لا تكمن الصعوبة في أن يختار الكاتب المسرحي واقعة تاريخية من تراثنا العربي الحافل بالوقائع والأحداث، ولكن الصعوبة تكمن في كيفية توظيفها لتعادل واقعه المعيش المعاصر مستدعيًا بعض جوانبها لتعبر عن رؤيته من خلال استلهام أحد الشخصيات المحورية التاريخية في زمانها، واستثمار أفعالها ومقولاتها وتفاعلاتها في توسيع حدقة المجتمع البصرية والفكرية فيما يحيط به من مخاطر تؤكد نتائجها التي مضت إمكانية تكرارها في الحاضر بشكل مغاير.
وهو ما نجح فيه الكاتب خالد الجمال عندما أصدر عمله المسرحي "يوم الطين" عن المسك للنشر والتوزيع عام 2021م، في ثلاثة فصول تضم خمسة عشر مشهدا ممتدًا متعاقبًا من حيث التسلسل ملتزمًا بترتيب سير الأحداث ومتجاوزًا كل فصل؛ لاعتماده على البناء التراكمي الذي يسمح للقارئ أن يتابع السرد الحواري دون توقف أو التقيد بمشاهد كل فصل على حدة.
ينبغي الإشارة إلى أن "الجمَّال" حين لجأ إلى استلهام التاريخ وتوظيفه لم يكن محاكيًا لمجرد التقليد أو التجريب، بل لإيمانه العميق بأن ذلك هو الأسلوب الأكثر تأثيرا وتحريكًا لمشاعر القارئ المعاصر، وتقديم نذارات أو بشارات للاسترشاد بها في التعامل مع المشكلات الحياتية اليومية أو المصيرية على السواء. غير أن سعد الله ونوس يرى أن استلهام بعض أشكال الفرجة التي عرفها العرب، لا يكفي لتحقيق مسرح عربي واضح الهوية، ما لم نملأ هذه الأشكال المسرحية بمضمون معاصر، استنادًا لما يراه المخرج والناقد المسرحي الفرنسي "برنار دورت" في قوله: (إننا نصنع مسرحًا انطلاقًا مما هو جوهري في حياتنا، بتعبير أدق، من تفاعل الخشبة والصالة واحتكاكهما المستمر، وهذا التفاعل لا يتم إلا إذا كانت هناك اهتمامات مشتركة لها ملامح الواقع الراهن... وإعادة سبكها لإعدادها بما يتلاءم مع الواقع الراهن). [سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ط1، دار الفكر الجديد، بيروت، 1988م].
اختار خالد الجمال عنوانا لمسرحيته: "يوم الطين"، ليس الغرض منه فقط أن يقوم بوظيفة جمالية محددة مع النص، بأن يشير إلى واقعة تاريخية حقيقية، بل مزج فيه الواقع بالمجاز اللغوي حين حمَّله دورًا رمزيًا استعاريًا مكثفًا لدلالات النص، ذلك أن يوم الطين يصلح أن يكون يوم الطيب، واليوم طين يجوز استعماله في الحالين لكون الواقعة التاريخية غير معلومة للكافة.
غير أن اختيار الجمَّال لهذا العنوان لمسرحيته، حملته مسرحية كويتية للكاتب والمخرج الكويتي الراحل سليمان الحزامي عام 1979م، ونشرها في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم. لكن مسرحية الجمَّال تتباين عنها مباينة كبيرة حتى إن احتوت كلتاهما على بعض الشخصيات الرئيسة؛ فالشخصيات الثانوية الحقيقية والمتخيلة، والإسقاطات السياسية على المشاهد التي تستدعي: السرطان اليهودي المتوغل في الدول العربية والإسلامية، وثورات الربيع العربي، والصراعات الدائرة بين الدول العربية في الجهر والخفاء، والتنديد بالسياسات المالية للحكام، وإبراز معاناة الغالبية من الشعب على المستويين الاقتصادي والسياسي تأتي بعيدة كل البعد عن مسرحية الحزامي التي تناولت صورًا لتآمر الفرنجة بالكيد والدسائس والتفريق، ودور اليهود أيضا في استخدام الجنس، والتسويف في لعبة السياسة، والمعتمد ودوره في توحيد الأندلسيين، وما أصاب بلاد الأندلس من الفرقة والانقسام والانهزام أمام الفرنجة.
وقد وظف الكاتب عناصر البناء الدرامي توظيفا فنيا، يمزج فيه مستويات عدة، ومنها عنصر الشخصيات المخترعة؛ فيظهر في عملية رسم الشخصية ووصفها جانبان: جانب الواقعية وجانب التخييل، ويتوافق الجانبان ضمن عملية ديناميكية تضفي الحياة والتجانس وفق هذين الجانبين؛ فلولا الجانب التخييلي ما قربت صورة الواقعي، والذي هو من جهة أخرى يُعد انعكاسًا لهذا العالم المتخيل المشيد. فعملية التخييل في رسم الشخصيات يجب أن تكون مقبولة وفي حدود الوعي البشري ويدركه، ليصبح الواقعي مع المتخيل جانبين لصورة واحدة شخصية متجانسة ومتكاملة.
وبدأ الجمَّال بداية موفقة في المشهد الأول بالتاجر "شالين" اليهودي وشقيقتيه "لينا" و"هودت"؛ إذ شد انتباه القارئ من خلال حوارهم وأدخله مباشرة في أحداث المسرحية وخطها الدرامي الرئيس في الصراع الدائر بين المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقرطبة في عصر ملوك الطوائف، وبين الملك ألفونسو السادس حاكم ليون وقشتالة وسيد إسبانيا فيما بعد، وقد بين الثلاث شخصيات الصراع الدائر داخل قصر المعتمد بين وزيره ابن عمار وزوجته اعتماد الرميكية، والصراع بين ألفونس السادس ملك قشتالة وريموند برانجيه الأول حاكم برشلونة، وقد ساهم الحوار التآمري في كسر الرتابة، وشكَّل الطريق الأسرع للتعرف على بعض الأحداث والشخصيات، وهذه السرعة من الفضائل عند الناقد الأمريكي "وولتر كير"؛ فهي تبعد كاتبها عن عيوب التأليف المسرحي.
ومما يثير المتعة في الصراع عندما تتبادل القوتين المتصارعتين المواقع في سير الحكاية، فيبدو أحدهما مسيطرًا في لحظة ثم يصبح مدافعًا في لحظة أخرى، وبهذا تتصاعد أنفاس المشاهدين وهم يتابعون هذا الانتقال وهذا التنوع في إيقاع الصراع، وهنا ينحاز المشاهد أو القارئ بالضرورة إلى أحد الأطراف تأييدًا لأفكار وقيم ستكون سببًا في صراعه مع نقيضه. [فرحان بلبل، النص المسرحي: الكلمة والفعل].
كما عمد الكاتب إلى الاهتمام في سرد النص بأكمله مُعتنيًا بدرجة تجانسه وتكامله، واقتصاد الكلام المتماثل في تلاؤمه مع الشخصيات والمواقف، مراعيًا الصدق، حتى في حضور الشخصيات التي اخترعها أو تخيلها وأدخلها في سير الأحداث دون اقتحام، بل في سلاسة وتناغم لم تنتقص من الأحداث الحقيقية وسيرها التاريخي، وهو ما كان بين "لينا" وألفونس في المشهد السادس من الفصل الثاني، أو بين "هودت" والمعتمد واعتماد في المشهد التاسع من نفس الفصل.
ولن يجد القارئ أية غرابة في اللقاء بين الشخصية المتخيلة "شالين" وبين الشخصية الحقيقية يوسف بن تاشفين في لقائهما الأول في "أغمات" بالمغرب، ولن تتسلل لقلبه الدهشة من الحوار الذي أستمده الكاتب من أحداث عصرنا المتأخر وزجه ببراعة بين الرجلين للدلالة عن أن الخط الدراماتيكي الجيوسياسي لليهود يمضي في استراتيجية مُحكَمة على الرغم من تغير الشخوص والحوادث، والأزمان؛ فنهجهم واحد وغايتهم واحدة:
شالين: (مُوضِحًا).. زمنٌ ولى يا أمير المؤمنين. يجب أن ننسى لكي نرسم خريطة اليوم.
ابن تاشفين: (مُنفعلًا).. وهل أنتم تنسون الماضي وتغفلون التاريخ؟!
شالين: (مُؤكدًا).. يتوقف ذلك على القدرة والقوة.
ابن تاشفين: (واقفًا وبهدوء).. قدرتكم وقوة أو ضعف خصمكم. تقاس بمقياس دقيق وعلى هذا ترسمون الغد.
وينتقل الحوار بين شالين وبن تاشفين إلى النقطة التي يريد الكاتب إبرازها باعتبارها الهدف الأسمى الذي عمل اليهود من أجل تحقيقه، وقد تحقق بالفعل، وصار واقعا:
شالين: الأهداف كثيرة، فما يتحقق منها فهو مكسب، وما لا يتحقق نسعى إلى تحقيقه، نعم تحقيقه حتى لو كان بأيدٍ غير أيدينا، ولابد أن يأتي يوم فيه نلملم شتاتنا من هذا التشرد، فمن يساعدنا غير أمير عادل يخلصنا من ألفونس وريدموند وملوك الطوائف؟
حاول الكاتب الإحاطة بأحداث الفترة التي اقتطعها من عصر الطوائف والتي تغطي حكم المعتمد ابن عباد وصراعه ضد ألفونس، واتحاده مع المرابطين ثم الانقلاب عليهم بل محاربتهم، ثم نفيه إلى أغمات بالمغرب بأمر قائد دولة المرابطين يوسف بن تاشفين بعد مباركة الفقهاء له من المغرب والأندلس والمشرق العربي أيضًا؛ ليغزو الأندلس ويوحد دولها خوفًا من الضياع، كما خاض الجمَّال في القضايا الفرعية التي تتصل بالصراعات البينية والداخلية والخارجية التي أظهرها عبر حوارات استصحبت براعة التعبير والتكثيف اللغوي الدرامي، الذي تراتب وتعاقب في منطقية انتقالات الأحداث، وتغيرها، متحاشيا الترهل، ومتجافٍ عن الإيجاز المخل في بسترة المشاهد.
ويبدو هذا بمظهرٍ جلي في بلاغة الألفاظ التي صاغها بحسب لغة التآمر أو طرق التخطيط في كل معسكرٍ على حدة، والبلاغة التي لم تفارق الجمَّال على الرغم من سخونة الأحداث، والحكمة الهادفة كبرهان لكل متآمر أو مًخطِط في فرض خبرته ورأيه، وقد كشف الكاتب للقارئ من خلال الحوار الوقوف على طبيعة الشخصيات الفسيولوجية، ومبادئها الأخلاقية، وخبيئات نفسياتها بل ومدى ارتباطها بعقيدتها من عدمه، وأيضا مدى الالتزام بشريعة دينها، وتعصبها لما تدين به، ونبدأ بالتآمر في المعسكر اليهودي وهو أول ما يقابل القارئ في المشهد الأول بين "شالين" وشقيقتيه: "هودت ولينا" حينما كانوا في برشلونة:
شالين: لكي نصنع للحلم وجودًا فاعلا، نخطط وندبر ولا نغفل صغيرة ولا كبيرة (يقترب من صدر المسرح) وحينما ننفذ نكون متأهلين لذلك بدقة وفكر عالي.
لينا: لا تترك الوقت ينال منا فتصدأ بداخلنا الهمة ويتوارى الحماس.
شالين: الهدف يزيد الهمة، والغاية تفجر الحماس، فلا تتعجلا.
يخبرهما شالين أن لسمو الهدف وارتفاع شأنه يحتاج منهم التمهل والدقة واختيار العناصر التي تساعدهم على التنفيذ الجيد. وتُثني عليه هودت بأنه لا يترك صغيرةً إلا وكان لها حساب لديه.
شالين: (مُؤكدًا).. كم من صغيرةٍ أبادت شعوبًا.
ويعلن شالين عن خطته لشقيقتيه، بأن تكون "لينا" من نصيب ألفونس في قشتالة، و"هودت" من نصيب المعتمد بن عباد في إشبيلية، كجاريتين يهديهما تاجر عظيم مثله لأكبر ملكين في الأندلس.
لم يلجأ إلى الكاتب لاستخدام أسلوب المسرح داخل المسرح، أو استثمار آلية "الفلاش باك" أو ما يُعرف بـ "الارتجاع الفني" أو "الاستحضار" من خلال انقطاع التسلسل الزمني أو المكاني للمسرحية لاستحضار مشهد أو مشاهد ماضية، تُلقي الضوء على موقف من المواقف أو تعلق عليه، كوسيلة لكسر الإيهام ومن ثم إعمال عقل المتلقى فيما يقرأه من أحداث تاريخية تتناول قضايا معاصرة. وكان توقيت استخدام هذه الآلية المناسب في المشهد الثاني من الفصل الأول، في الموقف الذي دار بين اعتماد والمعتمد عند تذكر يوم النهر، وهو حدث تأسيسي للعلاقة بينهما التي فجرت كل مكامن العشق في قلبيهما صنعت فورة عاطفية طازجة على الرغم من مرور الزمن، كما تشكل ركيزة تأسيسية أيضًا لنمو مشاعر الكراهية بين اعتماد وابن عمار وهي التي سيُجلِّيها السرد خلال مشاهد المسرحية، وربط يوم النهر كمقدمة بيوم الطين كنتيجة.
ربما كان السبب في تعجل الكاتب في المرور على ذكرى يوم النهر ذلك الحشد من الشعر الغنائي الذي جاء في نهاية مشاهد المسرحية باللغة العامية، وهو ما يُضعف العمل ولا حاجة للكاتب في استخدامه تعليقًا على الأحداث؛ فالمشاهد مكتفية بما فيها من عرضٍ سلس لا يستدعي تمهيد لأحداث قادمة أو التعليق على أحداث مضت، أو كوسيلة لتأجيج مشاعر القارئ، خاصة وأن معظم القصائد لا تمت للعمل بِصلة وفارقتها اللغة الدرامية وهي اللغة الأنسب للمسرح. فيا حبذا لو تنازل الكاتب عنها في طبعات قادمة، خاصةً وأن الجمَّال عمد إلى توظيف الحوار من خلال انتقاء المفردات المحكمة التي أعطـت للمسرحية عبر فصولها ثقلًا بلاغيًا وتعبيريًا وحركيًا وحيويًا تجافت عباراتها عن الخطابة الزاعقة، أو التقريرية المباشرة والوعظية.
سيلاحظ القارئ عند قراءة بعض الإرشادات المسرحية للكاتب خالد الجمال وما فيها من ملاحظـات إخراجية دون أن ينتبه؛ لكونه يضم إلى كونه كاتبا مسرحيا مخرجًا مسرحيًا أيضا، وهو ما يستحسن التخلص منه عندما يكون كاتبا فقط.
لقد نجح الجمَّال في توظيف التاريخ الأندلسي خاصة في عصر ملوك الطوائف، في هذه المسرحية، مع مخالفته للتاريخ في بعض الأحداث، منها: لقاء تاشفين بالإمام الغزالي، وهذا لكونه لم يكن أسيرًا لوقائع التاريخ؛ فدرجات الوعي عند المبدع تتفاوت بين الاستغراق في الحدث التاريخي، واستعادته في نسق جمالي يدل على الحدث أو الشخصية، كما وقع في الماضي، أو تحويره بما لا يخرج به عن سياقه الأصلي. ولهذا يستطيع الكاتب المسرحي أن يخلق تفسيرًا جديدًا للتاريخ، أو أن يخلق بناء التاريخ من خلال وجهة النظر الفنية. فالمسرحية التاريخية ليست مقصودة لأحداثها أو لسرد شخصياتها المعروفة، ولكن لبيان رموزها والقصد من كتابتها، كما أن المؤلف ليس مُطالبًا بتدوين التاريخ، فالتدوين من وظيفة المؤرخين وليس المؤلفين المبدعين، فالمؤلف غايته التي ينشدها هي الخلق وليس التأريخ. [انظر: محمد مندور: المسرح. سيد علي إسماعيل: أثر التراث في المسرح المصري. عادل النادي: مدخل إلى فن كتابة الدراما]
والحق أن كل ما تقدم بيانه قد التزم به الكاتب المسرحي خالد الجمَّال على مستوى الصدقين: الفني والتاريخي في توازن حاول فيه، قدر ما يستطيع، أن لا يجور الفن على التاريخ أو العكس، مع ما وقر في يقينه ووعيه بأهمية التاريخ الذي بدا في إهدائه، فيقول: (إلى روح كل عزيزٍ لديَّ وقد مات. إلى التاريخ الذي نسكن فيه دون أن نشعر أننا نحن التاريخ. هكذا نحن وهكذا الأيام. فلمن تكون الذكرى بعد الموت؟!).
وغاية ما أقول: أن الجمَّال قد أنجز عملًا رفيعًا، أنضجه على نار هادئة بعد قراءة متأملة لأطراف تاريخ عصر ملوك الطوائف، بل يكاد يكون قد عاشها بروحه التي حلقت في ذلك الزمان، مُصطحِبًا معه عصره الذي يعيشه ورأى التقاطعات البينية بين العصرين، في الأحداث وربما في بعض الشخصيات، فصاغ مسرحيته بنفسٍ هادئ، وعكف على أن يلبس كل شخصية لبوسها من دورها في التاريخ وفي العمل، والمفردات التي تتخاطب بها في تعابيرها، مثلما صاغ أسلوب المؤامرات في المعسكر اليهودي، وسياسات التخطيط في المعسكر الإسلامي بتنوعاته عند الإشبيليين ويمثلهم المعتمد ووزيره ابن عمار، والمرابطين في مراكش ويمثلهم ابن تاشفين، والمعسكر المسيحي عند القشتاليين ويمثله ألفونس السادس.
كما حاول الجمَّال الإحاطة بأغلب المشاهد التاريخية بملوك الطوائف، وإن اقتصر في أكثر الأحيان على ما يتصل بالمعتمد واعتماد وأولادهما، وما دار من حولهم أو انبثق عنهم، غير أنه التزم جانب الحياد الأقرب للصدق التاريخي المنبثق عن وجهة نظره الفنية في عرض الأحداث، وتناول الشخصيات؛ فأعطى كل ذي حقٍ حقه، بقدر الإمكان، ووقف في زاوية من التاريخ ناظرًا بعد أن أزاح ستارة الزمن عن المشهد الأندلسي ـ المغربي، وأوقف خلفه القارئ ليشهد معه ما يدور دون أن ينتصر لطرفٍ دون الآخر، أو يوجه سهام النقد للرميكية وزوجها، ولم يتخذ موقفًا عدائيًا من القائد ابن تاشفين في موقفه من المعتمد بل عرض وجهة نظر يوسف فيما فعل، وأسقط الحاضر على ما دار في الماضي لينذر أمته محذرًا من مغبة الوقوع في المستقبل، آخذين في الاعتبار ما تولد من نتائج أحداث يوم الطين؛ ليتداركوا في راهنيتهم التاريخية المصيرية المتخمة بالتحديات والمخاطر أيامٍ تأتي قد تكون أسوأ من الطين، متشحةً بلون السواد المنبعث من أفعال التشرذم والتشتت والهوان..
لقد كان خالد الجمَّالُ خير نذير طوال أحداث المسرحية، وقد حاول أن يسوق على لسان المعتمد حين خاطب أولاده وزوجته وجميعهم في النفي عبارات تفتح الباب على أملٍ غيبي قادم، وحميمية ووفاء بينهم على الرغم من الألم الذي يعانيه ويعانونه: (عليكم بالصبر، إنها مرحلة وستزول قريبًا.. إن شاء الله).
وهو ما نجح فيه الكاتب خالد الجمال عندما أصدر عمله المسرحي "يوم الطين" عن المسك للنشر والتوزيع عام 2021م، في ثلاثة فصول تضم خمسة عشر مشهدا ممتدًا متعاقبًا من حيث التسلسل ملتزمًا بترتيب سير الأحداث ومتجاوزًا كل فصل؛ لاعتماده على البناء التراكمي الذي يسمح للقارئ أن يتابع السرد الحواري دون توقف أو التقيد بمشاهد كل فصل على حدة.
ينبغي الإشارة إلى أن "الجمَّال" حين لجأ إلى استلهام التاريخ وتوظيفه لم يكن محاكيًا لمجرد التقليد أو التجريب، بل لإيمانه العميق بأن ذلك هو الأسلوب الأكثر تأثيرا وتحريكًا لمشاعر القارئ المعاصر، وتقديم نذارات أو بشارات للاسترشاد بها في التعامل مع المشكلات الحياتية اليومية أو المصيرية على السواء. غير أن سعد الله ونوس يرى أن استلهام بعض أشكال الفرجة التي عرفها العرب، لا يكفي لتحقيق مسرح عربي واضح الهوية، ما لم نملأ هذه الأشكال المسرحية بمضمون معاصر، استنادًا لما يراه المخرج والناقد المسرحي الفرنسي "برنار دورت" في قوله: (إننا نصنع مسرحًا انطلاقًا مما هو جوهري في حياتنا، بتعبير أدق، من تفاعل الخشبة والصالة واحتكاكهما المستمر، وهذا التفاعل لا يتم إلا إذا كانت هناك اهتمامات مشتركة لها ملامح الواقع الراهن... وإعادة سبكها لإعدادها بما يتلاءم مع الواقع الراهن). [سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ط1، دار الفكر الجديد، بيروت، 1988م].
اختار خالد الجمال عنوانا لمسرحيته: "يوم الطين"، ليس الغرض منه فقط أن يقوم بوظيفة جمالية محددة مع النص، بأن يشير إلى واقعة تاريخية حقيقية، بل مزج فيه الواقع بالمجاز اللغوي حين حمَّله دورًا رمزيًا استعاريًا مكثفًا لدلالات النص، ذلك أن يوم الطين يصلح أن يكون يوم الطيب، واليوم طين يجوز استعماله في الحالين لكون الواقعة التاريخية غير معلومة للكافة.
غير أن اختيار الجمَّال لهذا العنوان لمسرحيته، حملته مسرحية كويتية للكاتب والمخرج الكويتي الراحل سليمان الحزامي عام 1979م، ونشرها في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم. لكن مسرحية الجمَّال تتباين عنها مباينة كبيرة حتى إن احتوت كلتاهما على بعض الشخصيات الرئيسة؛ فالشخصيات الثانوية الحقيقية والمتخيلة، والإسقاطات السياسية على المشاهد التي تستدعي: السرطان اليهودي المتوغل في الدول العربية والإسلامية، وثورات الربيع العربي، والصراعات الدائرة بين الدول العربية في الجهر والخفاء، والتنديد بالسياسات المالية للحكام، وإبراز معاناة الغالبية من الشعب على المستويين الاقتصادي والسياسي تأتي بعيدة كل البعد عن مسرحية الحزامي التي تناولت صورًا لتآمر الفرنجة بالكيد والدسائس والتفريق، ودور اليهود أيضا في استخدام الجنس، والتسويف في لعبة السياسة، والمعتمد ودوره في توحيد الأندلسيين، وما أصاب بلاد الأندلس من الفرقة والانقسام والانهزام أمام الفرنجة.
وقد وظف الكاتب عناصر البناء الدرامي توظيفا فنيا، يمزج فيه مستويات عدة، ومنها عنصر الشخصيات المخترعة؛ فيظهر في عملية رسم الشخصية ووصفها جانبان: جانب الواقعية وجانب التخييل، ويتوافق الجانبان ضمن عملية ديناميكية تضفي الحياة والتجانس وفق هذين الجانبين؛ فلولا الجانب التخييلي ما قربت صورة الواقعي، والذي هو من جهة أخرى يُعد انعكاسًا لهذا العالم المتخيل المشيد. فعملية التخييل في رسم الشخصيات يجب أن تكون مقبولة وفي حدود الوعي البشري ويدركه، ليصبح الواقعي مع المتخيل جانبين لصورة واحدة شخصية متجانسة ومتكاملة.
وبدأ الجمَّال بداية موفقة في المشهد الأول بالتاجر "شالين" اليهودي وشقيقتيه "لينا" و"هودت"؛ إذ شد انتباه القارئ من خلال حوارهم وأدخله مباشرة في أحداث المسرحية وخطها الدرامي الرئيس في الصراع الدائر بين المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقرطبة في عصر ملوك الطوائف، وبين الملك ألفونسو السادس حاكم ليون وقشتالة وسيد إسبانيا فيما بعد، وقد بين الثلاث شخصيات الصراع الدائر داخل قصر المعتمد بين وزيره ابن عمار وزوجته اعتماد الرميكية، والصراع بين ألفونس السادس ملك قشتالة وريموند برانجيه الأول حاكم برشلونة، وقد ساهم الحوار التآمري في كسر الرتابة، وشكَّل الطريق الأسرع للتعرف على بعض الأحداث والشخصيات، وهذه السرعة من الفضائل عند الناقد الأمريكي "وولتر كير"؛ فهي تبعد كاتبها عن عيوب التأليف المسرحي.
ومما يثير المتعة في الصراع عندما تتبادل القوتين المتصارعتين المواقع في سير الحكاية، فيبدو أحدهما مسيطرًا في لحظة ثم يصبح مدافعًا في لحظة أخرى، وبهذا تتصاعد أنفاس المشاهدين وهم يتابعون هذا الانتقال وهذا التنوع في إيقاع الصراع، وهنا ينحاز المشاهد أو القارئ بالضرورة إلى أحد الأطراف تأييدًا لأفكار وقيم ستكون سببًا في صراعه مع نقيضه. [فرحان بلبل، النص المسرحي: الكلمة والفعل].
كما عمد الكاتب إلى الاهتمام في سرد النص بأكمله مُعتنيًا بدرجة تجانسه وتكامله، واقتصاد الكلام المتماثل في تلاؤمه مع الشخصيات والمواقف، مراعيًا الصدق، حتى في حضور الشخصيات التي اخترعها أو تخيلها وأدخلها في سير الأحداث دون اقتحام، بل في سلاسة وتناغم لم تنتقص من الأحداث الحقيقية وسيرها التاريخي، وهو ما كان بين "لينا" وألفونس في المشهد السادس من الفصل الثاني، أو بين "هودت" والمعتمد واعتماد في المشهد التاسع من نفس الفصل.
ولن يجد القارئ أية غرابة في اللقاء بين الشخصية المتخيلة "شالين" وبين الشخصية الحقيقية يوسف بن تاشفين في لقائهما الأول في "أغمات" بالمغرب، ولن تتسلل لقلبه الدهشة من الحوار الذي أستمده الكاتب من أحداث عصرنا المتأخر وزجه ببراعة بين الرجلين للدلالة عن أن الخط الدراماتيكي الجيوسياسي لليهود يمضي في استراتيجية مُحكَمة على الرغم من تغير الشخوص والحوادث، والأزمان؛ فنهجهم واحد وغايتهم واحدة:
شالين: (مُوضِحًا).. زمنٌ ولى يا أمير المؤمنين. يجب أن ننسى لكي نرسم خريطة اليوم.
ابن تاشفين: (مُنفعلًا).. وهل أنتم تنسون الماضي وتغفلون التاريخ؟!
شالين: (مُؤكدًا).. يتوقف ذلك على القدرة والقوة.
ابن تاشفين: (واقفًا وبهدوء).. قدرتكم وقوة أو ضعف خصمكم. تقاس بمقياس دقيق وعلى هذا ترسمون الغد.
وينتقل الحوار بين شالين وبن تاشفين إلى النقطة التي يريد الكاتب إبرازها باعتبارها الهدف الأسمى الذي عمل اليهود من أجل تحقيقه، وقد تحقق بالفعل، وصار واقعا:
شالين: الأهداف كثيرة، فما يتحقق منها فهو مكسب، وما لا يتحقق نسعى إلى تحقيقه، نعم تحقيقه حتى لو كان بأيدٍ غير أيدينا، ولابد أن يأتي يوم فيه نلملم شتاتنا من هذا التشرد، فمن يساعدنا غير أمير عادل يخلصنا من ألفونس وريدموند وملوك الطوائف؟
حاول الكاتب الإحاطة بأحداث الفترة التي اقتطعها من عصر الطوائف والتي تغطي حكم المعتمد ابن عباد وصراعه ضد ألفونس، واتحاده مع المرابطين ثم الانقلاب عليهم بل محاربتهم، ثم نفيه إلى أغمات بالمغرب بأمر قائد دولة المرابطين يوسف بن تاشفين بعد مباركة الفقهاء له من المغرب والأندلس والمشرق العربي أيضًا؛ ليغزو الأندلس ويوحد دولها خوفًا من الضياع، كما خاض الجمَّال في القضايا الفرعية التي تتصل بالصراعات البينية والداخلية والخارجية التي أظهرها عبر حوارات استصحبت براعة التعبير والتكثيف اللغوي الدرامي، الذي تراتب وتعاقب في منطقية انتقالات الأحداث، وتغيرها، متحاشيا الترهل، ومتجافٍ عن الإيجاز المخل في بسترة المشاهد.
ويبدو هذا بمظهرٍ جلي في بلاغة الألفاظ التي صاغها بحسب لغة التآمر أو طرق التخطيط في كل معسكرٍ على حدة، والبلاغة التي لم تفارق الجمَّال على الرغم من سخونة الأحداث، والحكمة الهادفة كبرهان لكل متآمر أو مًخطِط في فرض خبرته ورأيه، وقد كشف الكاتب للقارئ من خلال الحوار الوقوف على طبيعة الشخصيات الفسيولوجية، ومبادئها الأخلاقية، وخبيئات نفسياتها بل ومدى ارتباطها بعقيدتها من عدمه، وأيضا مدى الالتزام بشريعة دينها، وتعصبها لما تدين به، ونبدأ بالتآمر في المعسكر اليهودي وهو أول ما يقابل القارئ في المشهد الأول بين "شالين" وشقيقتيه: "هودت ولينا" حينما كانوا في برشلونة:
شالين: لكي نصنع للحلم وجودًا فاعلا، نخطط وندبر ولا نغفل صغيرة ولا كبيرة (يقترب من صدر المسرح) وحينما ننفذ نكون متأهلين لذلك بدقة وفكر عالي.
لينا: لا تترك الوقت ينال منا فتصدأ بداخلنا الهمة ويتوارى الحماس.
شالين: الهدف يزيد الهمة، والغاية تفجر الحماس، فلا تتعجلا.
يخبرهما شالين أن لسمو الهدف وارتفاع شأنه يحتاج منهم التمهل والدقة واختيار العناصر التي تساعدهم على التنفيذ الجيد. وتُثني عليه هودت بأنه لا يترك صغيرةً إلا وكان لها حساب لديه.
شالين: (مُؤكدًا).. كم من صغيرةٍ أبادت شعوبًا.
ويعلن شالين عن خطته لشقيقتيه، بأن تكون "لينا" من نصيب ألفونس في قشتالة، و"هودت" من نصيب المعتمد بن عباد في إشبيلية، كجاريتين يهديهما تاجر عظيم مثله لأكبر ملكين في الأندلس.
لم يلجأ إلى الكاتب لاستخدام أسلوب المسرح داخل المسرح، أو استثمار آلية "الفلاش باك" أو ما يُعرف بـ "الارتجاع الفني" أو "الاستحضار" من خلال انقطاع التسلسل الزمني أو المكاني للمسرحية لاستحضار مشهد أو مشاهد ماضية، تُلقي الضوء على موقف من المواقف أو تعلق عليه، كوسيلة لكسر الإيهام ومن ثم إعمال عقل المتلقى فيما يقرأه من أحداث تاريخية تتناول قضايا معاصرة. وكان توقيت استخدام هذه الآلية المناسب في المشهد الثاني من الفصل الأول، في الموقف الذي دار بين اعتماد والمعتمد عند تذكر يوم النهر، وهو حدث تأسيسي للعلاقة بينهما التي فجرت كل مكامن العشق في قلبيهما صنعت فورة عاطفية طازجة على الرغم من مرور الزمن، كما تشكل ركيزة تأسيسية أيضًا لنمو مشاعر الكراهية بين اعتماد وابن عمار وهي التي سيُجلِّيها السرد خلال مشاهد المسرحية، وربط يوم النهر كمقدمة بيوم الطين كنتيجة.
ربما كان السبب في تعجل الكاتب في المرور على ذكرى يوم النهر ذلك الحشد من الشعر الغنائي الذي جاء في نهاية مشاهد المسرحية باللغة العامية، وهو ما يُضعف العمل ولا حاجة للكاتب في استخدامه تعليقًا على الأحداث؛ فالمشاهد مكتفية بما فيها من عرضٍ سلس لا يستدعي تمهيد لأحداث قادمة أو التعليق على أحداث مضت، أو كوسيلة لتأجيج مشاعر القارئ، خاصة وأن معظم القصائد لا تمت للعمل بِصلة وفارقتها اللغة الدرامية وهي اللغة الأنسب للمسرح. فيا حبذا لو تنازل الكاتب عنها في طبعات قادمة، خاصةً وأن الجمَّال عمد إلى توظيف الحوار من خلال انتقاء المفردات المحكمة التي أعطـت للمسرحية عبر فصولها ثقلًا بلاغيًا وتعبيريًا وحركيًا وحيويًا تجافت عباراتها عن الخطابة الزاعقة، أو التقريرية المباشرة والوعظية.
سيلاحظ القارئ عند قراءة بعض الإرشادات المسرحية للكاتب خالد الجمال وما فيها من ملاحظـات إخراجية دون أن ينتبه؛ لكونه يضم إلى كونه كاتبا مسرحيا مخرجًا مسرحيًا أيضا، وهو ما يستحسن التخلص منه عندما يكون كاتبا فقط.
لقد نجح الجمَّال في توظيف التاريخ الأندلسي خاصة في عصر ملوك الطوائف، في هذه المسرحية، مع مخالفته للتاريخ في بعض الأحداث، منها: لقاء تاشفين بالإمام الغزالي، وهذا لكونه لم يكن أسيرًا لوقائع التاريخ؛ فدرجات الوعي عند المبدع تتفاوت بين الاستغراق في الحدث التاريخي، واستعادته في نسق جمالي يدل على الحدث أو الشخصية، كما وقع في الماضي، أو تحويره بما لا يخرج به عن سياقه الأصلي. ولهذا يستطيع الكاتب المسرحي أن يخلق تفسيرًا جديدًا للتاريخ، أو أن يخلق بناء التاريخ من خلال وجهة النظر الفنية. فالمسرحية التاريخية ليست مقصودة لأحداثها أو لسرد شخصياتها المعروفة، ولكن لبيان رموزها والقصد من كتابتها، كما أن المؤلف ليس مُطالبًا بتدوين التاريخ، فالتدوين من وظيفة المؤرخين وليس المؤلفين المبدعين، فالمؤلف غايته التي ينشدها هي الخلق وليس التأريخ. [انظر: محمد مندور: المسرح. سيد علي إسماعيل: أثر التراث في المسرح المصري. عادل النادي: مدخل إلى فن كتابة الدراما]
والحق أن كل ما تقدم بيانه قد التزم به الكاتب المسرحي خالد الجمَّال على مستوى الصدقين: الفني والتاريخي في توازن حاول فيه، قدر ما يستطيع، أن لا يجور الفن على التاريخ أو العكس، مع ما وقر في يقينه ووعيه بأهمية التاريخ الذي بدا في إهدائه، فيقول: (إلى روح كل عزيزٍ لديَّ وقد مات. إلى التاريخ الذي نسكن فيه دون أن نشعر أننا نحن التاريخ. هكذا نحن وهكذا الأيام. فلمن تكون الذكرى بعد الموت؟!).
وغاية ما أقول: أن الجمَّال قد أنجز عملًا رفيعًا، أنضجه على نار هادئة بعد قراءة متأملة لأطراف تاريخ عصر ملوك الطوائف، بل يكاد يكون قد عاشها بروحه التي حلقت في ذلك الزمان، مُصطحِبًا معه عصره الذي يعيشه ورأى التقاطعات البينية بين العصرين، في الأحداث وربما في بعض الشخصيات، فصاغ مسرحيته بنفسٍ هادئ، وعكف على أن يلبس كل شخصية لبوسها من دورها في التاريخ وفي العمل، والمفردات التي تتخاطب بها في تعابيرها، مثلما صاغ أسلوب المؤامرات في المعسكر اليهودي، وسياسات التخطيط في المعسكر الإسلامي بتنوعاته عند الإشبيليين ويمثلهم المعتمد ووزيره ابن عمار، والمرابطين في مراكش ويمثلهم ابن تاشفين، والمعسكر المسيحي عند القشتاليين ويمثله ألفونس السادس.
كما حاول الجمَّال الإحاطة بأغلب المشاهد التاريخية بملوك الطوائف، وإن اقتصر في أكثر الأحيان على ما يتصل بالمعتمد واعتماد وأولادهما، وما دار من حولهم أو انبثق عنهم، غير أنه التزم جانب الحياد الأقرب للصدق التاريخي المنبثق عن وجهة نظره الفنية في عرض الأحداث، وتناول الشخصيات؛ فأعطى كل ذي حقٍ حقه، بقدر الإمكان، ووقف في زاوية من التاريخ ناظرًا بعد أن أزاح ستارة الزمن عن المشهد الأندلسي ـ المغربي، وأوقف خلفه القارئ ليشهد معه ما يدور دون أن ينتصر لطرفٍ دون الآخر، أو يوجه سهام النقد للرميكية وزوجها، ولم يتخذ موقفًا عدائيًا من القائد ابن تاشفين في موقفه من المعتمد بل عرض وجهة نظر يوسف فيما فعل، وأسقط الحاضر على ما دار في الماضي لينذر أمته محذرًا من مغبة الوقوع في المستقبل، آخذين في الاعتبار ما تولد من نتائج أحداث يوم الطين؛ ليتداركوا في راهنيتهم التاريخية المصيرية المتخمة بالتحديات والمخاطر أيامٍ تأتي قد تكون أسوأ من الطين، متشحةً بلون السواد المنبعث من أفعال التشرذم والتشتت والهوان..
لقد كان خالد الجمَّالُ خير نذير طوال أحداث المسرحية، وقد حاول أن يسوق على لسان المعتمد حين خاطب أولاده وزوجته وجميعهم في النفي عبارات تفتح الباب على أملٍ غيبي قادم، وحميمية ووفاء بينهم على الرغم من الألم الذي يعانيه ويعانونه: (عليكم بالصبر، إنها مرحلة وستزول قريبًا.. إن شاء الله).