د. مسعود ناهلية - المعلن والمضمر في قصة “زفاف للمرة الخامسة” للقاصة تركية لوصيف

تمهيد:
بداية، نبغي الإشارة مفهوم العمل الأدبي حتى نفرز عملية الكتابة الأدبية عن غيرها. ونحيل المتلقي على معرفة الفروق بين السرد الأدبي والسرود الأخرى ما دمنا نناقش عملا سرديا.
فما العمل الأدبي؟ نقول إن العمل الأدبي إنجاز فني جمالي مخصوص، يتناول موضوعا من موضوعات الحياة، يتقصّد به صاحبه تحقيق معنى، أو غاية معينة بأسلوب فيه الدهشة والمتعة. ويحشد له صاحبه مختلف الإمكانات والوسائل ليخرج به على الناس في حلة ماتعة بهدف طمأنتهم لفكرة ما، أو لعقد علاقة مبتورة، أو لنقد سلوك شائن أو واهم، أو هدم فكرة تتحرك في المجتمع بغير عقلانية. ويستعمل الأديب أساليب مختلفة منها الأسلوب العادي المباشر، وغير المباشر. يجند فيه العجائبي والتهكمي والوعظي، وذلك من أجل إيصال رسالته عبر جنس أدبي معين شعرا أو نثرا.

والسرد الأدبي كما يعرفه محمد الخبو، ((هو النشاط السردي الذي يضطلع به الراوي وهو يروي حكاية، ويصوغ الخطاب الناقل لها (…)، فلا يتصور خطابٌ قصصي دون حكاية، ولا ولا تتصور حكاية جارية لا تلتبس بحامل قولي لها ولا وجود لهذه ولا لذلك دون قائم بفعل إيجادهما)) (معجم السرديات: ص 243- 244)
والمادة الأولية للعمل الأدبي السردي، إما أن تكون واقعية ذات مرجع تاريخي/اجتماعي/ سياسي/ ديني.. الخ، أو من بنات الخيال، بمعنى ليست واقعة من وقائع الحياة،. وإما أن يكون العمل الأدبي مركبا من واقع وخيال كما هو شأن اغلب الأعمال الأدبية. وهو في كل الأحوال يعتبر عند النقاد عملا متخيلا. ومن شروط العمل الأدبي أن يكون أصيلا غير مقلد، وغير مسبوق التناول بنفس الحيل والتجليات الإبداعية. ومن هنا تأتي الأصالة والتفرد.
فما هي العوامل المكونة للعمل الأدبي /السردي التي تساهم في بناء العملية الإبداعية عموما؟:
يمر الإبداع بعدة عمليات، وتشترك فيها عدة عوامل منها الفطرية والمكتسبة، أهمها: الموهبة- الدربة- الخيال- عنصر الصراع- المقولات النقدية والأدبية – اللغة الماتعة الموسومة بالجمال والتأثير، والقادرة على التعبير عن المقامات الكتابية المختلفة، كالقدرة على تصوير ونقل المعاني لصناعة المتعة والدهشة. وكل عمل خلا من القصدية هو عبث لفظي، لا طائل من ورائه. وقد عبر أسلافنا عن ذلك في قولهم: “جعجعة بلا طحين”.

فما هي دواعي كتابة قصة “زفاف للمرة الخامسة”؟:
يبدو أن الكاتبة تركية لوصيف قد سبرت أغوار المجتمع، وتحسست مواجعه وأناته. ومن ثم توقفت عند قضية هامة من قضاياه المسكوت عنها. وهي ومركبة، فيها شق، تعاني منه النساء، وشق يعاني منه الرجال في صمت. فأرادات الكاتبة أن تواجه المجتمع بإثارة هذه القضية المسكوت عنها. على اعتبار أن الجنس هو محرك الفاعلية الاجتماعية والنفسية عند الزوجين، كما يشير علم النفس.
وهو شيء أساسي في الحياة الزوجية. وأن تلك الرابطة ستتدمر إذا لم تشبع تلك الحاجة البيولوجية، ولا يمكن تغطيتها أو تعويضها بأية حاجة أخرى. والمجتمع يقيس الرجولة بهذه القدرة.

كما تناولت الكاتبة قضايا أخرى ذات صلة بأزمة الجنس في حياة الأزواج. وهي:
• سكوت النساء على ما تتعرض له من ابتزاز من قبل السلطة الذكورية
• غفلة الأباء والأمهات عما تتعرض له بناتهم من ابتزاز في صمت لعجز أو خنوع أو بمقابل معين على حساب كرامتهن.
• إدانة الزواج غير المتكافئ عاطفيا وعمريا واجتماعيا
• استغلال الذكورة في واقع المرأة الهش لصناعة مجد اجتماعي وذكوري مزيف

ولو إلى حين. الضحية فيه هي الأنثى دائما. سواء بالطلاق أو الإمساك بالإكراه.

البناء القصصي في قصة “زفاف للمرة الخامسة”

ماذا جندت الكاتبة من أليات وحيل تقنية لتجسيد أفكارها وتسليط الإدانة؟. بحكم أنها تشتغل على جنس القصة، سخرت هذا الجنس الأدبي كوسيلة للإبداع، فحشدت له مختلف العناصر البنائية والجمالية والفكرية في شكل مشهد حياتي يزخر بالحيوية والصراع، وبالحب والإدانة، فكان ميلاد قصة سوية تنبض بالحياة. اختارت لمولودتها الأدبية هذه (زفاف للمرة الخامسة)، وحشدت لها من المكونات الأخرى ما يهبها التشكل والحياة النابضة روحيا وجسديا.

• الزمان:
نجد في القصة زمنين: زمن حاف: وهو الزمن المؤطر للقصة. والذي يحدد ميقاتها وسيرورتها وفترتها السردية وهو زمن خارجي منطقي هو زمن الناس أينما وجدوا سواء وهو الليل أو جزء منه. وهو زمن موضوعي وهو يمثل الفترة التي تمت فيها القصة. حيث نجهل بدايته، نعرف فقط جزءا منه. وهو من إنجاز السارد الغفل/ كلي المعرفة كقوله:(وسيجهز نعشها هذه الليلة- وقضى ليلته يرقب التطورات- الظلمة الحالكة.)
وهو سارد محايد. غير موجود ضمن مجتمع القصة. وهو من كلفته تركية لوصيف أن

ينوب عنها في عملية السرد، وهو من قص علينا القصة. وهو مجهول المعالم والهوية.
• أما الخطاب السردي الذي أنجزته الشخصيات المتكلمة في القصة، فهو قليل لأن الكاتبة منحت السارد الغفل دورا كبيرا. ومن ثم جاءت خطابات الشخصيات مسرّدة على لسان السارد المحايد.. وقللت من الخطابات المباشرة. مثل:
((- من يدفع فاتورة المستشفى ؟
‎- ليس لدي المال، ولا أعرف كيف أتصرف. ‎ أرجوك. أمهلينى بعض الوقت)).
أو الحوار المشهدي الذي دار بين جلال والحاج مسعود:
((‎- مَن هناك؟
‎ ‎- مَن أنت ؟
‎- أنا الشاهد الوحيد على محاولتك فى قتل ميسون. أريد مالا أدفعه للطبيب ثم سأختفى.)). والزمن فيه كما ترى حاضرا معبرا عن راهن القصة من قبل أصواتها المنجزة لعملية القص.
مع ملاحظة أن السرد بضمير الغائب هو سرد ساد في الرواية/القصة التقليدية، حين كان المؤلف يختبئ وراء هذه الشخصية ليخلص نفسه من مسؤولية القص أم الرقيب الاجتماعي أو الديني أو السياسي. فقد تراوح بين الحاضر والمستقبل.
وقد راينا حاضرا آخر من إنجاز السارد الغفل، وهو تلفظ به وهو يسرد القصة: (جلبة تنبعث من الخيمة المنصوبة [ في] نهاية الزقاق- يلتحق المارة دون دعوة – قهقهات العروس تواجه الصراخ ) والاستباق في قوله:((فوشوشة اليوم لن تمر ببساطة)).
وتجلى المستقبل في الاستباقات والوعود والتهديدات التي اطلقها الحاج مسعود وميسون وجلال:( و لكنت أمّا تداعب وليدها- سيجهز نعشها هذه الليلة- أريد مالا أدفعه للطبيب ثم سأختفى.).

أما زمن الاسترجاع/ اللاحقة الذي امتص الماضي وذكر به لتأثيث الحاضر فهو قليل. ولعل أهم جملة فيه هيما جاء على لسان جلال: ((ميسون لاتزال على قيد الحياة، وحتى سركما صار معروفا )).
مع ملاحظة، هي أنه لا يمكن أن يتم عمل سردي ما خارج الزمن. يمكن أن يغيب المكان وحتى الأصوات المتكلمة، لكن الزمن، لا يختفي لأن حركة السرد زمنية بالأساس.


• المكان:
بحكم أن الجنس الأدبي المختار لهذا العمل هو القصة القصيرة فقد اقتصرت على فضاءات قليلة وأماكن مقصودة بعينها تتناسب وحاجة القصة لذلك. فنجد (الخيمة-الحي-الزقاق- الغرفة- الفراش- بيت الحاج مسعود-المدينة- المستشفى) وهي أماكن دارت فيها الأحداث كل بما سخر له من قبل القاصة. منها ما ذكر ذكرا ومنها ما كانت مسرحا للأحداث.

• التأثيث النصي: كما عملت على تأثيث هذه الأماكن بما تحتاجه من عناصر بنائية رافدة للحدث وصناعة المعنى. والتأثيث هو ملأ الأمكنة وأعماق الشخصيات وأجسادهم بالعناصر المشكلة لهوياتهم وتأثيث الأحداث حتى تصبح مشابهة للواقع والحقيقة. وهذا ما سعت إليه تركية لوصيف حين بثت كما من اللوازم المؤثثة. مثل:
• لوازم الأمكنة:(الكسكسي- بمأدبة عشاء -المجوهرات- الذهب – فستان مزركش- الستار- النافذة- الرماح القاتلة- الفانوس- الباب- نعش)، كما أثثت تلك الأمكنة ب:

• 1. ألفاظ الحركة والروائح: (رائحة أطباق الكسكس-الوشوشة- جلبة تنبعث من الخيمة المنصوبة. يسترق السمع)
• 2. ألفاظ الأعضاء الجسدية: ( الألسن- رقبة- أصابع-)
3. ألفاظ الفحولة والهتك الذكوري: ( أنا غاضب قليلا منك- اقطع ألسن [ ألسنة] هؤلاء التعساء- وسيجهز نعشها هذه الليلة- علا صراخه- يا فاجرة- واجعل أصغرهم يطأنى- وتضع يدها على مخرج الدم- جسم فقد صلاحية الفحولة-بدفعة قوية-
• ألفاظ الجنس: ( أخرجنى للمدعويين واجعل أصغرهم يطأنى- بجسم فقد صلاحية الفحولة-
• ألفاظ الخوف والتوجس والجريمة: (وسيجهز نعشها هذه الليلة- قهقهات العروس تواجه الصراخ- استلم الشاب الرسالة المشفرة- الجريمة- الظلمة الحالكة- ارتعشت أطرافه- قتل ميسون.-
• ألفاظ السخرية والتهكم: (وألسن[ ألسنة] الناس تتهكم- قهقهات العروس تواجه الصراخ- بجسم فقد صلاحية الفحولة..- ادفع لي المال كل مرة يا لحاج الفحل.)

• الشخصيات:
عملت القاصة على التقليل من الشخصيات، وقسمت البطولة بين ثلاث شخصيات بتفاوت واضح حسب الترتيب: الحاج مسعود – ميسون – جلال.
منحت بالإضافة إلى شخصيات أخرى قليلة الدور والأهمية بالنسبة للقصة. وقد منحت القاصة لكل منهم دورا يتناسب ووضعه في القصة وأثثت عوالمهم الداخلية وأجسادهم بما يتطلبه دور كل واحد. مع الإشارة أن كل شيء في القصة القصيرة محسوب سلفا، لأنها تقوم على مبدأ التكثيف والشعرية والإيجاز.
1. الزوج مسعود لم تتركه الكاتبة شخصية عائمة متشظية الملامح. أضافت إليه كلمة (الحاج) لتدين تصرفاته وتسلبه صفة الورع حين جعلت منه إنسانا ملحاحا على الزواج من ميسون للمرة الخامسة حتى وإن أشارت القاصة بأنها هي أي ميسون هي التي كانت تطلب ذلك. كما جعلته بائسا اجتماعيا ونفسيا حين أفقدته ذكورته. وجعلته (عنينا) يرى ويسمع ولا ينعم إلا ما تتطلبه المكانة والشهرة الاجتماعية. جعلته يسكن بيتا خال من الكهرباء فهو يعيش عتمتين عتمة العشق ونعمة الزوجة وعتمة الدار. إن لم نقل عتمة الأخلاق أيضا. وإلا ما معنى إصراره على قتل ميسون البريئة؟.

2. الزوجة ميسون: وقد منحتها الكاتبة صفة المرأة الصبورة على المكاره وعنجهية الزوج. كما منحتها القدرة على التمرد إن تعلق الأمر بكرامتها. وإلا ما معنى التفكير والتصريح بإمكانية عرضها على شاب ليثبت عذريتها رغم الزفاف الخامس؟ فكل ذلك تأثيث نفسي حتى تكتمل الشخصية وتبدو وانها واقعية. ومن ثم تشد انتباه المتلقين.
3. الشاب جلال هو الآخر منحته الرزانة والشجاعة والعمق الطيب. وبثت فيه الحيوية وعمل الخير. فبدا إنسانيا أمام أزمة عميقة بات يعرف تفاصيلها من خلال ما سمعه من نافذة غرفته. ويسارع إلى رجال الإسعاف لإنقاذ ميسون المقبلة على الموت. كما أودعت فيه الكاتبة خصلة بمثابة سلاح واجه به الحاج مسعود حين أخبره بأن ميسون مازالت على قيد الحياة.

النص المفتوح والقراءات المتعددة:
يسمح النص المفتوح، بتعدد القراءات النقدية، ويسلك فيها القراء مسالك شتى، ومناهج متعددة أيضا، وبالتالي تعطي تلك القراءات نتائج ورؤي ثرية ومتنوعة. وهذا ما يتوفر في قصة (زفاف للمرة الخامسة للقاصة تركية لوصيف. فما هو السبيل السردي الذي سلكته الكاتبة في قصتها هذه؟
لتجسيد فكرتها، عمدت تركية لوصيف إلى سيرورة سردية يمكن قراءتها على ثلاث مستويات: مستوى فردي- مستوى تمثيلي- مستوى رمزي.
1. المستوى الفردي:
وهي قراءة تخص الأفراد وتحكي وقائعهم في الحياة وهو امر يحدث في كل المجتمعات. يتمثل هذا المستوى في زواج الحاج مسعود من شابة في مقتبل العمر اسمها ميسون وهو رجل متقدم في السن نسبيا، وقد زار بيت الله الحرام من. وحين عرفت عجزه الجنسي الكامل، كانت تهرب من بيت الزوجية دون أن تكشف سر هروبها، وكان الحاج مسعود يردها إلى بيته في كل مرة إلى أن بلغت خمس رجعات. وكان في كل مرة يقيم عرسا لإشعار الناس مدى تمسكه بعروسه هذه دون غيرها، والتي كانت تغضب في كل مرة لأسباب مجهولة، أوهم الناس بأنها تافهة وعابرة مما جعله يلح في استعادتها وإغداقه من المال والذهب الشيء الكثير وكأنه مهر جديد. وكان الناس يسرون بهذا التكرار للزفاف الذي بلغ الخمس مرات، فهم ينالون من كرمه ويسعدون لذكورته، وغنج زوجته ميسون المتمنعة-الراضية في نفس الوقت.
والزوجان (الحاج مسعود وميسون) هما الوحيدان اللذان يدركان مأساتهما. فهو الرجل العنين، وهي العذراء لحد الساعة رغم ما تعدد من زفاف ودخلات. وقد عبرت ميسون بصفة مضمرة عن رفضها لهذا الزفاف المزيف المتكرر حين ((اقتربت من فراشها وتخلت عن كل المجوهرات [التي]برقبتها وبأصابعها)) وقد تأكد وهو يراها ((تنزع المجوهرات من رقبتها وأصابعها بانها ترفضه للمرة الخامسة. ومن ثم قرر أن يجهز عليها هذه الليلة. حيث استعاد كل الذهب منها، وكل مال وكل فستان مزركش وعلا صراخه: يا فاجرة!)).

وقد تسرب حديثهما الليلي من شقتهما في اتجاه غرفة جلال. حيث عرف نية الحاج مسعود في قتل ميسون التي أتعبته ماديا وتهدد ذكورته ورجولته إذا ما أباحت بالسر المسكوت عنه. وهو عجزه الجنسي، وهو الأمر الذي يدفع بالحاج مسعود للجريمة، خاصة حين قالت له: ((‎- أخرجنى للمدعوين واجعل أصغرهم يطأني ،لكنت أمّا تداعب وليدها وأنا العذراء بعد..)). في قول ميسون هذا تحدٍ للأعراف واختراق لمنظومة القيم الاجتماعية والدينية التي ينتمي إليها الحاج مسعود. ثم إن هذه الجملة هي الدافع الأكبر للجريمة. كيف يخرج للمدعوين زوجته ليطأها أصغرهم؟ جملة مدمرة. وغير مقبولة دينا وعرفا. فهي قمة الدياثة. من هنا كانت الجريمة لقفل باب التهديد المحتمل الذي يمكن أن تمارسه عليه ميسون مستقبلا، أو يمكن أن يتسرب سر عجزه من قبل أحد أقارب الزوجة.
كانت ميسون تعرف وأنها تقوم بدور مسرحي على حساب أنوثتها وإنسانيتها وكرامتها، ولكنها ظلت لمر ما تخبئ هذا السر وترضى بالعودة إلى بيت الزوجية طائعة أو مكرهة. والقاصة لم تشر إلى ذلكن مما ظل الغموض يسود هذا القبول غير المبرر. هل هو الفقر؟ هل هو بطلب من والدي ميسون؟ هل هو شبح الطلاق الذي بدا أخطر من العنوسة؟. هذه المضمرات زادت من شغف القراءة والتأويل لهذا الزفاف الغريب.
2. المستوى التمثيلي:
حين نتجاوز مستوى القراءة الإفرادية نجد أنفسنا أمام قراءة أخرى يمكن تسميتها بالقراءة أو النقد التمثيلي الذي يشير إلى طبقة أو فئة مما يتعالقون مع وضعية الحاج مسعود وميسون كأفراد. حيث يصبح الحاج مسعود هو أولئك الرجال الذين ينتشرون في المجتمع بهذا الصنف من التفكير والثقافة حيث يبحثون عن المكانة الاجتماعية مستغلين سلطة الذكورة في تصريف شؤونهم مع الناس نساء ورجالا. ويسخرون قواهم في الهيمنة على المستضعفين في الأرض. ولا يشفع لهم سنهم ولا مكانتهم ولا زيارتهم لبيت الله الحرام، قد يقترفون جرائم متسترة تحت عناوين مختلفة.
وميسون في هذه الحالة لا تمثل نفسها، فهي تمثل تلك الفئة من النساء اللاتي فقدت سلطة مصيرهن تحت إكراهات متعددة ذاتية وخارجية، تهددها في كل حين.
أما جلال والممرضة فهما شخصيات مساعدة لتحريك الفعل السردي في القصة. وإن كان دور جلال بدا إيجابيا كثيرا حين وقف إلى جنب ميسون، وافتك منه المال لتسديد تكاليف المستشفى، وزرع الخوف الدائم في نفس الحاج مسعود حين أخبره بان ميسون لا زالت على قيد الحياة مما يشعره بمصير مشؤوم ما دام حيا. وهما أي جلال والممرضة يمثلان
النقد لا يقف عند حدود جمالية النص كبنية شكلية، يدغدغ بها الكاتب قراءه ثم يتوارى. الكاتب يسجل حضوره من خلال الصراع والهزات والملامح المختلفة لحركة الشخصيات وصمتها أيضا. كل شيء في النص الفني يجب أن يكون له معنى/دلالة. لا اعتباط في الفن.
3. المستوى الرمزي
بمعنى من هو الحاج مسعود في التفسير الرمزي للقصة ومن
هي ميسون؟ ومن يكون الشاب جلال والممرضة؟
حين يلتقي اللاتكافؤ المادي والنفسي والجسمي بين الناس تغيب المتعة والانسجام والتراضي. ومن ثم يغيب التكامل الإيجابي بين بني الإنسان في صورته الماتعة. هذا ما ترمز إليه تلك العلاقة الزوجية الفاشلة بين الحاج مسعود وميسون.
وإلى ماذا ترمز ميسون؟ هي تلك المرأة السيئة الحظ التي سيقت إلى رجل عنين دون أن تدري تحت سلطة الأعراف ونفوذ المال. فوجدت نفسها بين نار الرغبة ومكابح العجز والحرمان بسبب عدم القدرة. الذي رمى بها إليها فارق السن والزيف الاجتماعي. فما كان منها إلا الانسحاب في صمت نحو بيت أهلها. ورمزيا هو انكماش على الذات، وعما يمور في عمقها من رغبة لم تتحقق بهذا الزواج غير المتكافئ.
كان بإمكان القاصة أن تدفع بميسون إلى الحرام حتى تطفئ جمرة الرغبة. ومن ثم يتغير مسار القصة ومصير ميسون. غير أنها كانت كل مرة ترجعها إلى زوجها أملأ في علاج أو شفاء يكون قد حصل. أو لتحقيق أزمة أعمق وإدانة أكثر.
وإمعانا في توليد تأويلات رمزية أخرى. فهل يمكن اعتبار ميسون هي الدنيا بكل رمزيتها في مقابل إلحاح البشر (الحاج مسعود) على النيل منها حتى وإن فقدوا مبررات العيش فيها ومعها بعد سن معينة؟.
هل يمكن اعتبار الحاج مسعود ذلك السياسي الذي يحتل منصبا ليس أهلا له؟. أو ذلك المسؤول الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس، ويعجز عن إرضاء من أوكل إليه أمرهم ممن هم تحت وصايته من المستضعفين في الأرض والذين يعلقون عليه آمالا كبيرة، فيخيب آمالهم؟


كسر أفق انتظار القارئ

أولا: في سيمياء العلامة الاسمية:
المعروف أن الأسماء علامات لغوية تعيينية، وقد تكون اعتباطية أو قصدية. فهي عند ابن منظور ((علامة وأثر ووسم..))، وعند (دي سوسير): ((الاسم هو دال والمسمى مدلول)). يسمي الناس أبناءهم بالأنبياء والأولياء والصالحين والأبطال تبركا بهم أملا في أن يكتسب أبناؤهم تلك المحامد والصفات التي تزيا بها هؤلاء المسمى بأسمائهم وألقابهم. وقد يكتسبون تلك الصفات وقد يبتعدون عنها، لأن مصائرهم ليست بأيديهم. ولا بأيدي أوليائهم. فلست كل من تسمت بحميدة تكون حميدة الخلق. وليس كل من تسمى بالعاقل هو عاقل فعلا. أو بمسعود أو سعيد هو كذلك في دنياه، وقس عليهما من الأسماء الجميلة والواعدة من أسماء الأبطال والعظماء. فالواقع يكسر أفق انتظار الآباء والأمهات. بينما في الفن والأدب غير ذلك. فمصير الشخصية هو بيد منشئه ا( أي القاص/الروائي) وهو الذي يحركها ويمنحها الصفات المختلفة، وهو الذي يحدد مصيرها. وبالتالي إذا رسم لها مسارا أخلاقيا فهو الذي يعطيها الملمح المرغوب فيه. بمعنى يحقق أفق انتظار القارئ، إلا إذا أرد القاص خدعة فنية معينة، أي يغير مسارها، أو يفرغ محتواها التاريخي لصناعة عبثية معينة. كان يسمي شخصية ما (مثل صلاح أو طارق أو بيبرس) على اعتبار أنه بطل. غير انه يخيب في مسعاه، ونراه فاشلا أو خائنا أو غيرها من الصفات القدحية.
فإلى أي مدى كانت التسميات في قصة (زفاف للمرة الخامسة) موافقة للأدوار التي قامت بها تلك الشخصيات ؟.
1. الحاج مسعود: إن وصف شخصية مسعود بصفة “الحاج”، لهو دليل على الورع والالتفات إلى عمل الخيرات. ومن ثم تناقص تهافته على الدنيا. ولكن تركية تكسر أفق انتظارنا حين تجعله مازال يغدق الاهتمام والمال من اجل دنيا المتع(ميسون).
يفترض أن لا اعتباط في الفن بمعنى أن شخصية مسعود تكون متمتعة بالسعادة. ولكن هذا لم يحدث في القصة. فهل القاصة أخطأت في التسمية؟ قد يكون الأمر كذلك. ولكن إذا عملنا بمقولة “كسر أفق انتظار القارئ”، فإننا نجد مسعود غير سعيد بالمرة. وأن ما كان ينتظره القارئ من الزفاف الخامس أن يحقق ما لم يتحقق في المرات السابقة. حيث حدث ما لم يكن في الحسبان حيث أقبل الحاج مسعود على محاولة قبل ميسون حتى يخفي عجزه الذكوري وينتقم من ميسون التي راحت تبتزه كل مرة دون أن يستطيع إسكات ألسنة الناس. فصفة (الحاج) تعطي ملمحا سيميائيا منزوعا أو مجرّدا من دلالته المعجمية إلى صفة قدحية، ما دامت قد فقدت السعادة، وصفة الرزانة والتدين التي ترتبط بمن يزور بيت الله. خاصة وانه انقلب إلى الانتقام والقتل. فالحاج خيب ظننا في حجه. وخيب ملفوظ (مسعود) ظننا في سعادته. وخيب ملفوظ الزفاف ظننا في صناعة الفرجة والفرحة، حيث انتهى بالدم والدموع.
2. ميسون: اسم عربي من أصول فارسية، وهو بمعنى ذات الوجه الأحمر، كما يعني المتمايلة أو الرزينة حسبما جاء في قاموس المعاني. غير أنه قليل التداول في البيئة المغاربية عامة والجزائرية خاصة. فلماذا اختارت الكاتبة اسم ميسون؟ ما هي القصدية التي من أجلها اختارت القاصة هذا الاسم؟ هل هناك حمولة أو مرجعية اجتماعية أو سياسية أو تاريخية تؤطر هذا المسمى الذي على ضوئه تم الاختيار؟. لا نجد أية علافة في النص مع ملفوظ ميسون. فهي مجرد تسمية تعيين ووسم. ثم ما هي الدلالة الصوتية أو الجمالية الشعرية التي دفعت الكاتبة إلى تبني هذه التسمية؟
يقول النقد لا اعتباط في الفن. فكل لفظ إلا وله من بنيته نصيب في النص، تتحقق به غاية معينة. وأنا لا أرى توافق بين الاسم ومسماه. فهو تسمية اعتباطية لم يمنح هذا الاسم إضافة ولم يشغّل قصدية معينة.
3. جلال: اسم متداول عند المسلمين والمسيحيين، وهو من أسم من أسماء الله الحسنى يكون مقرونا ب “ذو” فيقال فلان (ذو الجلال)، والجليل من أسماء الله الحسنى، العظيم القدر
ويقال جليل المقام، وهو المحترم الوقور كما جاء في معجم المعاني))، وهي الصفات الخلقية التي ارتبط بها الشاب جلال في القصة، يرمز إلى الشباب الذي يضحي بجهده في سبيل الآخرين. يضحي من أجل عمته، ويضحي من أجل ميسون فيرافقها إلى المستشفى، ويقتحم من أجلها دار الحاج مسعود ليس كلص أو مبتز، وإنما اقتحمه من اجل توفير مبلغ علاج ميسون وهي زوجة الحاج مسعود. حيث تم توفير المال في ظروف صعبة جدا. فهل هو صراع الأجيال؟ هل هما الخير والشر المحيطان بالدنيا(ميسون)؟

ثانيا: في سيمياء العنوان:
العنوان (زفاف للمرة الخامسة) ينداح بين دلالة معجمية، مباشرة تشير إلى قران متكرر ومن ثم فهو تعبير عن الفرحة والبهجة، وبين دلالة عدول وانزياح، حيث ينصرف ذهن القارئ إلى دلالة متمردة عن المعيار الدلالي أو المعنى المركزي للملفوظ. فهو عنوان مراوغ بقدر ما فيه من الفرح فيه من التساؤل: لماذا زفاف للمرة الخامسة؟ أهو تعبير عن ذكورة طاغية احتاجت إلى خمس نساء؟ أهي زيجات فرضها فشل معين حتى بلغت خمس مرات؟ أهو زفاف ينطلق من مبدا تعدد الزوجات التي يقول بها الدين الإسلامي؟ كما قد يحيل العنوان إلى دلالة أخرى تهكمية قبل قراءة النص. فالعنوان إغرائي إغوائي محفز.
ويتساءل قارئ النص: أهو زفاف للمرة الخامسة أم عجز ذكوري للمرة الخامسة؟.
حين نقرأ القصة، نشعر بخيبة أمل ومحاولة ترميم فاشلة للمرة الخامسة، وبالتالي، فهذا العنوان يكسر أفق انتظار القارئ من الفرح إلى الخيبة. ولم نجد فيه ما كنا نتوقعه من أن الحاج مسعود مزواج وله من الإمكانات الجسدية والمادية ما يحقق له ولزوجته الكثير. خاصةً وأن الكاتبة قرنته بفترة زمنية كبيرة ( خمس مرات).

قصدية القصة: أودعت الكاتبة في قصة “زفاف للمرة الخامسة” وجهة نظر واسعة حول خيبة أمل الأفراد والجماعات في الوصايات المختلفة التي تزري بهم، وتؤفل نجمهم.
نقرأ في القصة عدة رسائل، معلنة ومضمرة، أهمها:
• التنبيه إلى الأزمات الزوجية التي يتسبب فيها اللاتكافؤ وعدم التجانس وعدم التوافق النفسي والجسدي بين الزوجين.
• اتكاء المتسلطين من الرجال على الذكورية لتحقيق ذواتهم في المجتمع مستغلين الضعف البشري والهشاشة الاجتماعية عند المرأة.
• إدانة المجتمع والحاج مسعود وميسون وأهلها في نفس الوقت:
1. هو بتمسكه اللامشروع بميسون رغم أنه فاقد للقدرة الذكورية(عنين) وذلك حتى يتستر على عجزه وينسب إرجاعها في كل مرة إلى خلافات عابرة. وإلا كيف يفسر الناس عودتها في كل مرة بعرس ومهر مشهود؟:
2. ميسون بسكوتها عن مرض زوجها إلى درجة أن ظلت عذراء للزيجة/الدخلة الخامسة
3. عائلة ميسون التي لم تتنبه للأمر مما جعل ابنتهم تعيش حالة من القهر النفسي وإعادتها إلى بيت الزوجية في غموض تام دون مساءلة الظروف وإلحاح زوجها على إرجاعها غير المشروط في كل مرة حتى انتهى أمرها بمأساة..
ولولا الحوار الذي سمعه الشاب جلال لظلت المأساة الجنسية قائمة ولا ندري ما ستكون تبعاتها.
وفي الختام، نسجل بأن القاصة تركية لوصيف، قاصة واعدة، تتحكم في أدواتها الفنية إلى حد كبير. غير أنه من الواجب القول بأن أي عمل لا يخلو من نقص مهما كان. وهي سمة العاملين بصفة خاصة، فغير العاملين وحدهم الذين لا يخطؤون. نتمنى للكاتبة مزيدا من التوفيق. والكتابات الواعدة.

“وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون.”

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى