أنا واحد من الذين يجدون متعاً كثيرة في قراءة مقدمات بعض الكتب المحققة، وأستمتعُ بإتيان المحققين على ما اكتشفوا، وصادفتهم من مفارقات مستعصية، ونوادر وتفاصيل، كبُرت أم صغرت، بل وتكاد المقدمات تلك أن تحملني معهم الى المتون والمضامين قبل تورّقها وتصفحها، وأجدني مصلوباً على خشبات الساهرين، محترقاً بمصابيحهم، التي أهتدوا بها لما غمَّ عليهم، وامحى من الحروف والأسطر، فسلام عليهم ما طلعت وغربت شمسُ المعرفة.
أزداد شوقاً الى أولئك الأفذاذ الذين كلّت أعينُهم، وهم يتصفحون، ويقلّبون نسخَ المخطوطةِ هذه، ويرجعون الى نسختها الأخرى، صاعدين ونازلين، ومتجولين بين أرفف الورق، متسخين بأجمل غبار في الوجود، من أجل معلومة صغيرة.. ياه، ما أكبر جهد العالمين هؤلاء، وهنا لا أجدني غير منحنٍ أمام عظمة الكبار: صبحي عبد الحميد، وعبد السلام هرون، ومحمد محي الدين عبد الحميد، و طه الحاجري، وإبراهيم السامرائي، ومهدي المخزومي، وكامل مصطفى الشيبي.. وسواهم من الأعلام العاملين الى يوم الدين.
أتقدَّمُ للقارئ بالسطور هذه وبين يدي مخطوطة "عوالم متداخلة" للشاعر الكبير محمود البريكان، التي كلّفتُ بتحقيق نسختها، والتي تمكّن فريقٌ عراقيٌّ، مخلصٌ، وغيورٌ من العثور عليها، بعد بحث طويل، ودأبٍ مضنٍ، سبقته أسفارٌ، واحاديثُ، وحواراتٌ، وتوسّطاتٌ بين شخصيات ثقافية، عراقية وعربية، هاتفت وخاطبت وتنقّلت بين البصرة والرياض وبغداد حتى أمست المخطوطة في موطن شاعرها، الذي أرادها أن تكون أوَّلَ عملٍ شعريٍّ مطبوعٍ يصدرُ له، والذي أكّدهُ بخطِّ يده، على صفحة المخطوط الأولى.
كنا قد اكتشفنا محمود البريكان شاعراً رائداً مختلِفاً، ومخْتَلَفاً فيه، نستحضره بإكبار وإجلال، كلما ضمّنا مجلسٌ، وخِيضَ فيه بحديث الشعر، والحداثة، والريادة، حتى لم يكدْ حديثٌ ثقافيٌّ يخلو منه، ثم صرنا نحفظُ القصائدَ، التي نشرت له، في المجلات، وتوسّعنا في ذلك، فصرنا نتذكرُ القصيدة التي نُشرت في "الفكر الحي" أو "المثقف العربي" أو "الاقلام" وغيرها، وذهبَ بعضُنا الى البحث عن القصائد والحوارات، المنشورة له، وعنه، في المجلات العربية، مثل دمشق والكويت. وبالغ بعضُنا في حبِّه شاعراً وإنسانا كبيراً، والتقرّب من تجربته، فجمع قصائده المنشورة، منذ العام 1946 ورصد تجربته، وتحولاته، في الأشكال والمضامين، وصار بعضُنا الآخر َيكتبُ بقلمه القصائد، المتناثرة في الصحف والمجلات، بدفاتر محتفظاً بها، راجعاً اليها، كلما أختلف متحدثون بمكان نشرها، وتواريخ كتابتها، وهكذا صرنا مضطرين الى الرجوع لهذا وذاك منهم، وإعتمادها بوصفها جزءًا من آلية التحقيق، التي نسعى الى كمالها.
يحتفظُ الصديق الشاعر علي نويّر بدفترٍ ضمَّ أكثر من تسعينَ قصيدة لمحمود البريكان، فيها الكثير من تجربته العمودية، وهنا سنكون بمواجهة شاعر عمودي مختلفٍ، أيضاً، وكذلك كنتُ قد إطلعتُ نهاية عقد التسعينات عند الشاعر عبد الخالق محمود (1945-2001) على دفتر حوى الكثير من قصائد الشاعر، مخطوطةً بقلم الأخير, وهناك أكثر من مُحتَفِظٍ غيرهما، بكل تأكيد.
أتذكرُ أنَّ البريكان كان قد حدّثني يوماً عن أسبقيته في كتابة المطولات الشعرية، مقارنة بمطولات السيّاب، فوجدته صادقاً، وحدّثني عن تقدّمه على حسب الشيخ جعفر بكتابة القصائد المدورة، فكان صادقاً أيضاً، وكذلك وجدته في كتابة الشعر المنثور، أو قصائد النثر، والمزج بين البحور، بل ووجدته لا يجدُ حرجاً في تجاوز العروض، ببعض القصائد.
وفوق ذلك كله، هناك شعرٌ مخيفٌ، يجعلنا نقلق. حتى لكأنه يتّهم الوجودَ بجريمة ما يجري على الإنسان:"هنا رجلٌ تمَّ تدميرُهُ/ وأُلهبَ بالسمِّ تفكيرُهُ/ هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً عن ذاته/ ففي كلِّ ثانيةٍ ينشطر/ وما مِنْ مدى لإنقساماتِه!".
في المخطوطة "عوالم متداخلة" سنكتشفُ محمود البريكان انساناً وشاعراً آخرَ، غير الذي تأسّطرت تجربتُه في خيالنا، فالخطُّ الجميلُ والعناية الفائقة بالكلمة، والحرصُ على تحريك الحروف، وما الى ذلك تغيرت صورتُه لدينا، وخالطه فعلٌ انسانيٌّ لشاعرٍ يُشبهنا في الكتابة، فهو يكتبُ وبخطٍّ غير معتنٍ به أحياناً، ما سنح له من شعر، قصده في حُلم، فهبَّ من نومه، وشرع يكتب، دونما عناية من قلم، ران الظلامُ عليه، فعبرَ الحرفُ على الحرف، وزُحزحتْ الكلمةُ عن الكلمة، ومال السطرُ على السطر، وانحرف المعنى عن المعنى
وهكذا.
ثم نجده يستدركُ كثيراً، ويحيلنا الى مقارنة، ومقاربة النصِّ المكتوب بالمنشور منه، في المجلة هذه أو تلك، ثم يستبدل عناوين القصائد، أو يقترح تغييرها. وهكذا، وجدنا الشاعرَ الذي يُشبهنا، في القلق، والحيرة، والقبول، والرفض.. نحن أبناء الجيل الثالث أو الرابع في الشعرية العراقية.
مع عوالم البريكان المتداخلة صرتُ ألجأ كثيراً إلى العدسة المكبِّرة، وأتصلُ بأصدقاءَ طال عهد إتصالي بهم، واسترجع مع نفسي أحاديث معه لي، ومن القصائد الكثيرة التي لم تنشر عرفتُ شيئاً مما كان فيه من قلق وخوف ورعب، ولا أقصد الحياتي العابر من ذلك، فقلق وخوف البريكان قلقُ وخوفُ الوجود الإنساني كله. لن يقع قارئ شعر البريكان على جغرافيا ما، فهو لا يسمّي الأمكنة ولا الشخوص، ولا يحددُّ التواريخ، ولا يأتي على واقعة، وإن كانت الحرب، فالكون كلُّه مستهدف حاضرٌ في شعره، والناس جميعاً حاضرون بفجيعتهم في قصائده، التي ستطول رحلتنا معها.
إذا كنتُ قد بلغتُ الفزعَ كلّه بقراءة رواية "العَمى" لساراماجو ذات يوم فقد بلغتُ الفزع والسعادة معاً، بتصفح عوالم محمود البريكان المتداخلة اليوم.
أزداد شوقاً الى أولئك الأفذاذ الذين كلّت أعينُهم، وهم يتصفحون، ويقلّبون نسخَ المخطوطةِ هذه، ويرجعون الى نسختها الأخرى، صاعدين ونازلين، ومتجولين بين أرفف الورق، متسخين بأجمل غبار في الوجود، من أجل معلومة صغيرة.. ياه، ما أكبر جهد العالمين هؤلاء، وهنا لا أجدني غير منحنٍ أمام عظمة الكبار: صبحي عبد الحميد، وعبد السلام هرون، ومحمد محي الدين عبد الحميد، و طه الحاجري، وإبراهيم السامرائي، ومهدي المخزومي، وكامل مصطفى الشيبي.. وسواهم من الأعلام العاملين الى يوم الدين.
أتقدَّمُ للقارئ بالسطور هذه وبين يدي مخطوطة "عوالم متداخلة" للشاعر الكبير محمود البريكان، التي كلّفتُ بتحقيق نسختها، والتي تمكّن فريقٌ عراقيٌّ، مخلصٌ، وغيورٌ من العثور عليها، بعد بحث طويل، ودأبٍ مضنٍ، سبقته أسفارٌ، واحاديثُ، وحواراتٌ، وتوسّطاتٌ بين شخصيات ثقافية، عراقية وعربية، هاتفت وخاطبت وتنقّلت بين البصرة والرياض وبغداد حتى أمست المخطوطة في موطن شاعرها، الذي أرادها أن تكون أوَّلَ عملٍ شعريٍّ مطبوعٍ يصدرُ له، والذي أكّدهُ بخطِّ يده، على صفحة المخطوط الأولى.
كنا قد اكتشفنا محمود البريكان شاعراً رائداً مختلِفاً، ومخْتَلَفاً فيه، نستحضره بإكبار وإجلال، كلما ضمّنا مجلسٌ، وخِيضَ فيه بحديث الشعر، والحداثة، والريادة، حتى لم يكدْ حديثٌ ثقافيٌّ يخلو منه، ثم صرنا نحفظُ القصائدَ، التي نشرت له، في المجلات، وتوسّعنا في ذلك، فصرنا نتذكرُ القصيدة التي نُشرت في "الفكر الحي" أو "المثقف العربي" أو "الاقلام" وغيرها، وذهبَ بعضُنا الى البحث عن القصائد والحوارات، المنشورة له، وعنه، في المجلات العربية، مثل دمشق والكويت. وبالغ بعضُنا في حبِّه شاعراً وإنسانا كبيراً، والتقرّب من تجربته، فجمع قصائده المنشورة، منذ العام 1946 ورصد تجربته، وتحولاته، في الأشكال والمضامين، وصار بعضُنا الآخر َيكتبُ بقلمه القصائد، المتناثرة في الصحف والمجلات، بدفاتر محتفظاً بها، راجعاً اليها، كلما أختلف متحدثون بمكان نشرها، وتواريخ كتابتها، وهكذا صرنا مضطرين الى الرجوع لهذا وذاك منهم، وإعتمادها بوصفها جزءًا من آلية التحقيق، التي نسعى الى كمالها.
يحتفظُ الصديق الشاعر علي نويّر بدفترٍ ضمَّ أكثر من تسعينَ قصيدة لمحمود البريكان، فيها الكثير من تجربته العمودية، وهنا سنكون بمواجهة شاعر عمودي مختلفٍ، أيضاً، وكذلك كنتُ قد إطلعتُ نهاية عقد التسعينات عند الشاعر عبد الخالق محمود (1945-2001) على دفتر حوى الكثير من قصائد الشاعر، مخطوطةً بقلم الأخير, وهناك أكثر من مُحتَفِظٍ غيرهما، بكل تأكيد.
أتذكرُ أنَّ البريكان كان قد حدّثني يوماً عن أسبقيته في كتابة المطولات الشعرية، مقارنة بمطولات السيّاب، فوجدته صادقاً، وحدّثني عن تقدّمه على حسب الشيخ جعفر بكتابة القصائد المدورة، فكان صادقاً أيضاً، وكذلك وجدته في كتابة الشعر المنثور، أو قصائد النثر، والمزج بين البحور، بل ووجدته لا يجدُ حرجاً في تجاوز العروض، ببعض القصائد.
وفوق ذلك كله، هناك شعرٌ مخيفٌ، يجعلنا نقلق. حتى لكأنه يتّهم الوجودَ بجريمة ما يجري على الإنسان:"هنا رجلٌ تمَّ تدميرُهُ/ وأُلهبَ بالسمِّ تفكيرُهُ/ هنا رجلٌ ملَّ ما ينتظر/ وأمسى غريباً عن ذاته/ ففي كلِّ ثانيةٍ ينشطر/ وما مِنْ مدى لإنقساماتِه!".
في المخطوطة "عوالم متداخلة" سنكتشفُ محمود البريكان انساناً وشاعراً آخرَ، غير الذي تأسّطرت تجربتُه في خيالنا، فالخطُّ الجميلُ والعناية الفائقة بالكلمة، والحرصُ على تحريك الحروف، وما الى ذلك تغيرت صورتُه لدينا، وخالطه فعلٌ انسانيٌّ لشاعرٍ يُشبهنا في الكتابة، فهو يكتبُ وبخطٍّ غير معتنٍ به أحياناً، ما سنح له من شعر، قصده في حُلم، فهبَّ من نومه، وشرع يكتب، دونما عناية من قلم، ران الظلامُ عليه، فعبرَ الحرفُ على الحرف، وزُحزحتْ الكلمةُ عن الكلمة، ومال السطرُ على السطر، وانحرف المعنى عن المعنى
وهكذا.
ثم نجده يستدركُ كثيراً، ويحيلنا الى مقارنة، ومقاربة النصِّ المكتوب بالمنشور منه، في المجلة هذه أو تلك، ثم يستبدل عناوين القصائد، أو يقترح تغييرها. وهكذا، وجدنا الشاعرَ الذي يُشبهنا، في القلق، والحيرة، والقبول، والرفض.. نحن أبناء الجيل الثالث أو الرابع في الشعرية العراقية.
مع عوالم البريكان المتداخلة صرتُ ألجأ كثيراً إلى العدسة المكبِّرة، وأتصلُ بأصدقاءَ طال عهد إتصالي بهم، واسترجع مع نفسي أحاديث معه لي، ومن القصائد الكثيرة التي لم تنشر عرفتُ شيئاً مما كان فيه من قلق وخوف ورعب، ولا أقصد الحياتي العابر من ذلك، فقلق وخوف البريكان قلقُ وخوفُ الوجود الإنساني كله. لن يقع قارئ شعر البريكان على جغرافيا ما، فهو لا يسمّي الأمكنة ولا الشخوص، ولا يحددُّ التواريخ، ولا يأتي على واقعة، وإن كانت الحرب، فالكون كلُّه مستهدف حاضرٌ في شعره، والناس جميعاً حاضرون بفجيعتهم في قصائده، التي ستطول رحلتنا معها.
إذا كنتُ قد بلغتُ الفزعَ كلّه بقراءة رواية "العَمى" لساراماجو ذات يوم فقد بلغتُ الفزع والسعادة معاً، بتصفح عوالم محمود البريكان المتداخلة اليوم.