لم يكن كتاب ((ألف ليلة وليلة)) في يوم ما كتاب تسلية فحسب بل كان ولم يزل سفراً كبيراً وعظيماً زخراً بالكنوز الأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية التي لم تصور الإنسان العربي في زمن معين فحسب، بل إنه رسم النفسية العربية والشخصية العربية بكل خلجاتها النفسية وتطلعاتها الإنسانية بما احتواه هذا السفر الكبير من حكايات وأساطير.. وقد كان هذا البحث رحلة استكشافية في واحدة من أساطير هذا السفر… هي أسطورة الصياد ((جودر)) التي أسست لواحدة من العقد النفسية التي يحتاجها التحليل النفسي على صعيدي الطب النفسي، والتحليل النفسي الأدبي… والسطور القادمة في هذا البحث ستجلي لنا كل معميات هذه الأسطورة.
***
1-أسطورة جودر: (النص)
يقول التاجر المغربي لـ ((جودر)):
((اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه فإنك تسمع قائلاً يقول: من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟ فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك: إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك، فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء. وأما إذا خالفته فإنه يقتلك. ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال. فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرس وعلى كتفه رمح فيقول: أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الأنس ولا من الجان؟ ويهز عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك، ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك، ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه، فإن وصل إليك فأعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس، فتقدم إلى الباب وقل له: يا عيسى قل لموسى يفتح الباب، فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين، وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال، فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا ابني أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة، اخلعي ثيابك. فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، كيف تعريني؟ فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك. وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً، فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط، وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد، وقد أمنت على نفسك، فأدخل تجد الذهب…))1-.
انتهى هذا القسم من أسطورة ((جودر الصياد ابن عمر وأخويه)) ويعتبر هذا القسم هو النواة التي دارت حولها الأسطورة، حيث وضعه مُنْشِئُها في الوسط بعد أن تحدث عن جودر وأمه وأخوته في البداية… أما القسم الثالث والأخير من هذه الأسطورة، فقد تحدث عن (جودر) بعد أن يغتني بالمال. إن هذا القسم المهم سيكون ميدان بحثنا هنا.
***
2- تفكيك النص
2-1/ عوالم النص
من خلال قراءة هذا القسم من النص الأصلي، يمكن التعرف إلى عالمين، أحدهما العالم الأرضي، والآخر العالم السفلي (العالم المجهول) الذي يقع تحت قاع النهر، ويبدأ من الباب الأول وينتهي عند مكان الكنز، ماراً بالأبواب الأخرى.
إن الانتقال من العالم الأرضي إلى العالم السفلي ((الآخر=المجهول= الحلم)) لا يتم إلا بعد جفاف النهر، أي إزالة طبقة مادية –رغم شفافيتها- وهذا يعني بالمفهوم الشعبي/ الأسطوري، إن الانتقال هذا يتم بكل يسر وسهولة لما في ذلك التفكير من اعتقاد سائد بحقيقة وجود هذا العالم، وكذلك عدم مجهوليته. إن العالم المجهول، كما تؤكد الدكتورة نبيلة إبراهيم2- (لا يبتعد كثيراً عن العالم المعلوم في الحكاية الخرافية، بل هو قريب منه كل القرب، فإذا رحل البطل إليه فإنما انتقل من مكان لآخر، لا لأن هذا المكان المجهول قريب منه، وأنه يستطيع أن ينتقل إليه في خفة ورشاقة فحسب، بل لأن هذا العالم ليس مجهولاً بالنسبة له).
2-2/الشخوص:
هناك نوعان من الشخوص في هذا النص نوع يعيش في العالم الأرضي (المعلوم)، وهم من لحم ودم: ((التاجر، الخدم، جودر، وآخرون)) أما النوع الثاني، فهم يعيشون في العالم السفلي ((المجهول)) حيث نجدهم عبارة عن أشباح رغم صورتهم الإنسانية أو الحيوانية. إنهم يتهاوون الواحد بعد الآخر عند امتثال ((جودر)) لأوامرهم، ويختفون عن الوجود، انهم: ((أجسام بلا أرواح)). هذه الشخصيات هي:
*الشخصية الأولى: -شخص بيده سيف=((إنسان)).
*الشخصية الثانية: فارس يمتطي صهوة جواد وعلى كتفه رمح= (إنسان+ حيوان).
*الشخصية الثالثة: آدمي وفي يده قوس ونشاب= (إنسان).
*الشخصية الرابعة: (سبع) عظيم الخلقة= (حيوان).
*الشخصية الخامسة: عبد أسود= (إنسان).
*الشخصية السادسة: ثعبانان= (حيوان).
*الشخصية السابعة: الأم= (إنسان).
إن شخوص العالم السفلي، تتخذ لها صوراً إنسانية أو حيوانية، ولا فرق بين الصورتين، طالما كل واحد منها يحاول منع (قتل) جودر. أي إنها تحاول التأثير عليه ومنعه من الوصول إلى الكنز، لا لكي تحافظ على ذلك الكنز منه وإنما لتختبره. ومن الجدير بالذكر أن (العبد الأسود) لم تكن مهمته منع (قتل) جودر وإنما كان دوره في ذلك استفزازياً، توجيهياً. فهو يسأل (جودر) قائلاً: ((إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس)).
كذلك فإن الشخصية، وعلى خلاف وظيفتها في أغلب الأساطير والحكايات والقصص الشعبي نجدها هنا تقف خلف الباب لا أمامه. أي إنها لم تكن شخصيات ((حارسة)) وإنما هي شخصيات ((ممتحنة)) إنها تمتحن قدرة ((جودر)) من خلال توجيه الأوامر =الأسئلة له.
من المعروف أن شخصيات العالم السفلي= المجهول، هي شخصيات قابلة للتحول من صورة إلى أخرى. لهذا يمكن قبول صورها السبع المتنوعة في هذا النص ((خمسة شخوص إنسانية واثنتان حيوانية)). أرى أن القاص الشعبي لهذا النص قد قام بعملية استبدال لهاتين الشخصيتين فجعلهما في صورة حيوانية ((رغم كون جميع الشخصيات عبارة عن أشباح)) لإعطاء بعض الفاعلية التهويلية// التشويقية لنصه هذا. لكن تشخيصات (تفسير الأحلام) تسعفنا برد مثل هذه الصورة الحيوانية إلى صورتها الإنسانية. ذلك لأن التفكير الشعبي يجعل من عوالم الأحلام امتداداً للعوالم الواقعية، حيث يفسرها، فيتداخل عالم الحلم بعالم الواقع. في كتاب تعبير الرؤيا لابن سيرين، نجد أن هذا العالم يفسر رؤية الأسد ((السبع)) على أنه: عدو مسلط ذو سلطان وبأس شديد (ص44) فيما يفسر رؤية الثعبان (الحية)) على أنه: عدو كاتم العداوة مبالغ فيه (ص45). وهكذا تستقيم الصورة الإنسانية لشخوص العالم السفلي في هذا النص.
2-3 مشهد العالم السفلي:
يبني واضع الأسطورة، المشهد في العالم السفلي على أساس التكرار، أي تكرار الفعل سبع مرات. أي أنه يقسم المشهد العام إلى سبع مشاهد صغيرة يفصل فيما بينها باب يقف خلفه كائن ما. إن تكرار المشهد سبع مرات متأت من أن التفكير الشعبي مولع بالرقم سبعة، لمرجعية أسطورية// دينية. فطبقات السماء سبع، والأرض تقع في سبع طبقات، والأيام في الأسبوع هي الأخرى سبعة.. الخ3- وبتقسيم هذه المشاهد يتكون لدينا الجدول التالي:
ومن الملاحظ أن أغلب الشخصيات التي تقابل ((جودر)) في محاولاتها لمنعه// قتله تحمل سلاحها الخاص.. عدا ((السبع)) و ((الثعبان)) فإن سلاحهما هو ((الأكل، العض)) أما الأم فقد استبدلت الأسطورة مالك السلاح، وجعلت ملكيته عند ((جودر)) ليهدد به أمه… بالعكس من الشخصيات الست السابقة التي كانت هي مالكة لسلاحها. بعد هذه القراءة ((التفكيكية)) إن صحت التسمية، لمغامرة ((جودر)) في العالم السفلي يمكننا الاقتراب إلى ما تشكله عقدة الأم، أو عقدة ((جودر)) في هذه الأسطورة.
***
3-أسطورة ((جودر)) ودلالاتها النفسية والاجتماعية:
3-1/ تحاول أسطورة ((جودر)) أن تعطي دلالاتها النفسية والاجتماعية من خلال قراءة العلاقة المهيمنة التي تربط بين ((جودر)) وأمه. واستنطاق محاولة الخروج من هذه العلاقة للوصول إلى أو ((الدخول في)) مرحلة الرجولة بعد قتل شبح// وهم الأم في العالم السفلي (عالم اللاشعور) ذلك لأن الطفل وحتى سن متقدم يظل واقعاً تحت هذه الهيمنة، وربما يبقى هذا المهيمن متسلطاً لا شعورياً على الابن بعد الزواج.. وإن التحرر من دائرته يتطلب استعداداً خاصاً، وعملاً شجاعاً. إن ما قام به (جودر) من فعل تجاه الأم ((شبحها)) بعد تعريته لذلك الشبح بعد الباب السابع، هو الطريق للفوز بالكنز ((=الحياة= الرجولة=الاستقلال)). لأن القضاء على شبح// وهم الأم داخل النفس البشرية معناه ((نضج الشخصية السيكولوجية للفرد. فعلى المرء أن يقتل داخلها الصورة الذهنية المزيفة ليجد الأمان، لأن ذكريات الطفولة والتردد والحيرة عوامل تعرقل سعادة الإنسان، والتزام الأم بمنعه من التحليق عالياً بجناحيه))4- إن قتل شبح// وهم الأم، معناه قتل ((المهيمن)) الكبير على الابن//الرجل. وأن التحرر من هيمنة هذا الشبح// الوهم، أمنية يتمنى تحقيقها شخصان آخران تربطهما علاقة وثيقة بالابن هما:
3-1-آ / شخصية المرأة/ الزوجة… حيث إنها تتمنى أن يتحرر زوجها من هيمنة إرادة الأم على إرادته.. إذا علمنا أن راوي هذه الأسطورة هي المرأة// الزوجة شهر زاد وهي عندما تروي هذه الأسطورة، فإنها تحاول وضع الأماني موضع التنفيذ، تنزلها إلى أرض الواقع، أي أن يتحرر الابن// الرجل// الزوج من هيمنة// سلطة الأم ليتجه إلى هيمنة// سلطة- أو على أقل تقدير إلى كنف الزوجة لكن المرأة// الزوجة، نسيت إنها ستصبح في يوم ما أماً، مما يجعلها وهي تبحث عن زوجة لابنها القادم تقف وجهاً لوجه أمام امرأة أخرى تحمل نفس الأمنية تلك في قتل ذلك الوهم// الشبح الذي ستكونه.
3-1-ب / شخصية الأب.. الذي هو الآخر، يحمل نفس الأمنية في أن يقتل الابن شبح// وهم الأم في نفسه. إنه يرغب في أن يجد ابنه رجلاً كامل الرجولة، متحرراً من هيمنة// سلطة الأم ودلالها ((الزائد)) وأيضاً يرغب في قرارة نفسه ألا يساعد أمه عليه في أي أمر يقع بينه وبين الأم. إن دور الرجل// الأب، في العائلة هو دور تسلطي على الأم والأبناء في الوقت نفسه خاصة في مجتمعاتنا الشرقية منذ مئات السنين لأن مجتمعاتنا هي مجتمعات أبوية، وأن المرأة// الزوجة فيها مسلوبة الإرادة ومغلوب على أمرها، هي أداة للمتعة والإنجاب إنها كائن بيتي يعيش في الظلام مما يدفعها إلى احتضان أبنائها الذكور منهم خاصة أنهم يشكلون عندها الجدار الصلب في حمايتها من نزوات الرجل// الزوج المشروعة وغير المشروعة، إن كان ذلك في تركها، أو هجرانها أو طلاقها… (فمنذ وقت سحيق وحدت الأم وأطفالها الجهود ربما دون وعي وبشكل مبهم للالتفاف حول سلطة الأب الغاشمة بحثاً عن التعويض فإلى جانب ما يمثله الأطفال من تأمين للاستقرار وللمستقبل، فهم أيضاً بمثابة قرون للاستشعار بالنسبة للأم، والحياة اليومية غنية بأمثلة المشاركة بين الأم وأطفالها في تنفيذ مؤامراتهم الصغيرة.. والطفل يعي جيداً أهمية الخدمات التي يؤديها إلى أمه وعادة ما يكون بارعاً في أدائها.. فهو يعلم مقدماً قدر العرفان الذي سيلاقيه.. ولكن يظل أبرز ما في الأمر هو شعوره العميق بالالتفاف من حول سلطة الأب، والثأر منه من خلال تلك المؤامرات الصغيرة الآمنة نسبياً) 5-.
من هذا نستنتج أن للرجل// الأب دوراً في وضع هذه الأسطورة ضد المرأة// الأم كي يدفع أبناءه للتحرر من هيمنة إرادة الأم وتسلطها، أي انفراط علاقة الأم- الابن لتعاد الهيبة إلى علاقة الأب- الابن.. عند ذلك يعيدهم إلى سلطته بعد سحب البساط من تحت أقدام المرأة// الأم. وبهذا تتجرد المرأة من سلاح قوي تهدد به الرجل// الزوج// الأب.. وهكذا تقف المرأة// الزوج في صف واحد مع الرجل// الأب في خلق هذه الأسطورة، لأن هدفهما واحد وكل واحد منهما يدفع بـ ((جودر)) إلى أن يطلب من أمه أن تتعرى أمامه أي يكسر الحاجز النفسي الذي يقف أمام الابن في محاولته الخروج من سيطرة الأم.. وعندما تتوسل إليه في أن يتركها بعد أن لم يبق على جسدها سوى ما يستر عورتها أمامه، يذعن لتوسلاتها ناسياً نصيحة المغربي، عندها تصيح قائلة: (قد غلط) وتطلب من الآخرين ضربه وطرده خارج الأبواب. لنتساءل هل هذه الصيحة، هي صيحة الأم أم إنها صيحة المرأة// الزوجة، وكذلك صيحة الرجل// الأب؟
أرى إنها ليست للأم لأنه مهما يكن من حال الابن، فإن الأم لا تقبل بانفصال ولدها عنها. إنها صيحة المرأة// الزوجة التي وجدت في وقوع زوجها في الخطأ حالة تتطلب العقاب.. وكذلك هي صيحة الرجل// الأب لنفس الأسباب.. فكان الضرب والطرد من مكان الكنز، ومن ثم إعادة المحاولة مرة ثانية في العام القادم. وربما يسأل سائل إن كان الكنز الذي يحصل عليه (جودر) هو للتاجر المغربي. وهذا صحيح لكن الوصول إليه ومن ثم إخراجه من تحت قاع النهر، كل ذلك بحد ذاته مغامرة تدفع بالتاجر إلى مكافأتِهِ بالكثير.. إن وصول (جودر) إلى الكنز ومن ثم إخراجه لـه دلالاته النفسية// الاجتماعية. لما فيه من دلالة رامزة إلى الرجولة.
3-2/ إذا كان (جودر) قبل أن يتعرف على المغربي قد عاش مع أمه التي كانت مهيمنة كبيرة عليه، فإنه بعد عودته إلى المدينة عقب حصوله على الكنز نتعرف عليه وقد أصبح هو الآمر الناهي في قصره الكبير وكذلك فإنه تولى بنفسه أمر زواجه من ابنة الملك ثم اعتلائه للعرش.. إن صورة الأم أو لنقل صورتها كقوة مهيمنة على إرادة الابن قد اضمحلت في هذا القسم من الأسطورة. وإذا كانت أسطورة (أوديب)) قد عاقبت (أوديب) بالعمى فإن أسطورة (جودر) قد عاقبته بالموت على يدي أخوته (سالم وسليم). ولو تصفحنا ما أنتجه التفكير الشعبي من أساطير وحكايات نرى أنها تنتهي بنهايات مفرحة لكن هذه الأسطورة نجدها وقد انتهت بمقتل بطلها لهذا أرى إن هذه النهاية لا تستقيم والتفكير الشعبي الذي أنتجها، اللهم إلا إذا كان هذا التفكير واعياً إلى ما فعله (جودر) من (فضح) لحرمة الأم، مما استدعى إيقاع العقاب به.
3-3 وأخيراً يمكن تمثل أسطورة (جودر) ومحاولته التحرر من هيمنة ((سلطة، سيطرة)) الأم بثلاث مراحل هي:
3-3-أ/ المرحلة المشيمية: أي مرحلة ارتباط الابن بأمه كارتباط الجنين برحم أمه بواسطة (الحبل السري) واعتماده في غذائه على دم أمه الذي يصله من خلال المشيمة وهذه المرحلة هي مامثله الجزء الأول من الأسطورة.
3-3-ب/ مرحلة المخاض: وهي المرحلة التي تتم فيها محاولات الابن للخروج من سيطرة ((هيمنة)) الأم.. كمحاولات الجنين ساعة المخاض للخروج من رحم الأم، ومايصاحب تلك المحاولات من آلام عظيمة للأم والمولود على السواء، وقد تمثلت هذه المرحلة في الأسطورة في الجزء الذي تحدثنا عنه في السطور السابقة.
3-3-ج/ مرحلة الانفصال: والانطلاق خارج رحم (سيطرة) الأم بعد قطع الحبل السري لمجابهة الحياة بعيداً عن الأم.. وقد تمثلت هذه المرحلة في الأسطورة في الجزء الثالث منها.
3-4-/ من خلال هذه القراءة التي قدمناها في السطور السابقة يمكن فهم هذه الأسطورة على أنها الوجه المقابل لأسطورة (أوديب) ولا يمكن فهم (جودر) بطلها على أنه ((أوديب عربي غير مثقل الكاهل بالخطيئة)) كما يقول مؤلف كتاب ((الإسلام والجنس)) ص304. لأن ((أوديب)) يتجه –أو هكذا أراد له القدر- إلى الأم وسلطتها عليه (الزواج منها) فيما كان (جودر) معني بالخروج من تلك السلطة.
***
((عقدتي الأب والأم في الأساطير))
1-عقدة ((أوديب)) //عقدة الأَب:
تحكي الأسطورة الإغريقية عن (أوديبوس) الذي رسم له القدر خطواته المستقبلية حيث قدر له أن يقتل أباه ويتزوج أمه، فكان أن جاء الواقع مسايراً للقدر6-.
هكذا أفهم أسطورة ((أوديب)) مع تقديري لما قدم من تفاسير سيكولوجية أو سيسيولوجية –على أنها عملية قتل ((صورة)) الأب في ((لاشعور)) الابن // الرجل ذلك الأب أو ((صورته)) الذي يبقى كالسيف المسلط على رقاب الأبناء.. وتبقى إرادته هي ((المهيمن)) الكبير على إرادة الأبناء.. ولكي يدخل الابن طور الرجولة الكاملة، الاستقلال بإرادته عن أية إرادة خارجية عليه أن يقتل (يتخلص من..) تلك الإرادة المهيمنة التي جسدتها الأسطورة في شخصية الأب. لكن الأسطورة هذه نسيت أنها عبارة عن رسالة شفاهية عن اللاواقع لتفسر الواقع.. فأخذت تجسد الشخوص لحماً وعظاماً وأحاسيس هي للواقع اقرب.. لهذا وإمعاناً في فرض العقاب على الابن الذي كسر صورة الأب ((المهيمن)) في نفسه (لاشعوره) أي ((الابن العاق)) ومن ثم شب عن الطوق للحصول على رجولته الكاملة (النفسية والاجتماعية) وجدت هذه الأسطورة أن ترك الابن بلا عقاب هو الإقرار بفعلته والتصديق عليها، عندها فرضت عليه عقوبة كبيرة هي الزواج من الأم –قدريا ودون معرفة مسبقة منه وعندما يعرف هو تلك الحقيقة يعاقب نفسه بنفسه. إنها عقوبة كبيرة جداً وعظيمة حيث ساوى التفكير الشعبي الإغريقي الذي أوجد هذه الأسطورة بين الخروج من ((هيمنة)) الأب وبين الزواج من المحارم.. أي أن من يخرج عن إرادة الأب ليبني إرادته الذاتية المستقبلية يكون العقاب له كمن يتزوج من محارمه وعند ذاك أي بالتحرر من سيطرة إرادة الأب، يبقى الابن إنساناً تائهاً ((أعمى)). إن أسطورة ((أوديب)) وكما أسلفنا سابقاً لا تريد للأبناء أن يتحرروا من سيطرة إرادة الآباء..
***
2-عقدة ((أورست)) // عقدة الأم:
بعد أن تعرفنا على أسطورتي ((أوديب)) و((جودر)) وما تمثلانه من عقدتي (الأب) و(الأم) سنتعرف في السطور القادمة على أسطورة أخرى، فهمت على أنها تشكل عقدة تقف بالنقيض من عقدة ((أوديب)) كما أراد لها التفكير الشعبي الإغريقي، وكما فهمها التحليل النفسي.. هذه الأسطورة، هي أسطورة ((أورست)) كما طرحها (أسخيلوس) في ثلاثيته (أجا ممنون) وماطرحته الأسطورة تلك من عقدة، هي عقدة ((قتل الأم)). بعد موت ((أثريوس))، قسمت المملكة بين ابنيه: (أجا ممنون) و (مينيلاس) اللذان تزوجا من شقيقتين، هن ((كلايتيمينسترا))، و((هيلين)) وكان (مينيلاس) قد زاره (بارس) ابن ملك طروادة، الذي أحب ((هيلين)) وهرب معها. وكان ذلك السبب في حروب طروادة. وتجمع اليونانيون في (اوليس) تحت قيادة (أجا ممنون). إلا أن مغادرة الحملة تأخرت بسبب هبوب عاصفة. وقد أخبر ((أجا ممنون)) من قبل متنبئه بأن العاصفة لا يمكن تهدئتها إلا بالتضحية بابنته (أفجينيا). فأرسل بطلبها من أمها بدعوى أنها ستتزوج من (أخيلس) وقام بذبحها.. عندها أبحرت الحملة إلى طروادة. بعد أن عرفت الأم بذلك، قامت بإبعاد ابنها((أوريستيس)) وكان صبياً، وتآمرت مع (أجيشوس) ابن ((ثايستيس)) ضد زوجها، وعندما عاد الزوج قتلته بالتواطؤ مع عشيقها (أجيشوس). بعد سنوات يستلم (أورستيس) من كاشف غيب (أبولو) أمر بالثأر من قاتل أبيه، فيعود سراً مع صديقه (بيلادس) إلى مدينته ويلتقي بأخته (أيليكترا) وبمساعدتها يقوم بقتل أمه وعشيقها. تعقد محكمة لمحاكمته.. ويبرأ من التهمة7-.
