رياض بوبسيط - جماليَّةُ الإحالَة ودَهشَةُ السُؤَال في شعر محمد سليم الميداوي

لم تأتِ لسانيات النصِّ بإجتهاداتها وبحوثها من أجل أن تتجاوز نحوَ الجملة إلى ما يعمُّها فقط، بل لتُثبثَ أَيْضًا أنَّ الجملةَ مكانُها النصُّ، وإنما هي عنصرٌ يتتابع ويتتالى خدمةً للنص الطويل، وعلى هذا الأساس وضعت هذه الجهود مجموعةً من المعايير والشروط التي يجب أن تخضع لها الجملةُ النَّحوية في طريق تشكيلها لنصٍّ يفوقها في التراكيب ويحتويها في الدلالة، ومن هنا تحديداً أصبحت كلُّ الإشتغالات النصّيَة تمتثل لهذه الأساليب اللُّغوية والدلالية بهدف الإرتقاء بالنصِّ الأدبي إلى مستوى التكامل والكمال.
إنَّ توظيف هذه المعايير وإشتغال النصوص عليها، يمنحها قوةً في السبك وترابطاً في المعنى، فيتحوّلُ هذا النص إلى كتلة لا تقبل التجزئة ولا التفكيك.

إنَّ أهم ما يربط النصَّ بعضَهُ ببعضٍ، هو أسلوب الإحالةِ، والذي يعتبر من أَكْثَر المعايير استخداما في كلِّ النصُّوص تقريباً، وذلك لأنه يساهم وبشكلٍ فعال في الوصل بين الفكرة والتدرج في كتابتها من جملةٍ إلى أخرى أو من مقطع نصيٍّ إلى آخر، عن طريق العودة إلى ما سبق أو التلميح إلى ما سيأتي.
وإذا ما خصَّصنا الحديث عن الشَّعر فإنَّ الإحالة فيه من الأساليب التقنية والجمالية التي يتعمّدُ الشعراء استخدامها، تفاديًا لأساليب أخرى قد تهوي بالنصِّ إلى درجة الركاكة والترصيف، حيث أَنَّ الإحالة تمنع النصَّ من تكرار الأفكار والصور والدلالات التي تمّ الحديث عنها في أبيات سابقة وتكتفي بالإشارة إليها بطريقة جمالية تمنحُ النصَّ حيوية أكبر، وتفتحه على دلالات وتأويلات جديدة.

ونحسبُ أنَّ الإحالة في الشعر تكونُ معياراً لنضج التجربة الشِّعرية وحسن الإشتغال عليها، إذ لا تكون الإحالةُ لغويةً بحتةً بتوظيف الضمائر فقط، بل تكون أرقى من ذلك لعمَلِها على ربط الرؤية الشعرية في النص ومنح أوصافٍ وصورٍ متتابعةٍ لدلالات أراد النصُّ كتابتها، وإنما الإحالة تتابعٌ لفكرةٍ بدأت في السطر الأول وتنتهي بمجرد إنتهاء كلِّ إشتغال أدبي.


1717955432172.png

بعد الإطلاع على نصوص الشاعر محمد سليم الميداوي، وجدنا أنَّ هذه الأخيرة وظفت الإحالة كأسلوب لغويٍّ وفنيٍّ، زاوج بين ما هو شكليٌّ وبين ما هو معنويٌّ، ونحن هنا نقصد أنَّ الإحالة في نصوصه التي أتينا عليها اعتمدت مختلف الضمائر اللغوية لتُحيلَ إلى ما هو مقامي، ونوضِّحُ ما ذهبنا إليه بهذا المقطع الذي يقول:
فَقَالَ : "سُرُورُ الحُرِّ ثَوْرَتُهُ إذَا
قَضَى فَسَعِيدٌ أوْ فَرَبُّكَ مَوْجُودُ

كَسَوْتُهُمْ ثَوْبَ المُرُوءَةِ حَيْثُمَا
مَشَوْا فَاحَ مِنْ أكْمَامِهَا المِسْكُ وَالعُودُ

وَأطْعَمْتُهُمْ خُبْزًا تَمَنَّوْنَ مِثْلَهُ
وَأشْرَبْتُهُمْ مَا عَصَّرَتْهُ التَّحَامِيدُ

وَأهْدَيْتُهُمْ عُمْرَيْنِ إمَّا شَهَادَةً
وإلًّا حَيَاةَ الشُّمِّ وَالعَيْشُ تَخْلِيدُ

وظيفة الضمير " هم" هنا، والذي تكرَّر في بداية كلِّ بيت شعريٍّ، وبالتحديدِ في كلمات ( كَسَوتهُم، أَطعَمتهُم، أشرَبتَهُم، أَهديتَهُم)، هي الإحالة إلى من تقصدهم هذه القصيدة بأوصافها وتشبيهاتها، حيث اكتفى النصُّ بهذا الضمير على أن يذكرهم كلَّ مرةٍ وفي كل بيتٍ يشتغل عليه، هذا ويجدر الإشارة إلى أنَّ فهم القصدية ومعرفةَ المقصود في هذا المقطع لم يكُن ليكتمل لولا الإحالة المعنوية، فالضمير "هم" كان الغرضُ منه فهم المقام الذي يحيل إليه النص وهو واقع الشعب الفلسطينيِّ الذي يعودُ عليه هذا الضمير، فالإحالة هنا كانت لغوية لمعنًى لا يمكن فهمه إلا من خلال المقام، حيث انّنا أدركنا بأنَّ هذا النصَّ يصف حال الفلسطينيين مقامياً وليس لغوياً، فالضمير هم يمكن أن يعود على أيٍّ كان.

إنَّ الوقوف عند المقاصدِ الْحَقِيقِيَّة لكل إحالةٍ لغويةٍ تتطلب معرفهَ معاني النص والإحاطةَ بمقاميته من جهة، وكذا التمكُّن من أسلوب الإحالة كتقنيةٍ تعمل على التناسق الكبير بين المعنى والمبنى، حيث أن الإحالة إلى مقامية النص ومعانييه تتطلب التوظيف الدقيق للضمائر المناسبة في المكان المناسب لها لتكون فيه، خاصةً وأنَّها الإحالة الشكليّةُ التي تضع المتلقي في الزاوية المثالية لتحليل المعاني وتأويلها تأويلا صحيحًا. فلا يحالُ المتلقي إلى غير مقامِ النصِّ، ولا أن يعجزَ الضميرُ عن الإيحاء بالمعنى الذي وظفَ من أجل الإحالةِ إليه.

جاء أيضاً قول الشاعر:

نحنُ الكثيرُ إذا قُمنا، القليلُ إذا
نِمنا، وغفوتُنا كالميْتِ حينَ غفا...

فيا خليليَّ ما للرّدْمِ من خبرٍ
قفا عليه طَوال الدهرِ نبكِ قفا..

في هاذين البيتين، تتضح لنا القيمةُ الجماليةُ للإحالة كأسلوب فني ونصيٍّ يعمل على نسج الأبيات وإكمال بعضها البعض، فعلى الرُّغم من أنَّ الأبيات وردت في آخر نص " سجود سهوٍ لأولى القُبلتين"، إلا أنَّها كانت متممةً لما سبقها من أبيات، بل إنَّا نراها تدرجت بالنص في معانيه ولم تخالفها لا من حيث التوصيف، ولا من حيث المقصود الذي تحيل إليه الهاء، والتي بدورها تحيل إلى مقامية نصيّةٍ فلسطينية يمكن فهمها والوقوف عندها من خلال عبارة قفا عليه.... نبكِ، فلا مقام يحتاج إلى البكاء إِلّا المقام الفلسطيني. ولمَّا نتساءل ألا يمكنُ للشاعر أن يوظف مصطلح الفلسطيني بصريح العبارةِ وجدنا أنَّ الإحالة أفضل من التصريح حتى تمنح للنصِّ الشعريِّ ما يحتاج إليهِ من تضمينٍ وغموض، وحتى يكون المتَلقي أمام نصٍّ ناضج تحركُّه الإحالةُ ويفكَّكهُ التأويل والبحثُ عن المعنَى والمعنيِّ بالأمرِ أَيْضًا.
أمَّا ضمير النون الذي يعود على الجمع، في كلماتٍ كنِمنَا، فيمكنُ الإدراك بأنّه يعود على المجتمعِ العربيِّ من خلال الإحالة المقامية، فالمجتمعُ العربيُّ نائمٌ عن قضيتهِ الفلسطينية. وبالتالي فهذا الضمير يحيل إلى مقامية العرب.



إنَّ الإحالة عند محمد سليم الميداوي، اقترنت في بَعْضٍ من نصوصه بدهشة السؤال، فكان النصُّ يكثرُ من طرحِ الأسئلة التي وبتتبعها وجدنا المعنى الجوهري الذي تقصده هذه النصوص، فالغاية من السؤال هنا غاية جمالية دلالية، تساعد المتلقي على فهم فحوى النص، انطلاقاً من هذه التساؤلات التي تفتح النص على إفتراضات وتوقعات مختلفة، يمكن لها أن تزول بمجرد الوصول إلى المقامية الأساس التي جعلت هذا النص يتساءل.

يقول:

وجهِ الخريطةِ، لكنَّ الدَّمَ ارتَجفا
أصغى لصرخة أمٍّ في الفوات ربتْ
"ماتوا جياعا" وهلّتْ فوقهم حشفا
ماذا إذا شبعوا من ثَمّ وانصرفوا
فهل سيأمن شبعانٌ إذا انصرفا؟
وفي الحقيقة جوعُ المرءِ موطنُهُ
إذا استُبيحَ، فضيفٌ حيثما ثُقفا
"عُرباه عرباه" نادتْ في الفراغِ، وهل
إلّا فراغٌ بلادُ العُرب وا أسفا...

تحيل الأسئلة الموجودة في هذا المقطع، إلى المقامات التي خلقت هذا النصَّ وشكَّلتهُ، حيث كان النص يحيلُ إلى الحالِ والواقعِ والمآل الفلسطيني فكان يسأله ويُسائِلُهُ، وإنَّا نحسب أنَّ الحديث عن القضية الفلسطينية كان ليكون عاديًا ومألوفاً على إعتبار أنَّه موضوعٌ اشتغل عليه معظمُ الشعراء لولا أنَّ هذا النصَّ كان يحيل إلى تلك المعاني والظروف بالأسئلة والإستفسار. ففي قوله:

ماذا إذا شبعوا من ثَمّ وانصرفوا
فهل سيأمن شبعانٌ إذا انصرفا؟

نلحظ أن الواو كضمير إحالة تعود على الفلسطينيين امتثالاً لمقامية الجُوعِ والشَبَع طبعاً، لكن الدهشة والحيرة التي أثارها هذا التساءُل، منح للنصِّ بعدًا جمالياً آخر يتمثل في التناقضِ والتضاد، وهو أيضاً يُحيلنا إلى تخيِّل مقامٍ آخر غير المقامِ الذي هم عليه الآن، فهل تغيُّرُ جوعهِم إلى شبع كافٍ ليضمن لهم الأمن والأمان، هذا السؤال بالضبط يجعل المتلقي يفهم ويحسُّ بأن الأوضاع التي يحيل إليها النص قاسية جداً. وربما هذه هي الغاية الجوهرية من هذا النص.

وقولنا أن الإحالة أسلوب جمالي ومعيار فني يمنح للنص انسجامه المعنوي والموضوعي لا خلاف فيه، لكنا لا نرى أن الإحالة تقتصر على التوظيف النحوي للضمائر فقط، وإنما تقوم على فهم النص للمعاني التي يمثلها، والمقامات التي ينطلق منها في صياغة أفكاره، حتى لا يكون الضمير في غير محله، وحتى لا تصبح الإحالة عودة بالفكرة إلى نقطة الصفر ما يستلزم تكرار الكلمات والجمل من جديد وهنا يكون النص في حلقة مفرغة. ومنه نقول أن حسن الإشتغال على الإحالة اللغوية بما يناسب المقامية المعنوية يجعل هذه الأخيرة بمثابة الرابط الذي يصل بين البناء اللغوي ( الضمائر) والأفكار ( المقامات والشخصيات) التي تدل عليها.
ويمكن لنا أن نستشهد على ما نقول بهذا المقطع:

بِأَيِّ سُرُورٍ جِئْتَنَا اليَوْمِ يَا عِيدُ؟
وَأهْلٌ لَنَا فِي غَزَّةٍ مَا لَهُمْ عِيدُ

بِأَيِّ ثِيَابٍ قَدْ كَسَوْتَ جُلُودَنَا
وَهُمْ أكَلَتْ جِلْدَ العُرَاةِ الأخَادِيدُ!

وأَيِّ طَعَامٍ وَالمَجَاعَةُ عَجَّنَتْ
لَهُمْ عَلَفًا قَدْ عَافَهُ النَبْتُ وَالدُّودُ!

وأَيِّ حَيَاةٍ بَعْدُ مَنَّيْتَنَا بِهَا؟
وَشَطْرُهُمُ تَحْتَ الصَّوَارِيخِ مَوْؤُودُ!"

ما يلفت الإنتباه في هذا المقطع، هو أن السؤال ورد بشكل متتابع، إذ تتالت الأسئلة في هذه الأبيات بشكل متآلف، فلم تكن ثقلاً على التركيبة النحوية، وما جعلها تتآلف هي أنها تحيل إلى مقامية واحدة، وبضميرين تكررا كثيراً لأنهما يعودان على العرب(نحن) والفلسطينين ( هم). هاذين الضميرين حددهما المقام، ولذلك كانتا تحيلا إليه لغوياً ودلاليا.

لم يكن السؤال في هذه المقاطع المذكورة ذا وظيفة استفهامية بقدر ما كان ذا وظيفة إيحالية تساعد على قبض المعنى والوصول.

وبعد كلِّ هذا يتبيَّنُ لنا جميعاً القيمة الكبيرة للإحالة كأسلوبٍ من أساليب الكتابة، لمَّا يؤديه من وظائف جمالية ونصِّيَّة وفنيَّة ودلالية داخل النصِّ الواحد، فبالإحالة تتسلسلُ الأفكار وترتبط المقاطع، مشكلةً خطاباً مترابطاً بأفكارهِ، قويًّا بمعناه، مؤثراً بإيحاءاته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى