جمال فوغالي - الروايةُ حينَ تخلُدُ بشخوصِها العارفَة...

• ومنْ منَ الكتابِ الرِّوائيين عرباً وأجانبَ يمكنُ أنْ يحتفظَ التاريخُ بأسماءِ شخوصهمْ الروائيَّة،وكأنما هي شخوصٌ منْ لحمٍ ودمٍ يحيونَ فينا وفي مشاعرنا والأحاسيس،حينَ تحملُ فلسفتَها وتدافعُ عنْها فنيًّا وجماليًّا ومعرفيًّا؟
إنَّهمْ القلَّةُ القليلةُ عبرَ التاريخ منذُ أوليسْ إلى آخيلْ.
فهلْ ننسى"غودو"الذي ما نزالُ ننتظرُ عودتَهُ،وليسَ لهُ أنْ يجيء؟
وإنْ جاءَ فماذا باستطاعتِهِ أنْ يفعل؟
وما يزالُ المسرحُ في الوهمِ الكُبَّار،والجدارُ يتعالى والاختناقُ وشيك،فإنْ لمْ يكنِ اليوم فغداً.
وهلْ ننسى"سي السيَّد"في ثلاثية نجيب محفوظ،وهو يتعدَّدُ ولا يتبدَّدُ منْ ذاكرتنا حيثما توجهَ السردُ وأناخ؟
وهل يمكننا أنْ ننسى"مصطفى سعيد"في موسم الهجرَةِ إلى الشمال للطيب صالح،وهو ما يزالُ حيًّا بيننا،ويحيا في تفاصيلِ حياتنا،والغربُ يستبيحُنا في مأكلنا والثياب،وفي نومنا الذي أصبحَ موتاً ممتدًّا في الحياة،ونحسَبُهُ الحياة؟
وهلْ بمقدورِنا أن ننسى"الجازية"و"الشابَّ الأحمر"في روايةِ الجازية والدراويش للروائي القاصّ عبد الحميد بن هدوڤة،وهو الوحيدُ الذي راقصها واحتواها إلى صدره،ولنْ يستطيعَ الدراويشُ القيامَ بذلكَ مهما دقوا الطبولَ وأشعلوا النيرانَ ولعقوا المناجلَ المحمرَّة ومشوا فوقَ الجمرِ حفاة؟
وليسَ لنا أنْ ننسى العجوز"رحمة"وهي تصنعُ الحياةَ بيدين متعرقتيْن منْ طينٍ وماء،والقلبُ مُشرَعُ الخفقِ على انفتاحِ السماء،وتغني الفرحَ الذي سيجيء،والصوتُ منْ صدرها فيضُ هذا الرُّواء،والطيورُ حولَها تحطُّ وتطير،وفي حناجرِها وهي تغرِّدُ يحيا الشُّهداء.
وهلْ باستطاعتنا أنْ ننسى"اللاز"و"زيدان"في رواية الطاهر وطار بجزأيْها معاً؟و"الحاج كيان"عند المقبرَة في الكينونَةِ منَ الوجود؟
وهلْ لنا أنْ ننسى"العنابيَّة"،والعرْسُ الهجينُ ما يزالُ مستمرًّا،وكيف لهُ أنْ يتوقَّف؟
وهلْ لنا أنْ ننسى نجمة كاتب ياسين في تعاليها وبقائها مشعةً في السردِ وفي الكتابَة وفي معمارِ الرواية؟
وفي حضورها في السماءِ التي تبتعدُ ابتعاداً،لا تريدُ غيرَ زرقتِها،وقدْ أرادَ الملأُ الخبيثُ تهجيرَها؟
وهلْ لنا أنْ ننسى"مهدي جواد"الشخصية والقائم بالسردِ في آن،في وليمة لأعشابِ البحر،نشيد الموت،للروائي حيدر حيدر،وهو يحكي بشعريةٍ طافحةٍ بالأحلامِ المجهضَة،وبسرديةِ تستعيدُ جراحاتِ الفجيعة منْ وادي الرافدين،وقدِ استباحَهُ القتلَة باسمِ الديموقراطية،إلى بونَة التي اتشحتْ حدادَها الأزرق منْ سبعينيات القرن الماضي،وما يزالُ اللُّويَثانُ يتربَّصُ بها وبنا؟
وهلْ لنا أن ننسى دون كيخوتَة أو زوربا اليونانيَّ؟
وهما يعلماننا كيف نستزيدُ منَ الحياة،وكيف علينا أنْ نحياها بما يليقُ بنا وبها،لعلَّنا نكونُ بشراً أسوياءَ في مواجهةِ هذا الخرابِ المدرَّعِ باليباب،لا قِدِّيسينَ نريدُ أنْ نكونَ ولا ملائكة،ولا شياطينَ ولا عزازيل،نشتهي أنْ نتعلَّمَ رقصةَ الحياةِ وكفى؟
وهلْ ننسى"موران"منَ الأمكنةِ في الملحمةِ السرديَّة منْ روايةِ"أرض السواد"للروائيِّ عبد الرحمن منيف،في أجزائها الخمسَة،وقدْ رحلَ منْ منفى إلى منفى،و"موران"المكانُ رملٌ في الذَّوبان الذي يزحفُ بعضُهُ على بعض،والرؤيا في السردِ آتية في المجازِ وفي الحقيقة،والنيرانُ تلتهبُ التهاباً ثمَّ لا تبقي ولا تذر،منْ"شرق المتوسطِ مرَّةً أخرى"،وبعدَ اغتيالِ الرَّبابنَة للفتى مرزوق بعدَ تجريفِ ما تبقَّى منَ الأشجار؟
وتزحف"النهاياتُ"في"عالمٍ بلا خرائط"،ولمْ تبقَ منهُ غيرُ خريطةِ الدمِ العربيِّ المنبوذِ في كلِّ مكان،وقدْ خذلَهُ الصَّغارُ بهذا الهوانِ والذِّلَّةِ والمسكنَة.
وهلْ علينا أنْ ننسى"ماكوندو"المدينَة التي انبنى عليها مخيالُ الروائيِّ القاصِّ غارسيا ماركيز في"مائة عام من العزلة"،ولمْ تكنِ العائلةُ معزولةً لعقودٍ منْ ميلادها،وظلت العائلةُ مديدَةً في العمرِ منْ سرديَّتِها الطَّافحةِ بالإنسانِ والحياة والخلود،مثلما مدينة"جارْبرْ"في ثلاثيَّةِ الشمال منْ"سطوح أورسول"للروائي الشاعرِ محمد ديب الذي انتبذَ مكاناً إبداعيًّا مُنفتحاً على الصوفية،عارفاً بها،ليلتقي في غربتِهِ والمنفى ابنَ عربي والسهروردي وجلالَ الدين الرومي،كيْ يظلَّ السردُ قائماً بينَ لِييلي وصلْح إذْ تعلو بها الأرجوحةُ وتهبط بينَ أرضٍ وسماء،ولا يستقرُّ لها قرارٌ بين شمالٍ صقيعيٍّ وجنوبٍ جهنميٍّ،وهي تحكي آلامها والجراحات؟
وبالتأكيدِ أنَّ هناكَ شخوصاً أخرى وأخرى،وهو اعترافٌ بالأدبِ الذي يعمِّرُ ويبقى ويستزيدُ منَ البقاء ممتلئاً بفيضِ الحياة،مثلما ظلتْ بينيلوبْ وفيةً لأوليس،وهي تغزلُ صوفَها ليلاً وتفكُّهُ صباحاً كيْ تظلَّ على وفائها لحبِّها الذي يغمرُ قلبَها ويفيضُ بهِ للحبيبِ أوليسْ الذي غادرَ إلى البحار،وظلتْ بينيلوبْ نورَهُ والمنارَة في مندوفِ البياضِ منْ سردِ الحكاية…

2024/07/28 •

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى