تهزّ الصبيّة رِجْلَها من تحت الطاولة. تحاول بكلِّ ما تملك من تركيز أن تتابع الحديث، وأن تقْرنَه بالغمزات وحركاتِ الحواجب والأفواه والأجسام، لكي تَفهم الكلماتِ وما وراءها.
أمام الطاولة المستطيلة خمسُ نساء، ثلاثٌ منهنّ عربيّات، ورجلٌ عربيّ. الباقيتان تبدوان أشبهَ بسمكتين دخلتا للمرة الأولى بحارًا تسكنُها شعوبٌ ملوّنة. لو سُجِّل ما قيل على الطاولة من دون معرفة جنسيّات المتكلّمين، لتفاجأ المستمعُ بصمت الرجل، ولظّن أنّ الأجنبيتيْن هما المتكلِّمتان وحدهما، بينما العربيّات مقطوعاتُ النفس منبهراتٌ بالعالم الذي ينفتح أمامهنّ!
لبُّ الموضوع في هذه الجلسة، الملوّنةِ بصحونٍ ومشروباتٍ، وبصوت عبد الوهّاب في الخلفيّة، طوال ستّ ساعات متتالية، هو الجنس... بلغاتِه وسيطرتِه وتوقّعاته. بين ممارساتنا اليوميّة الكثيرة كمٌّ بسيطٌ من الأعمال التي لا نناقشها عادةً، والجنس ــــ أو بالأحرى علاقتُنا الجنسيّة بجسدِنا وبالأجساد الأخرى ــــ أحدُها.
لا بدّ لنا من أن نعترفَ بدايةً بـ"ترف" نقاش موضوعٍ كهذا، بشكل مريح وغيرِ مخفيّ، وبين نسوةٍ غيرِ متزوّجات، خصوصًا في مجتمعات "محافظة." لكنّ طرح هذا الموضوع خطوةٌ سياسيّةٌ بامتياز كذلك، لأنّها تشمل استرجاعَ مساحةٍ مهمّةٍ من الصراع ضدّ النظام البطريركيّ الرأسماليّ المهيمن، وتوسيعَ المجال من أجل طرح موقفنا التحرّريّ منه.
ننطلق هنا من سرديّاتٍ تتحدّى التوقّعاتِ التقليديّة، المتجذّرةَ في موقفيْن تعميميّيْن: نساءُ العالم الثالث لا يمارسن الجنسَ خارج الدوائر المعروفة والمقبولة؛ أو أنّهن "الفاكهةُ المحرَّمةُ" التي تستعيد في ذهن الرجال مشاهدَ ملوّنةً من أفلامٍ استشراقيّةٍ لإماءِ المتعة وحريمِ السلطان.
ومن ثمّ نطرح السؤاليْن الأساسيّين الآتييْن:
كيف يبني الأفراد، ذكورًا وإناثًا، مفهومَهم للجنس وللعلاقة بأجسادِهم: أبتماهٍ مع الخطاب الثقافيّ السائد، أمْ بمقاومته؟
وكيف تتدخّل السلطةُ في عمليّة البناء هذه، وكيف تُسطِّح التنوّع؟
يُملي النظامُ البطريركيُّ شكلَ علاقة الفرد، أنثى أو ذكرًا، بجسمه، من حيث حجمُه ولونُه وشكلُه "المفترض،" ومن حيث أداؤه "المتوقّع." وهو من هنا يبدأ بإبعادنا عن أجسادنا، وبتسليطنا رقباءَ (بدلًا منه) عليها، فنكرهُها إنْ لم تتوافقْ والموازينَ التي تشرّبْناها. كما يَحكم هذا النظامُ طريقةَ تصرّفنا بأجسادنا، وحدودَ حريّتنا بها: "هنا يُسمح لكِ باستخدام الإغراء، وهناك تُمنعين من الإغراء؛ هنا تكونين تحت الرقابة العائليّة، وهناك ستخضعين لرقابة نساء الحارة أو لرقابة سلطة الدين..." وبين الأداءات التي "يُتوقّع" منّا أن نَشغلَها، لا مساحةَ أمامنا كي نكون كما نريد، وكما نرتاح. وهذا ينطبق إلى حدٍّ ما على الرجال أنفسِهم، كما في حالة الرقص مثلًا: فالرقص انفلاتٌ للجسد من قيوده، ومن تمظهراتِ هذا الانفلات: "النعومة" و"الرقّة" و"الأنوثة" ــــ والمجتمعُ لا يسمح للرجل بأن يبدو "أنثويًّا" في أيّة لحظة من لحظات عيشه.
***
تبدأ الأزمةُ من طفولتنا، من بناء نظرتنا إلى أجسامنا في تلك المرحلة المبكّرة، من مفهوم الـ"عيب" الذي يمتدّ من إظهار الأعضاء حتى تسميتها.
أذكرً موظّفةً في الرابعة والعشرين، كانت تأتي إلينا كلَّ يوم بقصصٍ مملّةٍ عن طفلتها وكلامها وألعابها. إلى أن قالت لنا يومًا إنّ الطفلة سألتْ عن "هولْ." نظرتُ إليها وكنّا وحدنا في المكتب. "شو هنّي هول؟" سألتُها. احمرّ وجهُها وهي تعيد لي غامزةً بعينيْها: "هول،" ونظرتْ تحت ذقنها. "آه، الصدر، ايه عادي، قوليلها." "لا، ييي، شو قلّها؟ بكرا كمان بتصير تسألني عن تحت". لم تستطع أن تسمّي أيًّا من أعضاء جسمها، علمًا أنّنا أنثيان وفي غرفةٍ مقفلة.
هكذا ننقل مخاوفَنا إلى أطفالنا، بأشكالٍ مختلفة، وبمصطلحاتٍ ومفاهيمَ مبهمة، أو بالصمت، أو بالتعيير، أو بفرض لباسِ بحرٍ يغطّي "صدرَ" طفلةٍ في الخامسة، ونصبغ وعيَهم بجنسانيّةٍ لا يملكونها. وحين يصبحون راشدين، نحرمُهم معرفةَ ماهيّة الجنس، ومن ثمّ ماهيّة أجسادهم وكيفيّةَ التصرّف معها. هناك العديد من الفتيات اللواتي يصلن إلى سنّ البلوغ من دون أدنى تحضير نفسيّ وعمليّ لهذه المرحلة، ومن دون أن تخبرَهنّ أمّهاتُهنّ أو أخواتُهنّ بالتغيير الذي سيطرأ عليهنّ. كثيراتٌ منّهن أصابتهنّ صدمةٌ نفسيّةٌ عند البلوغ، واعتقدن أنّ ما يجري "غير طبيعيّ" أو أنّ حياتَهن الاجتماعيّة ستنتهي.
أذكر أنّنا كنّا في الرابعة عشرة حينما استَقدمت الراهباتُ، في مدرسة البنات التي كنتُ أدْرس فيها، جمعيّةً غيرَ حكوميّة لتفسّرَ لنا طرقَ الإنجاب وأساليبَ منع الحمل. كانت الراهبة تخرج من الصالة كلَّ عشر دقائق محمرّةَ الوجه (أمْ ترانا نحن تخيّلناها كذلك؟)، وتبقى دقائقَ طويلةً في الخارج قبل أن تعود.
الراهبات استقدَمن مَن يُكلّمُنا عن الجنس، إذن. والأمّهات استدعين الخالاتِ أو الجاراتِ ليفسّرن لنا الدورةَ الشهرية. هناك دائمًا أنثى "أخرى،" "أبعد،" تأتي لتكلّمنا عن أقرب الأشياء إلينا، لا لعلّةٍ فينا، بل لاستحياءِ الأهل والمسؤولين عن التربية من مواجهة أسئلة الأطفال والمراهقين عن الجسد وحاجاته.
المشكلة تبدأ هنا إذًا: في تعليمنا "الحياءَ" من أجسامنا ومن تغييراتها. فيغدو عاديًّا بعد سنوات أن "تخفي" المرأةُ دورتَها الشهريّة، وأن تخترعَ لها أسماءً، وأن تعبّر عنها بغمزاتٍ وضحكاتٍ واحمرارِ وجه. أذكر مرّةً أنّني كنتُ في سيّارة أجرة مع صديقتي فقالت لي: "بكرا جاية التانت روز." ولم أكن أعرف هذا المصطلح التمويهيّ، ولم أفهم لِمَ تخبرني عن زيارة خالةٍ أو عمّةٍ لها اسمُها "روز." قلت لها: "ومين التانت روز يعني؟ وتجي، شو بعملها يعني؟!"
وأسألُ كلًّ واحدةٍ منكنّ: كم مرّةً كنتِ تجلسين في مجموعة من الناس، فاقتربتْ منكِ صديقةٌ أو امرأةٌ لا تعرفينها، وسألتْكِ أنْ كان يظهر "شيء" على بنطلونها، ثم مشت أمامكِ، بتمثيليّةٍ مكشوفة، فرحتِ تنظرين إلى مؤخّرتها؛ حتى إذا ادارت وجهَها إليكِ، ابتسمتِ لها مطمْئِنةً؟
ثم تأتي الممارساتُ الجنسيّةُ أو غيابُها. وهنا يسقط التصنيفُ الذكوريُّ بكامل ثقله على رؤوس النساء والرجال معًا. عند المرأة، هناك الثنائيّةُ "الأخلاقيّة" الأبديّة: فهي إمّا العاهرة، أو القدّيسة/المحرومة. أمّا عند الرجل، فالتصنيفاتُ تتعلّق بقوته: فهو إمّا "الفحل،" أو "المحلول." وتتنوّع الضغوط على الجنسيْن، دافعةً إيّاهما في اتجاهاتٍ متعارضةٍ أحيانًا، وبرغباتٍ قد لا تكون رغباتِهما الحقيقيّة. وهكذا نجد المجتمعَ يفرض على المراهق أن يمتلك خبرةً جنسيّةً، ولكنّه يمنع المراهقةَ من معرفة ماهيّة الممارسة الجنسيّة أو حاجاتِ جسمها.
***
على أننا نمتلك إمكانيّةَ تحدّي الانبطاح أمام موازين النظام المهيمن، وذلك عبر مساحة ضيّقة جدًّا، هي أجسامُنا وعلاقاتُها بعضها ببعض. لكنّ هذه المساحة الضيّقة هي من أكبر ساحات الصراع مع النظام وأهمِّها. تقول أودري لورد إنّنا "بنينا، داخل كلٍّ منّا، تخطيطاتٍ قديمةً من التوقّعات والاستجابات، وبنًى عتيقةً من القمع، وهي أشياءُ يجب أن تتغيّر، في الوقت الذي نغيّر فيه شروطَ العيش التي نشأتْ عن تلك البنى. ذلك لأنّ أدوات السيّد لن تفكّك منزلَه قطّ."(1)
البداية، إذن، ممّا نملك، من الأقرب إلينا: من أجسادنا، التي لا نستطيع الحركة والتفكيرَ والعمل والفعل من دونها.
إنّ المعنى الاجتماعيّ للممارسات الجنسيّة، ولعلاقتنا بأجسامنا، إنّما هو بنيةٌ ثقافيّة. والبنية الثقافيّة تتغيّر تاريخيًّا وجغرافيًّا؛ بمعنى أنّ عدم ثباتها برهانٌ على إمكانيّة خرقِها أو التفاوضِ عليها. ونحن لا نتقبّل هذه البنية ولا نراها "نهائيّةً" إلّا لأنّنا تربّينا عليها، عبر الأهل والمجتمع، وتمّ تكييفُنا على "أبديّتها" وعلى كونها مفاهيمَ مطلقة.
إنّ الممارسات الاجتماعيّة التي تُنتج نظرتَنا إلى الجنس، أو البنى الجنسانية، قد تظهر بمظهر فرديّ، لكنها تأتي نتيجةً لمنظومةٍ اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ متكاملة. وقد تبدو مقاومتُنا لها فرديّةً ومحدودةً أيضًا، إلّا أنها تستطيع أن تعيد ترتيبَ العلاقات وما هو "متوقّع" منها. فبينما تبدو الحدود المنظِّمة لعلاقاتنا بأجسامنا أبديّةً وقاطعةً، فإنّنا لا بدّ من أن نجد مساحاتٍ نستطيع عبرها ثقبَ فجواتٍ للمرور، بكلّ تضاريسنا.
تقول أودري لورد، عملاقةُ الفكر النسويّ: "لقد توصّلتُ إلى الإيمان، مرّةً بعد مرّة، بأنّ ما هو مهمٌّ بالنسبة إليّ عليه أن يقال، أن يصبح محكيًّا، أن تتمّ مشاركتُه [مع الآخرين]، وإنْ كان هناك خطرُ تحطيمِه أو إساءةِ فهمه."(2)
الجسد هو أقرب شيء إلينا، كما سبق القول. لا نعرف معنى الوجود خارجه، من دونه، أو في شيءٍ سواه. وهذا يعني أنّه أوّلُ شيءٍ وأكثرُ شيء نستطيع التحكّمَ به. وهذا ما يرهب النظامَ بشكلٍ قاتل: إذ كيف له أن يتركَ لنا، لإرادتنا الخالصة كأفراد، لأهوائنا ومعتقداتنا، أن تتحكّم بشيء هو الأساسُ في وجودنا الحسيّ؟ لماذا يتدخّل المجتمع، عبر أعتى أذرعه (أي الدين)، من أجل توجيه العلاقات الجنسيّة و"تصحيحها"؟ لا شكّ في أنّ النظام المهيمن يخاف كثيرًا من المسائل التي تحرِّر الإنسانَ؛ وإنّ معرفةً أكبرَ بأجسادنا ستمكّننا من مقاومة الهيمنة الذكوريّة، ومن المناورة بين السلطات والكلمات.
بين الأغطية الدافئة، يتبادل الناسُ الكثير: السوائلَ، واللمساتِ، والأمراضَ، والكلماتِ، والمخاوفَ، والآمال. يُستعمل تعبير "pillow talk" بالإنكليزيّة، أيْ "حديث المخدّة"، وهو ذلك الحديث الحميم الذي يحدث بعد ممارسة الجنس أو قبلها. وهو حديثٌ عادةً ما يكون شخصيًّا جدًّا. يضغط المجتمع عادةً على الرجال والنساء من أجل عدم التعبير عن مخاوفهم ومشاعرهم ولحظات انعدام الأمن عندهم، فيأتي حديثُ المخدّة خرقًا لهذه الصنميّة، ومجالًا لانفتاح الأشخاص بعضهم على بعض.
بين الأغطية الدافئة، خيالُ ليلة طويلة مازال ينبض. وبين الأجساد وحركتها، صمتٌ مطبق. لا نتكلّم عمّا حدث، لا نتكلّم عمّا أردنا أن يحدث. النظام البطريركيّ يقول لنا: "تكونون هكذا، حتى في أكثر لحظاتكم ولحظاتكنّ حميميّةً." ونحن نستمع إليه، ونمشي الطريق الذي شقّه. لكنْ، إذا أردنا أن نزيحَ، ولو قليلًا، غشاوةَ هذا النظام عن أعيننا، فلا بدّ من أن نبدأ بما نستطيع التحكّمَ به. ولا بدّ من أن نعتبر تحكّمنا بأجسادنا خطوةً أوليّةً في التحكّم بحيواتنا.
بيروت
أمام الطاولة المستطيلة خمسُ نساء، ثلاثٌ منهنّ عربيّات، ورجلٌ عربيّ. الباقيتان تبدوان أشبهَ بسمكتين دخلتا للمرة الأولى بحارًا تسكنُها شعوبٌ ملوّنة. لو سُجِّل ما قيل على الطاولة من دون معرفة جنسيّات المتكلّمين، لتفاجأ المستمعُ بصمت الرجل، ولظّن أنّ الأجنبيتيْن هما المتكلِّمتان وحدهما، بينما العربيّات مقطوعاتُ النفس منبهراتٌ بالعالم الذي ينفتح أمامهنّ!
لبُّ الموضوع في هذه الجلسة، الملوّنةِ بصحونٍ ومشروباتٍ، وبصوت عبد الوهّاب في الخلفيّة، طوال ستّ ساعات متتالية، هو الجنس... بلغاتِه وسيطرتِه وتوقّعاته. بين ممارساتنا اليوميّة الكثيرة كمٌّ بسيطٌ من الأعمال التي لا نناقشها عادةً، والجنس ــــ أو بالأحرى علاقتُنا الجنسيّة بجسدِنا وبالأجساد الأخرى ــــ أحدُها.
لا بدّ لنا من أن نعترفَ بدايةً بـ"ترف" نقاش موضوعٍ كهذا، بشكل مريح وغيرِ مخفيّ، وبين نسوةٍ غيرِ متزوّجات، خصوصًا في مجتمعات "محافظة." لكنّ طرح هذا الموضوع خطوةٌ سياسيّةٌ بامتياز كذلك، لأنّها تشمل استرجاعَ مساحةٍ مهمّةٍ من الصراع ضدّ النظام البطريركيّ الرأسماليّ المهيمن، وتوسيعَ المجال من أجل طرح موقفنا التحرّريّ منه.
ننطلق هنا من سرديّاتٍ تتحدّى التوقّعاتِ التقليديّة، المتجذّرةَ في موقفيْن تعميميّيْن: نساءُ العالم الثالث لا يمارسن الجنسَ خارج الدوائر المعروفة والمقبولة؛ أو أنّهن "الفاكهةُ المحرَّمةُ" التي تستعيد في ذهن الرجال مشاهدَ ملوّنةً من أفلامٍ استشراقيّةٍ لإماءِ المتعة وحريمِ السلطان.
ومن ثمّ نطرح السؤاليْن الأساسيّين الآتييْن:
كيف يبني الأفراد، ذكورًا وإناثًا، مفهومَهم للجنس وللعلاقة بأجسادِهم: أبتماهٍ مع الخطاب الثقافيّ السائد، أمْ بمقاومته؟
وكيف تتدخّل السلطةُ في عمليّة البناء هذه، وكيف تُسطِّح التنوّع؟
يُملي النظامُ البطريركيُّ شكلَ علاقة الفرد، أنثى أو ذكرًا، بجسمه، من حيث حجمُه ولونُه وشكلُه "المفترض،" ومن حيث أداؤه "المتوقّع." وهو من هنا يبدأ بإبعادنا عن أجسادنا، وبتسليطنا رقباءَ (بدلًا منه) عليها، فنكرهُها إنْ لم تتوافقْ والموازينَ التي تشرّبْناها. كما يَحكم هذا النظامُ طريقةَ تصرّفنا بأجسادنا، وحدودَ حريّتنا بها: "هنا يُسمح لكِ باستخدام الإغراء، وهناك تُمنعين من الإغراء؛ هنا تكونين تحت الرقابة العائليّة، وهناك ستخضعين لرقابة نساء الحارة أو لرقابة سلطة الدين..." وبين الأداءات التي "يُتوقّع" منّا أن نَشغلَها، لا مساحةَ أمامنا كي نكون كما نريد، وكما نرتاح. وهذا ينطبق إلى حدٍّ ما على الرجال أنفسِهم، كما في حالة الرقص مثلًا: فالرقص انفلاتٌ للجسد من قيوده، ومن تمظهراتِ هذا الانفلات: "النعومة" و"الرقّة" و"الأنوثة" ــــ والمجتمعُ لا يسمح للرجل بأن يبدو "أنثويًّا" في أيّة لحظة من لحظات عيشه.
***
تبدأ الأزمةُ من طفولتنا، من بناء نظرتنا إلى أجسامنا في تلك المرحلة المبكّرة، من مفهوم الـ"عيب" الذي يمتدّ من إظهار الأعضاء حتى تسميتها.
أذكرً موظّفةً في الرابعة والعشرين، كانت تأتي إلينا كلَّ يوم بقصصٍ مملّةٍ عن طفلتها وكلامها وألعابها. إلى أن قالت لنا يومًا إنّ الطفلة سألتْ عن "هولْ." نظرتُ إليها وكنّا وحدنا في المكتب. "شو هنّي هول؟" سألتُها. احمرّ وجهُها وهي تعيد لي غامزةً بعينيْها: "هول،" ونظرتْ تحت ذقنها. "آه، الصدر، ايه عادي، قوليلها." "لا، ييي، شو قلّها؟ بكرا كمان بتصير تسألني عن تحت". لم تستطع أن تسمّي أيًّا من أعضاء جسمها، علمًا أنّنا أنثيان وفي غرفةٍ مقفلة.
هكذا ننقل مخاوفَنا إلى أطفالنا، بأشكالٍ مختلفة، وبمصطلحاتٍ ومفاهيمَ مبهمة، أو بالصمت، أو بالتعيير، أو بفرض لباسِ بحرٍ يغطّي "صدرَ" طفلةٍ في الخامسة، ونصبغ وعيَهم بجنسانيّةٍ لا يملكونها. وحين يصبحون راشدين، نحرمُهم معرفةَ ماهيّة الجنس، ومن ثمّ ماهيّة أجسادهم وكيفيّةَ التصرّف معها. هناك العديد من الفتيات اللواتي يصلن إلى سنّ البلوغ من دون أدنى تحضير نفسيّ وعمليّ لهذه المرحلة، ومن دون أن تخبرَهنّ أمّهاتُهنّ أو أخواتُهنّ بالتغيير الذي سيطرأ عليهنّ. كثيراتٌ منّهن أصابتهنّ صدمةٌ نفسيّةٌ عند البلوغ، واعتقدن أنّ ما يجري "غير طبيعيّ" أو أنّ حياتَهن الاجتماعيّة ستنتهي.
أذكر أنّنا كنّا في الرابعة عشرة حينما استَقدمت الراهباتُ، في مدرسة البنات التي كنتُ أدْرس فيها، جمعيّةً غيرَ حكوميّة لتفسّرَ لنا طرقَ الإنجاب وأساليبَ منع الحمل. كانت الراهبة تخرج من الصالة كلَّ عشر دقائق محمرّةَ الوجه (أمْ ترانا نحن تخيّلناها كذلك؟)، وتبقى دقائقَ طويلةً في الخارج قبل أن تعود.
الراهبات استقدَمن مَن يُكلّمُنا عن الجنس، إذن. والأمّهات استدعين الخالاتِ أو الجاراتِ ليفسّرن لنا الدورةَ الشهرية. هناك دائمًا أنثى "أخرى،" "أبعد،" تأتي لتكلّمنا عن أقرب الأشياء إلينا، لا لعلّةٍ فينا، بل لاستحياءِ الأهل والمسؤولين عن التربية من مواجهة أسئلة الأطفال والمراهقين عن الجسد وحاجاته.
المشكلة تبدأ هنا إذًا: في تعليمنا "الحياءَ" من أجسامنا ومن تغييراتها. فيغدو عاديًّا بعد سنوات أن "تخفي" المرأةُ دورتَها الشهريّة، وأن تخترعَ لها أسماءً، وأن تعبّر عنها بغمزاتٍ وضحكاتٍ واحمرارِ وجه. أذكر مرّةً أنّني كنتُ في سيّارة أجرة مع صديقتي فقالت لي: "بكرا جاية التانت روز." ولم أكن أعرف هذا المصطلح التمويهيّ، ولم أفهم لِمَ تخبرني عن زيارة خالةٍ أو عمّةٍ لها اسمُها "روز." قلت لها: "ومين التانت روز يعني؟ وتجي، شو بعملها يعني؟!"
وأسألُ كلًّ واحدةٍ منكنّ: كم مرّةً كنتِ تجلسين في مجموعة من الناس، فاقتربتْ منكِ صديقةٌ أو امرأةٌ لا تعرفينها، وسألتْكِ أنْ كان يظهر "شيء" على بنطلونها، ثم مشت أمامكِ، بتمثيليّةٍ مكشوفة، فرحتِ تنظرين إلى مؤخّرتها؛ حتى إذا ادارت وجهَها إليكِ، ابتسمتِ لها مطمْئِنةً؟
ثم تأتي الممارساتُ الجنسيّةُ أو غيابُها. وهنا يسقط التصنيفُ الذكوريُّ بكامل ثقله على رؤوس النساء والرجال معًا. عند المرأة، هناك الثنائيّةُ "الأخلاقيّة" الأبديّة: فهي إمّا العاهرة، أو القدّيسة/المحرومة. أمّا عند الرجل، فالتصنيفاتُ تتعلّق بقوته: فهو إمّا "الفحل،" أو "المحلول." وتتنوّع الضغوط على الجنسيْن، دافعةً إيّاهما في اتجاهاتٍ متعارضةٍ أحيانًا، وبرغباتٍ قد لا تكون رغباتِهما الحقيقيّة. وهكذا نجد المجتمعَ يفرض على المراهق أن يمتلك خبرةً جنسيّةً، ولكنّه يمنع المراهقةَ من معرفة ماهيّة الممارسة الجنسيّة أو حاجاتِ جسمها.
***
على أننا نمتلك إمكانيّةَ تحدّي الانبطاح أمام موازين النظام المهيمن، وذلك عبر مساحة ضيّقة جدًّا، هي أجسامُنا وعلاقاتُها بعضها ببعض. لكنّ هذه المساحة الضيّقة هي من أكبر ساحات الصراع مع النظام وأهمِّها. تقول أودري لورد إنّنا "بنينا، داخل كلٍّ منّا، تخطيطاتٍ قديمةً من التوقّعات والاستجابات، وبنًى عتيقةً من القمع، وهي أشياءُ يجب أن تتغيّر، في الوقت الذي نغيّر فيه شروطَ العيش التي نشأتْ عن تلك البنى. ذلك لأنّ أدوات السيّد لن تفكّك منزلَه قطّ."(1)
البداية، إذن، ممّا نملك، من الأقرب إلينا: من أجسادنا، التي لا نستطيع الحركة والتفكيرَ والعمل والفعل من دونها.
إنّ المعنى الاجتماعيّ للممارسات الجنسيّة، ولعلاقتنا بأجسامنا، إنّما هو بنيةٌ ثقافيّة. والبنية الثقافيّة تتغيّر تاريخيًّا وجغرافيًّا؛ بمعنى أنّ عدم ثباتها برهانٌ على إمكانيّة خرقِها أو التفاوضِ عليها. ونحن لا نتقبّل هذه البنية ولا نراها "نهائيّةً" إلّا لأنّنا تربّينا عليها، عبر الأهل والمجتمع، وتمّ تكييفُنا على "أبديّتها" وعلى كونها مفاهيمَ مطلقة.
إنّ الممارسات الاجتماعيّة التي تُنتج نظرتَنا إلى الجنس، أو البنى الجنسانية، قد تظهر بمظهر فرديّ، لكنها تأتي نتيجةً لمنظومةٍ اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ متكاملة. وقد تبدو مقاومتُنا لها فرديّةً ومحدودةً أيضًا، إلّا أنها تستطيع أن تعيد ترتيبَ العلاقات وما هو "متوقّع" منها. فبينما تبدو الحدود المنظِّمة لعلاقاتنا بأجسامنا أبديّةً وقاطعةً، فإنّنا لا بدّ من أن نجد مساحاتٍ نستطيع عبرها ثقبَ فجواتٍ للمرور، بكلّ تضاريسنا.
تقول أودري لورد، عملاقةُ الفكر النسويّ: "لقد توصّلتُ إلى الإيمان، مرّةً بعد مرّة، بأنّ ما هو مهمٌّ بالنسبة إليّ عليه أن يقال، أن يصبح محكيًّا، أن تتمّ مشاركتُه [مع الآخرين]، وإنْ كان هناك خطرُ تحطيمِه أو إساءةِ فهمه."(2)
الجسد هو أقرب شيء إلينا، كما سبق القول. لا نعرف معنى الوجود خارجه، من دونه، أو في شيءٍ سواه. وهذا يعني أنّه أوّلُ شيءٍ وأكثرُ شيء نستطيع التحكّمَ به. وهذا ما يرهب النظامَ بشكلٍ قاتل: إذ كيف له أن يتركَ لنا، لإرادتنا الخالصة كأفراد، لأهوائنا ومعتقداتنا، أن تتحكّم بشيء هو الأساسُ في وجودنا الحسيّ؟ لماذا يتدخّل المجتمع، عبر أعتى أذرعه (أي الدين)، من أجل توجيه العلاقات الجنسيّة و"تصحيحها"؟ لا شكّ في أنّ النظام المهيمن يخاف كثيرًا من المسائل التي تحرِّر الإنسانَ؛ وإنّ معرفةً أكبرَ بأجسادنا ستمكّننا من مقاومة الهيمنة الذكوريّة، ومن المناورة بين السلطات والكلمات.
بين الأغطية الدافئة، يتبادل الناسُ الكثير: السوائلَ، واللمساتِ، والأمراضَ، والكلماتِ، والمخاوفَ، والآمال. يُستعمل تعبير "pillow talk" بالإنكليزيّة، أيْ "حديث المخدّة"، وهو ذلك الحديث الحميم الذي يحدث بعد ممارسة الجنس أو قبلها. وهو حديثٌ عادةً ما يكون شخصيًّا جدًّا. يضغط المجتمع عادةً على الرجال والنساء من أجل عدم التعبير عن مخاوفهم ومشاعرهم ولحظات انعدام الأمن عندهم، فيأتي حديثُ المخدّة خرقًا لهذه الصنميّة، ومجالًا لانفتاح الأشخاص بعضهم على بعض.
بين الأغطية الدافئة، خيالُ ليلة طويلة مازال ينبض. وبين الأجساد وحركتها، صمتٌ مطبق. لا نتكلّم عمّا حدث، لا نتكلّم عمّا أردنا أن يحدث. النظام البطريركيّ يقول لنا: "تكونون هكذا، حتى في أكثر لحظاتكم ولحظاتكنّ حميميّةً." ونحن نستمع إليه، ونمشي الطريق الذي شقّه. لكنْ، إذا أردنا أن نزيحَ، ولو قليلًا، غشاوةَ هذا النظام عن أعيننا، فلا بدّ من أن نبدأ بما نستطيع التحكّمَ به. ولا بدّ من أن نعتبر تحكّمنا بأجسادنا خطوةً أوليّةً في التحكّم بحيواتنا.
بيروت