الرباعية قالب شعرى يرجع إلى أصول فارسية، أشهرها رباعيات عمر الخيام، وقد انتقل هذا القالب إلى الشعر العربى الحديث وأصبح فنًّا من فنونه المحببة التى يُقبل عليها كثير من الشعراء الذين يرتبط شعرهم بالغناء أو محبة الحياة، أو حتى التفلسف أو التأمل فى أحوال الكون، لكن تلك الرباعيات دائمًا ما ترجعنا إلى تأملات عمر الخيام فى رباعياته الشهيرة التى تبارى الشعراء العرب فى ترجمتها، ولعل أشهرها – فيما يعرفه الذوق المصري- ترجمة أحمد رامى التى غنت بعضها أم كلثوم فجعلتنا نهيم بها عشقًا. وأغلب الظن أن رباعيات الخيام هذه كانت تتردد أصداؤها فى بيت صلاح جاهين الطفل والفتى الذى سرعان ما شب ليصبح واحدًا من أعظم مبدعى قصيدة العامية المصرية. ولا غرابة والأمر كذلك فى أن يميل صلاح جاهين إلى قالب الرباعية، ويحاول استخدامه على نمط قصيدة العامية المصرية ليؤكد الحضور المتميز لهذا القالب الشعري؛ سواءً فى لغته التى تتوسط بين العامية والفصحي، أو فى صوره الشعرية التى تمضى مع الخيال فى كثافة آسرة أو فى تأملاته التى تصل ما بين السماء والأرض وتتجول بينهما متبصّرة حضور الكائنات المتحركة، فى مدى التأمل أو البصر الذى سرعان ما ينقلب إلى بصيرة؛ ولذلك أتوقف عند هذه الرباعية التى تحمل من معانى التأمل الكثير، فتقول:
أحب اعيش ولو فى الغابات
أصحى كما ولدتنى أمى وابات
طائر.. حِيوان.. حشرة .. بشر.. بس اعيش
محلى الحياة.. حتى فى هيئة نبات
عجبي!!
والتأمل هنا ينصبُّ على رغبة الحياة التى هى فى الأصل غريزة البقاء التى تربط الكائنات فى هذا الكون؛ فالكون كله ينطوى على هذه الرغبة فى البقاء، ولذلك يؤثر الحياة على الموت، كما يغنى للحياة دائما فى تجددها وعرامتها. وليس المهم هو شكل الحياة، فالأهم هو حضورها فى الكائنات حتى ولو فى شكل طائر أو حيوان أو حشرة أو بشر؛ فالمهم هو أن يبقى مبدأ الحياة مندفعًا كالنسج الذى يتدفق فى النبات، فيجعل منه صورة أخرى من الإنسان الذى يتدفق فى شرايينه الدم، فيفرح بمعنى الحضور فى الوجود أو الحضور فى الحياة. ولذلك يأتى السطر الأخير من الرباعية بصرخة الحياة فى فرحة اندفاعها وصرخة انبثاقها، فالمهم هو مبدأ الحياة نفسها سواءً فى الحيوان أو النبات أو الإنسان. هل هذا هو السبب الذى يجعل هذه الرباعية كأنها نوع من التناص مع الأغنية التى كان يغنيها محمد عبدالوهاب ويحبها جيل صلاح جاهين؟ أعنى الأغنية التى تقول:
«يا دنيا يا غرامي.. يا دمعى يا ابتسامي
مهما كانت آلامي.. قلبى يحبك يا دنيا»!
فالوجود الإنسانى فى الدنيا هو الحضور الكائن فى الحياة، تستوى فى فرحة هذا الحضور والوعى به كل الكائنات على اختلاف أنواعها؛ نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، فالمهم هو هذا الشعور الغامر بأننا نحيى على الأرض لا تحتها، وأننا ننتج ونزرع ونحصد ونبنى ونُعمر الأرض كى تصبح أبهى وأجمل بالحضارات والإنجازات البشرية التى تجعل من الحياة حياة جديرة بأن تعاش. ويتأكد هذا المعنى عندما تأتى المقطوعة المقاربة فى الدلالة لتكمل المعني، واصفة الحياة نفسها بأن:
أحسن ما فيها العشق والمعشقــــــهْ
وشويتين الضحك والتريقـــــــــــــهْ
شفت الحياة.. لفيت.. لقيت الألــــــــذ
تغييرها.. وده يعنى التعب والشقا
عجبي!!
وتكمل الرباعية الثانية معنى الرباعية الأولى بأن تصلها بما يبدو مضادًّا لها فى الظاهر مكملًا لها فى الباطن؛ فأجمل ما فى الحياة ما تنطوى عليه من حب متبادل يتخذ شكل «العشق والمعشقة»، وهما صفتان لا تكتملان إلا بألذ ما فى الحياة، وهو المفارقة التى تنطوى على النقيضين، فألذ ما فى الحياة تغييرها إلى الأحسن والأكمل. وفى هذا المدى يمضى الإنسان حاملًا قَدَره، كما لو كان مكتوبًا عليه أن يصل بنفسه وما حوله إلى الأحسن والأكمل والأجمل. ولكن هذه الغايات لا تتحقق بسهولة، وإلا كانت مبذولة على قارعة الطريق يدركها كل عابر سبيل، فهى صفات تعنى الكمال، ولأنها كذلك فهى لا تتحقق إلا بالتعب والشقاء، ومن هنا تكمن المفارقة، فألذ ما فى الحياة التى هى فى حد ذاتها متعة، هو نقيضها الذى يعنى التعب والمشقة، فلا راحة إلا بعد تعب، ولا سعادة إلا بعد شقاء؛ تمامًا كالحياة نفسها التى هى وتر مشدود ما بين الوجود والعدم أو الحضور والغياب، فأن تحيا يعنى أن توجد، وأن توجد يعنى أن تتغير وتغير ما حولك، ولن تغير أو تتغير إلا بتعب ومشقة، وتلك هى مفارقة الحياة أو لذتها على السواء.
هذه هى المفارقة التى ينطوى عليها معنى الوجود كالتضاد الذى لا يخلو من معنى الحضور، وكلاهما ظاهر فى هذه الرباعية:
أعرف عيون هيّ الجمال والحسنْ
واعرف عيون تاخد القلوب بالحضنْ
وعيون مخيفة وقاسية.. وعيون كتير
وباحس فيهم كلهم بالحزنْ
عجبي!!
والتركيز على العيون – فى هذا السياق- مبرَّر؛ لأنها نوافذ الأرواح والقلوب، وهى التى تكشف عما فى الباطن، ولذلك تتنوع بتنوع نفوس أصحابها واختلاف قلوبهم، ولذلك فهناك عيون مخيفة وثانية قاسية وثالثة شرسة، لكنها جميعًا عيون تنطوى على الحزن. ولكن لماذا الحزن رغم البدء بالجمال والحسن، ورغم أن هناك عيونًا تأخذ القلوب بالأحضان، حتى رغم وجود العيون المخيفة القاسية الوحشية؟ السبب هو هاجس الموت، وهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة التى ينكرها كل أصحاب العيون مع أنه النهاية الطبيعية لكل خطى أجسامهم فى هذا الوجود.
وينتقل صلاح جاهين من هذا الفضاء الميتافيزيقى الواسع إلى الأرض العربية التى يعيش فى امتدادها من المحيط إلى الخليج، فيقول لنا:
أنا كل يوم اسمع: فلان عذبوه
أسرح ف بغداد والجزاير واتوه
ما اعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب
واعجب من اللى يطيق يعذب أخوه
عجبي!!
هنا تنتقل الرباعية إلى تأمل أوضاع الأمة العربية، خاصة فى معاناتها الأبدية من الاستبداد الداخلى الذى يبدو كأنه لا يفنى ولا يتبدد، فيسمع الشاعر فى زمنه، كما نسمع نحن فى زمننا عن من يعذبهم الطغاة فى بغداد أو الجزائر أو سوريا أو اليمن أو حتى فى غيرها من الأقطار العربية، وهو عذاب يبعث الشاعر على التفكير فى هذا الكون الذى لا يثير العجب فيه من يحتمل جسمه العذاب، بل من الكائن الذى يعذب أخاه طوال الوقت، كأنهما هما الاثنان القامع والمقموع لم يولدا من أب واحد وأم واحدة، ولم يخلقهما الله ليستخلفهما فى أرضه، ويعمرانها حتى يصلا بها إلى أقصى درجات الكمال فى تناغم ومحبة. وفى سياق هذا الاستبداد الذى يبعثه تدوين دلالات القامع والمقموع تأتى الرباعية التالية:
أنا قلبى كان شُخْشيخه.. أصبح جَرس
جلجلت به؛ صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه؟ خفتوا ليه؟
لا فْـ إيدى سيف.. ولا تحت منى فرس!
عجبي!!
وهى رباعية تقطر المرارة من البسمة التى تبعثها، وهى تتصل بوضع الفنان أو المبدع فى مواجهة مهمته الصعبة التى يفرضها عليه ارتباطه بهموم البشرية التى يلتزم بها، فتجلب عليه المواجع والقمع، ويبدو أشبه بهذا المهرج الذى يحمل قلبًا يتحول إلى جرس إنذار كى يقرع به آذان الظلمة وحراسهم، مناورًا إياهم فى زِيِّ المهرج الذى يتخفى فيه، ولكنهم مع ذلك يصيبهم الرعب من وجوده، مع أن كل ما يملكه هو مجرد كلمات أو أبيات منظومة أو قطع من الحجر أو الصلصال التى ينحت منها تمثاله، أو أنغام من الموسيقي، لكنها جميعًا تخفى تحت سطحها الناعم المغوى ما يرعب كل ظالم أو مستبد أو حتى إرهابى بما يكشف له فيها عن نهايته المحتومة.
وعندما يملُّ صلاح جاهين من دنيا البشر واستبداد المستبدين، وخذلان البشر للفنان الذى ينطوى عليه، يرتفع عن عالمهم كى يتأمل الكون من أعلي، وحياة الإنسان من بعيد؛ فيقول:
أنـا كنت شـيء.. واصـبحت شيء.. ثم شيء
شـوف ربـنـا.. قـادر علـى كـل شيء
هـزّ الشـجر شـواشيـه ووشـوشني؛ قال:
لا بد مـا يمـوت شـيء.. عشـان يحيى شيء
عـجبي!!
وهى رباعية متعددة الدلالات؛ لعل أولى تلك الدلالات وأكثرها محورية أن الحياة دورة أبدية؛ موت ثم بعث ثم موت ثم بعث وهكذا إلى ما لا نهاية، أو أن الحياة كالساقية ترفع ما تخفض وتخفض ما ترفع، أو أن الحياة – كما قال شكسبير- مسرح كبير يتغير فيه الممثلون بتغير فصول العرض أو مناظره ليعاود الزمن فعل تمثيل المسرحية نفسها بواسطة ممثلين آخرين.. إلى ما لا نهاية. والمؤكد أن الدلالة الثانية تشير إلى أن الوجود لا يتحقق إلا بالعدم؛ فلولا العدم ما كان الوجود ولولا الموت ما كانت الحياة. وهو ما نراه فى الطبيعة نفسها؛ حيث الشجر الذى تصفرّ غصونه وتجف أوراقه، فتتساقط فى الخريف لكى تعود الأوراق والأغصان مخضرَّة مزهرة فى الربيع، لكن بما يعنى أن كل ربيع لا يأتى إلا بعد كل شتاء، وأن كل حياة لا تأتى إلا بعد كل موت؛ فهذا هو قانون الوجود، حياة وموت ثم حياة وموت إلى ما لا نهاية كدورة الوجود والعدم أو كدورة الفصول. وهذا معنى قد يصيب المنتهى إليه بنوع من الاستهانة بالإنسان، فنقرأ:
إنسان.. أيا إنسان ما أجهلكْ
ما أتفهك فى الكون.. وما أضألكْ
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقه لكْ!
عجبي!!
وهى رباعية تؤكد ضآلة الإنسان بالقياس إلى كائنات هذا الكون اللانهائية، والرباعية فى مجملها - خصوصًا تجاوب دلالاتها- تشبه الدلالة العامة التى كانت تتحرك فيها قصيدة لصلاح عبدالصبور بعنوان «الشمس والمرأة». ففى هذه القصيدة يخبرنا صلاح عبدالصبور أن عمر الإنسان أصغر من الذرة بالقياس إلى عمر الكائنات التى تحيط به من أشجار أو جبال أو تلال، فالإنسان أصغر كائنات الكون وأقلها فى حجم أو دوام الوجود، لكن هذا الإنسان يمكن من وجهة نظر أخرى أن يكون هو سيد هذا الوجود والكون لو تسامى على طينيَّته ولم يسِرْ سيرته التى تجعل منه أضل وأضأل ما فى الوجود.
هذا الذى يجعل الإنسان أضل وأضأل ما فى الوجود هو تمسكه بالمظاهر الخادعة وعدم احترامه للآخرين ولا حتى التسليم باختلاف حياتهم عن حياته أو حتى بحقهم فى أن يكون لهم حياة مختلفة، حتى ولو كانت خارجة على مقاييسه الأخلاقية المعروفة؛ ولذلك تقدم لنا رباعيته التالية أمثولة دالة:
حدوته عن جعران.. وعن خنفســــــــــه
اتقابلوا حبوا بعض ساعة مســـــــــــــــا
ولا قال لهم حد: اختشوا.. عيب.. حـــــرام
ولا حد قال دى علاقة متْدَنِّســــــــــــــه
عجبي!!
والمعنى الأليجورى allegorical أو التمثيل الكنائى فى الرباعية أوضح من أن نشير إليه، لكن الأهم فيها هو أن يفعل كل إنسان ما يريد فى هذه الدنيا دون أن يفرض عليه غيره سلوكًا بعينه أو قيمًا أخلاقية دون غيرها. فالحياة هى الحرية، والحرية هى سر الوجود. أما الفن فوظيفته تحرير الإنسان من مشاعر الضرورة أو القهر أو الخوف على نحو ما نقرأ فى هذه الرباعية:
سهّيـر ليـالي.. ويـامـا لفيـت وطفـت
وفـ ليلـه راجـع فى الضـلام.. قمـت شفت
الخـوف.. كأنـه كلـب سـد الطريق
وكـنـت عايز أقتـله.. بس خفـت!
عـجبي!!
واللافت للانتباه عبارة الذى لا ينام الليالى والذى لا يكف عن الطواف؛ فهى عبارة دالة على البحث عن المعنى والدلالة فى الكون، وربما كانت الدلالة البارزة هنا هى الخوف الذى لا يفارق العنصر الإنساني؛ لأنه عنصر ينطوى على الضعف، ولذلك يسعى الإنسان للانتصار على الخوف، وهذا هو ما ينبغى أن يقوم به، ولكنه للأسف لا ينجح فى ذلك؛ إذ سرعان ما يخاف من الخوف نفسه. وهكذا يأتى إلى الرباعية البهيجة التى تقول:
غمّض عينيك وارقص بخفة ودلع
الدنيا هى الشابه.. وانت الــــــــجدع
تشوف رشاقة خطوتك.. تعبــــــــدك
لكن انت لو بصيت لرجليك.. تـقع
عجبي!!
وهى مقطوعة قريبة من نفسي، ومكمن روعتها إغراؤها إيانا بضرورة التركيز على أداء الفعل نفسه وعدم الاكتراث بالآخرين، أو عدم مراقبة ذواتنا بعيون أولئك الآخرين؛ فالاستغراق فى الأداء الجميل الذى ينعش الحياة ويثريها سيتحول إلى كارثة يقينية عاجلة لو راقب الإنسان نفسه لحظة واحدة، وهو ما يمكننى تمثيله بلاعب السيرك أو راقصة الباليه، حين يخرج الجمهور عن حدود المسرح الضيقة، لتصبح الدنيا نفسها - بتعبير الحكيم- مسرحًا كبيرًا؛ فهذان أنموذجان لا يمكن دفعهما عن مخيلتنا ونحن نقرأ هذه الرباعية، على نحوٍ يشى بإلحاحهما القوى على مخيلة الشاعر من قبلنا، وكأنه يومئ إليهما من بعيد جدًّا إيماءة شفيفة جدًّا، لا سيما حين نستحضر - فى مطلع الرباعية- تلك البهجة العارمة التى تُشعّها فى نفوسنا رشاقة راقصة الباليه وتمردها على قوانين الجاذبية الأرضية أو حتى ذلك الانبهار الذى تثيره فينا مهارة لاعب السيرك وحذقه، ثم نستدعى - فى ختامها- صيرورة تلك البهجة وذاك الانبهار إلى حسرة مريرة وألم فاجع؛ إثر ما قد تلقاه راقصة الباليه أو لاعب السيرك من مأساوية المصير إن هما تأملا نفسيهما طرفة عين، وزلَّت بأيِّ منهما إلى الحضيض قدمه، فــــ»هوى وغطى الأرض أشلاء»! بتعبير حجازي. وبهذا المعنى فالأنموذجان كلاهما كاشف بقوة عن حقيقة مؤداها أنه ليس سوى ديمومة الفعل والأداء الخلاق من سبيل لرقى الإنسان إلى كماله، غير معنيّ بشيء عدا الوصول إلى الغاية القصوى من هذا الكمال، وإلا سقط سقطة تراجيدية!
هذه التأملات تصل بين قصيدة العامية والتفلسف أو تجعل من قصيدة العامية المصرية نوعًا من التفلسف، فتدفعنا إلى التساؤل: هل كان صلاح جاهين فيما أبدعه من رباعيات متأثرًا بالخيام فى رباعياته التأملية كما لو كان يريد أن يفعل مثلها فى رباعياته العامية؟ هذا أمر محتمل خصوصًا أن صلاح جاهين عندما كتب هذه الرباعيات كان يعمل فى مجلة «صباح الخير» القديمة، ويجلس فى غرفة واحدة مع صديقه الحميم صلاح عبدالصبور ذى النزعة الميتافيزيقية المعروفة، وصاحب الدور الأبرز فى التحول بقصيدة الفصحى المعاصرة إلى التأملية. فالعلاقة بين قصيدة التفعيلة والفكر فى شعر صلاح عبدالصبور هى الوجه الآخر من العلاقة بين الرباعية والفكر فى شعر صلاح جاهين. وظنى أن هذه العلاقة هى التى ميزت شعر صلاح جاهين عن غيره، وجعلت له إيقاعًا خاصًّا، وخوّلت له مكانة متميزة بين شعراء قصيدة العامية؛ سواء الذين عاصروه مثل فؤاد حداد أو الذين تتلمذوا عليه مثل سيد حجاب أو الأبنودي.
وطبيعى أن يختار صلاح جاهين لتأملاته الفلسفية قالب الرباعية الذى سبق أن اختاره الخيام من قبله، فهى بأشطرها الأربعة بناء مدينى يشبه جدران الغرف الرباعية، بخلاف الشكل الثلاثى للخيمة البدوية فى الصحراء؛ ولذلك يحمل كل شطر من الرباعية القافية نفسها، فيما عدا الشطر الثالث الذى يأتى بقافية مغايرة تخرجنا من رتابة التوقع لتعيدنا إليه ثانية مع القافية الختامية التى تأتى بما يشبه خاتمة العقد أو بالخلاصة المكثفة للدلالة الكلية.
والحق أننى عندما أكتب عن الرباعيات لا أستطيع سوى أن أسترجع ذكريات صباى البعيد حين كنت أقرؤها كل أسبوع فى «صباح الخير»، فأقف عندها كثيرًا وأحاول أن أتأملها دون أن أفهم عمق معناها، وظللت أتنقل من حال إلى حال إلى أن قرأت دراسة للمرحوم يحيى حقى أفهمتنى ما استغلق عليّ من معانى الرباعيات ودلالاتها فأصبحت أثيرة إلى نفسى أتابعها غناءً على لسان سيد مكاوى أو على الحجار، وأتابعها إنشادًا بصوت بهاء جاهين الذى يذكرنى بأبيه، فأشعر بالفرح والبهجة التى تعيدنى إلى صباي. ولا أنسى قط هذه الرباعية بوجه خاص سواء من حيث الدلالة أو من حيث الإيقاع، أعنى الرباعية التى تقول:
أنا اللى بالأمر المحال اغتــــــــــــوي
شفت القمر.. نطّيت لفوق فى الهـــــوا
طلته.. ما طلتوش.. إيه انا يهمنـــــــــي
وليه .. ما دام بالنشوة قلبى ارتوي!!
هذه الرباعية كتبتها فى ورقة صغيرة ووضعتها على مكتبى لكى أراها فى كل وقت أجلس فيه إلى المكتب، ولا أريد أن أحللها نقديًّا، لكن يكفى أن أتحدث عن المعنى الجميل الذى تبعثه دائمًا فى نفسي، أقصد المعنى الذى يؤكد فى داخلى أن الإنسان لا ينبغى أن يتوقف أبدًا عن المحاولة، ولا عن الانطلاق لتحقيق كل ما يحلم به ويتمناه لنفسه وللآخرين فى الحياة. فالحياة التى نحياها هى مجموعة من الأحلام التى ينبغى أن نحققها، وأن نندفع إلى تجسيدها وجودًا كاملًا، وألا نتوقف عن المحاولة مهما كانت الإحباطات أو العقبات وأيًّا كانت النتائج، حتى لو لم ننجح فى تحقيق هذه المحاولات. إن المعنى هنا يشبه المعنى الذى تنطوى عليه «أسطورة سيزيف»؛ فسيزيف اليونانى قد حكمت عليه الآلهة بالعقاب لأنه أفشى بعض أسرارها، وأمرته بأن يظل يحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل إلى قمته حتى إذا وصلت الصخرة إلى القمة انحدرت مرة أخرى إلى السفح، وما على سيزيف إلا أن يهبط إلى السفح لكى يُعيد الصخرة مرة أخرى إلى القمة.. وهكذا دواليك دون توقف. وقد كان سيزيف يعرف عبثية هذا الفعل، ولكنه أدرك أنه بإصراره على ممارسة الفعل نفسه سوف يمنح ما يفعله معنى ومغزي، وأنه بمجرد أن يمنح الفعل المعنى والمغزي، يحقق حضوره الذاتى ويضفى على العبث المعنى الذى ينفى عنه عبثيته، ومن ثَم فإن جهده العبثى يتحول إلى جهد غير عبثي. أعنى جهدًا يحقق قدرة الإنسان على المقاومة وعلى الإصرار على ما يريد؛ ومن ثَم يمكننا أن نتخيل شكل سيزيف وهو يسخر من هذه الآلهة فى كل مرة يصعد بالصخرة لكى يرفعها إلى الأعلى بعد سقوطها من قمة الجبل، كما لو كان يؤكد لها أن إرادته الذاتية تتجلى فى قدرته على المقاومة، وأن قدرته على المقاومة تحيل اللامعقول، واللا معنى إلى معني.
هذا ما أشعر به إزاء رباعية صلاح جاهين؛ فهى تتحدث عن الإنسان الذى يخايله الأمر المحال؛ أى غير القابل للتحقق، فيغتوى به، ولذلك عندما يرى القمر يقفز إليه متجهًا صوبه كما لو كان يسعى إلى الوصول إليه، مع أنه يعرف استحالة ذلك؛ لأنه لن يصل إلى القمر بقدراته الذاتية وحدها، فإنه فى كل مرة يقفز فى الهواء محاولًا أن يلمس القمر، معتقدًا أن شرف المحاولة وحده هو الأهم من الوصول، حتى لو كان هذا الوصول إلى القمر نفسه؛ ولذلك يأتى الشطر الذى يؤكد أنه ليس من الضرورى أن تطول يد الإنسان القمرَ أو لا تطوله، فليس هذا هو المهم، بل المهم هو المحاولة التى تسبب لصاحبها نشوة الإحساس بالوجود، وكمال التحقق الإنسانى الذى يعطى - حتى للعبث- معنى ومغزى وقيمة.
أحب اعيش ولو فى الغابات
أصحى كما ولدتنى أمى وابات
طائر.. حِيوان.. حشرة .. بشر.. بس اعيش
محلى الحياة.. حتى فى هيئة نبات
عجبي!!
والتأمل هنا ينصبُّ على رغبة الحياة التى هى فى الأصل غريزة البقاء التى تربط الكائنات فى هذا الكون؛ فالكون كله ينطوى على هذه الرغبة فى البقاء، ولذلك يؤثر الحياة على الموت، كما يغنى للحياة دائما فى تجددها وعرامتها. وليس المهم هو شكل الحياة، فالأهم هو حضورها فى الكائنات حتى ولو فى شكل طائر أو حيوان أو حشرة أو بشر؛ فالمهم هو أن يبقى مبدأ الحياة مندفعًا كالنسج الذى يتدفق فى النبات، فيجعل منه صورة أخرى من الإنسان الذى يتدفق فى شرايينه الدم، فيفرح بمعنى الحضور فى الوجود أو الحضور فى الحياة. ولذلك يأتى السطر الأخير من الرباعية بصرخة الحياة فى فرحة اندفاعها وصرخة انبثاقها، فالمهم هو مبدأ الحياة نفسها سواءً فى الحيوان أو النبات أو الإنسان. هل هذا هو السبب الذى يجعل هذه الرباعية كأنها نوع من التناص مع الأغنية التى كان يغنيها محمد عبدالوهاب ويحبها جيل صلاح جاهين؟ أعنى الأغنية التى تقول:
«يا دنيا يا غرامي.. يا دمعى يا ابتسامي
مهما كانت آلامي.. قلبى يحبك يا دنيا»!
فالوجود الإنسانى فى الدنيا هو الحضور الكائن فى الحياة، تستوى فى فرحة هذا الحضور والوعى به كل الكائنات على اختلاف أنواعها؛ نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، فالمهم هو هذا الشعور الغامر بأننا نحيى على الأرض لا تحتها، وأننا ننتج ونزرع ونحصد ونبنى ونُعمر الأرض كى تصبح أبهى وأجمل بالحضارات والإنجازات البشرية التى تجعل من الحياة حياة جديرة بأن تعاش. ويتأكد هذا المعنى عندما تأتى المقطوعة المقاربة فى الدلالة لتكمل المعني، واصفة الحياة نفسها بأن:
أحسن ما فيها العشق والمعشقــــــهْ
وشويتين الضحك والتريقـــــــــــــهْ
شفت الحياة.. لفيت.. لقيت الألــــــــذ
تغييرها.. وده يعنى التعب والشقا
عجبي!!
وتكمل الرباعية الثانية معنى الرباعية الأولى بأن تصلها بما يبدو مضادًّا لها فى الظاهر مكملًا لها فى الباطن؛ فأجمل ما فى الحياة ما تنطوى عليه من حب متبادل يتخذ شكل «العشق والمعشقة»، وهما صفتان لا تكتملان إلا بألذ ما فى الحياة، وهو المفارقة التى تنطوى على النقيضين، فألذ ما فى الحياة تغييرها إلى الأحسن والأكمل. وفى هذا المدى يمضى الإنسان حاملًا قَدَره، كما لو كان مكتوبًا عليه أن يصل بنفسه وما حوله إلى الأحسن والأكمل والأجمل. ولكن هذه الغايات لا تتحقق بسهولة، وإلا كانت مبذولة على قارعة الطريق يدركها كل عابر سبيل، فهى صفات تعنى الكمال، ولأنها كذلك فهى لا تتحقق إلا بالتعب والشقاء، ومن هنا تكمن المفارقة، فألذ ما فى الحياة التى هى فى حد ذاتها متعة، هو نقيضها الذى يعنى التعب والمشقة، فلا راحة إلا بعد تعب، ولا سعادة إلا بعد شقاء؛ تمامًا كالحياة نفسها التى هى وتر مشدود ما بين الوجود والعدم أو الحضور والغياب، فأن تحيا يعنى أن توجد، وأن توجد يعنى أن تتغير وتغير ما حولك، ولن تغير أو تتغير إلا بتعب ومشقة، وتلك هى مفارقة الحياة أو لذتها على السواء.
هذه هى المفارقة التى ينطوى عليها معنى الوجود كالتضاد الذى لا يخلو من معنى الحضور، وكلاهما ظاهر فى هذه الرباعية:
أعرف عيون هيّ الجمال والحسنْ
واعرف عيون تاخد القلوب بالحضنْ
وعيون مخيفة وقاسية.. وعيون كتير
وباحس فيهم كلهم بالحزنْ
عجبي!!
والتركيز على العيون – فى هذا السياق- مبرَّر؛ لأنها نوافذ الأرواح والقلوب، وهى التى تكشف عما فى الباطن، ولذلك تتنوع بتنوع نفوس أصحابها واختلاف قلوبهم، ولذلك فهناك عيون مخيفة وثانية قاسية وثالثة شرسة، لكنها جميعًا عيون تنطوى على الحزن. ولكن لماذا الحزن رغم البدء بالجمال والحسن، ورغم أن هناك عيونًا تأخذ القلوب بالأحضان، حتى رغم وجود العيون المخيفة القاسية الوحشية؟ السبب هو هاجس الموت، وهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة التى ينكرها كل أصحاب العيون مع أنه النهاية الطبيعية لكل خطى أجسامهم فى هذا الوجود.
وينتقل صلاح جاهين من هذا الفضاء الميتافيزيقى الواسع إلى الأرض العربية التى يعيش فى امتدادها من المحيط إلى الخليج، فيقول لنا:
أنا كل يوم اسمع: فلان عذبوه
أسرح ف بغداد والجزاير واتوه
ما اعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب
واعجب من اللى يطيق يعذب أخوه
عجبي!!
هنا تنتقل الرباعية إلى تأمل أوضاع الأمة العربية، خاصة فى معاناتها الأبدية من الاستبداد الداخلى الذى يبدو كأنه لا يفنى ولا يتبدد، فيسمع الشاعر فى زمنه، كما نسمع نحن فى زمننا عن من يعذبهم الطغاة فى بغداد أو الجزائر أو سوريا أو اليمن أو حتى فى غيرها من الأقطار العربية، وهو عذاب يبعث الشاعر على التفكير فى هذا الكون الذى لا يثير العجب فيه من يحتمل جسمه العذاب، بل من الكائن الذى يعذب أخاه طوال الوقت، كأنهما هما الاثنان القامع والمقموع لم يولدا من أب واحد وأم واحدة، ولم يخلقهما الله ليستخلفهما فى أرضه، ويعمرانها حتى يصلا بها إلى أقصى درجات الكمال فى تناغم ومحبة. وفى سياق هذا الاستبداد الذى يبعثه تدوين دلالات القامع والمقموع تأتى الرباعية التالية:
أنا قلبى كان شُخْشيخه.. أصبح جَرس
جلجلت به؛ صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه؟ خفتوا ليه؟
لا فْـ إيدى سيف.. ولا تحت منى فرس!
عجبي!!
وهى رباعية تقطر المرارة من البسمة التى تبعثها، وهى تتصل بوضع الفنان أو المبدع فى مواجهة مهمته الصعبة التى يفرضها عليه ارتباطه بهموم البشرية التى يلتزم بها، فتجلب عليه المواجع والقمع، ويبدو أشبه بهذا المهرج الذى يحمل قلبًا يتحول إلى جرس إنذار كى يقرع به آذان الظلمة وحراسهم، مناورًا إياهم فى زِيِّ المهرج الذى يتخفى فيه، ولكنهم مع ذلك يصيبهم الرعب من وجوده، مع أن كل ما يملكه هو مجرد كلمات أو أبيات منظومة أو قطع من الحجر أو الصلصال التى ينحت منها تمثاله، أو أنغام من الموسيقي، لكنها جميعًا تخفى تحت سطحها الناعم المغوى ما يرعب كل ظالم أو مستبد أو حتى إرهابى بما يكشف له فيها عن نهايته المحتومة.
وعندما يملُّ صلاح جاهين من دنيا البشر واستبداد المستبدين، وخذلان البشر للفنان الذى ينطوى عليه، يرتفع عن عالمهم كى يتأمل الكون من أعلي، وحياة الإنسان من بعيد؛ فيقول:
أنـا كنت شـيء.. واصـبحت شيء.. ثم شيء
شـوف ربـنـا.. قـادر علـى كـل شيء
هـزّ الشـجر شـواشيـه ووشـوشني؛ قال:
لا بد مـا يمـوت شـيء.. عشـان يحيى شيء
عـجبي!!
وهى رباعية متعددة الدلالات؛ لعل أولى تلك الدلالات وأكثرها محورية أن الحياة دورة أبدية؛ موت ثم بعث ثم موت ثم بعث وهكذا إلى ما لا نهاية، أو أن الحياة كالساقية ترفع ما تخفض وتخفض ما ترفع، أو أن الحياة – كما قال شكسبير- مسرح كبير يتغير فيه الممثلون بتغير فصول العرض أو مناظره ليعاود الزمن فعل تمثيل المسرحية نفسها بواسطة ممثلين آخرين.. إلى ما لا نهاية. والمؤكد أن الدلالة الثانية تشير إلى أن الوجود لا يتحقق إلا بالعدم؛ فلولا العدم ما كان الوجود ولولا الموت ما كانت الحياة. وهو ما نراه فى الطبيعة نفسها؛ حيث الشجر الذى تصفرّ غصونه وتجف أوراقه، فتتساقط فى الخريف لكى تعود الأوراق والأغصان مخضرَّة مزهرة فى الربيع، لكن بما يعنى أن كل ربيع لا يأتى إلا بعد كل شتاء، وأن كل حياة لا تأتى إلا بعد كل موت؛ فهذا هو قانون الوجود، حياة وموت ثم حياة وموت إلى ما لا نهاية كدورة الوجود والعدم أو كدورة الفصول. وهذا معنى قد يصيب المنتهى إليه بنوع من الاستهانة بالإنسان، فنقرأ:
إنسان.. أيا إنسان ما أجهلكْ
ما أتفهك فى الكون.. وما أضألكْ
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقه لكْ!
عجبي!!
وهى رباعية تؤكد ضآلة الإنسان بالقياس إلى كائنات هذا الكون اللانهائية، والرباعية فى مجملها - خصوصًا تجاوب دلالاتها- تشبه الدلالة العامة التى كانت تتحرك فيها قصيدة لصلاح عبدالصبور بعنوان «الشمس والمرأة». ففى هذه القصيدة يخبرنا صلاح عبدالصبور أن عمر الإنسان أصغر من الذرة بالقياس إلى عمر الكائنات التى تحيط به من أشجار أو جبال أو تلال، فالإنسان أصغر كائنات الكون وأقلها فى حجم أو دوام الوجود، لكن هذا الإنسان يمكن من وجهة نظر أخرى أن يكون هو سيد هذا الوجود والكون لو تسامى على طينيَّته ولم يسِرْ سيرته التى تجعل منه أضل وأضأل ما فى الوجود.
هذا الذى يجعل الإنسان أضل وأضأل ما فى الوجود هو تمسكه بالمظاهر الخادعة وعدم احترامه للآخرين ولا حتى التسليم باختلاف حياتهم عن حياته أو حتى بحقهم فى أن يكون لهم حياة مختلفة، حتى ولو كانت خارجة على مقاييسه الأخلاقية المعروفة؛ ولذلك تقدم لنا رباعيته التالية أمثولة دالة:
حدوته عن جعران.. وعن خنفســــــــــه
اتقابلوا حبوا بعض ساعة مســـــــــــــــا
ولا قال لهم حد: اختشوا.. عيب.. حـــــرام
ولا حد قال دى علاقة متْدَنِّســــــــــــــه
عجبي!!
والمعنى الأليجورى allegorical أو التمثيل الكنائى فى الرباعية أوضح من أن نشير إليه، لكن الأهم فيها هو أن يفعل كل إنسان ما يريد فى هذه الدنيا دون أن يفرض عليه غيره سلوكًا بعينه أو قيمًا أخلاقية دون غيرها. فالحياة هى الحرية، والحرية هى سر الوجود. أما الفن فوظيفته تحرير الإنسان من مشاعر الضرورة أو القهر أو الخوف على نحو ما نقرأ فى هذه الرباعية:
سهّيـر ليـالي.. ويـامـا لفيـت وطفـت
وفـ ليلـه راجـع فى الضـلام.. قمـت شفت
الخـوف.. كأنـه كلـب سـد الطريق
وكـنـت عايز أقتـله.. بس خفـت!
عـجبي!!
واللافت للانتباه عبارة الذى لا ينام الليالى والذى لا يكف عن الطواف؛ فهى عبارة دالة على البحث عن المعنى والدلالة فى الكون، وربما كانت الدلالة البارزة هنا هى الخوف الذى لا يفارق العنصر الإنساني؛ لأنه عنصر ينطوى على الضعف، ولذلك يسعى الإنسان للانتصار على الخوف، وهذا هو ما ينبغى أن يقوم به، ولكنه للأسف لا ينجح فى ذلك؛ إذ سرعان ما يخاف من الخوف نفسه. وهكذا يأتى إلى الرباعية البهيجة التى تقول:
غمّض عينيك وارقص بخفة ودلع
الدنيا هى الشابه.. وانت الــــــــجدع
تشوف رشاقة خطوتك.. تعبــــــــدك
لكن انت لو بصيت لرجليك.. تـقع
عجبي!!
وهى مقطوعة قريبة من نفسي، ومكمن روعتها إغراؤها إيانا بضرورة التركيز على أداء الفعل نفسه وعدم الاكتراث بالآخرين، أو عدم مراقبة ذواتنا بعيون أولئك الآخرين؛ فالاستغراق فى الأداء الجميل الذى ينعش الحياة ويثريها سيتحول إلى كارثة يقينية عاجلة لو راقب الإنسان نفسه لحظة واحدة، وهو ما يمكننى تمثيله بلاعب السيرك أو راقصة الباليه، حين يخرج الجمهور عن حدود المسرح الضيقة، لتصبح الدنيا نفسها - بتعبير الحكيم- مسرحًا كبيرًا؛ فهذان أنموذجان لا يمكن دفعهما عن مخيلتنا ونحن نقرأ هذه الرباعية، على نحوٍ يشى بإلحاحهما القوى على مخيلة الشاعر من قبلنا، وكأنه يومئ إليهما من بعيد جدًّا إيماءة شفيفة جدًّا، لا سيما حين نستحضر - فى مطلع الرباعية- تلك البهجة العارمة التى تُشعّها فى نفوسنا رشاقة راقصة الباليه وتمردها على قوانين الجاذبية الأرضية أو حتى ذلك الانبهار الذى تثيره فينا مهارة لاعب السيرك وحذقه، ثم نستدعى - فى ختامها- صيرورة تلك البهجة وذاك الانبهار إلى حسرة مريرة وألم فاجع؛ إثر ما قد تلقاه راقصة الباليه أو لاعب السيرك من مأساوية المصير إن هما تأملا نفسيهما طرفة عين، وزلَّت بأيِّ منهما إلى الحضيض قدمه، فــــ»هوى وغطى الأرض أشلاء»! بتعبير حجازي. وبهذا المعنى فالأنموذجان كلاهما كاشف بقوة عن حقيقة مؤداها أنه ليس سوى ديمومة الفعل والأداء الخلاق من سبيل لرقى الإنسان إلى كماله، غير معنيّ بشيء عدا الوصول إلى الغاية القصوى من هذا الكمال، وإلا سقط سقطة تراجيدية!
هذه التأملات تصل بين قصيدة العامية والتفلسف أو تجعل من قصيدة العامية المصرية نوعًا من التفلسف، فتدفعنا إلى التساؤل: هل كان صلاح جاهين فيما أبدعه من رباعيات متأثرًا بالخيام فى رباعياته التأملية كما لو كان يريد أن يفعل مثلها فى رباعياته العامية؟ هذا أمر محتمل خصوصًا أن صلاح جاهين عندما كتب هذه الرباعيات كان يعمل فى مجلة «صباح الخير» القديمة، ويجلس فى غرفة واحدة مع صديقه الحميم صلاح عبدالصبور ذى النزعة الميتافيزيقية المعروفة، وصاحب الدور الأبرز فى التحول بقصيدة الفصحى المعاصرة إلى التأملية. فالعلاقة بين قصيدة التفعيلة والفكر فى شعر صلاح عبدالصبور هى الوجه الآخر من العلاقة بين الرباعية والفكر فى شعر صلاح جاهين. وظنى أن هذه العلاقة هى التى ميزت شعر صلاح جاهين عن غيره، وجعلت له إيقاعًا خاصًّا، وخوّلت له مكانة متميزة بين شعراء قصيدة العامية؛ سواء الذين عاصروه مثل فؤاد حداد أو الذين تتلمذوا عليه مثل سيد حجاب أو الأبنودي.
وطبيعى أن يختار صلاح جاهين لتأملاته الفلسفية قالب الرباعية الذى سبق أن اختاره الخيام من قبله، فهى بأشطرها الأربعة بناء مدينى يشبه جدران الغرف الرباعية، بخلاف الشكل الثلاثى للخيمة البدوية فى الصحراء؛ ولذلك يحمل كل شطر من الرباعية القافية نفسها، فيما عدا الشطر الثالث الذى يأتى بقافية مغايرة تخرجنا من رتابة التوقع لتعيدنا إليه ثانية مع القافية الختامية التى تأتى بما يشبه خاتمة العقد أو بالخلاصة المكثفة للدلالة الكلية.
والحق أننى عندما أكتب عن الرباعيات لا أستطيع سوى أن أسترجع ذكريات صباى البعيد حين كنت أقرؤها كل أسبوع فى «صباح الخير»، فأقف عندها كثيرًا وأحاول أن أتأملها دون أن أفهم عمق معناها، وظللت أتنقل من حال إلى حال إلى أن قرأت دراسة للمرحوم يحيى حقى أفهمتنى ما استغلق عليّ من معانى الرباعيات ودلالاتها فأصبحت أثيرة إلى نفسى أتابعها غناءً على لسان سيد مكاوى أو على الحجار، وأتابعها إنشادًا بصوت بهاء جاهين الذى يذكرنى بأبيه، فأشعر بالفرح والبهجة التى تعيدنى إلى صباي. ولا أنسى قط هذه الرباعية بوجه خاص سواء من حيث الدلالة أو من حيث الإيقاع، أعنى الرباعية التى تقول:
أنا اللى بالأمر المحال اغتــــــــــــوي
شفت القمر.. نطّيت لفوق فى الهـــــوا
طلته.. ما طلتوش.. إيه انا يهمنـــــــــي
وليه .. ما دام بالنشوة قلبى ارتوي!!
هذه الرباعية كتبتها فى ورقة صغيرة ووضعتها على مكتبى لكى أراها فى كل وقت أجلس فيه إلى المكتب، ولا أريد أن أحللها نقديًّا، لكن يكفى أن أتحدث عن المعنى الجميل الذى تبعثه دائمًا فى نفسي، أقصد المعنى الذى يؤكد فى داخلى أن الإنسان لا ينبغى أن يتوقف أبدًا عن المحاولة، ولا عن الانطلاق لتحقيق كل ما يحلم به ويتمناه لنفسه وللآخرين فى الحياة. فالحياة التى نحياها هى مجموعة من الأحلام التى ينبغى أن نحققها، وأن نندفع إلى تجسيدها وجودًا كاملًا، وألا نتوقف عن المحاولة مهما كانت الإحباطات أو العقبات وأيًّا كانت النتائج، حتى لو لم ننجح فى تحقيق هذه المحاولات. إن المعنى هنا يشبه المعنى الذى تنطوى عليه «أسطورة سيزيف»؛ فسيزيف اليونانى قد حكمت عليه الآلهة بالعقاب لأنه أفشى بعض أسرارها، وأمرته بأن يظل يحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل إلى قمته حتى إذا وصلت الصخرة إلى القمة انحدرت مرة أخرى إلى السفح، وما على سيزيف إلا أن يهبط إلى السفح لكى يُعيد الصخرة مرة أخرى إلى القمة.. وهكذا دواليك دون توقف. وقد كان سيزيف يعرف عبثية هذا الفعل، ولكنه أدرك أنه بإصراره على ممارسة الفعل نفسه سوف يمنح ما يفعله معنى ومغزي، وأنه بمجرد أن يمنح الفعل المعنى والمغزي، يحقق حضوره الذاتى ويضفى على العبث المعنى الذى ينفى عنه عبثيته، ومن ثَم فإن جهده العبثى يتحول إلى جهد غير عبثي. أعنى جهدًا يحقق قدرة الإنسان على المقاومة وعلى الإصرار على ما يريد؛ ومن ثَم يمكننا أن نتخيل شكل سيزيف وهو يسخر من هذه الآلهة فى كل مرة يصعد بالصخرة لكى يرفعها إلى الأعلى بعد سقوطها من قمة الجبل، كما لو كان يؤكد لها أن إرادته الذاتية تتجلى فى قدرته على المقاومة، وأن قدرته على المقاومة تحيل اللامعقول، واللا معنى إلى معني.
هذا ما أشعر به إزاء رباعية صلاح جاهين؛ فهى تتحدث عن الإنسان الذى يخايله الأمر المحال؛ أى غير القابل للتحقق، فيغتوى به، ولذلك عندما يرى القمر يقفز إليه متجهًا صوبه كما لو كان يسعى إلى الوصول إليه، مع أنه يعرف استحالة ذلك؛ لأنه لن يصل إلى القمر بقدراته الذاتية وحدها، فإنه فى كل مرة يقفز فى الهواء محاولًا أن يلمس القمر، معتقدًا أن شرف المحاولة وحده هو الأهم من الوصول، حتى لو كان هذا الوصول إلى القمر نفسه؛ ولذلك يأتى الشطر الذى يؤكد أنه ليس من الضرورى أن تطول يد الإنسان القمرَ أو لا تطوله، فليس هذا هو المهم، بل المهم هو المحاولة التى تسبب لصاحبها نشوة الإحساس بالوجود، وكمال التحقق الإنسانى الذى يعطى - حتى للعبث- معنى ومغزى وقيمة.