مصطفى فودة - قراءة فى رواية ستوديو الحجاز للكاتب الروائى محمد إبراهيم طه

هى الرواية السابعة للكاتب الروائى محمد إبراهيم طه وقد سبقتها ست روايات وخمس مجموعات قصصية ، ومن أبرز سمات الرواية استخدام التقنيات الحديثة بصورة مكثفة مثل التقديم والتأخير فى سرد الأحداث فالرواية لا تمضى فى خط تصاعدى من الماضى إلى الحاضر إلى المستقبل بل تكسر التراتب الزمانى والمكانى وذلك من خلال تقنيات العودة للوراء (الإسترجاع) والإستباق والتلخيص والحذف والوقف وغيرها من التقنيات التى احتشدت بها وإن كانت تقنية الاسترجاع هى الأكثر استعمالا فى الرواية ، كذلك من خلال تقنية الرواية داخل الرواية ينسج الكاتب روايته موضع القراءة ، وربما أحدثت كثرة هذه التقنيات بعض الإرتباك للقارئ إلا أنه سرعان ما يتابع أحداث الرواية ويألف تلك التقنيات ، وعلى سبيل المثال الفقرة الأولى من الرواية تبدأ هكذا" سيمران الآن(إستباق)الموعد مؤكد لعشرين عام لم يخلفاه (تلخيص) من مجمع الإسكواش إلى ميدان المحكمة والعودة ستة كيلومترات ، خطوات رشيقة ومنسجمة ، لا بطء لا هرولة من نقطة الإنطلاق إلى نقطة العودة (وصف وقف للحدث )...مين دى؟ (إسترجاع بداية تعرف الرفيق على شجون من عشرين عاما ) وهكذا يطول رصد التقنيات السردية فى الرواية ،فهى بحق رواية تقنيات سردية بإمتياز ويحق دراسة تقنياتها السردية ببحث منفصل .
يشيرعنوان الرواية إلى عنصر المكان ، فالأستوديو هو الشقة الصغيرة التى يقيم فيها شخص بمفرده أو مكان للتصوير الفوتوغرافى أو السينمائى ، والحجاز قد تشير للوهلة الأولى إلى المنطقة التى بها الكعبة ويحج إليها المسلمون بالمملكة العربية السعودية ، ولكن بمتابعة القراءة يتبين أن استوديو الحجاز هى شقة صغيرة فى الطابق الرابع بعقار بشارع الحجاز بمصر الجديدة يتخذها تنظيم شيوعى سرى مقرا له لإدارة وتوزيع المنشورات فى التجمعات الطلابية والعمالية ومن المفارقة أن يصبح الأستوديو مكان علاقات غرامية بين طه (الشخصية الرئيسية) وبين داليا الحسينى (كانت زميلته بالكلية)، ومن المفارقة أيضا أن يكون ترك الأستوديو من شروط زواجه من شجون حبه الحقيقى .
يقوم بناء الرواية على خطين رئيسيين الخط الأول هو تناول حقبة من تنظيم شيوعى سرى فى مصر اتخذ أستوديو الحجاز مقرا له، ومن أعضائه شاكر عبد الحميد شاكر (الرفيق شيكو) الرفيق الاول ومسئول التثقيف فى التنظيم وهو شخصية عصامية كان عاملا وانتهى إلى درجة الدكتوراة فى سن الرابعة والسبعين قبل موته فى سن الخامسة والسبعين ، وطه محمود أبو حديدة (الرفيق طنطاوى) مدرس لغة روسية بكلية الألسن ومجموعة من أعضاء الخلية بأسمائهم الحركية مثل الرفيق بحبح والرفيق كوباية وغزال المجروشى وغيرهم من الأعضاء، قام التنظيم بعمل وقفات إحتجاجية للتصدى لبيع شركات القطاع العام وتسريح العمال وآخرها الوقفة الإحتجاجية أمام مصانع إسكو إلى أن حلَّ التنظيم نفسه بعد أفول اليسار وهزيمة المعسكر الإشتراكى فى مواجهة الرأسمالية وتفكك الإتحاد السوفيتى وتصاعد المد الدينى وسيطرته على الجامعات والمجتمع ومع ذلك ظل أعضاؤه يشاركون فى المظاهرات الإحتجاجية وثورة 25 يناير مثل الإعتصام أمام الإتحادية بعد حكم الإخوان المسلمين وفوزهم فى الإنتخابات ، اتسم هذا الخط بكثرة المعلومات وبعض المباشرة فى التحليل لماذا أخفق اليسار ، كما احتوى على فقرات أقرب إلى المقال منه إلى الأدب مثل " سقطت الإشتراكية فراودتنى أن السقوط لأخطاء فى النظرية وإن ظل الرفيق يعزوها إلى أخطاء فى الاتطبيق ، فالأفكار الكبرى والعظيمة لا تنهزم بهذا الشكل الوضيع ، وظل ينظر إلى ماحدث على أنه جولة من جولات الصراع الذى نجحت فيه الرأسمالية فى خلق دولة الرفاهية لكنها تحولت إلى رأسمالية متوحشة بمؤسسات إقتصادية جعلت من دول العالم الثالث توابع لها تملى شروطها عليها..."ص25 .
أما الخط الثانى فى الرواية فتدور حول قصة حب بين زميلين فى كلية الألسن قسم اللغة الروسية وهما طه محمود أبو حديدة من أصول ريفية والده شيخ جامع بالقرية مات وتركه صغيرا ورباه خاله حتى سكن بالمدينة الجامعية، ثم بأستوديو الحجاز، وشجون عبد الرافع الغاياتى زميلته بنفس القسم، يعمل والدها ملحقا عسكريا للسفارة المصرية بموسكو وأمها من لبنان توفيت وتقيم وحيدة بشقة فى مصر الجديدة ترى ملاعب الإسكواش ، تخرجت كان ترتيبها الأولى على الدفعة ، وقد تنازلت على تعيينها معيدة فبفضلها عُين طه أبو حديدة معيدا بالكلية ثم حصل على الدكتوراه من روسيا وعين مدرسا بالكلية ، تصفه شجون بأنه "خائف متردد يخشى الوقوع فى الخطأ ويبالغ فى الإبتعاد والتشكك ويتحول دون أن يدرى من محب إلى خائن وقالت كأنها تقرأ الرمل "يبدأ طاهرا ويخوض فى الوحل فى المنتصف ثم يغتسل فى النهاية " ص٣٥ وكانت أشبه بنبوءات التراجيديا اليونانية وقد تحققت نبوءتها بالفعل، ظل طه أبو حديدة مترددا فى الزواج منها إلى أن طلبها الرفيق شاكر عندما رآها وهى تحيه مصادفة بالشارع ، وقد كان الرفيق شاكر فى سن الخامسة والخمسين بعد وفاة زوجته وطلب منه عرض طلب زواجه عليها، فوجئت شجون بذلك الطلب معتقدة أن طه يحبها وأنه سيتقدم إليها لنفسه ،وعندما ألح فى الطلب معتقدا أنها سترفض لفارق السن إذ بها تجيبه "مادام من طرفك ..خلاص " وأفلتت فرصة زواجه منها لمدة عشرين عاما حتى وفاة زوجها الرفيق شاكر فى الخامسة والسبعين من العمر ، وبعد خمس سنوات وافقت شجون على زواجها منه عندما تأكدت من طهارته من علاقاته النسائية وكأن نبوءتها السابقة تتحقق .
تتكون الرواية من أربعة فصول كل فصل له عنوان واسم شخصية من شخصيات الرواية أما الشخصية الرئيسية طه أبو حديدة فهو فى جميع الفصول ، والفصول كالآتى على التوالى : الفصل الأول بعنوان صباح الخير يارفيق /شاكرعبد الوهاب شاكر ويعقبها عبارة تمثل شخصيته "الإنسان قادر، إذا أراد شيئا ، كان له ما أراد "ص3 ، الفصل الثانى بعنوان أحزان اليسارى القديم /شجون عبد الرافع الغاياتى وتليها عبارة تمثل شخصيتها "لا سلطان على العقل إلا العقل" وهى رواية داخل الرواية، الفصل الثالث ص32 ، الفصل الثالث بعنوان المجد للأشرار فاكهة هذا العالم/أحمد الهن وفيه يصور شخصيته كقواد بما يسمى إستطيقا القبح ص49، والفصل الرابع كنت أحبك والآن لم أعد/ داليا عبد القادرالحسينى ص73 .
هناك تقنية الرواية داخل الرواية وقد ميزها الكاتب بالحروف السوداء الغامقة وسماها أحزان اليسارى القديم كما ميز فصولها بحروف الأبجدية (أ) ، (ب) ، (ج ) و( د) حيث بدأ طه أبو حديدة فى كتابة روايته بادئا " أكان لابد أن يضيع عقدان من عمرهما حتى يكتشفا أن ما بينهما كان حبا لا صداقة .."ص9 وهى فى الحقيقة استكمال واستمرار للرواية الرئيسية ومن الممكن قراءة الرواية دون أن يلحظ القارئ أن هناك رواية أخرى بداخلها .
اتسمت العلاقات النسائية فى حياة شخصية طه أبو حديدة بالحسية منذ أن كان صبيا صغيرا مع ابنة خاله نبيهة حيث شاهده أبوه وهو فوقها فهوت كف أبيه على صدغه قائلا حد يبهدل بنت خاله كده، ومنذ ذلك الوقت اتسمت علاقته مع المرأة بالسلبية فكان يخشى المبادرة وينتظر الخطوة الأولى منها، كانت داليا الحسينى زميلته فى الكلية قد رغبت فى الزواج منه إلا أنه اعتذر لوجود فوارق إجتماعية ومالية كبيرة بينهما وكانت تغار من شجون، تزوجت داليا من جابر عبد الحق السواح صاحب محلات الجابر وأنجبت منه ولدا ، قامت داليا بإيقاع طه أبو حديدة بالزواج من ابنة أختها إيمى والتى أنجبت له مروان واتخذتها جسرا إلى العلاقة معه والتى زادت وأصبحت أكثرحسية وحميمية بعد طلاقه من إيمى وأنجبت داليا منه ابنة اسمها نور ونسبتها إلى زوجها جابر، ثم شرعت فى إنجاب طفل آخر منه، تعرف طه أبو حديدة على عدة فتيات منها زميلته الدكتورة هند الموجى كما تعلق بفتاة رآها للمرة الأولى اسمها البتول والتى تزوجت وسافرت إلى الكويت ، كما عرض عليه شخص يدعى أحمد الهن وهو موظف بالكلية ومختص بتنظيم العمل بالمدرج رقم 6 ولكنه كان أقرب بتصرفاته وعلاقاته وسلوكه إلى القواد، عرض عليه فتيات كثيرات للزواج ولغير الزواج ولكن كان قلبه متعلقا بشجون حبه الحقيقى .
كانت لغة الرواية باللغة الفصحى البسيطة واتسمت بالجمال فعلى سبيل المثال يصف حبيبته شجون"فنظرتها آسيانة ، كانت مقبلة على بكاء أو منتهية للتو منه ، وملمح وجه أقرب إلى فيروز ، عينان ناعستان ، لا تديم النظر إلى محدثها حتى فى الصور، لا تحدق فى كاميرا تعيش مع نفسها أكثر مما تعيش مع الآخرين ، كأنما تمنع أسى داخليا من الخروج إلى العلن ، متوحدة مع الكتب ، وفى الخلفية أغانى فيروز، لا تعاتب، نظراتها تقول أكثر مما يقول لسانها "ص33 ، والصورة الجمالية "ونصحنى ألا أقضى باقى عمرى أجترَّ كجمل عجوز علاقتى بداليا من البداية إلى النهاية "ص74 .
أما الحوار فكان مزيجا من الفصحى المبسطة والعامية القريبة من الفصحى مثل الحوار بين طه أبو حديدة وداليا الحسينى
- نور لا تخصِك وحدِك ..أريد أن أرى ابنتى
- بنتك تعالى شوفها
- الليلة لو عايز الساعة تمانية
كان السرد بصوت ضمير الأنا وهو شخصية طه أبو حديدة إلا أن شخصيات الرواية قد عبرت عن نفسها بأصواتها فكان السرد أكثر حيوية وجاذبية للقارئ .
كانت نهاية الرواية مفتوحة إلى حد ما وملغزة بعض الشئ ، كان طه أبوحديدة يحتفل بعيد ميلاده السابع مع زوجته وحبيبته شجون وطرق الباب عامل توصيل وسلمه صندوق به تورتة وانصرف وبفتحه وجد تورة بيضاء أقرب إلى لوحة رخامية على جدار مقبرة مستطيلة عليها تاريخ ميلاد وتاريخ رحيل (1963-2025) وعليها صورته وأسفلها صورة الرفيق شيكو وعندما اتصلوا بالمحل تبين أنه لم يرسل بعد التورتة المتفق عليها وأنه سيرسلها الساعة الثانية عشرة "فنام على صدرها وطوقته بذراعيها فتشبث بحضنها الدافئ كطفل مغمض العينين وفى الساعة الثانية عشرة إلا ربعا تراخت أصابعه المتشبثة شيئا فشيئا، فأراحت رأسه على الوسادة وقالت تصبح على خير يارفيق"ص94 ، وهنا يثور سؤال مَن مُرسِل هذه التورتة المشؤمة، ربما تكون داليا الحسينى انتقاما منه لأنه تركها وتزوج من غريمتها شجون وهذا الإحتمال هو الأقرب إلى المنطق ،والسؤال الثانى هل تراخى أصابعه المتشبثة موت أم نوم وكلاهما قد يكون صحيحا وذلك لرد فعل شجون الهادئ والمحايد إلى حد ما، وهى أسئلة تركها الكاتب للقارئ يساهم بفكره وخياله فى الإجابة عليهما .
استطاع الكاتب محمد إبراهيم طه أن يكتب رواية بديعة حشد فيها تقنيات حديثة وبلغة سردية جمالية وبناءا فنيا مركبا بمهارة كاتب له خبرة كبيرة فى الكتابة السردية فنجح فى إنتاج هذه الرواية البديعة .
May be an image of ‎text that says '‎محمد إبراهيم طه ستودایو نا حازه رواية دار النسيم للنشر والتوزيع‎'‎

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى