فى صباح يوم جديد ، أطلت فيه الشمس بزاوية ، طالت النصف الاعلى من البيت الا قليلا ، بدأ اليوم بصياح الديك القاطن في سطح ام حنان الجارة ، استيقظ صابر واتجه نحو المرحاض ، ثم بدل ملابسه وذهب يدخن سيجارة وهو يطل من شرفته على شرفة سعاد جارته المحبوبة وحب عمره الذي بات مستحيلا.
يعمل صابر نجار موبيليا فى ورشة الاسطى ربيع بشارع عبيد بساحل روض الفرج، تعلم حتى الاعدادية وانهى تعليمه ليعمل نجارا بالورشة كي يستطيع أن يصرف على أبيه العاجز وامه المريضة بداء السكري.
مرت سنوات على حبه لسعاد بنت عم عبده السمكرى ، منذ الطفولة وهو يحمل بداخله امل الزواج بها ، فى كل مرة يلتقيها على كورنيش النيل كان يتحين الفرصة ويمسك بيدها ويعبر عن مكنون حبه وشوقه الذي أرهق قلبه وعقله ، كان لا يكف عن النظر إلى عينيها العسليتين، وابتسامتها التى لا تفارق وجهها طالما بقيا معًا، كانت تبتسم فترسل له بعض المسكنات للألم القاطن فى سويداء قلبه، كان يتحسر كلما اصطدم بواقع مرير يحول بينه وبين الزواج ممن يحب، كان يعلم أن شغله الشاغل هو أن يوفر لأبيه وأمه الطعام والعلاج، وهو يعلم أن ما بقى من نقود يكفى شراء علبة سجائر بالكاد، ظل شاردا وهو ينظر إليها حتى سقطت من عينيه دمعات عبرت عن معاناة سكنت جنبات حياته ، لاحظت سعاد تلك الدمعات فاكفهر وجها وانطفأت ابتسامتها ، وأخذت تمسح بيدها دمعاته برفق وقامت باحتضانه دون مبالاة بمن كان يمشى حولها من الناس فى الشارع وهى تحدثه: مالك يا صابر ؟ فيك ايه ؟
يبتعد عنها برفق وهو يحاول أن يتلافى النظر إلى عينها ويقول:- مفيش.
تصر سعاد على معرفة ما به وما الذى آلمه حتى بكى.
مازال يصر على أن لا يخبرها، ولكنه استسلم لاصرارها وأخبرها بأحواله، وكم يعانى من الظروف القاسية التى حالت بينه وبين خطبتها حتى الآن. وقد كبرت وكبر والعمر يمر وهو يعلم أنها صبرت كثيراً ، وأنها قد استنفدت كل الحجج فى رفض من تقدم لخطبتها وليس لديها شيء تتحجج به، وقد علم من أمه أن هناك إصرار من أبيها على خطبتها فى رابع يوم العيد الذي أوشك على الإقتراب، وأنه لم يبق سوى خمسة أيام.
عرفت سعاد سر تلك الدمعات، فربتت على كتفيه وأخبرته الا ييأس، وأن هناك حل بإذن الله.
هنا أدرك أنه ليس بيده شىء ، وليس عليه سوى مزيد من الصبر ثم عاد إلى عمله وعادت سعاد إلى البيت.
اصبحت تكبيرات العيد تصدح عبر مذياع أو تلفاز فى الشوارع وقد بقى على العيد يومان وتلك الرئحة المنتشرة بشارع جسر البحر شاهدة على ذلك ، هناك عدة روائح للخراف والماعز والبقر وروث البهائم يحيط بالامكنة ويسكن أنوف المارة.
انتهى صابر من عمله ورجع إلى بيته وصعد إلى الشقة الصغيرة فى ذلك البيت المكون نصفه السفلى من الطوب والنصف العلوى الذي يسكن فيه من الخشب .
ألقى السلام على أبيه وامه وقبلهما ، ثم مكث يتناول الغداء معهم واكل عدس وبصل وجرجير ثم أخذ كوب الشاي واتجه يدخن سيجارة وهو يطل من الشرفة ينتظر بفارغ الصبر أن يرى سعاد تطل من الشرفة ولم تشرق شمسها بعد وقت طويل .
مازلت أصوات الخراف والماعز تنتشر تحت بيته والروائح الدالة تملئ أنفه و تخطلت بدخان سجارته وتجعله يتيه فى مزيد من الضباب واليأس حتى انتهى من سجارته والشاي عاد إلى الأريكة، حيث يجلس أبيه يحدثه عن أحوال الناس وتحدث معه أباه عن تلك الأيام الماضية التى كانت تحمل فى طياتها معنى البساطة، وحثه على المزيد من الصبر وأن الإنسان فى تلك الدنيا عابر سبيل لن يمكث بها كثيرا وأن فى الصبر النجاة .
مرت أيام حتى جاء اليوم الرابع من عيد الناس وهو يترقب بخوف أن يحدث ما يخشاه وقد حدث ، صارت زغاريد تصدح فى الحارة وتعالت اصوات فرح قادمة من شرفة سعاد ، كانت بمثابة خناجر تطعن فى قلبه وتشق صدره فخر باكياً على الارض وأطلق عدت صراخات تاهت بين الزغاريد والاغاني الآتية من شرفة سعاد ، انتهى حلمه إلى الأبد ، وانتهت سعاد من حياته وسعادته المنشودة. وأخذت وتيرة الاغانى تعلوا كلما تعالت صرخاته وسط إحساس أن العالم يسخر منه وأن لاقيمة لحبه ومشاعره ، حتى دخلت أمه عليه وهو غارق فى بكائه ترفعه إلى السرير وتدعوا على سعاد وأم سعاد التى كانت السبب فى ما وصل إليه إبنها الوحيد وقد أحست بأن ابنها سوف يضيع منها فقامت باحتضانه وهى تردد : منهم لله يابنى منهم لله ، متزعلش ربنا يعوض عليك باحسن منها ، قوم يابنى قوم يابنى بلاش تعمل فى نفسك كده.
يتحسر صابر على ذلك الحب المهدور دمه ويرى بعينه كأنه شاة تم ذبحها وسال دمها أمامه.
تحسر على تلك السنوات التى مرت على حبها وقد ذهبت هباء، وقد استمر على هذه الحالة يفكر فى الأسباب التى أدت به إلى هذا الحال عدة سنوات حتى ترك لحيته وأخذ عزاء أبيه وامه وهو شارد لا يدرك كثيرا مما يدور حوله ، وأصبح كلما اشتم رائحة الخراف تذكر أن عيد الناس قد جاء وذهب عيده إلى غير رجعة.
عمرو صلاح الغندقلي
يعمل صابر نجار موبيليا فى ورشة الاسطى ربيع بشارع عبيد بساحل روض الفرج، تعلم حتى الاعدادية وانهى تعليمه ليعمل نجارا بالورشة كي يستطيع أن يصرف على أبيه العاجز وامه المريضة بداء السكري.
مرت سنوات على حبه لسعاد بنت عم عبده السمكرى ، منذ الطفولة وهو يحمل بداخله امل الزواج بها ، فى كل مرة يلتقيها على كورنيش النيل كان يتحين الفرصة ويمسك بيدها ويعبر عن مكنون حبه وشوقه الذي أرهق قلبه وعقله ، كان لا يكف عن النظر إلى عينيها العسليتين، وابتسامتها التى لا تفارق وجهها طالما بقيا معًا، كانت تبتسم فترسل له بعض المسكنات للألم القاطن فى سويداء قلبه، كان يتحسر كلما اصطدم بواقع مرير يحول بينه وبين الزواج ممن يحب، كان يعلم أن شغله الشاغل هو أن يوفر لأبيه وأمه الطعام والعلاج، وهو يعلم أن ما بقى من نقود يكفى شراء علبة سجائر بالكاد، ظل شاردا وهو ينظر إليها حتى سقطت من عينيه دمعات عبرت عن معاناة سكنت جنبات حياته ، لاحظت سعاد تلك الدمعات فاكفهر وجها وانطفأت ابتسامتها ، وأخذت تمسح بيدها دمعاته برفق وقامت باحتضانه دون مبالاة بمن كان يمشى حولها من الناس فى الشارع وهى تحدثه: مالك يا صابر ؟ فيك ايه ؟
يبتعد عنها برفق وهو يحاول أن يتلافى النظر إلى عينها ويقول:- مفيش.
تصر سعاد على معرفة ما به وما الذى آلمه حتى بكى.
مازال يصر على أن لا يخبرها، ولكنه استسلم لاصرارها وأخبرها بأحواله، وكم يعانى من الظروف القاسية التى حالت بينه وبين خطبتها حتى الآن. وقد كبرت وكبر والعمر يمر وهو يعلم أنها صبرت كثيراً ، وأنها قد استنفدت كل الحجج فى رفض من تقدم لخطبتها وليس لديها شيء تتحجج به، وقد علم من أمه أن هناك إصرار من أبيها على خطبتها فى رابع يوم العيد الذي أوشك على الإقتراب، وأنه لم يبق سوى خمسة أيام.
عرفت سعاد سر تلك الدمعات، فربتت على كتفيه وأخبرته الا ييأس، وأن هناك حل بإذن الله.
هنا أدرك أنه ليس بيده شىء ، وليس عليه سوى مزيد من الصبر ثم عاد إلى عمله وعادت سعاد إلى البيت.
اصبحت تكبيرات العيد تصدح عبر مذياع أو تلفاز فى الشوارع وقد بقى على العيد يومان وتلك الرئحة المنتشرة بشارع جسر البحر شاهدة على ذلك ، هناك عدة روائح للخراف والماعز والبقر وروث البهائم يحيط بالامكنة ويسكن أنوف المارة.
انتهى صابر من عمله ورجع إلى بيته وصعد إلى الشقة الصغيرة فى ذلك البيت المكون نصفه السفلى من الطوب والنصف العلوى الذي يسكن فيه من الخشب .
ألقى السلام على أبيه وامه وقبلهما ، ثم مكث يتناول الغداء معهم واكل عدس وبصل وجرجير ثم أخذ كوب الشاي واتجه يدخن سيجارة وهو يطل من الشرفة ينتظر بفارغ الصبر أن يرى سعاد تطل من الشرفة ولم تشرق شمسها بعد وقت طويل .
مازلت أصوات الخراف والماعز تنتشر تحت بيته والروائح الدالة تملئ أنفه و تخطلت بدخان سجارته وتجعله يتيه فى مزيد من الضباب واليأس حتى انتهى من سجارته والشاي عاد إلى الأريكة، حيث يجلس أبيه يحدثه عن أحوال الناس وتحدث معه أباه عن تلك الأيام الماضية التى كانت تحمل فى طياتها معنى البساطة، وحثه على المزيد من الصبر وأن الإنسان فى تلك الدنيا عابر سبيل لن يمكث بها كثيرا وأن فى الصبر النجاة .
مرت أيام حتى جاء اليوم الرابع من عيد الناس وهو يترقب بخوف أن يحدث ما يخشاه وقد حدث ، صارت زغاريد تصدح فى الحارة وتعالت اصوات فرح قادمة من شرفة سعاد ، كانت بمثابة خناجر تطعن فى قلبه وتشق صدره فخر باكياً على الارض وأطلق عدت صراخات تاهت بين الزغاريد والاغاني الآتية من شرفة سعاد ، انتهى حلمه إلى الأبد ، وانتهت سعاد من حياته وسعادته المنشودة. وأخذت وتيرة الاغانى تعلوا كلما تعالت صرخاته وسط إحساس أن العالم يسخر منه وأن لاقيمة لحبه ومشاعره ، حتى دخلت أمه عليه وهو غارق فى بكائه ترفعه إلى السرير وتدعوا على سعاد وأم سعاد التى كانت السبب فى ما وصل إليه إبنها الوحيد وقد أحست بأن ابنها سوف يضيع منها فقامت باحتضانه وهى تردد : منهم لله يابنى منهم لله ، متزعلش ربنا يعوض عليك باحسن منها ، قوم يابنى قوم يابنى بلاش تعمل فى نفسك كده.
يتحسر صابر على ذلك الحب المهدور دمه ويرى بعينه كأنه شاة تم ذبحها وسال دمها أمامه.
تحسر على تلك السنوات التى مرت على حبها وقد ذهبت هباء، وقد استمر على هذه الحالة يفكر فى الأسباب التى أدت به إلى هذا الحال عدة سنوات حتى ترك لحيته وأخذ عزاء أبيه وامه وهو شارد لا يدرك كثيرا مما يدور حوله ، وأصبح كلما اشتم رائحة الخراف تذكر أن عيد الناس قد جاء وذهب عيده إلى غير رجعة.
عمرو صلاح الغندقلي