أ. د. عادل الأسطة - تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج3- (36--50)

تابع
الجزء 3


36- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : فإن الخيام تستدعي الخيام "بيتنا في المخيم"

تركت المخيم ، إلى بيتنا الجديد في حي المساكن الشعبية ، في العام ١٩٧٨ ، وتحديدا في اليوم الأخير من شباط ، إذ احتفل ، ولو وحيدا ، كل بداية آذار بالمناسبة بالجلوس على شرفة شقتي احتسي القهوة .
صباح ٩ / ٥ / ٢٠٢٤ قرأت في صفحة الشاعر راسم المدهون تحية الصباح ، وكنت في ٨ / ٥ أمعنت النظر في صورة أدرجها مروان دراج ضمته وأسرة أخيه الناقد فيصل وقرأت أنهما استعادا معا ذكرياتهما في مخيم اليرموك.
ولأن راسم المدهون ما زال يقيم هناك ، في درعا الآن ، فقد استعنت بالذاكرة التي تبدو لي الآن خداعة .
في العام ١٩٧٥ زرت دمشق ومكثت في بيت خالتي أم محمد الطيان في حي ركن الدين / الأكراد ، ونمت ليلة واحدة في بيت عمي محمود الأسطة ، وكان شقة صغيرة جدا في بناية تقع قرب حارة اليهود .
ولما كان لي أقارب يقيمون في مخيم اليرموك - أرجح - فقد اصطحبني أبناء عمي لزيارتهم . ( أذكر أن ابن عمي زكي خطب قريبة له من هناك ، ولكن النصيب غلاب ) ( يجب الاستعانة بابن عمي زكريا لتصحيح المعلومات ، إن كانت ذاكرته لم تشخ ) .
كل ما ذكر عن صلة القرابة لم يذكر لأنه هو المتن ، فهو هامش والمتن هو البيت .
كان بيت خالتي أم محمد بيتا بسيطا مثل البيوت في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين ، وكان البيت الذي زرته في المخيم لا يختلف عن بيتنا في مخيم عسكر القديم ، ولم تكن بيوت مخيم الوحدات ومخيم الحسين وبيوت جباليا والفارعة وبلاطة والفوار وعسكر الجديد وعين بيت الماء التي زرتها في تلك الفترة - أي ٧٠ و ٨٠ القرن ٢٠ - تختلف ، فقد أصبحت منذ بداية ٩٠ القرن ٢٠ مختلفة تماما . ما اختلفت ، في تلك الفترة ، هي بيوت مخيم شنلر ومخيم البقعة ، فقد أقيمت بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ وليس بعد نكبة ١٩٤٨ . كانت بيوت شنلر والبقعة من الصفيح / الزينكو والاسبست ، ولم تكن من الباطون ، وقد زرت شنلر مرة واحدة في العام ١٩٧٣ ، وزرت البقعة في العام ١٩٧٦ مرات ونمت في غرفة زينكو . ( في العام الدراسي ١٩٧٢ / ١٩٧٣ سكنت في مخيم الحسين مدة عام ولم تكن بيوته مختلفة عن بيتنا في مخيم عسكر ) .
أنا من مواليد ١٩٥٤ ، وغرف الباطون في مخيمات اللجوء أقيمت في العام ١٩٥٨ - يعني بعد أربع سنوات من ولادتي ، ما يعني أن الخيمة كانت جزءا من بيتنا . هل هناك في الذاكرة شبح خيمة أقمت فيها ؟
أحاول أن أضع مخططا لبيتنا في المخيم حتى تاريخ مغادرته ، فلم أعد بعد تركه أحن إليه مطلقا ، وربما أكون مررت بالقرب منه بضع مرات لم أشعر أبدا بالحنين إليه .
كانت الساحات الواسعة في تلك المخيمات واسعة مكنت أبناءها من إقامة ملاعب كرة طائرة وأحيانا كانت ملاعب كرة قدم صغيرة لفريقين يتكون كل واحد منهما من ثلاثة أربعة لاعبين ، وكانت الارتدادات بين كل حارة وحارة لا تقل عن عشرة أمتار تمكن السيارات قليلة العدد من المرور بها .
غالبا ما كانت كل مجموعة بيوت متلاصقة لا ارتداد بينها ، ولكي يتم الفصل بين بيت وبيت وضعت ألواح من الزينكو أو أسلاك شائكة أو غير شائكة زرع حولها بعض النباتات المتسلقة ، وقليلون هم من بنوا جدارا من طوب.
لم تكن مساحة بيتنا لتزيد ، في أحسن الأحوال ، عن مائة متر ، وقد تكون ، كما أتذكر ،٠ من غرفة باطون الوكالة التي لم تزد مساحتها عن ٣ م × ٣ م وارتفاعها عن ٢٢٠ سم ولها باب وشباك أو شباكان من ألواح خشب تثبت معا بمستطيل خشب يصل زاوية يمينها بزاوية يسارها وتتخلله فراغات يتسلل منها الهواء ، وحول الغرفة هذه التي خلت إلى حين من مطبخ ومنافع ، فقد كان في المخيم حمام عام ومراحيض عامة ومطعم أيضا . كانت هذه الغرفة غرفة نوم ومطبخا وحمام اغتسال أيضا .
في المساحة المتبقية بنى أبي جدران غرفة ثانية لم يسقفها بالباطون ، وغطاها بشادر أظنه شادر الخيمة ، وكنت واخوتي ننام فيها ، حتى سقفها أبي بالباطون ومد أرضيتها بالاسمنت والناعمة وانخذ منها غرفة له وانتقلنا نحن ، وكنا ستة سبعة ثمانية تسعة ، إلى غرفة الوكالة .
بين غرفة الوكالة والغرفة المقامة حديثا كانت هناك مساحة لا يقل حجمها عن ٤ م × ٦ م وقد غطاها أبي في الشادر نفسه الذي انتزعه ، وإلى جانب غرفته الجديدة أقام مطبخا من الزينكو وإلى جانبة مرحاض يضخ في حفرة ، فلم تكن هناك ثمة مجار . مجاري ماء الاغتسال والجلي أقيمت لاحقا في قنوات مكشوفة بين البيوت .
هل خلا بيتنا من حديقة زرعنا فيها الأشجار ؟
أذكر أنه كانت هناك مساحة ترابية زرعنا فيها شجرتين ؛ شجرة ليمون وشجرة خوخ . ولم تخل ، حتى نهاية سبعينيات ق ٢٠ ، أكثر - إن لم يكن كل - بيوت المخيم من أشجار ، بخاصة الحمضيات والدوالي والخوخ أيضا ، ولكنها ، مع ازدياد عدد أفراد العائلة والحاجة إلى مزيد من الغرف ، صار الشجر قربان العائلة الذي لا مفر من التضحية به ، فالضرورات تبيح المحظورات .
في سبعينيات القرن ٢٠ كتب قاص من غزة ، هو حمدي الكحلوت ، قصة قصيرة عنوانها " غرفة جديدة للعريس " أتى فيها على تناقص المساحات في البيوت وازدياد البناء / الباطون ، وفي روايته " الشوك والقرنفل " ٢٠٠٤ توسع يحيى السنوار بهذا الجانب .
الآن هدمت البيوت وعاد أهل قطاع غزة إلى سيرتهم الأولى .
ترى ما هو شكل بيتنا الآن في المخيم ؟
لا بد من الوقوف على الأطلال .
( الخميس ٩ / ٥ / ٢٠٢٤
والسبت ١٥ / ٦ / ٢٠٢٤ )
عادل الاسطة

***

37- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: المشروع الصهيوني وجنة الله الموعودة

أعادني شريط فيديو يصور ما آل إليه معبر رفح بعد احتلاله، بثه الإعلام العبري، في ١٩/ ٦/ ٢٠٢٤، إلى نصوص أدبية صهيونية وعبرية وفلسطينية أتت على أرض فلسطين تحت الحكمين؛ الأول الحكم العربي والإسلامي خلال مئات الأعوام والثاني الحكم اليهودي الصهيوني الإسرائيلي منذ ١٩٤٨، علما بأن الدعاية للمشروع الصهيوني قامت على أكذوبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي تنقض نفسها بنفسها، فالنصوص الأدبية التي تحكي عن أرض بلا شعب تذهب إلى أن العرب الذين قطنوا فيها، بعد ترك اليهود لها، حولوها إلى أرض قفراء جرداء؛ لأنهم لا يعرفون إلا التخريب والهدم والتصحير.
الأعمال الأدبية الصهيونية المكتوبة بغير العبرية عديدة؛ منها «أرض قديمة جديدة» لـ(ثيودور هرتسل) و»لصوص في الليل» لـ(آرثر كوستلر) و»اكسودس» لـ(ليون أوريس)، ومثلها الأعمال الأدبية الصهيونية الإسرائيلية المكتوبة بالعبرية مثل «خربة خزعة» لـ(يزهار سميلانسكي)، والأعمال الأدبية الفلسطينية أيضاً عديدة، وقد كتبت وفي خلفية كتابها الفكرية العديد من الأعمال الأدبية الصهيونية المشار إليها وغيرها، ولطالما أسهبت في الكتابة في الموضوع.
ما كتبته سابقاً هو ما استدعاه شريط الفيديو المذكور في الأسطر الأولى.
لقد ذكرني بتلك الأعمال وما كتبته عنها، ولكنه ذكرني أكثر وأكثر بالترجمة العربية لرواية هرتسل والصور المرفقة بها، وقد بلغ عددها ٤٦ صورة.
الصورة تذكر بالصورة، وصورة ما كان عليه معبر رفح قبل الحرب وما آل إليه، كما في الشريط، تستحضر الصور التي أرفقتها، بقصد، الجهة المسؤولة عن الترجمة العربية لرواية هرتسل.
من الصور التي زينت بها الترجمة:
- صورة لميناء يافا سنة ١٨٩٨، وثانية لباخرة ثيودور هرتسل في ميناء حيفا، وثالثة لمدينة القدس، ورابعة لمظاهرة شارك فيها عرب ويهود كتب تحتها «من مظاهر الأخوة اليهودية - العربية في هذه البلاد»، و٣ صور لنساء عربيات في مؤتمر نسائي، وصورة لإحدى رياض الأطفال في قرية الطيبة، وصورتان متقابلتان: منظر عام لمرج يزراعيل قبل استيطانه والعفولة المدينة التي نشأت في قلب المرج بعد استيطانه، وصور لكنيس وكنيسة (البشارة في الناصرة) والمعبد البهائي عباس في حيفا وصورة لمسجد السلام، وكتبت عبارة من الرواية «ولكن الكنس والمساجد والكنائس تقوم جنباً إلى جنب، وصورة لمستنقع كتب تحتها: تجفيف مستنقعات الحولة و»من الذي جفف المستنقعات؟»، وصورتان متقابلتان؛ الأولى لغور الأردن جنوب بحيرة طبرية كما كان عليه في سنة ١٩٠٩، والثانية للمكان نفسه كما هو عليه في ١٩٦٦، وكتب تعليق نصه «أن كبار السن من بينكم يعرفون ما كان عليه منظر هذا المكان قبل ٢٠ سنة»، وصورة للميناء الجديد في أسدود وصورة لاستخراج النحاس بالقرب من خليج إيلات، وثلاث صور لتل أبيب في ١٩٠٩، حيث تم وضع حجر الأساس لها، وصورة لبلديتها في ١٩١٠ بجانب خزان الماء الأول، وصورة لها سنة ١٩٦٧، وصورة لترعة في مشروع المياه القطري وكتب فوقها «لقد صنع إيمان مهندسي الماء هذه العجائب»، وصورتان لشارع في القدس؛ الأولى وهو مقفر والثانية وهو مزدهر - أي قبل الاستيطان وبعده.
وكان القصد من وراء إدراج الصور هذه هو تأكيد الفكرة الصهيونية المتعلقة بتحويل فلسطين من أرض قفراء جرداء صحراوية إلى جنة وإظهار أن اليهود يعمرون ما خربه العرب.
منذ بداية الحرب الدائرة حالياً، وتدمير٧٠ بالمائة وأكثر من قطاع غزة، أخذ بعض الغزاويين يعرضون صوراً لمدينتهم كما كانت عليه قبل ٧ أكتوبر وأخرى لما صارت إليه بعد التاريخ المذكور!
كان القطاع عامراً مزدهراً حافلاً بالحياة وحوله الجيش الإسرائيلي بسلاحه البري والبحري والجوي إلى مكان لا تصلح الحياة فيه.
شريط الفيديو الذي بثته وسائل الإعلام العبرية لصيرورة معبر رفح هو نقض للرواية الصهيونية كلها على مدار مائة وعشرين عاماً، وهو يدحض الأكذوبة التي حفلت بها أدبياتهم.
على مدار ٧٦ عاماً جعلت إسرائيل حياة الفلسطينيين جحيماً ولم تكتفِ بتدمير قراهم وتهجيرهم، بل واصلت ملاحقتهم في المنافي لتواصل تدمير ما بنوه هناك وبلا رحمة.
عندما تبدي صفية زوجة سعيد. س في رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» دهشتها مما رأته من عمران وزراعة يرد عليها زوجها:
«- كان بإمكاننا أن نجعلها أفضل بكثير».
وقد عمر أهل قطاع غزة، منذ خروج المحتلين في ٢٠٠٥، القطاع فبنوا، على الرغم من الحصار، المباني وأقاموا المشافي والجامعات والأبراج وشقوا الطرق وزرعوا المساحة الضيقة وصدروا الورود والأزهار.
معبر رفح وما كان عليه قبل أربعين يوماً وما فعلته به الدبابات والطائرات الإسرائيلية خلالها، كما بدا في شريط الإعلام العبري، خير شاهد على تحويل فلسطين إلى جنة - أي والله.
( الأربعاء والخميس والجمعه ١٩ و ٢٠ و ٢١ / ٦ / ٢٠٢٤ )
دفاتر الأيام الفلسطينية ٢٣ / ٦ / ٢٠٢٤
عادل الاسطة

***

38- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: البعوض والحرب والشعر

في الشعر العربي بيت لا يقلل من صغائر الأمور، فدقيقها مما يهيج له العظيم، ومثله:
«لا تحقرن صغيراً في مخاصمة
إن البعوضة تدمي مقلة الأسد»
وكان الجاحظ في قصة «أهل البصرة من المسجديين» ذكر على لسان بخيل يخاطب القوم أن لا يحقروا صغار الأمور، فإن أول كل كبير صغير ومتى شاء الله أن يعظم صغيراً عظمه وأن يكثر قليلا كثره» (البخلاء).
حتى محمود درويش الذي أقام في شقة مكيفة ضايقته بعوضة، فكتب فيها قصيدة نشرها في سنوات عمره الأخيرة، وتحديداً في مجموعته «أثر الفراشة» (٢٠٠٦)، جاعلاً منها، ومن الفراشة أيضاً، موضوعاً شعرياً لم نألفه، علما بأننا كررنا البيت الوارد ذكره ودرسناه في البلاغة في باب الاستعارة التمثيلية.
«البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها، أشد فتكاً من النميمة» يقول درويش ويضيف: «لا تكتفي بمص الدم، بل تزج بك في معركة عبثية، ولا تزور إلا في الظلام كحمى المتنبي. تطن وتزن كطائرة حربية لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف» و»تشتمها بصوت عالٍ فلا تكترث، وتفاوضها على هدنة» ولكن عبثاً فهي تغير من جديد لتمتص المزيد من دمك، وهي «ليست استعارة ولا كناية ولا تورية. إنها حشرة تحب دمك وتشمه عن بعد عشرين ميلاً. ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة: أن تغير فصيلة دمك».
وأغلب الظن أن قوله (لو كتب قصيدته بعد ٢٦٢ يوماً من الحرب الحالية في قطاع غزة) «ليست استعارة ولا كناية ولا تورية «لن يؤخذ مأخذ الجد، فالطائرات الإسرائيلية؛ الحربية منها التي يقودها الطيارون والمسيرات التي لا يقودها مخلوق، والسفن بصواريخها وكذلك قذائف المدفعية ورشاشات الجنود، هذه كلها تغير مثل البعوضة تزج بك في معركة عبثية، ولكنها تختلف عن البعوضة التي تزور فقط في الظلام، فهي تزور في الظلام وفي الضوء وفي الصيف وفي الشتاء وفي الحر والقر أيضاً.
لم نقرأ عن البعوض في الأشهر الأولى من الحرب، فالجو كان خريفياً تلاه شتاء، ولكن ما إن حل الصيف وارتفعت درجة الحرارة حتى أخذ يحضر في حياة الغزيين وكتابات كتابهم، وأخذ، مثل الطائرات والصواريخ والقذائف، يفتك بهم.
في هذه الليالي تهاجمني بعوضتان ثلاث فتزعجني لدرجة أنني أحياناً أرتدي بنطالاً، لا شورتاً، وقميصاً بكم، بل وأحياناً أجدني أغادر الشرفة، ولا أعلق إلا بعبارة: «كان الله في عون أهل قطاع غزة».
أحياناً أتذكر الحياة في المخيم قبل خمسين عاماً حيث تكاثر الذباب، وأتذكر الأشرطة اللاصقة التي كنا نعلقها في وسط الغرفة ليلصق الذباب عليها. أحياناً أفكر في أن أسأل عن شريط لاصق للبعوض.
في متابعتي لما يكتبه، في هذه الأيام، أدباء غزة ونشطاؤها أقرأ عن القتل والتدمير والنزوح وجوع أهل الشمال وارتفاع الأسعار في الوسط والجنوب ارتفاعاً جنونياً، وأقرأ أيضاً عن البعوض، وكتابتهم هي التي ذكرتني بقصيدة درويش، وهي ما دفعني للتفكير بالكتابة في الموضوع.
منذ ٢٩/ ٥/ ٢٠٢٤ وأنا أتابع ما كتب عن البعوض هناك. الشاعرة د. آلاء القطراوي، وهي متأثرة بشعر درويش، بل إن نفس شعرها درويشي، فقدت في الحرب أبناءها الأربعة، كثيراً ما تساءلت عن مصطلح الاستسلام:
- متى يستسلم المرء بعد كل ما مررت به؟
وتوصلت إلى أن بعوضة صغيرة جداً ترسم لها امتدادات المصطلح، والبعوضة تنهش في قدميها وتسمع صوت أزيزها في أذنيها، دون أن تستطيع إبعادها عنها، فلا كهرباء لتتمكن من رصد مكانها ولا بخاخ متوفر لقتلها، ولا لغة لتقول لها إن دمها موجوع جداً بسبب ما ألم بها منذ بداية الحرب. تستسلم آلاء للبعوضة لتشرب من دمها الحزين، وتصبح قدماها مليئتين بالندوب متورمتين من ثقوب الدم الصغيرة. وليس أمامها إلا أن تتذكر قصيدة الشاعر الجاهلي الحارث بن عباد الذي أعلن الحرب ثأراً لمقتل ابنه «قربا مربط النعامة مني./ لا نبيع الرجال بيع النعال» أما هي فتقول:
«قربوا مايكرفون مجلس الأمن من قدمي المتورمة لتصرخ في وجه العالم:
- كم مرة عليك أن ترسب أمامي أيها الساقط!»
وتخاطب البعوضة:
«اشربي.. ما شئت من دمي، فقد فعلوا بي ما هو أشد ألماً من هذا».
في صفحة مخيم النصيرات كتب أسامة أبو عاصي:
«احنا الشعب الوحيد في العالم اللي بنخاف من الليل لما يجي. حد سمع عن ناس بتخاف انه الليل يجي؟!!....
مش بس عشان القصف والقنابل والصواريخ اللي بيعلى صوتها ف الليل ويعلى معها الرعب، وكمان عشان الحر والبعوض.
تحس انه الحر ولدغات البعوض والجو والحشرات ولهيب حزيران والدنيا كلها ضدك».
وحين تقترب منه بعوضة يرفع البطانية ويسألها:
«- عضل أم وريد؟»
كما لو أنها ممرضة تجري له فحص دم.
في قصة سميرة عزام «لأنه يحبهم» قالت:
«حتى الفئران تتجرأ على مال اللاجئ».
نعم وحتى البعوض يتجرأ على دمه.

***

39- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : غسان كنفاني وحرب ٧ أكتوبر

ربما تكون نصوص كنفاني ودرويش أكثر النصوص الفلسطينية حضوراً في شهور الحرب.
إن قسماً ممن استحضروها تساءلوا إن كانت النكبة الأولى حضرت بتمامها وكمالها في نصوص كنفاني، والتساؤل هذا جاء من أشخاص يعيشون منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ تجربة مشابهة وأقسى مثل د. عاهد حلس الذي قرأ أيام دراسته، في بداية ٩٠ القرن ٢٠، وهو مسترخٍ على كنبة في غرفة مكيفة أعمال كنفاني فأعجب بها لدرجة أنها صاغت وجدانه، ويعيش الآن أحداث نكبة ثانية «أعيشها واقعاً مراً أسود ليس كما عشتها في روايات غسان على سرير في غرفة يطل شباكها على شجرة توت تحجب جزءا من جبال بيرزيت الغارقة في الطمأنينة الأبدية. أعيش في نزوح قاسٍ ومرعب عن مدينتي منذ ثمانية أشهر، ورغم التشابه الكبير في مشهد الخيام والنازحين في النكبتين فلا أظن أن غسان كان سينجح لو ظل حياً في العثور على معانٍ جميلة للوطن كتلك التي التقطها وجعلت أرواحنا تحلق في رواياته.. لكن شيئاً مما كتبه غسان لم أحسه في هذه النكبة، هل خدعنا المجاز كما يخدعنا دائما؟
فلم يكتب غسان، مثلاً، عن الروائح الكريهة التي تنبعث من الخيام، ولم يصف درجة حرارتها التي تخبز أجساد النازحين ولم يكتب عن جشع التجار في الحرب وسرقة المساعدات الدولية من قبل أولي اللحى وأصحاب الضمائر الوطنية ولم يكتب عن قادة كبار تركوا شعبهم قبل أن يلقى به إلى المحرقة، ولم يكتب أن شطراً من الوطن كان يحتفل بسباق السباحة فيما كان الشطر الآخر منه يسبح في بحيرة من الدماء.. لم يكتب غسان شيئاً من هذا كله.. ربما ليس بمثل هذا القبح، في النزوح أدركت الفرق بين النكبتين، بين نكبة صنعت هوية ونكبة أحدثت جرحاً غائراً في الهوية».
وعاهد لا يصف ما شعر به، حين قرأ غسان، وما يشعر به الآن، وهو يعيش النكبة، وإنما يقدم لنا تفسيراً لهذا الاختلاف بين ما قرأه عن النكبة وبين ما يشعر به وهو يعيشها.
بين ما يقرؤه عن الحياة في خيمة وهو مستلقٍ على سرير، والكتابة عن التجربة من داخلها. وهذا ما شغلنا في الأشهر الثمانية الماضية، وكنا ننشغل به ونحن نناقش أعمالاً أدبية قارب فيها أصحابها أمكنة وأزمنة لم يكونوا شهوداً عليها.
ومن يراجع يومياتي عن الحرب فسيقرأ كتابة مستفيضة في الموضوع الذي يمكن مناقشته أيضاً فنياً اعتماداً على فن السرد. السارد المشارك والموضوعي والمحايد والسارد الكاميرا والمنحاز أو السارد من الداخل والسارد من الخارج. السارد الذي يعيش التجربة والسارد الذي يسمع عنها.
إن ما كتبه عاهد يحيلنا إلى رأي الناقد (بيرسي لوبوك) في الحكم على رواية ما، وهو أننا حين نصدر حكماً عليها إنما نحكم على ما بقي في ذاكرتنا منها. إنه - أي الأستاذ عاهد - يحكم الآن على روايات غسان اعتماداً على ما بقي عالقاً في ذهنه منها، بل واعتماداً على قراءته لها وهو مستلقٍ في غرفة مريحة، فيما هو الآن يصف ما يمر به ويعيش تفاصيله ودقائقه.
ويحيلنا ثانياً إلى أن كتابة غسان، إلا أقلها، كانت كتابة الفلسطيني الذي سمع عن الخيام من قاطنيها، لا الذي عاش فيها، فقد كان ابن أسرة ميسورة استأجرت بيتاً في دمشق ولم تقم في خيمة، وإن درس أبناء اللاجئين. وما كتبه عن أم سعد هو إعادة صياغة لما روته له هي القادمة من المخيم.
ويبقى بقية كلامه - أي آخر الأسطر المقتبسة التي يأتي فيها على الروائح الكريهة ودرجة الحرارة في الخيام وجشع التجار والسرقات والقيادات التي تخلت عن شعبها وتركته وحيداً في المحرقة وأيضاً على شطر من شطري وطن يحترق سكان واحد منهما فيما ينعم شطر آخر بالاستمتاع بالسباحة.
إن ما قالته كتابته تأتي على قراءة تعود إلى العام ١٩٩٥، ولا أعرف إن كان أعاد قراءة أعمال كنفاني بعدها.
سوف أعتمد في الكتابة عما طرحه على قراءات متكررة لأعمال غسان آخرها كان في الأشهر الثمانية الأخيرة؛ قراءات توصلني باستمرار إلى اكتشاف جديد لم ألحظه في قراءات سابقة، لدرجة أنني غالباً ما آخذ بمقولة نظرية التلقي «إن قراءة عمل واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين» وعليها كتبت غير مرة تحت عنوان «قراءة جديدة لنص قديم» أو «غسان كنفاني في زمن مختلف».
إن الكتابة عن سرقة المساعدات الدولية وبرد الشتاء حضر في قصة «القميص المسروق»، وعن درجة الحرارة القاتلة في رواية «رجال في الشمس» وإن لم يخص به الخيام، وعن القيادة التي هربت في رواية «أم سعد» التي كتب فيها أيضاً عن وحل المخيم في الشتاء، بل وكتب عن المثقف الذي لا يقف إلى جانب أهل قريته فيهجرها إلى المدينة «عن الرجال والبنادق» وكتب وكتب..
وأنا أكتب يوميات مقتلة غزة ومهلكتها وحرب إبادتها، بل وأنا أكتب «تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤» وجدتني باستمرار استحضر ما كتبه غسان، فالحالة تستحضر الحالة والنكبة استحضرت النكبة، و... و... .
عادل الأسطة

***

40- تداعيات حرب 2023 / 2024: الفضائل والأخلاق في زمن الحرب: قصص فلسطينية وعربية

من يتابع صفحات التواصل الاجتماعي لأبناء قطاع غزة يلحظ أن جلّ تركيزهم، إن لم يكن كله، ينصب على ما يعانون منه في حياتهم اليومية في بحثهم عن المأكل والمشرب، وضيق الحياة في الخيام وتوزيع المساعدات، واستغلال التجار، والسرقات التي كان آخرها سرقة أثاث مستشفى غزة الأوروبي.
لقد تبرم كثيرون من تبدل في الأحوال، انعكس على الأخلاق والعلاقات بين الناس، ووصل، في حالة سرقة أثاث مستشفى غزة الأوروبي، إلى درجة من تقريع الذات عالية، حتى أن أحد المسؤولين وهو د. صالح إسماعيل الهمص (أبو بلال) كتب، في 2/7/2024، منشوراً عن يوم الثلاثاء الأسود، أبدى فيه سخطه مما جرى وشاهد، وتساءل إن كنا سننتصر أو نستحق أي انتصار، وعبرت كتابته عن تشاؤم كبير.
وقد عقبت شخصياً على المنشور وبعض التعليقات بأن ما حدث ليس بدعة في حياة الشعب الفلسطيني أو في حياة شعوب بشرية تعد متقدمة وحضارية، والأمثلة عديدة.
غالباً في حالات كهذه ما أتوقف أمام ثلاثة نصوص أدبية فلسطينية ونص عربي. النص الفلسطيني الأول هو للقاصة سميرة عزام «لأنه يحبهم»، والنصان الثاني والثالث هما لغسان كنفاني «القميص المسروق» و»الصغير يذهب إلى المخيم/ زمن الاشتباك». والنص العربي هو للكاتب إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم» 2016.
في قصة عزام التي عدها الناقد سامي اليوسف «من أجود ما كتب النثر الفلسطيني منذ عام النكبة حتى اليوم» (أي 1990)، نقرأ عن نماذج فلسطينية عديدة تركت نكبة 1948 أثرها السلبي عليها، فقلبت كيانها كلياً وجعلت منها بشراً شريرين بعد أن كانوا عاديين ومحترمين. لقد تساقطوا واحداً وراء واحد «حين تعرض» اللحظة «نفسها»، وهذا حدا بالموظف الأجنبي إلى مخاطبة السارد المستدعى ليشهد على صديقه وصفي الذي كان محترماً وصار لصاً:
«- في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في أي لحظة يمكن أن يصبح لصاً..».
سردت قصة عزام حكاية مزارع فقد أرضه وصار مجرماً، وحكاية امرأة شريفة استشهد زوجها وفقدت عائلتها فصارت بغياً، وحكاية موظف الميناء الذي صار جاسوساً على أهل المخيم - أي الوغد، وحكاية الموظف وصفي الذي صار لصاً، لأنه يريد أن ينفق عن سعة.
وفي قصة كنفاني «القميص المسروق» التي كتبها في العام 1958 - أي سنة قبل أن تكتب سميرة قصتها، وكان عمره 22 عاماً - يكاد بطل القصة يشتم شتيمة كفر بسبب ما يعيشه في خيمة في ليلة باردة ماطرة، ويدفعه سوء واقعه الاقتصادي، حيث الفقر المدقع، أن يسرق ليحل مشاكل طفله عبد الرحمن المكوّر في زاوية الخيمة كالقط المبلول. يسرق أبو سمير هو والموظف الأميركي الأشقر في الوكالة أكياس طحين اللاجئين ويتاجران بها، ويكاد أبو العبد ينضم إليهما، لولا يقظة ضمير تدفعه إلى رفع الرفش ليهوي به بعنف رهيب على رأس اللص أبو سمير، حتى لا يتأجل توزيع الطحين على أهل المخيم أربعة أشهر.
تنتهي القصة بالآتي:
«ضم صدره إلى ولده عبد الرحمن وهو يحدق في وجهه الهزيل الأصفر.. و.. أخذ يبكي».
تثير قصة «الصغير يذهب إلى المخيم» أسئلة لطالما أثرتها في الجدل مع نشطاء فيسبوكيّين حول ما يجري في حياة الغزيين اليومية تحت الحرب، ومنها أسئلة الأخلاق والفضيلة التي تبدو المطالبة بها في زمن الحرب وزمن الاشتباك مع الحياة أمراً مضحكاً:
«أن تعيش كيفما كان، وبأي وسيلة، هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً. أليس كذلك؟ إذاً دعنا نتفق على أنه في زمن الاشتباك يكون من مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حياً، وفيما عدا ذلك يأتي ثانياً. ولأنك في اشتباك مستمر فإنه لا يوجد ثانياً. أنت دائماً لا تنتهي من أولاً..
ويخيل إلي أن هذا هو واقع الفلسطيني منذ 1948.
وأخيراً ماذا ورد في رواية خوري التي تسترجع ما جرى في اللد يوم احتلالها؟
هل يغني تلخيص المشهد السابع الذي يقصه مراد العلمي عمّا جرى في العام 1948 عن النهب والسرقة في مدينة اللد بعد احتلالها، هل يغني عن قراءته؟ (ص 397 - 407)
«تفو علينا كيف صرنا» قال مراد. «هل تصدق؟ عليك أن تصدق، لأنني صدقت، وهذا ما يحيرني. كيف صرنا الناهب والمنهوب، الحرامي والضحية. شيء عجيب».
في زمن الحرب وزمن الاشتباك تضطرب القيم الاجتماعية وتسود الفوضى، وما حدث من سلب ونهب لمستشفى غزة الأوروبي متوقع حدوثه، وقد عشت في حزيران 1967 حدثاً شبيهاً، فقد تم نهب معسكر الجيش الأردني القريب من مخيم عسكر القديم.

***

41- فجر ٢١ / ٧ / ٢٠٢٤ : تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : نهايات الانتفاضة الأولى : ما أشبه الليلة بالبارحة

هل أكرر مقولة " ما أشبه الليلة بالبارحة " ؟
في ٧٠ القرن ٢٠ قرأت كتاب مارون عبود عن بديع الزمان الهمذاني ، وفيه شبه حال العرب في القرن ٢٠ بحالهم في القرن ٤ الهجري واستهل كتابته بالمثل المذكور .
تشبيه القرن ٢٠ بالقرن ٤ الهجري كثر في أثناء استحضار المتنبي أيضا ، وقد تجسد في قصيدة محمود درويش " رحلة المتنبي إلى مصر " ( ١٩٧٩ ) حيث عبر عن تجربته من خلال تجربة الأول ، بل وفي مطولته " مديح الظل العالي " ، فقول المتنبي :
" وسوى الروم خلف ظهرك روم " حضر فيها " عرب أطاعوا رومهم / عرب وباعوا روحهم " .
ومع أن بيننا وبين نهاية الانتفاضة الأولى فترة زمانية لا تصل إلى الألف عام ، فجيلي شهود على الأولى ، إلا أننا يمكن أن نستعير " ما أشبه الليلة بالبارحة " ونحن نتابع ما يجري ، في الأشهر الأخيرة للحرب ، في غزة ، ونقارنها بنهايات الانتفاضة الأولى ، وهي نهايات جعلتني يومها أكتب بعفوية كاملة نص " ليل الضفة الطويل " الذي أبرز للانتفاضة صورة سلبية مختلفة كليا عن صورتها في سنواتها الأولى .
في السنوات الأولى كان المجتمع الفلسطيني متماسكا متعاطفا متراصا وكانت فصائله السياسية متكاتفة تنسق فيما بينها بقيادة موحدة ، وقد تحدث عن هذا أبناؤه بفخر واعتزاز ، وهذا ما لم يرق للإسرائيليين ، فقرروا تمزيق النسيج الاجتماعي وضرب الفصائل ببعضها ، لتشتيت جهودها والعمل على تفكيكها ، ونجحوا بحيث صارت الانتفاضة تتآكل وتتناحر فصائلها فيما بينها . صار الفصيل عدو الفصيل وانشقت فصائل ولم تتفق كثير منها حتى على تحديد يوم إضراب ، ما جعل من هذا موضع تندر وسخرية عبرت عن استخفاف بعض أبناء الشعب بقياداتهم التي افتخروا فيها .
في الأشهر الأولى لحرب ٧ أكتوبر كان الفلسطينيون ينتظرون خطابات أبو عبيدة بالدقيقة واللحظة ويحرصون على عدم تفويتها ، وكانوا يثقون بكل ما يرد فيها ويبتهجون ، وأبعد من ذلك فقد اهتم بها أساتذة جامعيون ودرسوها وحللوها معجبين بأسلوبها ، وبلغ الأمر بقسم منهم أن اقترحوها موضوعا لكتابة اطروحة ماجستير تدرس جمالياتها اللغوية وفصاحتها ، ونادرا ما سمعنا سخرية منها أو تندرا عليها . في تلك الفترة لم يكن أبناء غزة ينتقدون الأوضاع الداخلية التي تعبر عن امتعاض ما مما يجري ، فاللحظة لا تسمح ، وأذكر أنني وأنا أقرأ يوميات عاطف ابوسيف التي كتبها من قلب مخيم جبالبا ومن خيام رفح ، لاحظت غياب أي انتقاد للوضع الداخلي ، ما جعلني اسأله عن سبب عدم تعرضه لجدل ما ، بين أهل غزة ، حول الحرب ؛ جدل يظهر وجهات نظر متباينة مختلفة . هل يتجادل الغزيون فيما بينهم ، وهم يتعرضون للقصف والتدمير والإبادة والتهجير ؟ هل يتجادلون عن جدوى ما حدث ؟ وهل أصابت حماس فيما قامت به أم أخطأت ؟ وكانت إجابته أن الوقت الآن غير مناسب للكتابة في هذا .
ويستطيع من يتابع صفحات التواصل الاجتماعي لأبناء غزة أن يلاحظ أن أكثرهم ، في بداية الحرب ، لم يكن يدون يومياته أو يكتب ، ولهم أعذارهم في ذلك . هناك من فوجيء من أهوال الحرب ، وهناك من دمر بيته وارتقى وأسرته تحت أنقاضه ، وهناك من فقد مكتبته ووجد نفسه في خيمة أو في ضيافة أسرة في منزل مكتظ بالبشر ، وهناك من انقطعت عنه الكهرباء والنت ووسائل الاتصالات ، وهناك من تساءل عن جدوى الكتابة في ظل المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة ، ولكنهم منذ ثلاثة أشهر عادوا يكتبون ، وصار قسم منهم يصور معاناته ومعاناة الناس ويحتج ويتذمر ، وأخذ قسم آخر يتساءل عن صواب ما أقدمت عليه حماس وخطئه ، وذهب عديدون إلى تحميلها سبب ما يمر الناس به ، وبلغت الشكوى مبلغها حين شعر بعض الغزيين بالإحباط من قسم من أهل الضفة الغربية ممن واصلوا حياتهم كأن لا شيء يحدث في غزة أو أن ما يحدث لا يعنيهم ، ولم يكن غريبا أن نقرأ في صفحة مخيم النصيرات :
" خمسة مليون فلسطيني ندل بتفرج علينا من تسع شهور "
( ١٤ / ٧ / ٢٠٢٤ )
بل وتواصل أيضا الهجوم على الأمة الإسلامية :
- " وينكم يا أمة المليار فردة كندرة !؟ " نحن في غزة نباد .. نعم نعم نحن نباد فماذا أنتم فاعلون " ( ١٤ / ٧ / ٢٠٢٤ ) .
في نهاية الانتفاضة الأولى صار الأطفال والشباب الذين رموا الجنود بالحجارة يتابعون الفتيات الفلسطينيات ممن يرتدين بنطال الستريتش ليرشوهن بماء النار ، وصاروا يفتشون السيارات القادمة من الأغوار ليبحثوا إن كان فيها زجاجات بيرة أو خمر ، وقبل يومين كتب ناشط نابلسي :
"بعرف واحد مليونير ، لما بده يشتري جاجتين كل أسبوع ببعت الشغيل تاعه يجيب عروض أسعار من بياعين الجاج بسوق البصل وسوق الحدادين وشارع النصر " ( ١٤ / ٧ / ٢٠٢٤ )
فتذكرت ، وأنا أقرأ التعليقات ، فدوى طوقان وسيرتها وما كتبته عن أهل نابلس وسخريتهم ، وتساءلت :
- هل يحدث شيء في غزة ؟!
( الاثنين والثلاثاء والأربعاء ١٥ و ١٦ و١٧ / ٧ / ٢٠٢٤ .
مقال الأحد القادم لجريدة الأيام الفلسطينية ٢١ / ٧ / ٢٠٢٤ )
عادل الاسطة

***

42- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: عـرس فـلـسـطـيـنـي

في ٥/ ٦/ ٢٠٢٤ كتب يوسف فارس المراسل التلفزيوني المقيم في غزة، في صفحته، القصة الآتية عن الحياة هناك في الحرب:
«كان لا بد أن يقام فرح روان شقيقة زميلنا عبد القادر صباح في وسط الحرب، فقد مضت ثمانية أشهر على تأجيله للمرة الثانية، ويتعين على والدها السفر للعلاج، هنا، تفرض القيم الاجتماعية نفسها بمعزل عن حدة الظروف، لقد جهزت العروس للزفاف البسيط في يوم واحد. حجز لها في صالون نسائي. ألبست أبهى ما هو متوفر، وفي خضم يوم مزدحم بالتفاصيل استشهد زوج شقيقة العروس الكبرى إيمان مع إخوته الخمسة، وكانت الأخيرة القيّمة على تجهيز شقيقتها العروس، ودخلت العائلة في معركة إخفاء الخبر عن الأختين لكي يتم الزواج. تعلمون أيّ ملحمة سيعيشها والد العروس الذي يزف في ذات اللحظة ابنته عروساً ويبكي أخرى أرملة؟
كيف ستصطنع والدة زميلنا وجهاً يهدي «الزغروتة» ويكتم النحيب؟
لقد حدث هذا فعلاً. ستزهو عروس الحرب بفرحها المؤجل ليوم واحد، ثم ستلبس نساء البيت جميعهن ثوب الحداد. ابتسامة زائفة ودمعة خبيئة. حجرتان واحدة للفرح وأخرى للعزاء، وفي صدور الجميع قلب واحد.. هو قلب إيمان الثكلى».
وكان متابعو ما يجري هناك، بعيداً عن أخبار المعارك، شاهدوا أشرطة فيديو عديدة عن حالات زواج جرت في مخيمات الإيواء أو في بعض المخيمات، حيث عبّرت عن إرادة الحياة واستمراريتها، وهذه الحالة عموماً ليست غريبة عن الفلسطينيين، ففي حرب بيروت ١٩٨٢ كان أهل المدينة في ساعات الهدنة يحتفلون بالحياة فيتزوجون ويذهبون إلى البحر يسبحون، بل وكانوا يشاهدون مباريات كرة القدم، وهو ما نقرؤه في كتاب محمود درويش «ذاكرة للنسيان: سيرة يوم. المكان آب. الزمان بيروت»، ولخصه بسطر شعري ورد في إحدى قصائد «ورد أقل» ١٩٨٥، والسطر هو: «ونرقص بين شهيدين».
ما ورد في القصة التي كتبها يوسف كتب شبيهاً به الكاتب السوري أديب نحوي في روايته «عرس فلسطيني» (١٩٧٠). يذهب اللاجئ فهد البصاوي - نسبة إلى البصّة قرب عكا - في عملية فدائية إلى داخل الأرض المحتلة، وينتظر والده ليلة عودته سالماً، فيعد لاحتفال العرس ويقيم الموائد وينتظر، ولكن فهد العريس يستشهد، وحين يعلم والده بالنبأ يخفيه ويصر على إقامة العرس والاحتفال بليلة عرس ابنه، ويبقى متماسكاً فيخرج زجاجة العرق ويشرب أمام الآخرين وكأن الأمور تسير كما خطط لها، فالابن سيعود والزفاف سيتم.
أكثر مقطع شعري فلسطيني عبر عن العرس الفلسطيني الحزين، الذي ينغصه الواقع المأساوي منذ النكبة، هو المقطع الذي ورد في قصيدة محمود درويش «طوبى لشيء لم يصل» من ديوان «محاولة رقم ٧» ١٩٧٤، وقد حفظناه عن ظهر قلب نظراً لصدقه في التعبير عن قسوة حياتنا وغنائيته وهو:
«هذا هو العرس الذي لا ينتهي/ في ساحة لا تنتهي/ في ليلة لا تنتهي/ هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريد ...».
في العام ١٩٧٩ أصدرت مجموعتي القصصية الأولى «فصول في توقيع الاتفاقية» وصدرت إحدى قصصها «العريس» بالمقطع السابق، وقد استوحيتها مما حدث مع صديقي وجاري في المخيم فؤاد سمحة.
كان فؤاد، وهو الابن الأكبر لسائق شاحنة متوفى، مصموداً في ساحة الدار والشباب يغنون في عرسه ويرقصون، فداهمهم الجيش الإسرائيلي بحثاً عمّن رشق على أفراده الحجارة، واقتادوا الشباب ومن بينهم العريس إلى مركز الشرطة، وفيه أنفق العريس ليلة عرسه الأولى.
هل استوحى محمود درويش قصيدته «أعراس» ١٩٧٧ من رواية أديب نحوي:
«عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف/ ويدخل حلبة الرقص حصاناً من حماس وقرنفل...
وعلى سقف الزغاريد تجيء الطائرات/ طائرات/ طائرات/ تخطف العاشق من حضن الفراشة/ ومناديل الحداد...
وتزوجت البلاد».
ولعل ما يستحق الالتفات إليه هو هذه القصص والحكايات التي عاشها أبناء الشعب الفلسطيني في مسيرتهم الطويلة، القصص التي تأتي على الأفراح التي تنغصها معاناتهم جراء ما ألمّ بهم بسبب إقامة إسرائيل، وهي حكايات أوحت للشاعر سميح صباغ ابن قرية البقيعة لكتابة البيت الشعري:
«إني تشهيت زغاريد النساء، يحملن
شوق ألف عام للأغاني والفرح».
هل نأتي على ما رواه شفيق الحوت في إحدى المقابلات التلفزيونية معه عن أعراس اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بين ١٩٤٨ و١٩٦٧؟
عندما كان لاجئ في أحد مخيمات لبنان يريد أن يتزوج من لاجئة من مخيم آخر، كان لا بد من تدخل الحوت باعتباره ممثلاً لشؤون اللاجئين في لبنان.
هل قاربت سميرة عزام في قصتها «فلسطيني» شيئاً من هذا؟
لا بد من عودة إلى القصة!

***

43- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: محمود درويش في ذكراه: نصوصه الحاضرة في حرب غزة

حضر محمود درويش في الأشهر الأخيرة كما لم يحضر منذ رحيله في ٢٠٠٨، إذ منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ لم يمر يوم دون أن يقتبس الناشطون الفيسبوكيون قصيدة له أو مقطعا من قصيدة ليدرجوها في صفحاتهم أو ليضمنوها في منشوراتهم، وقد حضرت النصوص التي كتبها في الأحداث الكبرى التي مر بها الفلسطينيون، مثل حرب ١٩٦٧ وحرب ١٩٨٢ وانتفاضة ١٩٨٧ وانتفاضة ٢٠٠٠ أكثر مما حضرت أشعاره التي صدرت في مرحلة السلام ١٩٩٤ - ٢٠٠٠ وبعد العام ٢٠٠٤. بل يمكن القول، إن الأشعار التي راهن عليها لتكون صوته، مثل «جدارية» و»سرير الغريبة» و»لا تعتذر عما فعلت» و»كزهر اللوز أو أبعد»، لم تحضر إلا قليلا جدا.
علينا ألا ننسى أن بعض قصائد الدواوين المذكورة - مثل «درس من كاما سوطرا» و»انتظرها» و»فكر بغيرك» و»تنسى كأنك لم تكن» ومثلها قصيدة «لاعب النرد» التي ظهرت في آخر ديوان له - شاعت بعد وفاته، وهو ما لفت نظر عباد يحيى فكتب عن الظاهرة في روايته «رام الله الشقراء» (٢٠١٣) تحت عنوان «في استغلال الغياب» متأثرا بعنوان كتاب الشاعر النثري «في حضرة الغياب» متسائلا عن سر الهوس الغريب تجاه قصيدة «درس من كاما سوطرا» والتعامل مع درويش كمشاع للجميع: «ولكن لا أفهم استخدامه وأشعاره في كل الأغراض وتحديدا الخسيسة بسفور واضح «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
أنا واحد ممن كتبوا يوميات عن الحرب الدائرة، وقد حضرت أشعار الشاعر فيها حضورا جعلني أفكر في الظاهرة وأتساءل:
- لماذا لم تحضر قصائده التي راهن عليها شاعرا، فيما حضرت أشعاره المرتبطة بالقضية الفلسطينية التي واكبت أبرز منعطفاتها وأخطر أحداثها؟ ومثلها نصه النثري «صمت من أجل غزة». أيعود السبب إلى تشابه الحالة، فالشبيه يستحضر الشبيه؟
ربما!
(نادرا ما عدت في الحرب إلى «جدارية» و«لا تعتذر عما فعلت» و«كزهر اللوز أو أبعد» أو حتى إلى «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» وأيضا إلى يوميات «أثر الفراشة» و»لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، وغالبا ما عدت إلى «آخر الليل» و»محاولة رقم ٧» و»أعراس» و»مديح الظل العالي» و»ورد أقل» و»هي أغنية.. هي أغنية» و»حالة حصار» وأعدت وغيري نشر فقرات من نصه «صمت من أجل غزة». هل هناك سبب آخر غير «الشبيه يستحضر الشبيه»؟ مثلا أنني عشت مع الدواوين الأخيرة المذكورة أكثر من الدواوين الأخرى؟ ربما!).
في الأيام الأخيرة، أعدت قراءة «أثر الفراشة»، وكنت قرأت، من قبل، بعض قصائده وكتبت عنها مقالة نقدية رصينة، وأعني قصيدة «اغتيال». كما توقفت أمام قصيدته «إدمان الوحيد»، واستحضرت، في بداية الحرب، قصيدته في هدى أبو غالية «البنت/ الصرخة»، ولا أتذكر أنني بعد استحضارها ضمنت يومياتي أي مقطع آخر من المجموعة، بخلاف مجموعة «حالة حصار» الأكثر استحضارا واقتباسا.
ماذا لاحظت وأنا أعود إلى «أثر الفراشة»؟ وماذا فعلت؟
لقد لاحظت أن هناك يوميات عديدة منها تناسب ما نعيشه في الحرب ويمكن اقتباسها وإدراجها؛ يوميات لم تناسب فترة ٢٠٠٧ - ٢٠٢٣ التي ناسبتها قصيدة من الديوان ظلت تتكرر بشكل لافت هي «أنت، منذ الآن، غيرك» التي كتبها إثر أحداث غزة في ٢٠٠٧.
من هذه القصائد، عدا قصيدة «البنت/ الصرخة» التي استحضرت في حروب غزة المتعاقبة، قصائد «نيرون» و»العدو» و»البيت قتيلا». إنها تقول للمرء، حين يقرؤها في هذه الأيام، إن الشاعر حي كتبها في هذه الحرب.
آل مصير آلاف الأطفال في غزة إلى مصير هدى، فصاروا بلا أهل. فقدوا العائلة ووجدوا أنفسهم دون أسرة.
وفي «العدو»، في العام ٢٠٠٦، تذكر الشاعر العام ١٩٨٢ حيث «حدث لنا شيء مما يحدث الآن. حوصرنا وقتلنا وقاومنا ما يعرض علينا من جهنم. القتلى/ الشهداء لا يتشابهون. لكل واحد منهم قوام خاص، وملامح خاصة، وعينان واسم وعمر مختلف».
وفي (نيرون) يتساءل الشاعر عما يدور في باله وهو يتفرج على حريق لبنان وحريق العراق وحريق فلسطين وحريق العالم «أنا صاحب القيامة». ثم يطلب من الكاميرا وقف التصوير، لأنه لا يريد لأحد أن يرى النار المشتعلة في أصابعه، عند نهاية هذا الفيلم الأميركي الطويل!.
وفي «البيت قتيلا» تنتهي حياة بيت كاملة. البيت قتيلا هو أيضا قتل جماعي حتى لو خلا من سكانه، وهو ما آل إليه في هذه الحرب قطاع غزة كاملا. لقد صار القطاع كله بيتا قتيلا.
لماذا لم ننتبه من قبل كثيرا إلى قصائد مثل هذه؟
ربما هي اللحظة التاريخية التي تستحضر نصوصا معينة لم يكن يحتفل بها في لحظة مختلفة!

***

44- تـداعـيـات حـرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ذباب.. ذباب أخضر... ذباب أزرق

أنا من مواليد الخيام في العام ١٩٥٤ وأنفقت من عمري ما لا يقل عن ٢٠ عاما في مخيم عسكر القديم وعاما في مخيم الحسين في عمان.
عندما كان نيسان يشرف، كان الذباب يحط معه، فكنا نردد «نيسان شهر الدبان» ومع التقدم في أشهر الصيف كنا نعاني من الذباب معاناة كبيرة، فلم يكن لأكثر البيوت شبابيك بمناخل تمنع الذباب والبعوض من الدخول إليها. في تلك الأيام، استخدم الناس للتقليل من إزعاج الذباب، البشاكير والمكشات والشريط اللاصق. هل يذكر أي منكم الشريط اللاصق؟
غالبا ما كان آباؤنا يشترون شريطا لاصقا يعلقونه في وسط الغرفة، لكي يقترب منه الذباب ويلصق به، وهكذا كنت ترى مئات الذبابات معا.
في أيلول ١٩٨٢، بعد اليوم التالي لمذبحة شاتيلا وصبرا، زار الكاتب الفرنسي (جان جينيه) شاتيلا، ليتفقد الأحوال ويكتب عنها، وهو ما قرأناه في نصه «أربع ساعات في شاتيلا».
رأى (جينيه) الجثث ملقاة في الشوارع يقتات عليها الذباب، فكتب:
«لكن، ما أكثر الذباب. كنت، إذا رفعت المنديل، أو الجريدة العربية الموضوعة فوق رأس ميت، أزعجه، فكان وقد أغضبته إشارتي، تأتي جماعاته لتحط فوق ظهر يدي، محاولة أن تقتات منها.. إن الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة..».
كان الذباب لكثرته يحلق فوق ركام القماش الوردي الذي قام مرافقه الشاب الذي يدله على نكال الموتى بوضعه على وجه المرأة الفلسطينية القتيلة ويديها ووضع أيضا قطعة كرتون خشن على ساقيها «ولم يحل هذا دون انتشار رائحة قوية لكنها لم تكن كريهة. وخيل إلي أن الرائحة والذبابات متعودان علي».
حين يصف (جينيه) فلسطينيا ميتا في أحد الأزقة يأتي أيضا على الذباب:
«تجويفة يده الممدودة نحو السماء. فمه المفتوح. فتحة بنطلونه الذي ينقصه الحزام: كأنها خلايا كان الذباب يقتات منها».
في العام ٢٠٠٨، نشر محمود درويش كتابه «أثر الفراشة: يوميات» وفيه كتب عن الفراشة والبعوضة كما لاحظنا، وكتب أيضا تحت عنوان «ذباب أخضر». لم ألتفت إلى النص الأخير كما التفت إلى دال «الفراشة» في شعره بعامة، ونص «البعوضة» بخاصة، ويبدو أنني قرأت «ذباب أخضر» قراءة عابرة، وحين كثرت، في الأسبوعين الأخيرين، أشرطة الفيديو عن الذباب الأزرق الذي كتب عنه بعض أبناء قطاع غزة عدت إلى «ذباب أخضر» وكتبت عنه غير باحث عن المدلول الذي رمى الشاعر إليه، وعندما ألمحت قارئة جيدة لشعر درويش إلى المقصود تأملت النص في مكانه وموقعه من النصوص الأخرى وتمنيت لو أن الشاعر أدرج الزمن الكتابي له، فلربما جعلنا نطمئن إلى تأويل ما دون غيره. عندما ربطت النص بالواقع الفلسطيني تذكرت أن الذين يمنعون تصوير ضرب فلسطينيين هم أفراد جيش الاحتلال الذين يرتدون اللباس ذا اللون الأخضر.
في هذا الصيف اللاهب، بل ومنذ بدأ النزوح من شمال غزة إلى خان يونس فرفح عانى النازحون من إزعاج الذباب، فكان عدوا آخر لهم.
في مقابلة حديثة مع الكاتب الغزي الساخر أكرم الصوراني يقول:
«منذ نزحت النزوح الأول من غزة إلى خان يونس كنت أتردد كل ليلة في الكتابة عن يوميات الحرب، وكل ليلة أضع على وجهي البشكير للوقاية من ذباب الشتاء وما تيسر من صراصير - وهو بالمناسبة ذباب غبي وبليد جدا، لا يقل بلادة عن الغسيل الذي ينشف من الخوف؟، وهو لا ينشف، والقصف لشدة العنف ليلا والذباب أيضا، ولا أسوأ من الليل المليء بالقصف والذباب إلا انقطاع النت بين الفينة والأخرى...».
هل الذباب الأزرق هو الجن الأزرق؟
انتشر في غزة في الفترة الأخيرة ذباب أزرق آذى الصغار والكبار، وكان منظر الأطفال الرضع من آثار لسعاته مرعبا، فقد بان على جلودهم، وقد كتب عنه، في ٣٠/ ٧/ ٢٠٢٤، الخبير بالصحة الجسدية الدكتور الغزاوي رياض عواد معرفا به:
«نوع من الذباب له بطن أزرق وطبقة برتقالية طويلة على جانب الرأس، كبير الحجم ما يقارب ضعف حجم الذبابة المنزلية وزنه مميز ومزعج... يتغذى على الجيف والجثث المتعفنة التي تعتبر المكان المفضل لإقامته وتكاثره، ما يجعله من أكثر الحشرات نقلا للأمراض، وقد اشتهر بأنه ذباب المقابر. تنجم عن إصابته التهابات تصل إلى الأكزيما، وإذا وقع على الطعام سبب مشاكل في الجهاز الهضمي وإسهالا، وأيضا التهابا في العيون. ويقول الدكتور رياض، إن رجال الأمن غالبا ما هددوا المعتقلين بإخفائهم دون أن يعلم مكانهم حتى الذباب الأزرق.
للكاتب الفرنسي (جان بول سارتر) مسرحية عنوانها «الذباب» كتبها في العام ١٩٤٣. في المسرحية يغزو الذباب المدينة التي تآمرت فيها الزوجة مع عشيقها وقتلا الزوج وأرادا التخلص من الابن الذي نجا، وحين كبر وعاد إلى المدينة لاحظ الذباب يغزوها.
هل ستغزو الحشرات والقوارض والزواحف والفيروسات فلسطين بسبب ما يرتكب فيها من جرائم؟
كم من مقال سابق في هذه التداعيات كتبته أتيت فيه على تسميم المياه وانتشار الأوبئة والبعوض والفيروسات؟!
الآن، يغزونا الذباب وقد يخربش الذباب الإلكتروني حياتنا.

***

45- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: يحيى السنوار روائياً

منذ انتخب يحيى السنوار خلفاً لإسماعيل هنية صار موضع اهتمام الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، فلم يمر يوم دون ذكره والكتابة عنه وتحليل شخصيته، بل صار موضع جدل أدى إلى خصومات بين محبيه وكارهيه، وأسبغت عليه من الصفات؛ جيدها ورديئها، الكثير، ما ذكرني بدراسة للألماني (Werner Ende) عنوانها «من هو البطل المؤمن؟ من هو الملحد؟: صور تاريخيه متناقضة في أدب البلدان الإسلامية الحديث» نشرها في مجلة «عالم الإسلام» (١٩٨٤)، وشجعتني على قراءتها الألمانية (انجليكا نويفرت)، فقمت بترجمتها ونشرها في مجلة «الكاتب» المقدسية التي أصدرها أسعد الأسعد (أيار ١٩٩٢).
يختار (Ende) لدراسته شخصية صلاح الدين الأيوبي التي يتخذها السنوار نموذجاً يتمنى أن يكون مثله، وهو ما ورد على لسان أحمد سارد رواية «الشوك والقرنفل» التي كتبها السنوار وهو في السجون الإسرائيلية (٢٠٠٤)، ولم يلتفت أي دارس إليها إلا في الحرب على غزة في ٢٠٢١ وفي الحرب الحالية - أي ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وازداد الالتفات إليها في هذا الشهر، فتساءل عديدون عن السبب:
- أيعود إلى قيمتها الأدبية أم إلى قيمتها التاريخية الاجتماعية؟
سخر منها ومن صاحبها ومن المهتمين بها من سخر، ودافع عنها، من أنصار كاتبها ومؤيدي ما قام به في ٧ أكتوبر، من دافع ومن درسها في ضوء مقولات نقدية أخذت بها بعض المناهج النقدية التي لا تعزل النص عن شرطه التاريخي وحياة مؤلفه.
في كتابه «مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق» أوضح (ديفيد ديتشس)، في فصل «الأدب وعلم الاجتماع»، أن هناك نصوصاً لها قيمة أدبية عالية ولكن قيمتها الاجتماعية قليلة، وفي المقابل فإن هناك نصوصاً لها قيمة اجتماعية مرتفعة ولكن قيمتها الأدبية ضئيلة، وأوضح في فصل الأدب وعلم النفس أنك لكي تتذوق نصاً ما عليك أن تعرف صاحبه إنساناً، وغالباً ما اهتم الناقد (ادموند ولسون) بظروف النشأة - يعني ونحن نقرأ رواية السنوار علينا ألا نغفل أنه كتبها وهو في السجن في ظروف بالغة القسوة.
لم يطرح السنوار نفسه روائياً على الإطلاق، فلم يعد إلى كتابة الرواية ثانية، ولم يرشحها لجائزة أدبية، ولم يطلب من ناقد أن يكتب عنها، والدليل أننا لم نقرأ عنها قبل العام ٢٠٢١ مراجعات نقدية تعرف بها فتشهرها.
ومن نبه إليها هو الشاعر زكريا محمد، إذ ذكر، وهو يكتب عن السنوار في ٢٠٢١، أن له رواية، ما حفزني لقراءتها والكتابة عنها.
«الشوك والقرنفل» هي سيرة روائية لكاتبها منذ نشأته إلى تاريخ سجنه، كتب فيها عن مخيم الشاطئ والحياة فيه، علما أنه من مخيم خان يونس.
كتب عن طفولة أحمد/ متخذاً منه قناعاً، في ٦٠ القرن ٢٠ وأسرته وعن حرب حزيران ١٩٦٧ وما تلاها وحرب أكتوبر ١٩٧٣ ثم حرب بيروت ١٩٨٢ والانتفاضة الأولى واتفاق أوسلو حتى بداية انتفاضة الأقصى ٢٠٠٠ وعن علاقة الفصائل ببعضها، بخاصة الحركة الإسلامية وفتح والجبهة الشعبية. كتب عن المجتمع الغزي والتوجهات السياسية فيه وعن علاقة غزة بالخليل ونشأة الحركة الإسلامية أيضاً وانضوائه تحت رايتها وهنا تكمن أهميتها. وبذلك صور لنا حياة المخيم وحياة السجن وتيار المقاومة، ما دفعني، وأنا أكتب عنها، إلى أن أتساءل إن كانت رواية مخيم أو رواية مقاومة أو رواية سجن، وقد آثرت عدها «سيرة روائية» لا رواية، وحين كتبت عن قيمتها الأدبية الفنية، من حيث جنسها، قلت معتمداً على كتاب (ديفيد ديتشس) إن لها قيمة تاريخية اجتماعية أما قيمتها الأدبية الفنية في مسيرة الرواية الفلسطينية فعادية، إذ لم تشكل إضافة نوعية ولم تجعل من مؤلفها صوتاً روائياً يضاف إلى الأصوات اللافتة، وكل من كان ذا وعي أدبي رأى هذا ومنهم د. سليمان صالح أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة الذي كتب أنه لا يمكن النظر في الرواية «باعتبارها عملاً أدبياً «ف» كاتبها نفسه لم يكتبها لهذا الغرض ولم يستعرض فيها قدراته التقنية في الحبكة والسرد والتشويق» (الجزيرة ١٥/ ١٢/ ٢٠٢٣) والدكتور إبراهيم خليل الأستاذ بالجامعة الأردنية الذي قال في ندوة في بيت الثقافة والفنون في عمان «إن يحيى السنوار مقاوم بالدرجة الأولى وروائي بالدرجة الثانية «(٢٦/ ١/ ٢٠٢٤).
ولم يختلف تقييم الرواية في المقال الموسع الذي كتبه David Remnick ونشره في ٣/ ٨/ ٢٠٢٤ في مجلة ال (نيو يوركر).
لماذا إذن اهتم بالرواية بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وعاد الاهتمام بها في آب ٢٠٢٤؟
يرى أصحاب نظرية التلقي الألمانية أن المنعطفات التاريخية تؤدي إلى قراءة النصوص القديمة قراءة جديدة وتفسيرها في ضوء المعطيات الجديدة، ويخيل إلي أنه لولا حربا ٢٠٢١ و٢٠٢٣ وانتخاب السنوار مؤخراً رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس لما انتبه إلى الرواية سوى راصدي الرواية الفلسطينية ومؤرخيها وهم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.

***

46- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : هل تصرخ غزة: يا وحدنا؟!

أثار شريط فيديو ، عن ٨٠٠٠ فلسطيني من فلسطين التاريخية سافروا إلى الأردن لحضور حفل غنائي يحييه وائل كفوري ، أدرجه في ١٥ / ٨ ناشط فيسبوكي على صفحته ، وهو د.بلال شبير ، أثار موجة من ردود فعل غاضبة تشبه تلك التي أثارها شريط فيديو آخر عمم في ٩ / ٦ عن مسبح مختلط في رام الله ، وبلغت هذه الردود قمتها بكتابة مواطن من غزة أنه غزاوي لا فلسطيني وأن فلسطينيي الضفة الغربية والقدس والمناطق الفلسطينية في بقية فلسطين لا يمتون لغزة بصلة .
عندما أدرجت شريط الفيديو من صفحة شبير على صفحتي قرأت تعليقات تعمق الشرخ في المجتمع الفلسطيني ما دفعني لحذفه والتعليقات معا ، علما بأنني تساءلت إن كان الشريط حقيقيا أم أن الهدف من نشره هو تشويه فلسطينيي المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ .
عندما قارنت ردود أفعال الأدباء هناك في حرب ١٩٦٧ وحرب ١٩٨٢ والانتفاضة الأولى بردود أفعال الأدباء اليوم لاحظت فرقا بينا ، فلم نقرأ الآن نصوصا أدبية مثل تلك التي قرأناها في الفترات السابقة ، وغالبا ما كتبت وأنا أسترجع شجاعة توفيق زياد عبارة " وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر " ، بل وكثيرا ما اقتبست من اشعاره ومن أشعار محمود درويش وغيرهما ، لأنني وجدتها تعبر عما يجري .
طبعا علينا ألا ننسى أن ٨٠٠٠ مواطن من ٢ مليون رقم لا يذكر ، وكثيرون من أهلنا هناك كانوا يوضحون ما يمرون به وما يتعرضون له وتأثير أي احتجاج يبدونه على بقائهم في سكناهم ، وما زال ما جرى في حيفا في العام ٢٠٢١ حين وقفوا ضد حرب غزة في حينه باديا واضحا ظاهرا حيث تعرضت بيوتهم لهجمات اليهود المتطرفين فأشعلوا النار في عدد منها.
ومن يتابع موقف أهل قطاع غزة من موقف أهل الضفة الغربية والقدس وفلسطين ١٩٤٨ يجد تباينا واختلافا ؛ فقسم منهم يحذرنا من الانجرار إلى ما جروا إليه وقسم آخر يشتم ويعير ويكرر عبارة أهل القدس في حصار الشيخ جراح والاعتداء على الأقصى " وين صواريخك يا غزة؟ " .
هل صار الفلسطينيون مثل جحا عندما أخبر إن " العاطل " منتشر في مدينته فرد : بعيد عن حيي ، فلما وصل العاطل إلى حيه رد : بعيد عن بيتي ، فلما بلغ بيته رد : بعيد عن قفاي ؟
ومنذ بدايةالحرب الدائرة حاليا كثيرا ما تكررت حكاية الثيران الثلاثة المشهورة التي اختصرت في المثل " أكلت يوم أكل الثور الأبيض " . هل صارت غزة الثور الأبيض وستصبح الضفة الغربية الثور الأسود ، علما بأن الضفة الغربية منذ ٧ أكتوبر لم تهدأ ، وفلسطينيو ١٩٤٨ الثور الأحمر ؟
في آذار كتبت تحت عنوان " العالم بعيدا عن غزة والضفة الغربية " لافتا إلى أن الحياة هناك تجري كما لو أن لا شيء يحدث في غزة .
ذكرني ما سبق بأن تعدد المواقف واختلافها وتباينها ليس بالجديد في حياة الفلسطينيين منذ العام ١٩٤٨ ، وغالبا ما دب النزاع بينهم بسبب مواقفهم واختلافها مما يحدث وردود أفعالهم إزاء ما تفرضه المتغيرات والأحداث على أرض الواقع ، وهذا ما انعكس في نصوص أدبية فلسطينية عديدة كان غسان كنفاني رصد بعضها في كتابه " أدب المقاومة في فلسطين المحتلة " .
في مقابلة أجريت مع إميل حبيبي قبل وفاته ونشرت في مجلة " مشارف " أتى على موقف الحزب الشيوعي من العمال الفلسطينيين في المصانع والمزارع الإسرائيلية وقام بمراجعة له بعد تجربة ٤٥ عاما ومما قاله :
" ربما أكون أول من نجح في وقف خطئنا الكبير والأساسي وهو أننا عادينا كل من وجد عملا ليعتاش منه في إطار المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة " ( ع ٩ حزيران ١٩٩٦ ) .
بعد حزيران ١٩٦٧ وإقدام قسم من أبناء الضفة الغربية على العمل في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ كتبت فدوى طوقان قصيدة " تفاءل معي " التي أهدتها للشاعر عبد اللطيف عقل تتهكم فيها على اؤلئك العمال . هنا بدأ المجتمع الفلسطيني ينقسم على ذاته بين مؤيد لخطوة العمال ومعارض لها ، ومع الاحتكاك مع الفلسطينيين هناك صرنا نقرأ عن فلسطينيين وفلسطينيين آخرين مختلفين وهو ما عبر عنه القاص توفيق فياض في قصته " أبو جابر الخليلي " (١٩٧٧) التي اتهم فيها أبو جابر " عرب إسرائيل " بأنهم إما شيوعيون - والعياذ بالله - وإما جواسيس ، وصرنا نلاحظ الفرق واضحا في سلوك أبناء المجتمع الفلسطيني اتكاء على مكان إقامته .
رصد التغيرات على بنية المجتمع الفلسطيني في الداخل بعد ١٩٩٣ رصدها كتاب عديدون منهم عزمي بشارة وامتياز دياب . الأول في روايته " حب في منطقة الظل " ( ٢٠٠٥ ) والثانية في تقريرها / ريبورتاج " أن نكون معا " ( مجلة الكرمل ربيع ٢٠٠٥ / عدد ٨٣ ) . ويلحظ المرء في العملين المذكورين ما آل إليه الناس بعد اتفاقات أوسلو . لقد تحول أكثرهم من مناضلين مسيسين إلى بشر استهلاكيين ، وهذا ما أدى في العقد الأخير إلى تفشي الجريمة الاجتماعية بينهم ، فصاروا مختلفين .
هل ما سبق يسهم في إثراء تفسير سبب الصمت وعدم التحرك لمساعدة أهل قطاع غزة - مساعدة إنسانية ليس أكثر - إلا في الأسبوعين الأخيرين ؟
كتابات كثيرة قد تنجز في الموضوع والحكي كثير وإن كان دافعه الغضب ويغلب عليه الانفعال .

( دفاتر الأيام الفلسطينية ٢٥ / ٨ / ٢٠٢٤ )
المسودة
(الاثنين والثلاثاء والأربعاء ١٩ و٢٠ و ٢١ / ٨ / ٢٠٢٤ )
عادل الاسطة

***

47- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : غزة تصارع دولة عظمى

من تابع أخبار أحداث ٧ أكتوبر منذ بدايتها لاحظ مدى مساهمة دول عالمية كبرى فيها من خلال التعاطف المبكر مع الدولة الإسرائيلية، فقد زارها رئيس أكبر دولة عظمى هي الولايات المتحدة الأميركية ورؤساء دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا وغيرهما حتى أننا، في حينه، نعتنا ما يجري بالعدوان السداسي على غزة، متأثرين بما سمعنا عنه وقرأناه عن حرب السويس في العام ١٩٥٦، حيث العدوان الثلاثي على مصر.
عندما تواصلت الحرب وصمدت غزة ولم ترضخ المقاومة وظلت تفاوض متمسكة بشروطها أكثرها، فنجم عن ذلك احتلال القطاع ونزوح أهله المتكرر ومعاناتهم من الجوع والبرد والحر وفقدان أدنى شروط الحياة، أخذ قسم منهم - أي أهل قطاع غزة - يسخرون من تشدد قادة حماس والجهاد وإصرارهم على القتال قائلين:
- معهم حق، فالاتحاد السوفييتي الغزاوي يفاوض من موقع قوة، ويضع نفسه نداً لحلف الناتو.
ماذا لو راجع المرء الأدبيات الفلسطينية التي كتبت قبل العام ٢٠٢٣ وأتى أصحابها فيها على الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، بخاصة موقف فصائل المقاومة، حتى السابقة لحركة حماس والجهاد الإسلامي؟
هل كان كتاب الأدبيات الفلسطينية التابعة لفصائل الحركة الوطنية؛ يمينها ويسارها، يدعون إلى الرضوخ والاستسلام؟
وماذا كان موقفهم ممن يدعو إلى ذلك؟
إن عدنا إلى موقف هؤلاء الكتاب من رواية إسحق موسى الحسيني «مذكرات دجاجة» 1943، وقد دعت الدجاجة إلى ترك المأوى وعدم مقاومة الدولة الباطشة القادرة بريطانيا والعصابات الصهيونية، فإننا سنقرأ سيلاً من الكتابات التي خونتها واتهمتها بأنها دجاجة خانعة مستسلمة خائنة.
وسنجد أن أكثر الكتاب رددوا سؤال غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس» (١٩٦٣) الداعي إلى المقاومة وهو:
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟
بل إننا سنجد كاتباً مرفهاً يقيم في بغداد ويسافر باستمرار إلى الغرب وتوجهه توجه غربي ليبرالي مسالم، وهو جبرا إبراهيم جبرا، يكتب في سبعينيات القرن العشرين رواية «البحث عن وليد مسعود» يختار فيها لبطله، الذي هو على شاكلته، طريق العمل الفدائي والانخراط فيه، ما يعني أن جبرا نفسه في حمى صعود المقاومة لم ينهج نهج إسحق موسى الحسيني - أي مقاومة القوة بالرضوخ.
ومن ينظر في الأمثال الشعبية الفلسطينية، التي وردت على لسان الشخصيات الفلسطينية في القصص القصيرة والروايات، يلحظ أنه غالباً ما تم تحوير المثل الشعبي «الكف ما بتلاطم المخرز» ليغدو «الكف يلاطم المخرز»، وقد جعله الكاتب محمد أيوب، في تسعينيات القرن العشرين، عنواناً لرواية له، ومثله مثل «ما بحرث الأرض غير عجولها» الذي أكثر القاص جمال بنورة من توظيفه في قصصه القصيرة.
إن مبدأ المواجهة برز قبل ذلك أيضاً في كتابات كتاب الأرض المحتلة في العام ١٩٤٨ الذين لم يدعوا، في أكثر كتاباتهم، إلى المقاومة المسلحة. برز في بعض قصص توفيق فياض في مجموعته «البهلول» (١٩٧٨)، وفي قصة سميح القاسم الاوتوبيوغرافية «إلى الجحيم أيها الليلك» (١٩٧٧).
وكان الكتاب السابقون أكثرهم عاشوا نكسة حزيران ١٩٦٧ وحروباً عديدة أخرى خاضتها جيوش عربية ولم تقوَ فيها على استعادة أراضيها المحتلة كاملة، ومع ذلك فقد رأوا في المقاومة المسلحة الطريق الوحيد لإمكانية حل عادل.
«تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب» كتب غسان كنفاني في روايته «عائد إلى حيفا» (١٩٦٩)، وكتب محمود درويش في كتابه «وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلم» (١٩٧٤) : «بالحرب وحدها نستطيع الذهاب إلى السلم».
هل تستطيع غزة المحاصرة وحدها مقاتلة دولة عظمى؟
في العام ١٩٧٣ كتب الشاعر الصفوري طه محمد علي قصيدة عنوانها «عبد الهادي يصارع دولة عظمى» يأتي فيها على شخص ما قرأ في حياته ولا كتب ولا قطع شجرة ولا جاب سيرة النيويورك تايمز بغيابها ولا رفع صوته على أحد إلا بقوله «تفضل.. « «والله العظيم غير تتفضل»، إلا أنه يحيا قضية خاسرة وحالته ميؤوس منها وحقه ذرة ملح سقطت في المحيط، وهو لا يعرف شيئاً عن عدوه ولو رأى بحارة الانتربرايز لقدم لهم البيض المقلي ولبن الكيس»، فكيف سيصارع دولة عظمى؟!
إن ما قاله العنوان مغاير مختلف لما يقوله المتن.
هل يختلف كثيراً واقع غزة وهي تحارب دولة تقف وراءها أكبر دولة عظمى، بل ودول غربية كانت عظمى؟

***

48- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : الكتابة عن الأحذية

في تتبع كتابات أبناء قطاع غزة، عن حياتهم في ظل الحرب الدائرة حالياً، يلفت النظر ما كتبوه عن الأحذية.
لم ينزح أبناء القطاع ولم تدمر منازلهم ولم يقيموا في الخيام يعانون من القتل والخوف والجوع والعطش وقلة الدواء وحسب، بل عانوا أيضاً من نقص في الأحذية حتى أن قسماً منهم مشى حافياً، فانطبق عليه قول الشاعر توفيق زياد:
"وقفت بوجه ظلامي يتيماً عارياً حافي".
وفي الشهر الأول من الحرب لفت منظر المقاتل الغزي الذي يذهب ليقاتل عدوه بالشبشب الأنظار، فكثرت التعليقات الإيجابية من الفلسطينيين حوله، وكثر أيضاً الغمز واللمز من العدو الذي يوجعه مقاتل شبه حافٍ.
وبإحصائية غير دقيقة أو شاملة يمكن أن ألفت النظر إلى تسع فقرات ومشاهد تابعتها وقرأتها بهذا الشأن وهي كتابات وإدراجات الناشطين الآتية:
- فايقة الصوص (أم أيمن) "ليس تفاحا" (٢١/ ٣/ ٢٠٢٤)
و "الإسكافي" (٦/ ٨/ ٢٠٢٤)
- رياض عواد "صورة شبشب مرتوق" (١٢/ ٨/ ٢٠٢٤)
- شجاع الصفدي "باب الحارة" (١٤/ ٨/ ٢٠٢٤)
- مريم قوش "ثمن قبقاب ساندريلا" (٢٤/ ٨/ ٢٠٢٤)
- الجزيرة. صورة لطفلين يحملان جردل الماء يتبادلان انتعال الحذاء. فردة لكل منهما
- رزق مزعنن "شبشب صناعة مصرية ثمنه في غزة الآن ٣٠٠ شيكل. قبل الحرب ٣٠ شيكلاً وقبل إغلاق معبر رفح ٤٠ شيكلاً".
- يوسف القدرة "أمي الحبيبة" (١/ ٩/ ٢٠٢٤).
- في ٢ / ٩ / ٢٠٢٤ أدرجت صفحة "أخبار غزة أولاً بأول" صورة حذاء مهترئ ممزق كتب أعلى منها "صورة حذاء لطفل".
وهذه كلها تصف مشاهد وتجارب تظهر مدى افتقاد الناس لأبسط احتياجاتهم: أن يرتدوا حذاء.
وأنا أدرس الأدب الفلسطيني، في جامعة النجاح الوطنية، غالباً ما درست سيرة جبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى" وتوقفت أمام ما كتبه عن الحذاء الذي حظي به من الدير، ففرح ولكن فرحته لم تكتمل. وهذه القصة دفعتني لأن أكتب مقالاً عنوانه "الأدباء الفلسطينيون والأحذية" (٢٢/ ١/ ٢٠٢٢) تتبعت فيه ما أورده أدباء فلسطينيون عن الأحذية وعن فقرهم وفقر طلابهم، وهم، عدا جبرا، معين بسيسو وطه محمد علي وحنا إبراهيم وراشد عيسى.
وأنا أقرأ ما كتبه أبناء غزة تذكرت ما مر به الأدباء الواردة أسماؤهم.
في "إنه ليس تفاحا" تروي فايقة الصوص المولعة بالتسوق مشاهداتها في آذار. رأت كومة تقارب الألف قطعة ذات لون أحمر فظنتها تفاحا، ما أثار دهشتها:
- أيعقل أن يكون تفاحا؟ ولكن التفاح لا يبسط على الأرض هكذا!
عندما اقتربت من الكومة أبصرت ألف فردة حذاء، فأعجبتها فردة أرادت شراءها لحفيدتها، وهنا سألت البائع عن أخت الفردة فأجابها بأن لا فردة تشبه الأخرى.
ما حكته "أم أيمن" ذكرني بقصة طه محمد علي "سيمفونية الولد الحافي "ما يكون"" وفيها روى، في ١٩٩٦، حكايته طفلاً مع الحذاء.
أراد طه أن يشتري حذاء من بائع مغربي، فلما عثر على فردة يمينية أعجبته سأل عن أختها الشمالية فلم يجد، فانتقى، مصراً، فردة يمينية ثانية ولما لبسها عانى معاناة كبيرة ومرض إثرها. الفقر هو ما دفعه إلى ذلك.
أما في "الإسكافي" فتروي فايقة ما ألم بحذائها ذات جولة تسوق. لقد انفرط جانب منه، فلما رأت إسكافياً ذهبت إليه ليرتقه، فرأت ما يبعث على الضحك، ومع ذلك فقد ازدهرت مهنة الإسكافي في الحرب في حين بهتت مهن أخرى.
ما روته الكاتبة ذكرني بـ "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا وما كتبه فيها عن مهنة أبيه في عشرينيات القرن العشرين وعن طبيعة الأحذية التي كانت تصنع من الكاوتشوك.
أما شجاع الصفدي فيكتب عن سيره وصديقه وملاحظتهما الناس تمشي حفاة، ما ولد لديه فكرة مشروع اقتصادي يتمثل في إقامة مصنع قباقب تشبه تلك التي في مسلسل "باب الحارة"، ولكنهما يخشيان من أن يستخدمها الناس في أثناء تعاركهم، فما أكثر ما يتعاركون في الحرب.
تحكي مريم قوش في "ثمن قبقاب ساندريلا" عن حوار سمعته بين أم وطفلتها.
تصطحب الأم ابنتها لتشتري لها قبقاباً، فهو المتوفر، في حين تحلم الابنة بحذاء يشبه حذاء ساندريلا، ولكن أين يتوفر هذا؟ تضطر الابنة مكرهة أن تخضع لأمها، فليس باليد حيلة، فيما تعد الأم ابنتها أنها ستحقق لها رغبتها حال انتهاء الحرب.
وتقول الصورة أكثر مما تقول الكتابة. الناشط رياض عواد أدرج صورة حفاية مهترئة مرتوقة، وصفحة أخبار غزة أولاً بأول أدرجت صورة مختلفة لحفاية تمزق الجزء الخلفي لكلتا فردتيها. صار امتلاك حذاء أمنية، وهو ما نلحظه في الرسالة التي كتبتها هبة في منشور الكاتب يوسف القدرة في ١ أيلول ٢٠٢٤:
"أمي الحبيبة
أكتب لك اليوم عن شيء بسيط، لكنه أصبح مشكلة كبيرة بالنسبة لي. شبشبي الذي كنت أرتديه منذ فترة طويلة أصبح ممزقاً ومهترئاً لدرجة أني لا أستطيع المشي به جيداً. كل خطوة أخطوها تجلب لي ألماً وإحراجاً، ولا أستطيع العثور على بديل له في السوق.
(..) كل ما أريده الآن هو شيء بسيط. شبشب جديد يمكنني أن أمشي به دون أن أشعر بالخجل أو الألم...... الخ".
كانت أمنية الشاعر اللاجئ راشد عيسى في بداية خمسينيات القرن ٢٠ أن ينتعل حذاء، وحول هذا كتب في سيرته "مفتاح الباب المخلوع". كأننا نستنسخ النكبة وأكثر.

***

تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ :
49- خيمة للخلوة .. خيمة للعزلة

في ٣ حزيران ٢٠٢٤ كتب ابن غزة شجاع الصفدي منشورا عنوانه " خيمة للعزلة " أتى فيه على فكرة طرأت على ذهن صديق له فحواها إقامة خيمة لخلوة شرعية للأزواج ممن يرغبون في ممارسة علاقتهم الزوجية ، بعيدا عن الخيام المتلاصقة المكتظة بالبشر في مخيمات النزوح الجديدة منذ ٧ أكتوبر ، حيث افتقد الناس خصوصياتهم ، فأصبحت أخبارهم على مسمع جيرانهم ، وقبل ذلك على مرأى أبنائهم .
شجاع لم يحتج خيمة للخلوة ، فهذا ما لم يشغله كثيرا ، ولكنه احتاج خيمة للعزلة ، ليفكر في اقتراح صاحبه وما طرأ على ذهنه في هذا الواقع القاسي ، حيث الصراخ والضجيج بين ساكني الخيام ، وهو " خيمة للعزلة " ، وغالبا ما احتاج الكتاب إلى حيز خاص بهم يكتبون فيه ، علما بأن سبب تفكيره بخيمة للعزلة يعود إلى ما سمعه من صديقة عبرت عن أمنيتها بالحصول على مكان تسترخي فيه ، فلا يزعجها أحد ولا يلتفت إلى خصوصيتها ، ويعود أيضا إلى ما شاهده في الأسواق وبين الخيام .
عندما قرأت الفكرة التي طرأت على ذهن صديقه كتبت " أجمل نص قرأته في كتابات كتاب غزة منذ بداية الحرب : المضحك المبكي " ، وشجاع عقب على اقتراح صديقه بعبارة " المضحك المؤلم " .
كانت تعليقات القراء على ما كتبه متفاوتة وحافزا لكتابة حول الكتابة .
مر الأمر الذي لفت نظري من قبل موضوع شبيه له هو وقوف الغزيين طوابير طوابير أمام المراحيض ، وهذا ما كتبت عنه مقال " مأساة الفلسطيني في حياته اليومية : الحمامات " ( الأيام ٢١ / ٤ / ٢٠٢٤ ) .
في الأسبوعين الأخيرين تحدثت الطبيبة المتخصصة بالصحة الجنسية والإنجابية الغزية إسراء صالح في حوار معها ( عبر بودكاست ) عن تخصيص غرفة في مراكز إيواء اللاجئين الفلسطينيين ، ثم لاحقا خيمة في مخيمات الخيام ، ليقيم - لساعات فيها - الأزواج الراغبون في الإنجاب ، أو الراغبون في ممارسة علاقتهم الحميمة ، أو الأزواج الجدد .
تساءلت إسراء إن كان ثمة خصوصية لهؤلاء ، فالكل في مراكز الإيواء أو في خيمة المخيم يعرفون سبب ذهاب الأزواج إلى الغرفة أو الخيمة .
حديث إسراء كان له صدى كبير تعددت الآراء فيه واختلفت . صدى أوسع بكثير من صدى كتابة شجاع والسبب واضح ومعروف ، فعدد مشاهدي شريط فيديو أو متابعي لقاء تلفازي أضعاف أضعاف القراء .
المقال والحديث استثارا في ذهني حكايا شاهدتها ، أو سمعت عنها ، أو قرأت حولها ، تؤكد ما علقت به قارئة عن الخصوصيات في المخيمات منذ إقامتها بعد العام ١٩٤٨ ، وهو :
- ومتى كان هناك خصوصيات في مخيمات اللجوء ؟
ربما كان أجدادنا وآباؤنا يخجلون من الخوض في هذا الموضوع في خمسينيات القرن العشرين يوم عاشوا عشر سنوات في المدارس أولا وفي الخيام ثانيا ! ربما خجلوا من قص حكايات بعض شاذين أو شبقين جنسيا يتسللون ليلا إلى خيام مجاورة لخيمتهم ، وأذكر أن أحاديث شباب المخيم لم يكن يخلو من حكايات التلصص على بيوت الجيران والإصغاء إلى ما كان يدور فيها بين الأزواج من أحاديث وما يصدر عنهم من حركات ، وكانت مثل هذه الحكايات تتناقل وتشيع وتنتشر بسرعة . لقد كانت موضوعا متداولا محببا . لم تكن الخيمة تستر ولا كانت غرف الوكالة أيضا تخفي ، فشبابيكها وأبوابها كانت من ألواح خشب بينها فراغات تمكن أحيانا من الرؤية ، وما أكثر الأشقياء والفضوليين والمرضى نفسيا !
فيما كتبه الشاعر أحمد دحبور بعنوان " فصول من سيرة ذاتية " ، عن مكان إقامتهم بعد النكبة ، ما يخبرنا عن انتفاء أي خصوصية للاجئين . يحكي أحمد عن الثكنة التي أقاموا فيها والغرفة التي كانت من نصيب عائلته ، فلما تزوج أخوه الكبير مصطفى قسمت أمه الغرفة بالبطانيات إلى شطرين .
السؤال عن مكان لعريسين فلسطينيين يقضيان فيه ليلة الدخلة ألح على محمود درويش بعد الشتات الفلسطيني إثر الخروج من بيروت حيث فقد الفلسطينون خيمتهم الأخيرة " بيروت خيمتنا الأخيرة " . في قصيدة " مطار أثينا " ١٩٨٣ نقرأ :
" في مطار أثينا انتظرنا سنينا . تزوج شاب فتاة ولم يجدا غرفة للزواج السريع . تساءل : أين أفض بكارتها ؟ فضحكنا وقلنا له : يا فتى ، لا مكان لهذا السؤال " .
وتعد رواية سامية عيسى " حليب التين " أشمل نص أدبي فلسطيني أتى على افتقاد الفلسطيني خصوصيته ، بل واجرأ ما كتب في هذا . يتزوج الفدائي ويقيم مع عائلته والسكن ضيق ، فكيف له أن يمارس حياته ؟
المقطع الآتي غيض من فيض في الرواية : " بعدما تزوجا صارت [ الأم ] تفسح لهما الوقت والمكان في النهار لكي يفعلا ما لم يستطيعاه بقربها في الليل . كان أيضا يفرغ في أحشائها على عجل أو هي تدعه يفعل خشية أن تباغتهما فاطمة [الأم ] أو ضوضاء التفاصيل التي تجري وراء باب الغرفة أو على الطرف الآخر من جدارها " .
والطرف الآخر من جدارها تشير إلى تلاصق بيوت المخيم حيث يسمع الجار كل ما يقال في بيت جاره .
الكاتب الغزي يسري الغول في منشور كتبه في ٨ / ٩ / ٢٠٢٤ لا يروق له أن يجعل من الأمر قضية ، وإن كان لا بد من مناقشته فليناقش لفضح الاحتلال ويقول إنه قاربه في عمله " ملابس تنجو بأعجوبة " .
عندما تعود بي الذاكرة إلى مسلسلات شاهدتها قاربت حياة البدو ، منذ الجاهلية إلى عصرنا ، فإن " خيمة الخلوة " للعريسين كانت معروفة ، إنما ما يختلف الآن هو قربها بسبب الحرب .

( الثلاثاء والأربعاء والجمعة ١٠ و ١١ و ١٣ / ٩ / ٢٠٢٤ )
( مقال الأحد القادم لجريدة الأيام الفلسطينية ١٥ / ٩ / ٢٠٢٤ ) .
عادل الاسطة

***

50- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : خسارات الرواية العربية / الفلسطينية: إلياس خوري

في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ كان الروائي اللبناني فلسطيني الهوى إلياس خوري يتعافى من مرض ألم به في تموز ٢٠٢٣، وهكذا لم يتمكن من مواكبة الأحداث مواكبة لحظية؛ دقيقة فدقيقة وساعة فساعة ويوماً فيوماً، ولكنه على الرغم من ذلك تحامل على وجعه وضعف جسده، فكتب، في الحرب وعنها وفيما يخصها، مقاله الأسبوعي في القدس العربي وافتتاحيته لمجلة الدراسات الفلسطينية الفصلية، وكل من كان يقرأ مقالاته قبل مرضه، وقرأ مقالاته التي كتبها في أثنائه، لاحظ الفرق في المستوى واضحاً، بل وأحياناً في الموضوع، فلم نعهده فيها يكتب عن ألمه الشخصي. وإن كان، من قبل، عبر عن آلامه، فمن خلال شخصياته الروائية التي كانت تعاني من أشكال مختلفة من الآلام الناجمة عن الفقد والحرمان والوحدة والعزلة والنفي والحرب؛ الأهلية والوطنية، والفواجع الشخصية والعامة.
وكان لكتابته - لو لم يعانِ من المرض - أن تكون ذات مذاق مختلف، مثل رواياته التي كتبها في الموضوع الفلسطيني، ابتداء من «الوجوه البيضاء» مروراً بـ «مملكة الغرباء» فـ «باب الشمس» و»كأنها نائمة» وثلاثية «أولاد الغيتو: اسمي آدم» و»نجمة البحر» و»رجل يشبهني» التي تؤهله - بناء على معيار الموضوع في تحديد هوية الأدب - أن يعد علامة رابعة في الرواية الفلسطينية إلى جانب علامات ثلاث معروفة: غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، فهو الذي قرأ رواياتهم وتشربها ودرسها في الجامعات، اتكأ عليها في بناء رواياته - أي تناصت رواياته مع روايات المذكورين وفوقها رواية أنطون شماس «عربسك»، ولم يكتفِ بالرواية، فقد تمثل حياة شاعرين فلسطينيين مهمين، هما راشد حسين ومحمود درويش اللذين كتب عنهما في كتبه النقدية، وقدم، في رواياته، لجانب من حياتهما الشخصية، ما لم تقدمه كتب عديدة أنجزت عنهما.
كأنه وهو يكتب عنهما في رواياته لم يهتم وحسب في أشعارهما قدر اهتمامه بجانب شخصي هو علاقة كل منهما بالمرأة اليهودية التي أحبها وأسطرة هذه العلاقة.
حضر الموضوع الفلسطيني في روايات إلياس كما لم يحضر في روايات فلسطينية تلت روايات كنفاني وحبيبي، بل ويمكن القول إن حضور الموضوع الفلسطيني في رواياته فاق حضوره في روايات الكاتبين، وقد يعود السبب في ذلك إلى أنه عاش أربعين عاماً إضافية أخرى عن الأعوام التي عاشها كنفاني وكتب الرواية في سن مبكرة أبكر من السن التي كتب فيها حبيبي رواياته، وفوق ذلك أنه حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ.
وهكذا تقرأ في رواياته تفاصيل التفاصيل فيما تعرضت له فلسطين في العام ١٩٤٨ - عام النكبة وما تلاه، وربما هذا هو ما حدا بالمرحوم أحمد دحبور، حين كتب عن رواية «باب الشمس» (١٩٩٨)، إلى اعتبارها رواية المأساة الفلسطينية التي أرخت لها كما لم يؤرخ لها من قبل.
عندما كتب إلياس ثلاثيته «أولاد الغيتو» احتار في إشكالية تجنيسها وبدت حيرته على لسان الشخصية التي اختفى وراءها وأنطقها بما ينطق به هو، وحيرة آدم دنون تأخذنا إلى موضوع آخر يمس شخصية إلياس نفسه وتحيلنا إلى أبجديات المنهج الوضعي في النقد الذي لا يفصل بين الكاتب ونتاجه وتراهما متداخلين يعبران عن روح واحدة هي روح المؤلف.
يحتار آدم في تجنيس دفاتره التي يكتبها: أهي سيرة ذاتية أم رواية أم نص أدبي أم... ؟ ولسوف تدفع هذه الحيرة القارئ الملم بكتابات المؤلف/ إلياس إلى التساؤل إن كان إلياس نفسه يحتار في تصنيف ثلاثيته، وهو ما فعلته مرة فكتبت تحت عنوان «إشكالية التجنيس في أولاد الغيتو» وجعلتني أرجح أنها ليست سيرة ذاتية لإلياس بل سيرة فكرية أدبية تتخذ من آدم دنون قناعاً لها ليحكي لنا المؤلف، وهو يحكي عن الموضوع الفلسطيني، عن قراءاته المتعددة فيه؛ في الأدب العالمي والأدب الفلسطيني والأدب الإسرائيلي وتاريخ القضية الفلسطينية وما شهدته وما مر به الفلسطينيون من أحداث جسام منذ ١٩٤٨ وحتى انتفاضة الأقصى وذيولها؛ في فلسطين وفي مخيمات لبنان، بل وفي نيويورك حيث نخبة فلسطينية درست في الجامعات الأميركية. وللتدليل على ما سبق يمكن اختيار النصين الآتيين من الجزء الثاني من «أولاد الغيتو» وهو «إسمي آدم»:
«فأنا كاتب ممتلئ بالنصوص التي قرأتها/ كتبتها، أتعامل معها بوصفها حقيقة، موظفاً خيال الآخرين، من أجل خدمة خيالي، بهذا المعنى، أنا هو الكاتب الذي لم يكتب شيئاً لأنه كتب كل شيء، وهكذا أتفوق على جميع كتاب العالم الذين يشعرون بالفرح القاحل الذي يحاصرهم، بينما لا أشعر سوى بالمتعة والعطش إلى مزيد من ماء الكلمات».
«لا شيء يفسر عودتي إلى هذه الأوراق سوى سحر الكلمات، فالسحر بدأ بالكلمات، والكلمات حين تكتب تختلج باحتمالات الحياة، وها أنا أنظر كالمشدوه إلى كلام ماضي الماضي، وأجد نفسي أمام حكاية أشعر أنني وارثها، لأنني قارئها الوحيد» (إسمي آدم، ١٥٠ / ١٥١).
ويفصح الاقتباس الثاني عن ولعه بالكلمات والكتابة، هذا الولع وصل حد السحر، فالكلمات تسحره، وسحرها يدفعه إلى اللعب الجمالي بها، ولم أقرأ شخصياً، فيما قرأت، لكاتب عربي لعب في رواياته جمالياً، وبوعي يظهره في نصه ولا يترك القارئ يستنتجه، كما قرأت في روايات إلياس.
لقد سحره أسلوب أحمد فارس الشدياق وأسلوب إميل حبيبي وأرستقراطية لغة جبرا إبراهيم جبرا، وأراد أن يكون لكتابته في الجانب اللغوي نصيب أيضاً.

***


==================
36- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: فإن الخيام تستدعي الخيام "بيتنا في المخيم"
37- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: المشروع الصهيوني وجنة الله الموعودة
38- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: البعوض والحرب والشعر
39- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: غسان كنفاني وحرب ٧ أكتوبر
40- تداعيات حرب 2023 / 2024: الفضائل والأخلاق في زمن الحرب: قصص فلسطينية وعربية
41- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: نهايات الانتفاضة الأولى: ما أشبه الليلة بالبارحة
42- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: عـرس فـلـسـطـيـنـي
43- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: محمود درويش في ذكراه: نصوصه الحاضرة في حرب غزة
44- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ذباب.. ذباب أخضر... ذباب أزرق
45- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : يحيى السنوار روائيا
46- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : هل تصرخ غزة: يا وحدنا؟!
47- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : غزة تصارع دولة عظمى
48- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : الكتابة عن الأحذية
49- خيمة للخلوة .. خيمة للعزلة
50- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : خسارات الرواية العربية / الفلسطينية : إلياس خوري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى