مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج1

1-
حبحب رمّان ج1



نوبة شتاء قاسية، حلّ اللّيل وعاند الثلج المندوف واستمرّ يتساقط، وما فتىء إلاّ أن عاند الربيع بدوره وأرسل بطيف من أطيافه، فتسلّل وبان في حزّة البرد فكان ثلجا وبقايا ربيع تجلّى في الحكّاءة الهلايلية "عنق حمام".

حرّكت قطع الجمر في الكانون فاستعر، نثرت عليه عنبر مكّة فتصاعدت أبخرة عبقت المكان، فساد الدفء و الأمان . جلست "عنق حمام" على زربية من صوف، واتّكأت على نمرق من حرير مطرّز بخيطان من فضة، وتربّعت على كثب من قدميه، كانت مقابلة إياه بجسد أهيف وشعر أسود ناعم طويل منسدل بعضه على أطرافها وبعضه على الزربية، مدّت ساقيها إلى الأمام حتى بدت وكأنّها حورية بحر ظهرت من زمن الحكايا. فما كان إلاّ أن ضاعت ملامح حزنه وعلامات نصبه، وحلّت بشائر الرضا وانفرجت أساريره، فبدت بهجته.

حدّق الشيخ "خليفة الزناتي" بها مليّا ثم قال بنبرة ملهوفة:

ــــ هل ستكون حكاية اليوم مشوّقة كسابقتها؟

تبسّمت عنق حمام، فلمع ثغرها بلؤلؤ منضود ارتسم خلف شفتين ناعمتين ساهم ضوء القنديل القريب منها في إبراز فتنتهما، قالت بصوت خافت واعد:

ـــ حكاية اليوم تصنع التفرّد والاختلاف سيّدي .

هبّ الشيخ خليفة من مكانه أين كان يجلس مستلقيا، وقال متلهّفا:

ـــ عليك بها إذن.

شرعت عنق حمام تروي الحكاية فقالت:

أخرجت كيسا كانت تدسّه في صدرها، رمت به عليهم وقالت:

ـــ هذا دليل براءتي وعفّتي ...

كانت تدنو من شهرها التاسع، والحبل يعاند معها، يثقلها ويتعبها ويمنّيها راحت تجمع قطع القماش القطني الأبيض، التي كانت قد قصّتها قطعا صغيرة من أجل وليدها. دخل في تلك اللّحظة ابنها البكر "نجم الدين".

شاب أسمر طويل وسيم قويّ البنية يشبه والده، وليست صفة القوّة والوسامة بغريبة عن قوم من أصول هلايلية، كان كلّ إخوته العشرة يشبهونه في الملامح و بنية الجسد، رأى نجم الدين أن ينوب عن إخوته لتبليغ أمّهم الحبلى بقرارهم نظر نحو أمّه وقال بنبرة حاسمة:

ـــ لقد أجتمعت بإخوتي وقرّرنا أن نهجر القرية إذا كان المولود ذكرا.

ـــ وما ذنبي أنا يا ولد قلبي، أن أفقدكم لسبب ليس لي حيلة فيه؟

اغرورقت عيناه وأحنى رأسه وغادر غرفة والدته. وهو في طريقه إلى الحقل التقى خادمة والدته ومربيته، سألته عن سبب الحزن الّذي يخيّم على وجهه:

ـــ لم أرك مدلهم الوجه مثلما أنت عليه اليوم يا ولدي .

ـــ يا خالة شامة، نحن عشرة إخوة، ونتوق إلى أن تكون لنا أخت واتفقت مع إخوتي أن نهجر الدار والقرية كلّها إذا أنجبت أمنا ولدا ذكرا .

ـــ ما أقسى حكمكم وقراركم يا ولدي! وهل الأمر بيد أمّكم أو حتى بيد شخص آخر ؟ كلّ ما يرزقنا الله من ذرّية مرحبا بها ذكر كانت أو أنثى.

ـــ هذا ليس قراري وحدي،ولكنّه قرارنا نحن العشرة. وإنّي أطلب منك طلبا عزيزا يا خالة شامة.

ـــ طلبك أمر يا ولدي، لا يعزّ عليك كلّ ما أقدر عليه .

ـــ يوم ولادة أمّي يوم فارق وحاسم في حياتنا ومصيرنا، كلّ ما أطلبه منك أن تريننا المنجل إذا أنجبت ولدا، وتريننا الراية البيضاء إذا أنجبت بنتا ولا أوصيك بالعناية الفائقة بها.

ـــ وهل توصيني بسيّدتي وسيّدة نساء القرية وولية نعمتي؟!

يتبع....



بقلم ليلى تبّاني من قسنطينة




1725360477298.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى