كتب إليَّ الأديب صاحب الإمضاء من خطاب يقول فيه بعد تمهيد:
(إن الإنسان يفيد دائماً من التجارب المادية. فالأطباء مثلاً يهتدون بالتجارب الماضية ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب. فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول أن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية. فمثلاً حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر. . . وعندنا مثلاً أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيراً مصوراً ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولاً أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثاً لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك. . . فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء ويعج في الألم واليأس؟. . . وأريد أن أقول أيضاً: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقياً وازدهاراً، أم عندئذ تنتفي الحياة؟)
وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة)، فإني من قرائها المدمنين
(دمنهور)
صلاح المسيري
ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنكليزي الحديث ستيفنسن إننا حين نقول للشاب: هكذا أيضاً كنا نفهم في شبابنا فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة! وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها ولا استثناء فيها. فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!
وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة!
والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين
وخيراً تصنع الحياة إذ تجعل كل حي مستقلاً بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه. فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون
وفرقي شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه؛ ولكني أستطيع أن اجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!
لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر (بالنيابة) عني وإلغائي لشعوري أنا معتمداً على ما جربه واهتدى إليه. أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعاً على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل
وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم ولكنها مسألة رياضة
فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلى السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق؛ ولكنه (ريض) على حالة لا يستطيع غيرها ولو فهم أن غيرها هو الصواب
ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا إن (الصبر مفتاح الفرج) تفهم لفظاً ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس؛ وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة على تلك الكلمات الثلاث!
إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا. فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع من الحوادث والتجارب دون أن (نأكلها) كما أكلها الذين من قبلنا
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء؛ وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام؛ وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك؛ وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين
والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء؛ فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها لأنها مختلفة المنحى والنتيجة. ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات. ويسافر إلى القطر الواحد مرات ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها ولا تنسخها التي تليها
وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة
والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات، لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه. فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلقٍّ ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال
وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية؛ أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة ما يراد منها وما لا يراد
قيل أن السعيد من وعظ بغيره. ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه (شعوراً) غير أصيل فيه! أما إن اتعظ أصيلاً في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه. فليس هو بعالة على تجربة غيره، وليست تجربة غيره إلا تذكيراً لناسٍ أو تنبيهاً لغافل
ولنتخيل عالماً يستريح الناس فيه من (المبالاة) فماذا يبقى لهم من الحياة؟
ماذا يبقى من الحياة لمن لا يبالون الخوف والرجاء ولا يحنون إلى ماض ولا يتوقون إلى غد ولا يحفلون بحاضر؟
العريان في القافلة مرتاح
وهذا عري في قافلة الحياة!
ولاشك أن التجارب تعلمنا كثيراً أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟
إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء لا على حسب ما يستفيده من العناء
ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون، لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها
إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة. ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال. ألانها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا. . . بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط. . . فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة (المجربة) فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختيارها ما ضاع (بالتجربة) على غير اختيار؟
ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب وقد راضتك الحوادث على اجتنابه!! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وإن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك. بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي مادامت لك طاقة بالطلوع والنزول
فقلة المبالاة لا قيمة لها أن لم تأت بعد مبالاة، لأنها تكون يومئذ مرضاً أو قصوراً لا يغبط عليه. ولابد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية. وليس شرطاً مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر وعلى ثقة أوضح وأبصر. . . ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه
فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلاً واحداً يعالج مشكلات الحياة ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها. وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 407
بتاريخ: 21 - 04 - 1941
(إن الإنسان يفيد دائماً من التجارب المادية. فالأطباء مثلاً يهتدون بالتجارب الماضية ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب. فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول أن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية. فمثلاً حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر. . . وعندنا مثلاً أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيراً مصوراً ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولاً أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثاً لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك. . . فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء ويعج في الألم واليأس؟. . . وأريد أن أقول أيضاً: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقياً وازدهاراً، أم عندئذ تنتفي الحياة؟)
وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة)، فإني من قرائها المدمنين
(دمنهور)
صلاح المسيري
ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنكليزي الحديث ستيفنسن إننا حين نقول للشاب: هكذا أيضاً كنا نفهم في شبابنا فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة! وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها ولا استثناء فيها. فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!
وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة!
والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين
وخيراً تصنع الحياة إذ تجعل كل حي مستقلاً بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه. فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون
وفرقي شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه؛ ولكني أستطيع أن اجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!
لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر (بالنيابة) عني وإلغائي لشعوري أنا معتمداً على ما جربه واهتدى إليه. أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعاً على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل
وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم ولكنها مسألة رياضة
فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلى السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق؛ ولكنه (ريض) على حالة لا يستطيع غيرها ولو فهم أن غيرها هو الصواب
ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا إن (الصبر مفتاح الفرج) تفهم لفظاً ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس؛ وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة على تلك الكلمات الثلاث!
إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا. فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع من الحوادث والتجارب دون أن (نأكلها) كما أكلها الذين من قبلنا
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء؛ وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام؛ وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك؛ وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين
والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء؛ فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها لأنها مختلفة المنحى والنتيجة. ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات. ويسافر إلى القطر الواحد مرات ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها ولا تنسخها التي تليها
وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة
والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات، لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه. فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلقٍّ ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال
وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية؛ أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة ما يراد منها وما لا يراد
قيل أن السعيد من وعظ بغيره. ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه (شعوراً) غير أصيل فيه! أما إن اتعظ أصيلاً في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه. فليس هو بعالة على تجربة غيره، وليست تجربة غيره إلا تذكيراً لناسٍ أو تنبيهاً لغافل
ولنتخيل عالماً يستريح الناس فيه من (المبالاة) فماذا يبقى لهم من الحياة؟
ماذا يبقى من الحياة لمن لا يبالون الخوف والرجاء ولا يحنون إلى ماض ولا يتوقون إلى غد ولا يحفلون بحاضر؟
العريان في القافلة مرتاح
وهذا عري في قافلة الحياة!
ولاشك أن التجارب تعلمنا كثيراً أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟
إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء لا على حسب ما يستفيده من العناء
ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون، لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها
إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة. ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال. ألانها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا. . . بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط. . . فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة (المجربة) فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختيارها ما ضاع (بالتجربة) على غير اختيار؟
ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب وقد راضتك الحوادث على اجتنابه!! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وإن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك. بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي مادامت لك طاقة بالطلوع والنزول
فقلة المبالاة لا قيمة لها أن لم تأت بعد مبالاة، لأنها تكون يومئذ مرضاً أو قصوراً لا يغبط عليه. ولابد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية. وليس شرطاً مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر وعلى ثقة أوضح وأبصر. . . ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه
فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلاً واحداً يعالج مشكلات الحياة ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها. وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 407
بتاريخ: 21 - 04 - 1941