رشيد نيني - حول ظاهرة بوجلود بعنوان : ضعف المناعة المجتمعية

لا أعرف إن كان الناس قد لاحظوا شيئا بخصوص احتفالات «بيلماون» أو «السبع بولبطاين» أو «هرما» هذه السنة.
أول ملاحظة هي أن رقصة أحواش التي يقودها «السبع بولبطاين» تحولت إلى ترند في العالم العربي، لكن بأغنية أخرى غير موسيقى أحواش، وهي أغنية حماسية حربية يمنية. وهناك من ذهب حد الربط بين هذه الرقصة الأمازيغية وجذور يمنية مفترضة، فقامت القيامة في تيك توك بين الآراء «المتضاربة» وضاع أهم شيء في الموضوع وهو ضرورة حماية الموروث الشعبي من خطر المسخ الذي يتهدده.
وقد بدأنا نلاحظ انقراض الزي التنكري الأصلي لهذه الاحتفالية لصالح أزياء تنكرية قادمة من ثقافات غريبة عنا وبعيدة كل البعد عن تراثنا الأصلي.
في شوارع الدشيرة وأحياء أكادير لاحظ الجميع كيف كان هناك إقحام مبتسر لأقنعة تنكرية مستوحاة من هالوين وألبسة الفايكينغ وأبطال سلسلة «لعبة العروش»، وكلها أشكال تحيل على ثقافات غربية لا علاقة لها بالموروث الثقافي الأمازيغي الأصيل. وأنت لن تجد دانماركيا أو سويديا أو إسلنديا واحدا يقبل أن يرتدي خلال احتفاله بعيد من أعياد بلدهم التقليدية لباسا أمازيغيا أو عربيا، فلماذا نرى نحن شبابنا يقبل باستيراد هذه الأنماط الغربية والاحتفال بها؟ سيقول لي أحدهم إننا منفتحون على الآخر، أقول له إن للانفتاح حدودا تنتهي حيث يبدأ الانسلاخ والاستلاب.
في طفولتنا كنا نحتفل بالسبع بولبطاين الذي يرتدي بطانة الخروف ويركض في الحواري مطاردا الأطفال، وكان الناس يمنحونه قطعا من اللحم يضعها في قراب ويمضي. اليوم هناك في شوارع المدن، خصوصا في سوس، شباب يحيون هذا الطقس الاحتفالي الشعبي بخليط من اللباس التنكري المزركش بالألوان القزحية وماكياج ينافس ماكياج النساء، وشعور منفوشة شقراء مستعارة تشبه تلك التي يضعها المشاركون في مهرجانات الصامبا بالبرازيل، وقرون حيوانات تشبه تلك التي كان يعتمرها الفايكينغ.
لقد بدأ هذا الطقس الاحتفالي يفقد شكله الأصلي لصالح أشكال احتفالية دخيلة على ثقافتنا يتشبه فيها الرجال بالنساء وتمنح لهم جوائز على ذلك. قد يقول قائل إنها العولمة وقد يضيف آخر إنه المغرب الذي ينفتح على ثقافات الشعوب الأخرى، والحقيقة أن الجوابين معا لا يشرحان عمق ما يحدث، لأن ما يحدث يدل على أننا بدأنا نفقد موروثنا الثقافي بعدما صرنا نفرط في حمايته من الثقافات الدخيلة.
هناك مئات الطقوس الاحتفالية التي تحييها الشعوب حول العالم، هل هناك بينها من يقحم لباسنا أو ماكياجنا أو أوشامنا فيها؟ ما نراه هو تشبث كل شعب بطقوسه الاحتفالية وحرصه على عدم تشويهها بالممارسات الدخيلة التي ترمي لكي تطمس وتشوه وتمسخ الأصالة.
قد يبدو هذا الأمر بسيطا لكنه يخفي نقصا فادحا في المناعة المجتمعية. فنحن فقدنا أصالة لباسنا عندما نزعت نساؤنا الجلابيب واللباس المغربي الأصيل وانسقن وراء البرقع الأفغاني والطرحة الخليجية، وفقدنا لباسنا الرجولي الأصيل عندما نزع رجالنا الدراعية والجلابة والبلغة وانساقوا وراء السراويل الأفغانية القصيرة والأحذية الرياضية البشعة. وخلف كل ذلك كانت هناك الأيديولوجيا المرافقة للموضة والزي الخارجي والتي أدت إلى التطرف والخراب الفكري.
ومن شدة تدني المناعة المجتمعية أصبحنا نقبل على كل الأزياء، الشامية والشرقية والخليجية وحتى الإفريقية القادمة من دول جنوب الصحراء. بينما لا نجد أحدًا من هذه الشعوب يستهلك اللباس المغربي. وقس على ذلك أنواع الموسيقى التي أصبحنا نستهلك في مناسباتنا وأفراحنا، فأصبح المغاربة يرقصون على إيقاع الدبكة كأي سوريين عريقين في الشام، وأصبحت الموضة التركية في الأعراس سائدة وصار منتهى أحلام الفتاة المغربية أن تتزوج رجلا تركيا، وربما قد يأتي يوم تحل فيه الطقوس الغربية مكان العمارية.
وما نراه اليوم في مجال الموسيقى المغربية الأصيلة من تطفل للمتهافتين وعديمي الموهبة ومن إقحام جاهل لأنماط موسيقية غربية في الموسيقى العريقة، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفا من تبديد هؤلاء الجهلاء لرصيد تراثي ثمين.
ويكفي متابعة ما يعرض على المنصات لكي تصدم بفرق تمزج الفن الكناوي بالقيثارة الكهربائية والساكسوفون مع أن الأصل في موسيقى كناوة هو الهجهوج والقراقب وحنجرة المعلم الذي يكون قد قضى عمرا كاملا في تاكناويت. اليوم صار كل من لم يجد شغلا يلبس دربالة هداوة ويعتمر قبعة الراسطا يعتبر نفسه معلم كناوي، وهناك من ذهب حد جلب أمريكيات يتململن بالكاد فوق المنصة يرددن بشكلٍ ببغاوي لازمة يحفظنها دون أن يعرفن معناها.
جميل ما يقوم به المغرب عندما يبادر لتسجيل تراثه في اليونيسكو حفظا له من لصوص الحضارة عديمي التاريخ، لكن سيكون من الجيد أيضا حفظ العادات والاحتفاليات التراثية في الداخل من التشويه والمسخ الذي يطولها على أيدي جهات تبحث لكي تستغل هذه الأجواء الاحتفالية لترسيخ أشكال ورموز دخيلة تحمل رسائل ومغازي يصعب عليهم فرضها بطريقة مباشرة

رشيد نيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى