مقتطف ليلى تبّاني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان - ج(2)

ج2

انقضت أشهر الحمل وجاءها المخاض، اجتمعت النسوة ـــ من المقربات في القرية ـــ في سقيفة الدار يترقّبن وكنّ قد سمعن خبر هجرة أولادها إذا ما كان المولود ذكرا. كانت إلى جوارها في مخدعها خادمتها الخالة "شامة" والقابلة العجوز " كنانة"،توجّعت السيّدة "زينب" واستطاعت بفضل قوّة جسدها أن تتجاوز آلام المخاض وعناد الطّلق، أطلقت صرخة معها انفلتت زفرات الخلاص وتصبّب عرقها، وهدأت، وانطلقت صرخة مولودها، تسرّبت الصرخات إلى مسامع النسوة، فرحن يتبادلن الحديث بينهنّ، وبينما انهمكت العجوز كنانة في فكّ سرّة المولود وتخليص النفساء. تسرّبت الخادمة شامة من مخدع السيّدة زينب، راحت تخاتل ظلّها محاولة الاختفاء عن النسوة، ثم سرّعت الخطوات تحثّها نحو الابن الأكبر "نجم الدين" كي ترسل إليه البشارة وتُرِيَه الراية البيضاء وتنال الرضا والهبات.

تمدّدت زينب على بساط، وسلّمت نفسها للقابلة كنانة التي راحت تضغط على بطنها وتدلّك جانبي خصرها كي تساعدها على التخلّص من بقايا المشيمة. ابتعدت الخادمة شامة عن البيت قليلًا، بحثت عن نجم الدّين في المكان الذي تواعدا أن تجده فيه، لكنّها لم تر له أثرا، فعادت تحمل خرقة بيضاء بيدها. لمحتها سلفة زينب تقترب من مخدع سيّدتها، فهرولت نحوها والفضول يجشّم هدوءها ويفضح غيرتها وحقدها على سلفتها، كانت مرجانة سلفتها الوحيدة التي لم ترزق من الذّرّية سوى البنات وانقطع خلفها.

تراكمت غيرتها من زينب أمّ الذكور وهي ترى زوجها الذي يبالغ في دلالها فصارت تحقد عليها دون سبب يذكر. قرّرت أن تكيد لها كي تطفىء ما يستعر داخلها من غيرة وحسد، سألت الخادمة شامة عن الخرقة البيضاء التي بيدها فأخبرتها عن السرّ الذي كانت تخفيه فيما يتعلّق بالإشارة التي كانت سترسلها لنجم الدين، قدحت عينا مرجانة شررا، وقرّرت أن تفعل شيئا يفرّق بين زينب وأولادها، وها هي تجد الفرصة سانحة، فكّرت في حيلة تزيح بها الخادمة عن طريقها، قالت تتحدّى نفسها:

ـــ ستكون فرصتي للانتقام من غرور زينب .

تقدّمت خطوات من شامة التي كانت تحضّر مشروبا ساخنا لسيّدتها زينب، ثمّ قالت:

ـــ كان عليك الاستحمام والتعطّر وارتداء أفضل ما عندك من ثياب، هو يوم احتفاء وفرح بالمولودة المنتظرة.

ـــ معك حق سيّدتي مرجانة، لا بدّ أن أغتسل و أغيّر ثيابي، كي أزفّ الخبر لسيّدي أحمد وأولاده.

ـــ أخبري الشيخ أحمد أمّا أولاده فأظنّهم بعيدين الآن ولن يحضروا إلاّ مساء.

اغتسلت شامة وغيرت ثيابها، ووضعتها على حافّة صندوق أغراضها، ثمّ خرجت مسرعة، وعلى الفور تسلّلت مرجانة إلى غرفتها، وارتدت ثيابها واعتصبت بمحرمتها، ثمّ خرجت متخفّية عن الأنظار، وكان الوقت يجنح إلى المغيب. سارت مسرعة حتى اعتلت ربوة تطلّ على حقول وبساتين الشيخ أحمد وأولاده، لمحها نجم الدّين من بعيد، فلوّح لها بيده ظانّا أنها الخالة شامة ـــ فهو لا يتوه عن ثوبها البنّي ومحرمتها الحمراء ـــ فما كان منها إلاّ أن ترفع المنجل وتلوّح به. فيطرح نجم الدّين رأسه خائبا. عادت إلى غرفة شامة ونزعت عنها ثيابها ومحرمتها، ثمّ خرجت وانضمّت إلى النسوة تتصنّع الفرح.

غمرت الفرحة قلب الشيخ أحمد وقد جبر الله بخاطره ووهبه ريحانة حياته التي انتظرها بعد عشرة ذكور، دخل على زوجته يحمد الله على سلامتها فقبّل رأسها و ألبسها "سخاب العنبر والذهب"، ثمّ قبّل رأس القابلة كنانة ودسّ قطعة ذهبية في يدها... حمل الوليدة وراح يشتمّ عطرها الملائكي ويؤذّن لها في أذنها اليمنى، نظرت القابلة كنانة إليه تحثّه على ضرورة تستمية ابنته وقالت:

ـــ سمّها يا شيخ أحمد بما يليق بهذا الوجه الملائكي، حتّى يكون لها من اسمها حظّ سعيد.

بادلها نظرة حائرة وتلكّأ قليلا ثمّ قال:

ـــ لن أُسَمِّيَها إلاّ بحضور إخوتها، فانتظارهم لأختهم فاق انتظاري.

غادر الشيخ أحمد مخدع زوجته بملامح تشي بسعادة غامرة، فأمر بذبح خرفان وإعداد عشاء خلاص زوجته. أمّا نجم الدين فقد نفّذ رفقة إخوته قرار هجران الدار والقرية وقال خاطبا في إخوته:

ـــ لازمنا نَجْنَاو من الدار اللّي مافيهاش أُخْتْنا لَحْنينة.

جمع الأولاد أغراضهم وغادروا بإبلهم وقطعانهم وخيولهم إلى حيث لا يدري أحد من الدّار قرارهم.

أعدّت النّسوة عشاء الخلاص، وقمن بطهي اللّحم الذي رافقنه برقاق من عجين القمح، صفّت القصاع المؤثّثة باللّحم الشهي، لكنّ أحدا لم يمدّ يده للأكل قبل حضور الإخوة... لقد طال انتظارهم، فساور الشكّ الشيخ أحمد في أنّ أمرا سيّئا قد حدث، راح يلطّف الأجواء بمزاحه ويشيع الفرح في الدار حتّى لا يلفت انتباه المدعوين لتأخر أولاده، أمرهم بأن يشرعوا في الأكل، وأوصى غلمانه بأن يحلّوا مكانه في حراسة الدّار وتفقّد الضيوف إلى حين أوبته.

حثّ الخطى حيث الحقول والبساتين، فلاح ضوء القنديل المنبعث من بيت القصب التي ينام بها حارس البساتين، دخل عليه وسأله:

ــــ لم يظهر أبنائي اليوم ولم يعودوا إلى الدّار ألا تدري عنهم سبب تأخّرهم؟

طأطأ الحارس رأسه يتجنّب النظر في وجه الشيخ أحمد، ثمّ قال بنبرة حزينة:

ـــ هم لم يعودوا ولن يعودوا يا سيّدي.

وجم الشيخ أحمد من كلامه وتلعثمت كلماته وسرعان ما استرجع توازنه وقال ممتعضا

ـــ ويحك ما الّذي تقوله يا غلام؟! لا بدّ أنّك تهذي

ـــ أنا أقول الحقيقة سيّدي، فقد هجر أولادك المكان وأوصاني سيّدي "نجم الدّين" ألّا أخبرك إلاّ في صباح يوم الغد.

ـــ متى غادروا وألى أين؟

ـــ لا أدري وجهتهم يا سيّدي، لكنّهم غادروا فور ما علموا بازدياد أخ لهم.

اهتزّ الشيخ أحمد من كلامه وأصابته حيرة ودهشة وقال:

ـــ أخٌ لهم؟! من أخبرهم بذلك؟ فقد رزقت ببنت وهي الاخت التي انتظروها بشغف... من أخبرهم كذبا لأنتقمنّ منه شرّ انتقام؟!

ـــ لا علم لي ياسيّدي، فقد كنت سارحا بالقطيع بعيدا، ولم أع إلاّ والغلام ـــ الذي يساعدهم في شدّ الرحال ـــ يخبرني بأنّهم سيرحلون.

زمجر الشيخ أحمد غضبا، وعاد إلى الدار وشظايا نار الانتقام تتطاير من عينيه. من ذا الّذي يجرؤ على فعلته ويضلّل أبناءه، إلاّ حقودا يرغب في التفرقة والشتات؟

اغرورقت عينا "عنق حمام" وهي تروي القصّة، فتوقّفت فجأة وراحت تكفكف دمعها، أمّا الشيخ خليفة فرمى بقدح اللّبن الذي كان أمامه وقال:

ـــ كيف لتلك اللّعينة أن تجرؤ على فعلتها؟ كان لا بدّ للشيخ أحمد أن يعاقبها أشدّ عقاب.

........ يتبع

بقلم ليلى تبّاني من قسنطينة




1725970702483.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى