د. سعد علي الحياوي - عندما تكون القصة عزاء و سلوة... قراءة لقصة (في انتظار من لا يأتي)

النص:


في انتظار من لا يأتي...

في إحدى ايام نوفَمبر الباردة ، و في تلك الليلة المتشحة بالحزن ، و الغارقة بالظلام الدامس ، كنتُ أتلمسُ صندوقَ رسائلكِ على ضوء شمعة مرتجف ، مازالت رسائلكِ مبتلة بالدمع و مازالت حروفُكِ هي الاخرى يقطرُ منها الخوف .
رسائلكِ أمامي و الذكريات بدأت تنهالُ عليّ كغيوم سود ، كانَ اللقاءُ الأول على قارعة الطريق ، نظرات متبادلة توحي بالإعجاب و الاحترام ، بعدها كان الكلام ، كنتِ اكثر شجاعة منّي ، بادرتِ بالسلام ، وصلني صوتكِ أجمل من زقزقة العصافير ، ذكرتِ اسمي فكان يسيلُ كالعسل بين شفتيكِ ، حاولتُ أن يكون ردي مثل بهاء صوتكِ ، الا أنّ الكلمات تعثرت على لساني ، و انفلتت عبارة خجولة :
ـ ( صباح الخير يا ماريز ) .
أشعرُ بالخجل منكِ و أنا أقلبُ رسائلكِ الآن ، ولابدّ من مصارحتكِ في هذه اللحظة حول مراقبتي لكِ و أنتِ تنشرين الملابسَ على حبل الغسيل ، و ثوبُكِ الوردي القصير يكشفُ عن مفاتن جسدكِ ، لم اعرف أنّ أمي كانت تراقبني ، وعندما نزلتُ من سطح الدار ، صاحت بي دون مقدمات :
- أما تخجل يا آيميش مما تفعله ؟
شعرتُ بالندم و من يومها لم اصعدْ الى سطح الدار ، قمتُ بعدها بكتابة رسالة لكِ ضمنتها مشاعري تجاهكِ ، و أقسمتُ لكِ أن أكون وفيّا اذا كنت تحبينني .
بعد يومٍ وصلت رسالتكِ بالموافقة ، شعرتُ بأنّ الحياة انقلبت الى رقصة طفولية رائعة ، تحولت الدنيا الى لحنٍ حافلٍ بالأفراح و المسرات ، و عاهدتُ نفسي على النجاح ، و تخرجنا معاً بعد كفاح و صبر ، و التقينا يا ماريز ، كنّا خائفيْن من مراقبة الآخرين لنا ، و لكي نحيم الأمر كنتِ شجاعة و كنتُ شجاعاً و أتخذنا قراراً في منتهى الصواب ، و قررتُ مفاتحة أمي بالأمر و هذا ما حصل يا اميرتي الغائبة ففي ساعة متأخرة من الليل جلستُ مع أمي ، عرضتُ عليها ما اتفقنا عليه ، الفرحُ الذي ارتسمَ على ملامحها شجعني على المواصلة ، و عند الانتهاء سمعتها تقول بصوت الأم الرؤوم :
- مبارك لك الاختيار يا ولدي .
هكذا توّجت الفرحةُ في اليوم التالي ، و زيارة أمي لكم و عند عودتها فرحة ، اصبح قلبي وقتها وطناً ببراءة الاطفال و أحلام الصبايا ، رحماً خصبا لكل الامنيات الجميلة ، انا الخجول بطبعي انقلبتُ الى طائرٍ أحلقُ فوق مرافئ السعادة و الغبطة و الحبور .
كان كل شيء يسير على ما يرام تمت الموافقة و حصلَ اللقاء ، و في غفلة من نظرات الجميع طبعت على شفتيكِ قبلة الوفاء ، لم تكن قبلة عابرة يا ماريز كانت التقاء الحلم بالحلم و خلاصة الامنيات التي كانت تختمر في صدري ، و تحقق الهدف الذي كنت اسعى اليه .
ما كنت احسب ان القدر يتربص بي بعد ان انحرفت بوصلة الزمن الغادر نحونا ، و انقلبت الامور ، و تسارعت الاحداث و خرج من المجهول مالم يكن في الحسبان ، كانت البندقية الغادرة تطلق رصاصها الغادر بأيادي من جبلت رؤوسهم على الغدر ، كان هجوماً لا يعرف سوى الحقد و الضغينة على كل ما هو جميل ، كانت الرصاصة التي استقرت في رأسكِ محشوة بالخسة و النذالة و التخلف .
في تلك اللحظة التي وقع نظري عليكِ لم أتذكر ما حدث سوى انني راقد على فراش المرض بعد اغماء استمر طويلاً ، و أنت رحلتِ الى العالم الآخر .
خمس سنوات مرّت على تلك الليلة الطافية على بحر الخوف و الألم ، و مع طيلة الفترة لا أحمل سوى فجيعتي ، و هذه الرسائل التي أفتحها كل ليلة فهي تعزيتي الوحيدة .
خمس سنوات ، و ما زلتُ وفيّا لكِ أيتها الحبيبة الرائعة الجميلة .
وداعاً أيتها السنبلة المليئة بالوفاء في زمن التصحر و الجفاف .


******


القراءة:

ارتبطت ثيمة الانتظار أدبياََ بمسرحية ( في انتظار غودو ) ل ( بيكيت ) ، بيد ان غودو هو الأمل و الفسحة التي يدخل منها ضوء ينير الدرب و الطريق الوجودي الموحش.
ان عنوان القصة يتناص مع عنوان بيكيت، لكن هناك مفترقات وتقاطعات بينهما، إذ ان انتظار القصة انتظار فقد ويأس، بينما في المسرحية انتظار امل وانقاذ، ولكن كيف عبر الراوي عن هذا الفقد وعن الانتظار، انتظار من؟
يصور لنا الراوي الفضاء القصصي، حيث البرودة والظلام والاتشاح بالحزن
(في إحدى ايام نوفمبر الباردة وفي تلك الليلة المتشحة بالحزن، والغارقة بالظلام الدامس )
لقد خلق جواََ كئيباََ، وفي هذا الظرف الحزين يلجأ إلى صندوق الرسائل على ضوء شمعة مرتجف، فيخاطب صاحبتها (مازالت رسائلك مبتلة بالدمع ومازالت حروفكِ هي الاخرى التي يقطر منها الخوف)
الرسالة هنا مزدوجة، بالخطاب اشبه بالرسالة، الظاهر انها موجهة لها، التي سنتعرف عليها فيما بعد وأن كنا نعرف انها لن تاتي، اي ان الخطاب المباشر يمثل البنية السطحية للقصة، اما الخطاب الذي تتوسطه اللغة فهو خطاب للقارئ، الذي عليه ان يمد وصال الفهم المشترك للغة، ليتأثر او يتذكر، ربما، الذين لا يأتون مثل (ايميش) بطل القصة والراوي معا.

1718965672224.png

ان مخاطبة التي لن تاتي، استدعى ان يتذكر، رغما عنه، وهل يملك الا الذكريات؟
فاستذكر اللقاء الاول، فهو الان في جلسة مع حياته، سمح للقارئ ان يسمعها، (كان اللقاء الاول على قارعة الطريق، نظرات متبادلة توحي بالاعجاب والاحترام)، ثم يسرد الأحداث التي فتح اللقاء الاول الطريق لها،إلى أن يعود للحاضر فيشعر بشئ غريب هو الخجل، إذ لم يصرح لها انه كان يراقبها، وهي تنشر الغسيل، فيصف مشاعره ووقوفه امام حسنها وصموده فيقول لم تكن تنشر الملابس على الساقي بالكانت تنشر مشاعري واحاسيسي فيا لهذه الصورة الشعرية الجميلة التي توحي بالكثير من الأبداع والخيال ووصف دواخل و اعماق الشاعر بنظرته لها و أعجابه الشديد بمفاتن جسدها وثم فنهرته امه، وصرخت عليه اما تخجل مما تفعله؟
امه التي فرحت (بايميش وماريز) بهذه اللحظة، ابنها وحبيبته، والان ابنها وخطيبته، والتي ستكون ابنها ومأساته، لقد أصابت طلقة غادرة راس (ماريز) فكان ان اغمى عليه وهي قد رحلت، ليظل مثل بيكيت ينتظر ما لايأتي، ومن لا ياتي.
لماذا تفتح الجروح يا اشتياق؟
لماذا تسرد لنا تلك الفاجعة؟
لأنه يجد العزاء في القصة ، في بث مشاعره انه بحاجة إلى آخر يقتسم معه همومه، ولم يجد أقرب له منها ، فخاطبها
(خمس سنوات ومازلت وفيا لكِ أيتها الحبيبة الرائعة الجميلة)، لتكون هذه القصة ربما الاستذكار الاخير؛لأنه يختمها بالوداع، وداعها ووداع القارئ ايضا؛ اذ كانت الجملة الاخيرة في القصة ايضا،
وهكذا تكون القصة في بنيتها العميقة هي رسالة تتوجه إلى نفسها كما يرى (باختين)، إذ حملت بلاغة الفقد والعذاب، بل والحزن الذي غلف القصة باكملها، وهل هناك أمر واشد ألماََ من ان يقضي حبيب عمره بانتظار حبيبة لن تاتي ابدا، ولكنه وفي لها وما زال منتظراََ.

د. سعد علي الحياوي
دكتور في جامعة المستنصرية بغداد
له مؤلف - لم يمر احد بي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى