"على قلقٍ كأن الريح تحتي"، هذا هو قلب "المتنبي". أما قلب "شوقي" فهو "الواهي الذي ثَكِل الشبابَ". وقلب "الغيطاني" هو الذي توقف لمدة ربع ساعة عن النبض، كان خلالها في أيدي الأطباء يقول لهم: لا تقلقوا، ليست هي المرة الأولى! بالفعل كل الذين قرأوا كتاب "التجليات" -ذلك السِفر المتجاوز- يعرفون أن "ابن عربي" انتزع القلب من مكانه وأمسكه في قبضته وطاف به في الافلاك ليرى ما لم يره بشر. رأى آخر ورقة ستسقط من شجرة حياته، وكان مع "الحسين" في كربلاء، رأى الأب "أحمد الغيطاني" في رحلة هروبه من قريته واختبائه في كوم تبن، رافقَ عبدالناصر في عودته ورؤيته للعلَم الإسرائيلي في سماء القاهرة. قلب عمره ألف عام لشاب عاش كل هذا الزمن وهو لم يزل غضا. قصّ وحكى عن سجن "المقشرة" المملوكي بلسان سجّان مستمتع بساديته. وفي التأريخ، "إياسي" النبرة والإيقاع، هناك "كشف اللثام عن أخبار ابن سلام"، تلك البذرة الأولى، جوهرة الكشف الأعظم التي يظهر في بهائها لأول مرة شخصية الشبح المرعب "الزيني بركات بن موسى". بعدها، وفي عمر السادسة والعشرين (1971)، والقلب في فتوته، تخرج "الزيني بركات" كاملة مُكملة فنيا ومعرفيا. لا يظهر "الزيني" بشخصه أبدا طوال الرواية، هو دائما في أصوات الرواة العديدين، ذلك الداهية المتخفي، رجل كل العهود، من السلطان الغوري إلى الغازي "سليم بن عثمان. في مرسوم تعيينه مُحتسبا للقاهرة مذكور أنه يلتزم بالسنة النبوية في نتف شعر الإبط وحلق شعر العانة! في الرواية هناك "عمرو بن العدوي" (ذلك المزدوج بكل ما تحمله الكلمة) وسعيد الجهيني، المعادل المعاصر للمثقف المأزوم قليل الحيلة.
توقُّف قلب الغيطاني عن النبض هو منح بالمعنى المقابل، في تلك الدقائق منح نبضا للحجر والشجر. ألم يقل صاحبه: (في العمل الصحفي ينظر الإنسان إلى الحجر، وفي العمل الروائي ينظر الحجر إلى الإنسان)؟ كم حجرا تكلم مع الغيطاني؟ وكم نافذة أعطته سرها؟ في "نوافذ النوافذ" تم الدخول وإطالة المكوث في نوافذ الرغبة والسجن والفن، حتى نبتت للنوافذ عيون وقلوب. وفي "رشحات الحمراء" كان القلب قد تعب كثيرا من فكرة تتبع الأصل، واقتفاء أثر الفروع الممتدة في الزمان والمكان. الناي يئن ليعود لأصله، هذا درس الرومي العظيم، ودرس الغيطاني وقلبه القَلِق الواهي في هذه اللحظة. ربع ساعة بحالها، ثم معاودة النبض، ذلك ما يستعجب منه ابن إياس كل العجب، لكنّ أحجار الدير البحري والأهرام وكل القلاع القديمة لم تستعجب..
***
حسام المقدم
توقُّف قلب الغيطاني عن النبض هو منح بالمعنى المقابل، في تلك الدقائق منح نبضا للحجر والشجر. ألم يقل صاحبه: (في العمل الصحفي ينظر الإنسان إلى الحجر، وفي العمل الروائي ينظر الحجر إلى الإنسان)؟ كم حجرا تكلم مع الغيطاني؟ وكم نافذة أعطته سرها؟ في "نوافذ النوافذ" تم الدخول وإطالة المكوث في نوافذ الرغبة والسجن والفن، حتى نبتت للنوافذ عيون وقلوب. وفي "رشحات الحمراء" كان القلب قد تعب كثيرا من فكرة تتبع الأصل، واقتفاء أثر الفروع الممتدة في الزمان والمكان. الناي يئن ليعود لأصله، هذا درس الرومي العظيم، ودرس الغيطاني وقلبه القَلِق الواهي في هذه اللحظة. ربع ساعة بحالها، ثم معاودة النبض، ذلك ما يستعجب منه ابن إياس كل العجب، لكنّ أحجار الدير البحري والأهرام وكل القلاع القديمة لم تستعجب..
***
حسام المقدم