدرسة الابتدائية التي كنت تلميذها، فألتحق بأعمامي الذين نصبوا مضاربهم في السهول المبعدة عن البلدة. هناك، في الليل، أنام تحت بيت الشعر المفتوح للريح من كل جوانبه، وفي النهار أرافق ولداتي إلى السهول المعشبة لننبش بعصينا الأرض عن جذور النباتات البرية الصالحة للأكل. وعند الأصيل كنت أحتبس معهم الخراف الرضع في دورة المساء للحليب، ريثما تفرغ النساء من حلب ضروع النعاج. وعندما يشار إلينا. نطلق سراح تلك الصغار فتروح تعدو مسرعة إلى أمهاتها ونحن نعدو معها : الخراف تبغم والنعاج تثغو، ونحن الصبية نركض وراءها حفاة، تهتز العصى في أيدينا وتعلو أصواتنا بالصيحات والآهازيج.
طبيعي أن ترسخ صور الصبا الباكر في وعيي، وفي لا وعيي، أعمق الرسوخ. النهر العريض، نهر الفرات، بهدوئه في الصيف وتعاظم مجراه في الشتاء وطغيان فيضانه في الربيع. والمدينة التي يحتضن بيوتها الآجرية المتواضعة سور مدينة الرافقة القديم محيطا بها على شكل نعل فرس. والخرائب التي تتوسطها مئذنة علوها خمسة وعشرون مترا، تواجه ما بقي من قناطر مسجد جامع بناه المنصور ورممه نور الدين الشهيد. والمقبرة التي تصم رفات عمار بن ياسر وأويس القرني وسواهما من شهداء معركة صفين بين علي ومعاوية. هذا في البلدة. أما فيه حولها، فالسهول المترامية التي يرويها مطر الشتاء فتعشب، فإذا حل الصيف ذوي عشبها وغدت بادية قاحلة على غزارة مياه الفرات قربها. وفي هذه السهول قبائل امتلأت ذاكرتي بتفرعات أنسابها وقصص التناحر والوقائع بين بطونها، وبأسماء مشاهير فرسانها في القديم والحديث. بل إني رأيت نماذج من أولئك الفرسان ينزلون في مضافة أسرتنا أيام عزوة بين عشيرتي شمر وعنزة في بادية الرقة. وذلك حين بات زعيم عشيرة شمر مع ثلة من رجاله المدججين بالسلاح في المضافة ليلتهم، قبل أن يقصدوا ساحة المعركة في الصباح. وفي هذه المضافة نفسها سمعت ضروبا من الحكايات والأخبار، وحضرت أمسيات من رمضان كان شيخ من أعمامي، له حظ في المعرفة في وسط تعم فيه الأمية، يقرأ فيها كل ليلة على المجتمعين فيها فصلا من تاريخ فتوح الشام للواقدي أو من رواية السلطان عبد الحميد وصالحة خانم معربة عن مؤلف تركي مشهور.
تلك الصور التي رسخت في الوعي واللا وعي أصبحت، فيما تلا من الأيام، زادا غنيا لي في إبداعي الأدبي ككاتب، كما أصبحت قاعدة لتفكيري كمواطن مهموم بقضايا مجتمع أمتي العربي، أتحرى مواطن القوة والضعف فيه وأبحث عن طرائق السير به إلى الأفضل. في مجال الإبداع الأدبي تظاهرت صور النشأة في بلدتي وأجوائها حتى حين بعدت عنها في سني دراستي الثانوية والجامعية في حلب ثم دمشق. فما كان في الرقة من معاهد التعليم غير المدرسة الابتدائية ففي الشعر، وقد بدأت به إنتاجي في الأدب. رحت أصوغ صور الطبيعة الفراتية معبرا عن أحاسيس الوحشة والحرمان، وعن الحنين والاشتياق، في قصائد عناصرها نجوم ليل البادية وأمواج النهر وكثبان الرمل التي تحول بين خميلة الصفصاف وبين ارتوائها من ماء الفرات القريب .
الفرات سلطان
مثلما ينمو الكائن الحي فيشب ويكتهل ويهرم، تنمو التجمعات السكانية فتصبح بلدانا ومدنا بعد أن كانت قرى ودساكر. بل لعل الأصح أن نقول إن المجتمعات السكانية هي بدورها كائنات حية، تولد ويلحقها النماء ثم يدركها الفناء نموت أن ولداتي، منتقلين من الطفولة إلى الصب ثم اليفع ونمت مثلنا دسكرتنا، الرقة، شيئا فشيئا. كانت تكبر بتكاثر سكانها وتوسع موارد الرزق فيها، من زراعة وتربية ماشية وما يلحقهما من نشاط تجارى. الكائن الرئيسي في هذه الدسكرة هو النهر العظيم، نهر الفرات. حين يهدأ الفرات يجد الناس فيه ينبوع خيرات، وحين يفيض ويطغى يصبح طوفانا لا يبقي ولايذر. أذكر فيضانه الكبير في ربيع عام 1929. كنت عامذاك في الحادية عشرة من عمري تلميذا في السنة الأخيرة من الدراسة الابتدائية، بلغ عرض مجراه آنذاك أمام البلدة نحوا من تسعة كيلومترات. اقتحمت أمواهه دور البلدة المتاخمة لفراشة فهدمتها، مثلما جرفت في طريقها القري والزروع القائمة على ضفتيه. وكنت معنيا مثل غيري وأكثر من غيري بذلك الطوفان المروع. والدي كان متعهد السفن التي تعبر النهر وتنقل الناس والبضائع المجتلبة من مدينة حلب من الضفة الشامية إلى ضفة الجزيرة. سفن بدائية، مسطحة لقاع، تستير بالمردي والمجداف. آخر سفينة عبرت النهر في ذلك الفيضان قطعت مجراه في أثنتي عشرة ساعة، من مطلع الشمس إلى مغربها. وفوق ذلك كنا نمتلك مطحنة يعمل محركها الثقيل على المازوت، قاربت مياه الفيضان أن تحيط بها وتقتحم بناءها. كانت أيدينا على قلوبنا أن نضطر إلى تفكيك الآلات الكثيرة والمعقدة لتلك المطحنة فننقلها من مكانها قبل أن تغمرها المياه المتلاطمة. وحمدنا الله أن توقف تقدم الطوفان في اللحظة الأخيرة تحت الجدار القبلي للبناء، وكفى الله المؤمنين القتال.
نعم، لقد ظل الفرات الكائن الرئيسي في حياة الرقة وحيوات أهلها. رأيت منه وسمعت عنه في مطلع حياتي أفعالا وأخبارا وحكايات أصبحت مستندا لأفكاري وأحاسيسي ومصادر ذات قيمة لإبداعي الأدبي. أحد مظاهر تأثيره على بلدتي أنه كان حاجزا يفصلها عن المراكز الرئيسية في وطننا سورية، التي تقع كلها جنوبية. يفصلها عن دمشق العاصمة السياسية، وعن حلب العاصمة التجارية. عبوره كان لايتم إلا بالسفن البدائية التي ذكرتها آنفا، والتي كانت لا تعمل إلا في وضح النهار، إذ تتوقف عن نقل الناس والبضائع عند هبوط الظلام. كم قاسيت في فترة دراستي الثانوية في حلب، وفي بدء دراستي الجامعية في دمشق، من عبور الفرات في تلك السفن، أو من المبيت في الخان الخرب على شاطئه حين لاتبلغ السيارة التي تقلنا الشاطى إلا بعد مغيب الشمس. كانت معاناة لي ولأمثالي يضطرنا إليها فقدان معاهد التعليم العالي في بلدتنا الصغيرة. وهي على كل حال أهون من معاناة سكان الضفتين الذين كانوا يلقون من غارة الفرات على قراهم وزروعهم، أو من تباعد مجراه عن هذه وتلك، ما جعلهم يتصورونه حاكما طاغية أو سلطانا غاشما لا مرد لحكمه. كانت الكلمة المتداولة على الألسن حين يدور الحديث عما ينزله الفرات بمن حوله من ضرر لا تعويض له: الفرات سلطان!
كان الفرات إذن سلطانا، سلطانا تراه الرعية جائرا وتبحث عن الوسائل التي تضع بها حدا لجوره. أول انتقاص لسلطة ذلك المتحكم كان حين أقيم عليه جسر يصل بين ضفتيه، الضفة الشامية وضفة الجزيرة، في عام 1942. أصبح عبوره ميسرا في الصيف والشتاء، وفي موسم المد وموسم الانحسار، فأسرع بذلك نمو الرقة بأن سهل استثمار السهول المخصبة حولها وزاد في المبادلات التجارية والاجتماعية بينها وبين المدن السورية الأخرى. وكان هذا بلا شك مبعث رضا لي أنا ابن هذه البلدة، كنت في تلك الأثناء قد أنهيت دراستي الجامعية وأصبحت أول طبيب من أبنائها. بل كنت فيها الطبيب الوحيد إلى جانب الطبيب الحكومي المجتلب إليها من داخل البلاد. بعد ذلك بقليل أصبحت ممثلها في المجلس النيابي. وهذان الوضعان، في الطب والنيابة، كانا عملا ومنصبا ترجما ارتباطي ببلدتي وفسّرا لكل مغر لي بترك هذه البلدة بواعث عزمي على البقاء فيهما، ضاربا بعرض الحائط ما كان يزين لي من الاستفادة من علمي وثقافتي وموهبتي الأدبية في مدن القطر الكبرى.
القوقعة الضيقة والعالم الفسيح
ومع ذلك فإن الرقة، هذه البلدة الصغيرة، لم تكن لي قوقعة ضيقة. فعدا عن كونها أصبحت لي نقطة انطلاق أجوب به العالم قاصيه ودانيه، في رحلات امتدت من دائرة القطب الشمالي حتى عاصمة الأرجنتين في الجنوب، وفي الشرق الأقصى حتى اليابان، وحتى جزر هاواي في الغرب الأقصى، عدا هذا فإن فضولي وحبي للاستقصاء جعلاني اكتشف في الفسحة المحدودة التي أعيش فيها، بين رحلاتي المبعدة، عوالم غنية تملأ محتوياتها الوجدان وتستحث التأمل والتفكير.
اكتشفت هذا في محيط بلدتي حتى قبل أن أعمل فيها طبيبا، وقبل أن أنتخب نائبا عنها في مجلس، أو أصبح وزيرا بعد ذلك. اكتشفته منذ صباي ويفعي وفي خلال مراحل دراستي المختلفة. في تلك المراحل لم أكن أقضى العطل المدرسية كما يقضيها لداتي، أعني في اللهو والترويح عن النفس. كان والدي، في إيمانه بالعمل وتعلقه به، يلحقني بإدارة المطحنة التي كنا نملكها والتي ذكرتها فيما سلف، كلما وجدني متحررا من الدراسة. كنت أراقب العمال وعملهم فيها، وأقف وراء القبان لأزن القمح المطحون وأستوفي الأجر من الزبائن.
تلك هي بعض جوانب عالم الصبا للتلميذ الذي كنته في بلدتي، الموزع بين كتبه المدرسية وقراءاته النهمة لكل ما يقع في يديه من كتب الدين والتاريخ والقصص الشعبية، وبين اختزان مشاهداته في ذاكرة طرية، النقش فيها في الصغر كالنقش في الحجر. أما حين شببت، أنا ذلك التلميذ، وعملت طبيبا في هذه البلدة فإن مشاهداتي تحولت من الملاحظة السطحية إلى تعمق واستقصاء فيما كان ينفضه المترددون على عيادتي من شكاوى جسدية. وهواجس نفسية، مستشفا ما وراءها من خبايا الضمائر ودوافع السلوك وأزمات المجتمع. من كل ذلك تكون لي زاد وفير من المعرفة والتجربة، وفي الأحاسيس والأفكار، ما أكثر ما استفاد منه الأديب الذي صرته. بل أكاد أقول إن وفرة ذلك الزاد فرضت علي بشكل ما أن أكون أديبا على الرغم من محاولتي التنصل من أن أسمى بهذا الاسم. وذلك حين انضافت إلى وفرته رغبتي في التعبير عنه وموهبتي في ذلك التعبير.
غرفت من ذلك الزاد، في كتاباتي المباشرة عنه، شعرا " رعويا "، كما سماه الناقد الكبير الراحل مارون عبود، نسبة إلى الرعاة الشعراء، تضمنه ديواني اليتيم " الليالي والنجوم "، وأشطرا أخرى لم أجمعها في ديوان. واستعنت به في قصص قصيره حوتها المجموعات المتعددة التي صدرت لي. وسجلت منه لوحات حية مستقاة من ممارستي الطبية في كتابين هما " عيادة في الريف " و "حكايات طبيه ". أما في كتاباتي الأخرى التي أجواؤها المدن الكبيرة في سورية، والمدن التي عرفتها في رحلاتي إلى البلدان الأجنبية، فإن مخزون تأثري بجو بلدتي وأحداثها وأشخاصها يظل بارزا فيها، إما بتقصد مني أو بعفوية غير متقصدة. أبطال رواياتي المدنية، أعني التي تدور وقائعها في المدن الكبيرة، هم شخصيات قادمة من الريف، كما هي شخصية سليمان عطا الله في رواية "باسمة بين الدموع"، وطارق عمران في رواية "قلوب على الأسلاك"، والفتى عباس الذي تتحدث عنه قصة "رصيف العذراء السوداء" في باريس، وغيره من أبطال قصصي الأوربية، هم شباب من الرقة وإن نسبتهم قصصي إلى بغداد أو حلب. وفي آخر رواية صدرت لي وهي "المغمورون"، كانت المباشرة واضحة ومقصودة. إنها عمل أدبي يتحدث عمن غمرتهم مياه السد الذي بني على نهر الفرات ليخضد شوكته ويقمع طغيانه. فشخصيات هذه الرواية هم أبناء بلدتي والقرى المحيطة بها، بأسمائهم وعقلياتهم وتصرفات سلوكهم. هؤلاء وأولئك حصيلة البيئة التي نشأت فيها ولصقت بها والتزمت بها. وهم عناصر ثابتة الأثر في نتاجي الأدبي.
الجنة هي سوق الرقة
هنا قد يعترضني معترض على هذا الكلام الكثير الذي تحدثت به عن بلدتي فيقول لي بلهجة العاتب الساخر:
- على هونك ياصاحبي. حديثك الرومنتيكي هذا يوحي بأنك ترى في بلدتك، هذه القرية الكبيرة، الجنة ! تناسب قيظها اللاهب وزوابع الغبار في صيفها وخريفها حين يظلم فيها النهار وتنسد منها المنافس. وتناسيت شظف العيش في بيئتك وخشونة طباع سكانها وتخلفهم وعاداتهم الجاهلية في الثأر والتنازعات القبلية والتزاوج. حتى النهر الذي وصفته بالعظم والجبروت والطغيان أصبح ساقية ضحلة لا بقيام السد المفيد عليه، بل باحتجاز جيرانك الأتراك مباهه وتحويلها إلى أراضيهم. كبرت قريتك حقا، ولكنها لم تقارب المدنية لا بأسلوب العيش فيها ولا بلحاق أهلها بالحضارة الصحيحة في صلاتهم الاجتماعية وعلاقتهم بالقانون والنظم العصرية.
هذا المعترض العاتب الساخر على حق في بعض ما يقوله. إني أرى بوضوح نقائص بيئتي ولا أغض طرفي عن تلك النقائص. بل إني أحاول السعي بما في مقدوري لمعالجتها وإصلاحها بعملي وبسلوكي وبكتاباتي. كبرت بلدتي الصغيرة حقا، لم تعد تلك الدسكرة التي وصفت ظروف الحياة فيها في صباي ومستهل شبابي. فبعد الجسر الذي كان بناؤه أول انتقاص نتحكم نهر الفرات بها، قام سد الفرات الضخم فلجم طغيانه وغير ظروف العيش للناس على ضفتيه كل التغيير. وكانت فكرة بناء سد على هذا النهر، قبل أن ترسم مخططات بنائه، موحية لي بكتابة قصتي "النهر سلطان " التي بثت في الإذاعات العالمية وعلى شاشة التليفزيون في مسلسلات وحلقات. كما أن إنشاء السد واستثماره أوحيا لي رواية "المغمورون" التي ذكرتها فيما سبق، والتي اعتبرت مرجعا في دراسات علمية أجنبية، إنجليزية وألمانية.
أما عن اعتبار بلدتي الصغيرة جنة، فإذا لم أقل أنا هذا عنها فإن أناسا سذجا مات يعيشون حولها قالوها أكثر من مرة. من هؤلاء امرأة من قرية حويجة فرج - والحويجة جزيرة صغيرة وسط الفرات، يملك أقارب لي مزرعة فيها - جاءت تزور أولئك الأقارب مرة في دارهم بالرقة، فحدثتهم عن رؤيا رأتها البارحة في منامها.
قالت : حلمت أمس أني مت، وأن الله بعد أن توفاني أدخلني الجنة! قالت إحدى النساء ضاحكة: هنيئا لك يا أم جاسم، صفي لنا الجنة، كيف رأيتها؟ قالت أم جاسم: بماذا أصفها؟ لكن الجنة شيء عجيب! كأنها سوق الرقة!
فإذا كانت أم جاسم رأت الجنة تشبه سوق الرقة في أوائل الخمسينيات، حين كانت سوقا وحيدة ضيقة معوجة تزدحم في جوانيتها القليلة بضائع القرويين والبداة، فهل الأم أنا إذ وجدت في بلدتي، لا الجنة نفسها، وإنما بعضا من معطياتها كالرضا وراحة الضمير؟ قبلي قال المتنبي:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
أحسب بعض القراء سيبتسمون من هذا الكلام وسيعجبون منه كما عجب كثيرون ممن عابوا عليّ نقص طموحي ورضاي بما أستحق أكثر منه. كنت أقول لهؤلاء، كالمصدق لحكمهم عليّ: ليس هذا ذنبى؟ إنه تصديق للمثل التركي الذي يقول إن البحيرة الصغيرة لا تربي سمكا كبيرا. إنه إذن ذنب صغر البحيرة التي عشت فيها، فهي لم تتح لي أن أزداد طولا وعرضا! هذا ما أقوله للعاتبين والعائبين، أما لنفسي فإني أظل أردد عليها بيت الشعر الذي بدأت به هذه الصفحات:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
* مجلة العربي