***
3-مناقشة الأساطير:-
إن أسطورة (أوديب) جاءت لتبرهن على أن الإنسان لكي يستقل بإرادته عليه أن يتحرر من الإرادة المهيمنة.. وهذا جانب مهم من جوانب المأساة الإنسانية، مأساة الإنسان في صراعه لإثبات وجوده. أما الجانب الآخر من تلك المأساة هو أن إرادة الأبناء تسيطر عليها إرادة أخرى غير إرادة الأب هي إرادة الأم وهي تعادلها بالقوة والفعل إن لم تقل تجاوزها في ذلك وقد انتبه إليها التفكير الشعبي العربي والإغريقي على السواء وبدرجات متفاوتة سنتعرف عليها في السطور القادمة، حيث سنقف على أي الأسطورتين (العربية أم الإغريقية) هي الأجدر في الإجابة على مجموعة الأسئلة النفسية والاجتماعية المتعلقة بمسألة العلاقة بين الأم وابنها.
إن المهتمين بالأدب الشعبي، وبالتحليل النفسي وكذلك المهتمين بالأدب عامة وبتاريخه، لم ينتبهوا إلى أسطورة (جودر) كما انتبه علم التحليل النفسي إلى أسطورتي ((أوديب)) و((أورست)) فظلت الأسطورة العربية وماتقدمه من كشوفات نفسية –اجتماعية، بعيدة عن عالم الأدب وعلم النفس وظلت مختفية بين سطور ((ألف ليلة وليلة)) نرددها بين الحين والآخر على أنها قصة مسلية ليس إلا. إن أسطورة (جودر) هي حكاية الابن الأصغر لأحد التجار8- الذي يبقى باراً محباً لأمه، متعلقاً بها، يعيش معها في بيت واحد، على خلاف أخويه.. وكانت الأم قد عانت الكثير بعد وفاة زوجها –من ولديها((سالم وسليم)).. وكانوا كثيراً مايحتالون عليها ويسلبونها مالها، ويضربونها، حتى إنها كانت في كثير من الأحيان ((تدعو عليهم بالموت)). لكن ((جودر)) ظل محباً ومقدراً لها وطائعاً لأمرها، فوجدت فيه الابن البار الذي لا يعاكسها في أي أمر من الأمور. وكانت هي الأخرى لهذه الأسباب تخاف عليه من عاديات الزمن حتى أنها حاولت منعه من الذهاب مع المغربي ((فقالت له: ياولدي توحشني وأخاف عليك)) ص945 وهكذا أصبحت هذه الأم قوة مهيمنة ومسيطرة عليه.
عند قيام (جودر) بصيد السمك لإعالة والدته، يلتقيه التاجر المغربي ويطلب منه أن يرحل معه كي يساعده في الحصول على الكنز الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطته بعد أن يحل رموزه فيرحل معه بعد الاستئذان من والدته هكذا تفهم أسطورة (جودر) عند القراءة الأولى لها.. إنها حكاية صياد فقير يحصل على بعض المال والأدوات السحرية من التاجر المغربي بعد حصوله على الكنز، ويمكن لمن يطبق المنهج المورفولوجي على هذه الأسطورة، أن يجد فيها حكاية مبنية على وظائف ((بروب)) المورفولوجية.
لكن قراءة متأنية لها يمكن أن تكون القراءة المحتملة للوصول إلى الدلالات التي تحملها هذه الأسطورة والمعاني المختبئة خلف قشرة هذا النص.. كما قدمناه في القسم الأول. إن الدلالات الاجتماعية –السياسية التي تحملها أسطورة (أورست) كما قدمتها مسرحية ((أسخيلوس)) كانت هي الدافع لإنشائها حيث جاءت في وقت كان المجتمع فيه منقسماً بين الأخذ بمبدأ المجتمع الأمومي السابق، أو بمبدأ المجتمع الأبوي الذكوري الذي يرغب. لهذا نرى أن (الايرينات) 9- يقفن إلى جانب النظام القديم الذي كانت فيه القرابة المنحدرة عن طريق الأم رباطاً أوثق من الزواج، وكان يعاقب فيه قتل القريب وفوراً وبصورة قاطعة بحرمان القاتل من الحماية القانونية (…...) ومن جهة أخرى، فإن أبولو الذي كان الاثينيون يعبدونه بوصفه ((أبويا)) ((باترويوس)) يعلن قدسية الزواج وأولوية الذكور، وتدور المسألة حول مصير ((أوريستيس)) والمحنة التي ألقي فيها تعكس صراع الولاءات المنقسمة المميزة للفترة التي كان يجري فيها تغيير النسب لغرض الخلف والإرث المصاحبين له من جهة الأم إلى جهة الأب وسيسجل تبرئته ابتداء النظام الجديد الذي سيبلغ أوجه في الديمقراطية))10-.
لهذا فإن أثينا ومحكمتها تبرئ ساحة ((أوريستيس)) لأنها كانت تعطي صوتها إلى أولوية الذكور على الإناث: ((مامن أم ولدتني وفي جميع الأمور
*عدا الزواج فأنا وليد أبي في الحقيقة.
*أثني على الذكور من كل قلبي. ص381)).
إذن فالأسطورة هي تمجيد لذكورية المجتمع وإعادة المرأة إلى البيت لتبقى تحت سيطرة الرجل //الزوج.
4-لماذا قتل ((أوريستيس)) أمه؟
من خلال قراءة متأنية للأسطورة يمكننا الوقوف على الدوافع التي تقف وراء قتل (أوريستيس) لأمه.. وهذه الدوافع هي:
4-أ/ قيام الأم بإبعاده (نفيه) وهذا يعني افتقاده لعاطفة الأمومة.
4-ب/ قيامها بقتل أبيه.. ويشكل هذا العمل جريمة (لا مثيل لها في تاريخ الخبث النسوي) ص358 ولهذا فإن (أبولو) يدعي (بأنه لما كان قتل أغا ممنون جريمة، فإن إعدام القاتل لم يكن جريمة) ص380.
4-ج/ لما كان (أوريستيس) وحيد أبيه فإن ذلك يعني أنه سيرث العرش بعد موت والده، لكن الأم بعد قتلها لأبيه (زوجها) سلبت منه هذا الحق.
4-د/ إنها قد قتلت أبيه بالاشتراك مع عشيقها. من خلال هذه الدوافع نصل إلى نتيجة مفادها أن قتل (أوريستيس) لأمه كان قتلاً مبرراً قانونياً ودينياً وأخلاقياً واجتماعياً وقتذاك لأن قتلها جاء:-
أولاً: تلبية لنصوص القانون السائد وقتذاك، كما كان قتلها لزوجها حسب اعتقادها تلبية للقانون أيضاً.
• (إن القانون لا يزال باقياً، مادام زيوس حاكماً).
• (الآثم يجب أن يعاقب –إنه أمر) ص349.
ثانياً: تلبية للأمر الصريح من (أبولو) بأن يثأر لأبيه.. وقد هدده بأقسى العقوبات إن لم يفعل ذلك. وليس له من خيار غير ذلك.
ثالثاً: إن قتلهما (الأم وعشيقها) هو تطهير للأسرة من الإثم، لهذا فأنصار (أوريستيس) يعتبرونه (مطهراً أو منقذاً عُيّن بصورة إلهية (….) وعليه، بتطهيره الأسرة، أن يتولى مسؤولية تلوثها بنفسه) ص352.
• (آه هل يرى بعد أوريستيس نور الحياة).
• (فلعله يعود بمؤاتاة الحظ إلى بيته).
• (ويبرهن على أنه الملك المنفذ حكم الإعدام بكليهما؟) ص350.
5-إن العودة إلى أسطورة (جودر) ترينا أن القتل لم يتم في الواقع، العالم العلوي، وإنما تم في العالم السفلي، العالم الآخر، عالم اللاشعور، وكذلك تم ضد شبح الأم، لا الأم كما هي، وما يؤكد ذلك:
5-أ/ أن القتل وقع على الشبح/ الوهم.
5-ب/ أن القتل قد تم في اللاواقع، في العالم السفلي، وهو عالم قريب من عالم الحلم، حيث كل شيء فيه عبارة عن شبح ووهم.
من كل هذا نصل إلى نتيجة مفادها، أن عقدة ((أوريستيس)) هي عقدة قاصرة في التحليل النفسي لإعطاء الأجوبة الشافية لمجمل الأسئلة النفسية –الاجتماعية التي تكونها حوادث قتل الأم، إن كان ذلك في الواقع أو في عالم الإبداع الأدبي.
لهذا تأتي أرجحية أسطورة ((جودر)) على أسطورة ((أوريستيس)) في حل جميع الإشكالات النفسية والاجتماعية التي تكونها حادثة قتل، أوالشروع بقتل الأم.. وإن مايؤكد هذه الأرجحية، هو إخفاق ((جودر)) في قتل شبح الأم في المرة الأولى، وماعقبه من إجراء عقابي، وإعادة المحاولة مرة أخرى.. كل ذلك في محاولة للخروج من سيطرة الأم نهائياً، ومن ثم إكمالاًٍ لحدود رجولته، دون أن يفقد الأم نهائياً، كما فقدها ((أوريستيس)) بالقتل.
إن قتل الأم، حقيقة، يعاقب عليها العرف والقانون والدين أيضاً، مهما كانت الدوافع والأسباب، خاصة وإن الإسلام، كفكر وفلسفة، والذي يقف وراء منتج هذه الأسطورة، ينص دستوره القرآن الكريم، وهو مصدر من مصادر ثقافة التفكير الشعبي على النهي عن التأفف أمام الوالدين ((ولا تقل لهما أف))، فكيف بالقتل الحقيقي؟
***
(التطبيق)
1- بعد أن تعرفنا على عقدة قتل الأم كما طرحها التفكير الشعبي العربي (الأسطوري) في الليالي وقد أطلقنا عليها تسمية. (عقدة جو در) كان على البحث أن يختار نموذجاً من الأدب العربي الحديث ليقرأه قراءة تحليلية اعتماداً على ماتقدمه (عقدة جو در) من كشوفات نفسية –اجتماعية لشخصيات العمل الأدبي، فلم يجد –كبداية أولية- سوى رواية الكاتب العربي نجيب محفوظ (السراب) رغم ماقدم عنها من دراسات تحليلية11- وفق منهج التحليل النفسي الفرويدي اعتماداً على عقدتي (أوديب) و (أوريست) فإنها –أي الرواية- تطرح مجموعة من الأسئلة التي في مقدور التحليل المعتمد على (عقدة جو در) وضع الأجوبة المقنعة لتلك التساؤلات ومن ثم مد يد العون لمعرفة سلوك بطلها (كامل رؤبة لاظ).
والجدير بالتنويه ونحن نتحدث عن هذه الرواية، أن نتذكر أن الدكتور عز الدين اسماعيل، قد قدم دراسة تحليلية نفسية لها اعتماداً على عقدة ((أوريست))، لكنه –في الوقت نفسه- قد شكك في دراسته تلك بإمكانية هذه العقدة من إعطاء الأجوبة الشافية لمجموعة التساؤلات المثارة حول سلوك بطلها ((كامل)) فيقول: ((وحين نستعرض أحداث هذه القصة يبدو لنا أنها لا تتفق في ظاهرها مع قصة بطلنا كامل، فكامل كان يحب أمه، وقد عاش معها طوال حياتها، لكن القصتين تنتهيان نفس النهاية، فكما أن ((أورست)) قتل أمه فكذلك كان كامل السبب في وفاة أمه، إنه لم يقتلها بيده كما صنع ((أورست)) لكنه يعرف ويقرر أنه كان السبب المباشر في وفاتها))12-. إن إدراك هذه الحقيقة من قبل الدكتور الفاضل، جعله يقرر في مكان آخر ((ص269)) أن شخصية كامل كانت تحمل في دواخلها تناقضات بين (الأوديبية والأورستية)) فيما يقول في مكان آخر ((ص259)): ((إن شخصية كامل بطل هذه القصة مزيج من ((ديمتري)) و ((هملت)) ومن نفسه))، ليبري نفسه أخيراً مما يقع فيه من سوء فهم أو تقدير في التحليل. ولو تنبه الدكتور الفاضل، وغيره من دارسي الأدب، إلى أن أدبنا الشعبي –لو تخلصنا من عقدة الخواجة- يزخر بين ثناياه بما يعيننا على تفهم أكثر المشكلات النفسية والاجتماعية تعقيداً، لما وقع بمثل هذا الشك. إن عقدة ((جو در)) ستعيننا –حقاً- على الوصول إلى تفسير مقنع لسلوك بطل ((السراب))، دون الاعتماد على عقدتي ((أوديب و أورست)).
*** ***
2-ملخص الرواية: تبدأ رواية السراب. بالسطور التالية: (إني أعجب لما يدعوني للقلم، فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة.. الخ)13- نفهم من هذه البداية، أن بطل السراب هو الذي يتحدث إلينا من خلال تسجيله لما مر من حياته، بضمير المتكلم، حيث يعود بنا إلى الوراء، إلى أيام الطفولة، أيام كان يعيش في بيت جده مع والدته.. وكانت أمه قد تزوجت من أبيه الرجل الذي كان يعيش ((عالة)) على والده الثري، وما ورثه من إرث عن عمه.. وقد أنجبت منه ولداً وبنت.. وكان الأب ذاك سكيراً شريراً مما نتج عن سلوكه هذا الكثير من المشاكل بينه وبين أم كامل، فكانت أمه بين الحين والآخر، تترك بيت زوجها لتعود إلى بيت والدها.. وفي مرة أعادها والدها إلى بيت زوجها وطفليها، فكان أن حملت به، وولدته.. لكن المشاكل عادت مرة أخرى، فتم الانفصال النهائي بين الزوجين، فعاش ((كامل)) مع أمه في بيت جده مدللاً، وقد زاد اهتمام أمه به للتعويض عن الزوج والأطفال.. حيث نشأ نشأة غير صحيحة، إذ كان ينام مع أمه في سرير واحد حتى سن متأخرة، وكان يدخل الحمام معها.. فنشأ خجولاً، خائفاً، غير قادر على عمل شيء بنفسه.. وكان لسلوك أمه هذا، وتربيتها السيئة الأثر الكبير في زرع الخوف والعجز داخل نفسه، كما فشل في حياته الزوجية. عندما كان طالباً في الثانوي أحب –من طرف واحد- فتاة كان قد رآها وهي ذاهبة إلى المدرسة. بعد أن توظف أخبر أمه عن عزمه في الزواج فانتبهت الأم لما حصل له من تغير وخوفاً منها من انفصاله عنها بالزواج راحت تذكره بزواجها الفاشل (ص112) وما آل إليه من وضع سيئ يعيشانه سوية. لكن رياح الابن تجري بما لا تشتهي سفن الأم إذ يخطب بنفسه الفتاة التي يحبها (رباب) من أبيها ويتزوج منها والأم كارهة لذلك. وفي ليلة العرس الأولى لم يستطع (كامل) من عمل شيء مع زوجته وتمضي الأيام بهما دونما تقدم. وبمشورة من أم (رباب) يوافق (كامل) على قيام (صباح) الخادمة بفض بكارة (رباب) عندها يقول في نفسه: ((ولست أخفي أني شعرت بارتياح إلى اقتراح الأم. فهو يزيل عقبة من سبيلي ويخليني من بعض المسؤولية ويعفيني من مراقبة الأم) (ص234).
حتى هذا العمل الذي قامت به ((صباح)) لم يساعده على ممارسة حقوقه الزوجية والقيام بواجباته تجاه زوجته. وتمر الأيام وفي يوم ما يرتاب (كامل) في سلوك زوجته بسبب خطاب رآها تقرأ فيه (ص267).. ويأخذ بمراقبتها أثناء ذهابها إلى دائرتها وأثناء ذلك يتعرف على امرأة بدينة تكبره بالسن تدعى (عنايات): (كانت فوق الأربعين إن صدق نظري –وقل أن يصدق في تقدير الأعمار- وكانت على رغم تألقها وتزينها أقرب للدمامة منها للحسن، ذات وجه مستدير غليظ، وعينين بارزتين ثقيلتين الجفنين، وأنف قصير أفطس، وشفتين ممتلئتين، ووجنتين متكورتين منتفختين.. الخ)) ص284.
وتتوطد العلاقة بينهما.. حيث تستطيع هذه المرأة من ((حل)) عقدته، فيمارس الجنس معها بكل حرية.. وفي يوم ما، تذهب ((رباب)) إلى بيت والدها، ولم تعد.. فيذهب للسؤال عنها فيجدها طريحة الفراش.. وذات يوم يزورها، فيفاجأ بموتها، ويعلم من أهلها أن الدكتور (أمين) قريبها قد أجرى لها عملية جراحية، فيرتاب في أمر العملية، فيقدم بلاغاً للنيابة حول ذلك.. حيث يكشف التحقيق أن العملية قد أجريت لإجهاض ((رباب)) لجنين ((سفاح)).. ولكي يبعد الدكتور عن نفسه فشل العملية، يحدث ثقباً بغشاء ((البريتون)) يؤدي إلى وفاتها.
يعود ((كامل)) إلى أمه فيجدها مريضة لكنه يخبرها بوفاة زوجته، ويجري بينهما حوار يتهمها فيه بالتشفي من موت ((رباب)) ويغلظ معها الحديث، ويخرج من البيت مهموماً بعد أن يقول لها: ((اشمتي ما شاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً، انتهى الماضي بخيره وبشره ولن أعود إليه ماحييت، سأنفرد بنفسي انفراداً أبدياً، لن أعيش معك تحت سقف واحد)) ((ص354)).
يفاجأ في اليوم التالي بموتها، حيث يقع طريح فراش المرض، وإذ يبقى وحيداً، تزوره ((عنايات)). مثل هذا الملخص البسيط لأحداث الرواية، رغم قربه من الخطوط العامة للأحداث سوف لن يساعدنا على تلمس ما في الرواية من دلالات نفسية واجتماعية حاول الكاتب الوصول إليها، مالم نتعرف على الشخصية الرئيسية فيها، وهي شخصية ((كامل رؤبة لاظ)) وسلوكه مع شخصيات الرواية الأخرى التي كانت السبب في مأساته..
*** ***
3-العلاقات: إن القراءة الفاحصة للرواية وأحداثها، ستقدم لنا مجملاً للعلاقات التي تربط ((كامل)) بالشخصيات النسائية الثلاث، وتأكيداً لهذه العلاقات، يرى الكاتب- أو كامل نفسه وهو يكتب مامضى من حياته- لم ينضج لنا أية علاقة مابين نسائه ورجاله، حيث جاءت مثل تلك العلاقات رغم محدوديتها باهتة.
3-أ/ علاقة كامل مع أمه: تبدأ هذه العلاقة من السطور الأولى، وتنتهي بانتهاء الرواية.. وتتسم بالسيطرة من قبل الأم على الابن، فيما يكون هو شخصاً منقاداً.
كان ((كامل)) يحب أمه ويحترمها، وهي تبادله الشعور نفسه، يعيش معها في بيت واحد، وغرفة واحدة، وينامان في سرير واحد، حتى بلوغه سن السادسة والعشرين من عمره، عندما أنبه جده على ذلك التصرف السيء.. وكان يدخل معها الحمام، وعلاوة على ذلك، فقد كان يشبهها بملامح الوجه.. وكانت هي لا تسمح له باللعب مع أقرانه، ولا الخروج من دونها.. وقد أثرت تلك السيطرة من قبل الأم، وكذلك التربية السيئة على نفسية ((الطفل// الشاب)) فجعلته:
أولاً: خجولاً (ص45) وعذرياً (ص68).
ثانياً: لا يجرؤ على اللعب مع أقرانه (ص22).
ثالثاً: لا يجرؤ على الحديث مع الآخرين (ص68).
رابعاً: غير قادر على عمل شيء اعتماداً على نفسه (ص60).
خامساً: ليست لـه القدرة على التكيف مع زملائه في المدرسة والدائرة (ص30).
سادساً: هدفاً لعبث زملائه الطلاب، وإهانة مدرسيه (ص32-38-77).
كل ذلك جلب التعاسة له، والانكفاء داخل البيت، ومن ثم أحضان أمه، فنفسه.. لكنه كثيراً ما حاول الخروج عن تلك السيطرة، وذلك الانكفاء.. فها هو يقول: ((إنني لا أستطيع أن أقول أنني استكنت إلى تلك الحياة بلا تململ، ولعلي ضقت فيها في أحايين كثيرة، وتطلعت إلى الحرية والانطلاق، ولعل ضيقي ذلك مضى يزداد بتدرجي في مدارج النمو، وأي ذلك أنها أقبلت تخوفني أشياء لا حصر لها لتردني عما أتطلع إليه من حرية وانطلاق، ولتحتفظ بي في حضنها على الدوام. ملأت أذني بقصص العفاريت والأشباح والأرواح والجان والقتلة واللصوص، حتى خلتني أسكن عالماً حافلاً بالشياطين والإرهاب، كل مابه من كائنات خليق بالحذر والخوف)) ((19)). أما أمه، فقد كانت تعيده إلى سيطرتها، بأساليبها الخاصة، لكن مثل تلك المحاولات –خروجه من البيت خلسة واللعب مع أقرانه، وكذلك حبه للفتاة أثناء دراسته في الثانوية وغيرها- كانت تقمع من قبلها، وبنفس الوقت لم يكن ينساها بسهولة، وإنما.. كان لا شعوره يحتفظ بها.. فها هو يقول: ((طالما رفت على خاطري الرغبة في هجرها في صورة أحلام غامضة، ولكن هل يسعني حقاً أن أهجرها؟)). إن رغبته في التحرر من سيطرة الأم أخذت تزداد عنده شيئاً فشيئاً حتى وصلت ذروتها عندما طلب يد محبوبته بنفسه ومن ثم الزواج منها ((بمشورة من مجلة استشارها)). رغم هذه السلبية البادية عليه أمام الأم، كان تفكيره ولا شعوره –في الوقت نفسه- يعمل ضد هذه السيطرة، محاولاً الانعتاق منها، أي كانت هناك قوتان تصطرعان في داخل لا شعوره، هما: قوة البقاء تحت تلك السيطرة، وقوة التحرر منها. إن هذا الصراع يبقى جياشاً في لا شعوره حتى لحظة المواجهة الحاسمة مع أمه، بعد وفاة زوجته، إذ عندها ينتهي ذلك الصراع إلى جانب قوة التحرر من تلك السيطرة، حيث بموت الزوجة تموت كل القيم الأخلاقية التي كانت تمثلها الأم وتجسدها الزوجة كصورة من صور الأم. هنا يتماهى ((كامل)) بـ ((جو در)) والأم بأم جودر، ولكن، بينما كان قتل ((جودر)) لشبح //وهم الأم نهاية لذلك الصراع، ومن ثم تحقيق لوجوده كإنسان حر، رجل كامل الرجولة. كان جوهر صراع ((كامل)) ومن ثم انتهاء ذلك الصراع بقتل الأم رغم كونه قد جاء بصورة غير مباشرة لكنه من جهة أخرى كان قتلاً مباشراً عند موت الزوجة، وسنتعرف على ذلك في السطور القادمة. وإذا كانت أم ((جودر)) قد أحكمت –هي الأخرى- سيطرتها على ابنها ((جودر)) بسبب ماعانته من فقد الزوج والسلوك المؤذي لأبنائها، فإن ((أم كامل)) قد لقيت هي الأخرى الكثير من العذاب بسبب سلوك زوجها ومن ثم هجره لها.. كل ذلك دفع بهما إلى تعويض مافقدتاه بالتسلط على الأبناء والاستحواذ عليهما، إن كان ذلك لا شعورياً، بسبب الخوف عليهما، أو من خلال ما كانا يقدمانه لهن من حب واحترام زائد.. وكانت قوة الجذب بين التسلط والرضوخ قد أخذت مداها الواسع بصورة طردية. لقد وجد ((جودر)) طريقه إلى التحرر والانطلاق بعد قتله لشبح // وهم الأم، وهو قتل معنوي حدث في العالم السفلي ((=اللاشعور)) وقد فعل ((كامل)) مثل فعله في قتل الأم معنوياً، من خلال:
* ممارسة الجنس مع الخادمة الدميمة.
* ممارسة الجنس مع (عنايات)، وما كانت تمثله من صورة التطابق للأم ((في السن خاصة)) وصورة التناقض ((القبح مقابل الجمال الروحي والجسدي)).
** ممارسة العادة السرية، وهذا مناقض للقيم والأخلاق الحميدة التي زرعتها الأم في داخل نفسه، خاصة إقامته للصلاة في أوقاتها.
* شربه للخمرة.
مثل هذه الأعمال السلوكية، وهي أعمال جنسية محرمة، عدا احتسائه للخمرة، هي النقيض لما كانت تمثله الأم من قيم وأخلاق حميدة، وهذا يعني قتل لتلك القيم والأخلاق في نفسية ((كامل)).. أي أنها قتل الأم في الوقت نفسه في لا شعوره، على أقل تقدير. وهكذا تأتي الأسطورة التي أنشئت في زمن غير زماننا، وفي واقع حضاري غير واقعنا الحضاري في القرن العشرين، لتحل لنا قضية حضارية –نفسية- اجتماعية، إنها قضية التحرر من هيمنة الإرادة الخارجية والتي تجسدت في هيمنة إرادة الأم.
***
3-ب/علاقة ((كامل)) بزوجته:
إن اختيار كامل لـ ((رباب)) زوجة له، جاء اعتماداً على اعتبارين أساسيين هما:
* أنها تشبه أمه ((خلقاً وجمالاً)).
* لأن علاقته بها، كانت الأولى من نوعها.
ولم تكن علاقته بها، بالعلاقة السوية بعد ليلة الزفاف الأولى، فقد بدأت حالة القطيعة بينهما –رغم ما يكنه أحدهما للآخر من حب- عندما فشل في أن يكون رجلاً في فراش الزوجية. ولو بحثنا عن أسباب ذلك، لوجدنا أكثر من سبب جعل من هذه العلاقة غير مثمرة، لتصل إلى حد الانقطاع.. ومن هذه الأسباب ماهو موضوعي، ومنها ماهو ذاتي.
أولاً: العوامل والأسباب الذاتية: مثل قدرته على ممارسة الجنس مع النساء القبيحات (الخادمة الدميمة وعنايات) وكذلك ممارسته للعادة السرية، وانكفائه داخل حدود عالمه المتخيل.
ثانياً: العوامل والأسباب الموضوعية: وقد جاءت كلها من تأثير أمه عليه، مثل:
1-تأثير علاقته بأمه في جعله رجلاً ناقص الرجولة أمام زوجته.
2-الاختيار السريع لـ (رباب) زوجة له. حيث جاء هذا الاختيار بدافع لا شعوري كونها تشبه أمه مع بعض الاختلافات الطفيفة.
فوالدته كما بدت له، في الصورة القديمة (بقامة طويلة وجسم نحيل ووجه مستطيل وعينين واسعتين خضراوين وأنف دقيق مستقيم) ص8 فيما كانت(رباب) تتصف بـ (قامة طويلة وقد نحيف رشيق وبشرة قمحية((……)) ووجها مستديراً ((……)) وأنفاً صغيراً دقيقاً) ص85 أي إن رباب هي الصورة المطابقة لأمه من ناحية الجمال الجسدي بالنسبة له، مع فارق قليل سنتعرف عليه في وجه (عنايات). فالقامة طويلة، والجسم (القد) نحيل (نحيف)، والأنف دقيق مستقيم (صغير دقيق).. أي أن (كامل) قد اتجه (( لا شعورياً)) إلى هذه الفتاة عند محاولته التحرر من سيطرة الأم، فعاد إليها مرة أخرى.
3-إن شعوره بعاطفة الحب تجاه (رباب) من طرف واحد، هو تجربته الأولى والوحيدة مع النساء، خارج حدود علاقته بأمه.. وهذه المحاولة في التحرر من سيطرة الأم، قد دفعته مرة أخرى إلى نفس السيطرة، مما يعني أن اختياره لم يكن موفقاً.
4-كان في صغره، قد شغله سؤال لم يجد إجابة له عند والدته، عندما حاول معرفة سبب هروب شقيقته مع رجل غريب والزواج منه ومن ثم الإنجاب (ص48) إن الجواب عن هذا السؤال، قد وجده عند الخادمه (الدميمة) فهاهو يقول: ((فصارحتني مرة بأنها تعلم أمور خليقة بأن تعرف، وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة، على أن العهد بها لم يطل، فما أسرع أن ظبطتنا أمي متلبسين، ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية فأدركت أني أخطأت خطأ فاحشاً. وقبضت على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك، وانتظرت على خوف وخجل، ثم عادت متجهمة قاسية، ورمت صنيعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أجهشت باكياً. ولبثت أياماً أتحاشى أن تلتقي عينانا خزياً وخجلاً)) ص49 هذا المقطع –رغم طوله النسبي يكشف لنا الأسباب الخفية التي دفعت بـ (كامل) إلى عدم ممارسة الجنس مع زوجته منذ الليلة الأولى لزواجهما. بتضافر هذه العوامل، وأثرها في اللاشعور، أصبح (كامل) في وضع سلبي مع زوجته، حيث أصبح الجنس، في لاشعوره –عمل غير مقبول من قبل الآخرين بدلالة هروب أخته من بيت والدهما مع الرجل الذي سيشترك معها في جريمة مشابهة لجريمته مع الخادمة. ومثل هذا الفعل //الجرم يستلزم العقاب في الدنيا والآخرة خاصة إذا كانت هذه المرأة التي يمارس معها الجنس (رباب) تشبه إلى حد ما أمه. فهو-وطيلة أيام حياته- عاش مع أمه، في البيت، وفي الحمام، وفي الفراش، لكنه لم يفكر –ولو للحظة واحدة- أن يمارس –حتى لو كان ذلك في خياله- الجنس معها.
إن العلاقة التي تربط بينهما، هي علاقة الأمومة التي انتقلت بكل عناصرها إلى العلاقة التي كانت لـه مع زوجته، وهذا يعني أن أي اتصال جنسي مع الزوجة معناه الفسق بالمحارم. إذن فالزواج، كمشروع أراد منه أن يحرره من سيطرة الأم وهيمنتها عليه، قد فشل فشلاً ذريعاً، وأصبح مشروعاً لإعادته مرة أخرى إلى أحضان الأم دون وعي منه.
***
3-ج/علاقة كامل بـ (عنايات):
لم تكن (عنايات) سوى الصورة الثانية للخادمة الدميمة، والصورة المعكوسة للأم.. بالرغم من أنها مطابقة لها من ناحية السن إلى حد ما، حيث كانت تداعبه قائلة: -(يا كتكوتي) ص312 كما تداعب الأم طفلها، إن ممارسة الجنس مع الخادمة الدميمة في فترة الطفولة، لا يمكن عده إلا عملاً محرماً ومعاقباً عليه، خاصة من قبل الأم، ذلك الشخص المهيمن والمسيطر والموجه.. وأن إعادة مثل تلك الممارسة –حتى لو كان ذلك بعيد عن نظر الأم –مع (عنايات) يعني هو محاولة للخروج من تلك السيطرة. لذا نراه وقد نجح –ليس في التحرر من سيطرة الأم نهائياً- وإنما في إعادة الثقة بنفسه، وممارسته لحقوقه الرجولية مع الجنس الآخر، لهذا نراه يعلن عما شعر به من اطمئنان وثقة بالنفس.
*** ***
4-من كل ماسبق يمكن الوصول إلى: أن العقدة التي كانت تكبل (كامل) وتمنعه من أن يكون رجلاً على فراش الزوجية، هي خوفه من ممارسة الجنس مع المحارم، بسبب ماكانت تشكله الأم في لا شعوره، من قوة كبح كبيرة أمام حقوقه الرجولية.. فكان لا شعوره يصور له الزوجة وكأنها هي أمه، وأن أية ممارسة مع المرأة القبيحة هو محاولة لتحدي تلك القوة، وكذلك، محاولة للخروج من تلك السيطرة، ولكن كل ذلك لم يغنه شيئاً فما زالت الأم هي المسيطر والمهيمن القوي عليه. إنما ماوصل إليه من حالة الخوف والعجز وعدم قيامه بواجباته الزوجية، كان بفعل قوة هيمنة الأم، وأن هذا (العجز) قد دفع بزوجته إلى أحضان رجل آخر، ومن ثم الموت المخزي ليس للزوجة فحسب، بل للأم وما تمثله من قيم. أي أن موت الزوجة قد جاء ليمثل موت الأم، عندها تأتي خاتمة تلك الأم، أي خاتمة للقوة المسيطرة والمهيمنة.
وإذا كان في الأيام الماضية، قد فكر في خياله فقط، في أن يترك أمه، أي الخروج من سيطرتها، فإنه اليوم قد أصبح في حالة لا يحسد عليها بوجود هذه الأم، لهذا نراه يهرع إليها، ليسمعها كلاماً جارحاً وقاسياً، عندما تطلب منه أن يرحمها من هذا القول القاسي.. فيما كان هو يؤكد مع نفسه قائلاً: (ولكني لم أرحمها) ص353.. وقبل أن يتركها يخبرها بقراره الأخير: (اشمتي ماشاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً. انتهى الماضي بخيره وشره ولن أعود إليه ماحييت) ص354.
بهذه الكلمات دفن كامل أمه وهي حية أي أنه قتلها لأنه كان يشعر في قرارة نفسه أن أمه قد ماتت بموت زوجته، لأن في موت (رباب) والذي كان فيه (كامل) سبباً غير مباشراً، كان ذلك الموت موت للأم، وإن في ذلك الموت السبيل إلى الانطلاق والحرية.. وفي اليوم الثاني يسمع بموتها عندها يتهم نفسه بقتلها وكما قتل (جودر) شبح // وهم أمه فقد قتل (كامل) شبح // أمه، عندما كان هو السبب في ماوصلت إليه حالة الزوجة، ومن ثم موتها. هناك سؤال يلح في هذه السطور، هو هل عوقب ((كامل)) على جريمته هذه، أم لا؟ مثل هذا السؤال، نجد إجابته في القسم الأخير من الرواية، حيث يمرض ويدخل في غيبوبة تامة يقول ((كامل)): ((لا علم لي بالساعات الطوال التي قضيتها في غيبوبة تامة، ولكن ثمة أوقات أخريات كنت أتخبط في ظلمات بين الغيبوبة واليقظة، إنها دنيا غريبة معتمة تتوزعها الأحلام، فكان يداخلني شعور أنني حي، ولكن حي كميت وهناً وعجزاً… الخ)) ((ص363)) هذه الحالة، يمكن تشبيهها بحالة النقاهة، النقاهة بين المرض ((الوقوع تحت سيطرة الأم)) والشفاء منه ((والتحرر من تلك السيطرة)) وعودة لما قلناه سابقاً، فإن بداية تململ ((كامل)) وانزعاجه من سيطرة الأم بعد ارتياده الحانات وزياراته الفاشلة لبيوت الدعارة، وهي أعمال لا يمكن عدها تحدياً جدياً لسيطرة الأم، نقول أن بداية ذلك التململ قد تجسد في علاقته بـ ((عنايات)) الصورة المضادة لصورة الأم، أي أنها تجسيد للأم// الوهم، الأم// الشبح، وإن ممارسة الجنس معها، هو عمل يشبه تعرية ((جودر)) لأمه.
إن الأم في ((السراب)) قد انقسمت في لا شعور ((كامل)) إلى قسمين، أحدهما: روحي وقد تجسد في ((رباب))، والثاني: جسدي// مادي وقد تجسد في ((عنايات)) فهاهو يقول: ((وزاد من حيرتي أنني شعرت شعوراً عميقاً بأنني لا غنى لي عنهما معاً بل لم أجد سبيلاً إلى المفاضلة بينهما فهذه روحي وتلك جسدي وما عذابي إلا عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسده. وماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه الجميل المتسم بالطهر والكمال؟ ولكن ماذا يبقى لي من لذة ورجولة إذا فقدت المرأة الأخرى)) ((ص309-310)).
إن مأساة ((كامل)) قد تمثلت في كيفية الجمع بين الروح والجسد وكلاهما عند أمه ومايؤكد ذلك مايذكره في أن خياله الذي تراءت فيه كلٌّ من ((رباب)) ((وعنايات)) قد ((ينحرف)): ((بغتة إلى أمي بلا داع فاتخذت مكانتها في شريط هذه الصورة المتلاصقة)) ((ص310)).
ولكن الكاتب –لا شعور البطل- قد جسدهما في شخصيتين من لحم ودم وأحاسيس وكان عليه وهو يحاول الخروج من سيطرة الأم أن يقضي على هاتين الشخصيتين فكان عجزه الجنسي سبباً في موت ((الروح)) =الزوجة وكانت ممارسته للجنس مع ((عنايات)) موتاً ((للجسد)) الذي كثيراً ما رآه في البيت والحمام وسرير النوم والذي كان يخاف منه عندما كانت زوجته تتعرى أمامه إذ يقول: ((لقد بت أخاف جسمها بقدر ما أحبها)).
***
الخلاصة:
مما تقدم يمكن الوصول إلى:
1-إن تراثنا الأدبي القديم لو قرئ قراءة متأنية لتوصلنا إلى ما فيه من كنز ثمين للأفكار والطروحات التي يمكنها الإجابة عن عشرات الأسئلة التي يمكن أن تطرح في زماننا هذا.
2-إن هذا التراث يزخر، كما التراث العالمي، بالكثير من النظريات والأفكار التي يمكن تشكيلها بصورة متكاملة تجعل منها ليس نظيراً إلى ماطرح في التراث العالمي وإنما أكثر عمقاً واستجابة إلى ما تريد أن تقولـه تلك الأفكار والطروحات العالمية –الإغريقية واليونانية- القديمة. خاصة فيما يتعلق بالطروحات النفسية والاجتماعية المعروفة كعقدة ((أوديب)) و ((أورست)).
3-إن عقدة ((جودر)) يمكن عدها من العقد المهمة في التحليل النفسي والتي يمكن من خلالها الوصول إلى نتائج مهمة في تفسير سلوك بعض شخصيات الأعمال الأدبية.
4-إن عقدة ((جودر)) استطاعت –في السطور السابقة- أن تقدم تحليلاً نفسياً لسلوك بطل ((السراب)) الذي شككت، بعض الدراسات التحليلية له، في أن يكون بمقدور التحليل المعتمد على عقدتي ((أوديب)) و ((أو رست)) من تفسير ذلك السلوك.
***
1-أسطورة جودر: (النص)
يقول التاجر المغربي لـ ((جودر)):
((اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه فإنك تسمع قائلاً يقول: من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟ فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك: إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك، فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء. وأما إذا خالفته فإنه يقتلك. ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال. فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرس وعلى كتفه رمح فيقول: أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الأنس ولا من الجان؟ ويهز عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك، ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك، ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه، فإن وصل إليك فأعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس، فتقدم إلى الباب وقل له: يا عيسى قل لموسى يفتح الباب، فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين، وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال، فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا ابني أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة، اخلعي ثيابك. فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، كيف تعريني؟ فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك. وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً، فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط، وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد، وقد أمنت على نفسك، فأدخل تجد الذهب…))1-.
انتهى هذا القسم من أسطورة ((جودر الصياد ابن عمر وأخويه)) ويعتبر هذا القسم هو النواة التي دارت حولها الأسطورة، حيث وضعه مُنْشِئُها في الوسط بعد أن تحدث عن جودر وأمه وأخوته في البداية… أما القسم الثالث والأخير من هذه الأسطورة، فقد تحدث عن (جودر) بعد أن يغتني بالمال. إن هذا القسم المهم سيكون ميدان بحثنا هنا.
***
2- تفكيك النص
2-1/ عوالم النص
من خلال قراءة هذا القسم من النص الأصلي، يمكن التعرف إلى عالمين، أحدهما العالم الأرضي، والآخر العالم السفلي (العالم المجهول) الذي يقع تحت قاع النهر، ويبدأ من الباب الأول وينتهي عند مكان الكنز، ماراً بالأبواب الأخرى.
إن الانتقال من العالم الأرضي إلى العالم السفلي ((الآخر=المجهول= الحلم)) لا يتم إلا بعد جفاف النهر، أي إزالة طبقة مادية –رغم شفافيتها- وهذا يعني بالمفهوم الشعبي/ الأسطوري، إن الانتقال هذا يتم بكل يسر وسهولة لما في ذلك التفكير من اعتقاد سائد بحقيقة وجود هذا العالم، وكذلك عدم مجهوليته. إن العالم المجهول، كما تؤكد الدكتورة نبيلة إبراهيم2- (لا يبتعد كثيراً عن العالم المعلوم في الحكاية الخرافية، بل هو قريب منه كل القرب، فإذا رحل البطل إليه فإنما انتقل من مكان لآخر، لا لأن هذا المكان المجهول قريب منه، وأنه يستطيع أن ينتقل إليه في خفة ورشاقة فحسب، بل لأن هذا العالم ليس مجهولاً بالنسبة له).
2-2/الشخوص:
هناك نوعان من الشخوص في هذا النص نوع يعيش في العالم الأرضي (المعلوم)، وهم من لحم ودم: ((التاجر، الخدم، جودر، وآخرون)) أما النوع الثاني، فهم يعيشون في العالم السفلي ((المجهول)) حيث نجدهم عبارة عن أشباح رغم صورتهم الإنسانية أو الحيوانية. إنهم يتهاوون الواحد بعد الآخر عند امتثال ((جودر)) لأوامرهم، ويختفون عن الوجود، انهم: ((أجسام بلا أرواح)). هذه الشخصيات هي:
*الشخصية الأولى: -شخص بيده سيف=((إنسان)).
*الشخصية الثانية: فارس يمتطي صهوة جواد وعلى كتفه رمح= (إنسان+ حيوان).
*الشخصية الثالثة: آدمي وفي يده قوس ونشاب= (إنسان).
*الشخصية الرابعة: (سبع) عظيم الخلقة= (حيوان).
*الشخصية الخامسة: عبد أسود= (إنسان).
*الشخصية السادسة: ثعبانان= (حيوان).
*الشخصية السابعة: الأم= (إنسان).
إن شخوص العالم السفلي، تتخذ لها صوراً إنسانية أو حيوانية، ولا فرق بين الصورتين، طالما كل واحد منها يحاول منع (قتل) جودر. أي إنها تحاول التأثير عليه ومنعه من الوصول إلى الكنز، لا لكي تحافظ على ذلك الكنز منه وإنما لتختبره. ومن الجدير بالذكر أن (العبد الأسود) لم تكن مهمته منع (قتل) جودر وإنما كان دوره في ذلك استفزازياً، توجيهياً. فهو يسأل (جودر) قائلاً: ((إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس)).
كذلك فإن الشخصية، وعلى خلاف وظيفتها في أغلب الأساطير والحكايات والقصص الشعبي نجدها هنا تقف خلف الباب لا أمامه. أي إنها لم تكن شخصيات ((حارسة)) وإنما هي شخصيات ((ممتحنة)) إنها تمتحن قدرة ((جودر)) من خلال توجيه الأوامر =الأسئلة له.
من المعروف أن شخصيات العالم السفلي= المجهول، هي شخصيات قابلة للتحول من صورة إلى أخرى. لهذا يمكن قبول صورها السبع المتنوعة في هذا النص ((خمسة شخوص إنسانية واثنتان حيوانية)). أرى أن القاص الشعبي لهذا النص قد قام بعملية استبدال لهاتين الشخصيتين فجعلهما في صورة حيوانية ((رغم كون جميع الشخصيات عبارة عن أشباح)) لإعطاء بعض الفاعلية التهويلية// التشويقية لنصه هذا. لكن تشخيصات (تفسير الأحلام) تسعفنا برد مثل هذه الصورة الحيوانية إلى صورتها الإنسانية. ذلك لأن التفكير الشعبي يجعل من عوالم الأحلام امتداداً للعوالم الواقعية، حيث يفسرها، فيتداخل عالم الحلم بعالم الواقع. في كتاب تعبير الرؤيا لابن سيرين، نجد أن هذا العالم يفسر رؤية الأسد ((السبع)) على أنه: عدو مسلط ذو سلطان وبأس شديد (ص44) فيما يفسر رؤية الثعبان (الحية)) على أنه: عدو كاتم العداوة مبالغ فيه (ص45). وهكذا تستقيم الصورة الإنسانية لشخوص العالم السفلي في هذا النص.
2-3 مشهد العالم السفلي:
يبني واضع الأسطورة، المشهد في العالم السفلي على أساس التكرار، أي تكرار الفعل سبع مرات. أي أنه يقسم المشهد العام إلى سبع مشاهد صغيرة يفصل فيما بينها باب يقف خلفه كائن ما. إن تكرار المشهد سبع مرات متأت من أن التفكير الشعبي مولع بالرقم سبعة، لمرجعية أسطورية// دينية. فطبقات السماء سبع، والأرض تقع في سبع طبقات، والأيام في الأسبوع هي الأخرى سبعة.. الخ3- وبتقسيم هذه المشاهد يتكون لدينا الجدول التالي:
ومن الملاحظ أن أغلب الشخصيات التي تقابل ((جودر)) في محاولاتها لمنعه// قتله تحمل سلاحها الخاص.. عدا ((السبع)) و ((الثعبان)) فإن سلاحهما هو ((الأكل، العض)) أما الأم فقد استبدلت الأسطورة مالك السلاح، وجعلت ملكيته عند ((جودر)) ليهدد به أمه… بالعكس من الشخصيات الست السابقة التي كانت هي مالكة لسلاحها. بعد هذه القراءة ((التفكيكية)) إن صحت التسمية، لمغامرة ((جودر)) في العالم السفلي يمكننا الاقتراب إلى ما تشكله عقدة الأم، أو عقدة ((جودر)) في هذه الأسطورة.
***
3-أسطورة ((جودر)) ودلالاتها النفسية والاجتماعية:
3-1/ تحاول أسطورة ((جودر)) أن تعطي دلالاتها النفسية والاجتماعية من خلال قراءة العلاقة المهيمنة التي تربط بين ((جودر)) وأمه. واستنطاق محاولة الخروج من هذه العلاقة للوصول إلى أو ((الدخول في)) مرحلة الرجولة بعد قتل شبح// وهم الأم في العالم السفلي (عالم اللاشعور) ذلك لأن الطفل وحتى سن متقدم يظل واقعاً تحت هذه الهيمنة، وربما يبقى هذا المهيمن متسلطاً لا شعورياً على الابن بعد الزواج.. وإن التحرر من دائرته يتطلب استعداداً خاصاً، وعملاً شجاعاً. إن ما قام به (جودر) من فعل تجاه الأم ((شبحها)) بعد تعريته لذلك الشبح بعد الباب السابع، هو الطريق للفوز بالكنز ((=الحياة= الرجولة=الاستقلال)). لأن القضاء على شبح// وهم الأم داخل النفس البشرية معناه ((نضج الشخصية السيكولوجية للفرد. فعلى المرء أن يقتل داخلها الصورة الذهنية المزيفة ليجد الأمان، لأن ذكريات الطفولة والتردد والحيرة عوامل تعرقل سعادة الإنسان، والتزام الأم بمنعه من التحليق عالياً بجناحيه))4- إن قتل شبح// وهم الأم، معناه قتل ((المهيمن)) الكبير على الابن//الرجل. وأن التحرر من هيمنة هذا الشبح// الوهم، أمنية يتمنى تحقيقها شخصان آخران تربطهما علاقة وثيقة بالابن هما:
3-1-آ / شخصية المرأة/ الزوجة… حيث إنها تتمنى أن يتحرر زوجها من هيمنة إرادة الأم على إرادته.. إذا علمنا أن راوي هذه الأسطورة هي المرأة// الزوجة شهر زاد وهي عندما تروي هذه الأسطورة، فإنها تحاول وضع الأماني موضع التنفيذ، تنزلها إلى أرض الواقع، أي أن يتحرر الابن// الرجل// الزوج من هيمنة// سلطة الأم ليتجه إلى هيمنة// سلطة- أو على أقل تقدير إلى كنف الزوجة لكن المرأة// الزوجة، نسيت إنها ستصبح في يوم ما أماً، مما يجعلها وهي تبحث عن زوجة لابنها القادم تقف وجهاً لوجه أمام امرأة أخرى تحمل نفس الأمنية تلك في قتل ذلك الوهم// الشبح الذي ستكونه.
3-1-ب / شخصية الأب.. الذي هو الآخر، يحمل نفس الأمنية في أن يقتل الابن شبح// وهم الأم في نفسه. إنه يرغب في أن يجد ابنه رجلاً كامل الرجولة، متحرراً من هيمنة// سلطة الأم ودلالها ((الزائد)) وأيضاً يرغب في قرارة نفسه ألا يساعد أمه عليه في أي أمر يقع بينه وبين الأم. إن دور الرجل// الأب، في العائلة هو دور تسلطي على الأم والأبناء في الوقت نفسه خاصة في مجتمعاتنا الشرقية منذ مئات السنين لأن مجتمعاتنا هي مجتمعات أبوية، وأن المرأة// الزوجة فيها مسلوبة الإرادة ومغلوب على أمرها، هي أداة للمتعة والإنجاب إنها كائن بيتي يعيش في الظلام مما يدفعها إلى احتضان أبنائها الذكور منهم خاصة أنهم يشكلون عندها الجدار الصلب في حمايتها من نزوات الرجل// الزوج المشروعة وغير المشروعة، إن كان ذلك في تركها، أو هجرانها أو طلاقها… (فمنذ وقت سحيق وحدت الأم وأطفالها الجهود ربما دون وعي وبشكل مبهم للالتفاف حول سلطة الأب الغاشمة بحثاً عن التعويض فإلى جانب ما يمثله الأطفال من تأمين للاستقرار وللمستقبل، فهم أيضاً بمثابة قرون للاستشعار بالنسبة للأم، والحياة اليومية غنية بأمثلة المشاركة بين الأم وأطفالها في تنفيذ مؤامراتهم الصغيرة.. والطفل يعي جيداً أهمية الخدمات التي يؤديها إلى أمه وعادة ما يكون بارعاً في أدائها.. فهو يعلم مقدماً قدر العرفان الذي سيلاقيه.. ولكن يظل أبرز ما في الأمر هو شعوره العميق بالالتفاف من حول سلطة الأب، والثأر منه من خلال تلك المؤامرات الصغيرة الآمنة نسبياً) 5-.
من هذا نستنتج أن للرجل// الأب دوراً في وضع هذه الأسطورة ضد المرأة// الأم كي يدفع أبناءه للتحرر من هيمنة إرادة الأم وتسلطها، أي انفراط علاقة الأم- الابن لتعاد الهيبة إلى علاقة الأب- الابن.. عند ذلك يعيدهم إلى سلطته بعد سحب البساط من تحت أقدام المرأة// الأم. وبهذا تتجرد المرأة من سلاح قوي تهدد به الرجل// الزوج// الأب.. وهكذا تقف المرأة// الزوج في صف واحد مع الرجل// الأب في خلق هذه الأسطورة، لأن هدفهما واحد وكل واحد منهما يدفع بـ ((جودر)) إلى أن يطلب من أمه أن تتعرى أمامه أي يكسر الحاجز النفسي الذي يقف أمام الابن في محاولته الخروج من سيطرة الأم.. وعندما تتوسل إليه في أن يتركها بعد أن لم يبق على جسدها سوى ما يستر عورتها أمامه، يذعن لتوسلاتها ناسياً نصيحة المغربي، عندها تصيح قائلة: (قد غلط) وتطلب من الآخرين ضربه وطرده خارج الأبواب. لنتساءل هل هذه الصيحة، هي صيحة الأم أم إنها صيحة المرأة// الزوجة، وكذلك صيحة الرجل// الأب؟
أرى إنها ليست للأم لأنه مهما يكن من حال الابن، فإن الأم لا تقبل بانفصال ولدها عنها. إنها صيحة المرأة// الزوجة التي وجدت في وقوع زوجها في الخطأ حالة تتطلب العقاب.. وكذلك هي صيحة الرجل// الأب لنفس الأسباب.. فكان الضرب والطرد من مكان الكنز، ومن ثم إعادة المحاولة مرة ثانية في العام القادم. وربما يسأل سائل إن كان الكنز الذي يحصل عليه (جودر) هو للتاجر المغربي. وهذا صحيح لكن الوصول إليه ومن ثم إخراجه من تحت قاع النهر، كل ذلك بحد ذاته مغامرة تدفع بالتاجر إلى مكافأتِهِ بالكثير.. إن وصول (جودر) إلى الكنز ومن ثم إخراجه لـه دلالاته النفسية// الاجتماعية. لما فيه من دلالة رامزة إلى الرجولة.
3-2/ إذا كان (جودر) قبل أن يتعرف على المغربي قد عاش مع أمه التي كانت مهيمنة كبيرة عليه، فإنه بعد عودته إلى المدينة عقب حصوله على الكنز نتعرف عليه وقد أصبح هو الآمر الناهي في قصره الكبير وكذلك فإنه تولى بنفسه أمر زواجه من ابنة الملك ثم اعتلائه للعرش.. إن صورة الأم أو لنقل صورتها كقوة مهيمنة على إرادة الابن قد اضمحلت في هذا القسم من الأسطورة. وإذا كانت أسطورة (أوديب)) قد عاقبت (أوديب) بالعمى فإن أسطورة (جودر) قد عاقبته بالموت على يدي أخوته (سالم وسليم). ولو تصفحنا ما أنتجه التفكير الشعبي من أساطير وحكايات نرى أنها تنتهي بنهايات مفرحة لكن هذه الأسطورة نجدها وقد انتهت بمقتل بطلها لهذا أرى إن هذه النهاية لا تستقيم والتفكير الشعبي الذي أنتجها، اللهم إلا إذا كان هذا التفكير واعياً إلى ما فعله (جودر) من (فضح) لحرمة الأم، مما استدعى إيقاع العقاب به.
3-3 وأخيراً يمكن تمثل أسطورة (جودر) ومحاولته التحرر من هيمنة ((سلطة، سيطرة)) الأم بثلاث مراحل هي:
3-3-أ/ المرحلة المشيمية: أي مرحلة ارتباط الابن بأمه كارتباط الجنين برحم أمه بواسطة (الحبل السري) واعتماده في غذائه على دم أمه الذي يصله من خلال المشيمة وهذه المرحلة هي مامثله الجزء الأول من الأسطورة.
3-3-ب/ مرحلة المخاض: وهي المرحلة التي تتم فيها محاولات الابن للخروج من سيطرة ((هيمنة)) الأم.. كمحاولات الجنين ساعة المخاض للخروج من رحم الأم، ومايصاحب تلك المحاولات من آلام عظيمة للأم والمولود على السواء، وقد تمثلت هذه المرحلة في الأسطورة في الجزء الذي تحدثنا عنه في السطور السابقة.
3-3-ج/ مرحلة الانفصال: والانطلاق خارج رحم (سيطرة) الأم بعد قطع الحبل السري لمجابهة الحياة بعيداً عن الأم.. وقد تمثلت هذه المرحلة في الأسطورة في الجزء الثالث منها.
3-4-/ من خلال هذه القراءة التي قدمناها في السطور السابقة يمكن فهم هذه الأسطورة على أنها الوجه المقابل لأسطورة (أوديب) ولا يمكن فهم (جودر) بطلها على أنه ((أوديب عربي غير مثقل الكاهل بالخطيئة)) كما يقول مؤلف كتاب ((الإسلام والجنس)) ص304. لأن ((أوديب)) يتجه –أو هكذا أراد له القدر- إلى الأم وسلطتها عليه (الزواج منها) فيما كان (جودر) معني بالخروج من تلك السلطة.
***
((عقدتي الأب والأم في الأساطير))
1-عقدة ((أوديب)) //عقدة الأَب:
تحكي الأسطورة الإغريقية عن (أوديبوس) الذي رسم له القدر خطواته المستقبلية حيث قدر له أن يقتل أباه ويتزوج أمه، فكان أن جاء الواقع مسايراً للقدر6-.
هكذا أفهم أسطورة ((أوديب)) مع تقديري لما قدم من تفاسير سيكولوجية أو سيسيولوجية –على أنها عملية قتل ((صورة)) الأب في ((لاشعور)) الابن // الرجل ذلك الأب أو ((صورته)) الذي يبقى كالسيف المسلط على رقاب الأبناء.. وتبقى إرادته هي ((المهيمن)) الكبير على إرادة الأبناء.. ولكي يدخل الابن طور الرجولة الكاملة، الاستقلال بإرادته عن أية إرادة خارجية عليه أن يقتل (يتخلص من..) تلك الإرادة المهيمنة التي جسدتها الأسطورة في شخصية الأب. لكن الأسطورة هذه نسيت أنها عبارة عن رسالة شفاهية عن اللاواقع لتفسر الواقع.. فأخذت تجسد الشخوص لحماً وعظاماً وأحاسيس هي للواقع اقرب.. لهذا وإمعاناً في فرض العقاب على الابن الذي كسر صورة الأب ((المهيمن)) في نفسه (لاشعوره) أي ((الابن العاق)) ومن ثم شب عن الطوق للحصول على رجولته الكاملة (النفسية والاجتماعية) وجدت هذه الأسطورة أن ترك الابن بلا عقاب هو الإقرار بفعلته والتصديق عليها، عندها فرضت عليه عقوبة كبيرة هي الزواج من الأم –قدريا ودون معرفة مسبقة منه وعندما يعرف هو تلك الحقيقة يعاقب نفسه بنفسه. إنها عقوبة كبيرة جداً وعظيمة حيث ساوى التفكير الشعبي الإغريقي الذي أوجد هذه الأسطورة بين الخروج من ((هيمنة)) الأب وبين الزواج من المحارم.. أي أن من يخرج عن إرادة الأب ليبني إرادته الذاتية المستقبلية يكون العقاب له كمن يتزوج من محارمه وعند ذاك أي بالتحرر من سيطرة إرادة الأب، يبقى الابن إنساناً تائهاً ((أعمى)). إن أسطورة ((أوديب)) وكما أسلفنا سابقاً لا تريد للأبناء أن يتحرروا من سيطرة إرادة الآباء..
***
2-عقدة ((أورست)) // عقدة الأم:
بعد أن تعرفنا على أسطورتي ((أوديب)) و((جودر)) وما تمثلانه من عقدتي (الأب) و(الأم) سنتعرف في السطور القادمة على أسطورة أخرى، فهمت على أنها تشكل عقدة تقف بالنقيض من عقدة ((أوديب)) كما أراد لها التفكير الشعبي الإغريقي، وكما فهمها التحليل النفسي.. هذه الأسطورة، هي أسطورة ((أورست)) كما طرحها (أسخيلوس) في ثلاثيته (أجا ممنون) وماطرحته الأسطورة تلك من عقدة، هي عقدة ((قتل الأم)). بعد موت ((أثريوس))، قسمت المملكة بين ابنيه: (أجا ممنون) و (مينيلاس) اللذان تزوجا من شقيقتين، هن ((كلايتيمينسترا))، و((هيلين)) وكان (مينيلاس) قد زاره (بارس) ابن ملك طروادة، الذي أحب ((هيلين)) وهرب معها. وكان ذلك السبب في حروب طروادة. وتجمع اليونانيون في (اوليس) تحت قيادة (أجا ممنون). إلا أن مغادرة الحملة تأخرت بسبب هبوب عاصفة. وقد أخبر ((أجا ممنون)) من قبل متنبئه بأن العاصفة لا يمكن تهدئتها إلا بالتضحية بابنته (أفجينيا). فأرسل بطلبها من أمها بدعوى أنها ستتزوج من (أخيلس) وقام بذبحها.. عندها أبحرت الحملة إلى طروادة. بعد أن عرفت الأم بذلك، قامت بإبعاد ابنها((أوريستيس)) وكان صبياً، وتآمرت مع (أجيشوس) ابن ((ثايستيس)) ضد زوجها، وعندما عاد الزوج قتلته بالتواطؤ مع عشيقها (أجيشوس). بعد سنوات يستلم (أورستيس) من كاشف غيب (أبولو) أمر بالثأر من قاتل أبيه، فيعود سراً مع صديقه (بيلادس) إلى مدينته ويلتقي بأخته (أيليكترا) وبمساعدتها يقوم بقتل أمه وعشيقها. تعقد محكمة لمحاكمته.. ويبرأ من التهمة7-.
***
3-مناقشة الأساطير:-
إن أسطورة (أوديب) جاءت لتبرهن على أن الإنسان لكي يستقل بإرادته عليه أن يتحرر من الإرادة المهيمنة.. وهذا جانب مهم من جوانب المأساة الإنسانية، مأساة الإنسان في صراعه لإثبات وجوده. أما الجانب الآخر من تلك المأساة هو أن إرادة الأبناء تسيطر عليها إرادة أخرى غير إرادة الأب هي إرادة الأم وهي تعادلها بالقوة والفعل إن لم تقل تجاوزها في ذلك وقد انتبه إليها التفكير الشعبي العربي والإغريقي على السواء وبدرجات متفاوتة سنتعرف عليها في السطور القادمة، حيث سنقف على أي الأسطورتين (العربية أم الإغريقية) هي الأجدر في الإجابة على مجموعة الأسئلة النفسية والاجتماعية المتعلقة بمسألة العلاقة بين الأم وابنها.
إن المهتمين بالأدب الشعبي، وبالتحليل النفسي وكذلك المهتمين بالأدب عامة وبتاريخه، لم ينتبهوا إلى أسطورة (جودر) كما انتبه علم التحليل النفسي إلى أسطورتي ((أوديب)) و((أورست)) فظلت الأسطورة العربية وماتقدمه من كشوفات نفسية –اجتماعية، بعيدة عن عالم الأدب وعلم النفس وظلت مختفية بين سطور ((ألف ليلة وليلة)) نرددها بين الحين والآخر على أنها قصة مسلية ليس إلا. إن أسطورة (جودر) هي حكاية الابن الأصغر لأحد التجار8- الذي يبقى باراً محباً لأمه، متعلقاً بها، يعيش معها في بيت واحد، على خلاف أخويه.. وكانت الأم قد عانت الكثير بعد وفاة زوجها –من ولديها((سالم وسليم)).. وكانوا كثيراً مايحتالون عليها ويسلبونها مالها، ويضربونها، حتى إنها كانت في كثير من الأحيان ((تدعو عليهم بالموت)). لكن ((جودر)) ظل محباً ومقدراً لها وطائعاً لأمرها، فوجدت فيه الابن البار الذي لا يعاكسها في أي أمر من الأمور. وكانت هي الأخرى لهذه الأسباب تخاف عليه من عاديات الزمن حتى أنها حاولت منعه من الذهاب مع المغربي ((فقالت له: ياولدي توحشني وأخاف عليك)) ص945 وهكذا أصبحت هذه الأم قوة مهيمنة ومسيطرة عليه.
عند قيام (جودر) بصيد السمك لإعالة والدته، يلتقيه التاجر المغربي ويطلب منه أن يرحل معه كي يساعده في الحصول على الكنز الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطته بعد أن يحل رموزه فيرحل معه بعد الاستئذان من والدته هكذا تفهم أسطورة (جودر) عند القراءة الأولى لها.. إنها حكاية صياد فقير يحصل على بعض المال والأدوات السحرية من التاجر المغربي بعد حصوله على الكنز، ويمكن لمن يطبق المنهج المورفولوجي على هذه الأسطورة، أن يجد فيها حكاية مبنية على وظائف ((بروب)) المورفولوجية.
لكن قراءة متأنية لها يمكن أن تكون القراءة المحتملة للوصول إلى الدلالات التي تحملها هذه الأسطورة والمعاني المختبئة خلف قشرة هذا النص.. كما قدمناه في القسم الأول. إن الدلالات الاجتماعية –السياسية التي تحملها أسطورة (أورست) كما قدمتها مسرحية ((أسخيلوس)) كانت هي الدافع لإنشائها حيث جاءت في وقت كان المجتمع فيه منقسماً بين الأخذ بمبدأ المجتمع الأمومي السابق، أو بمبدأ المجتمع الأبوي الذكوري الذي يرغب. لهذا نرى أن (الايرينات) 9- يقفن إلى جانب النظام القديم الذي كانت فيه القرابة المنحدرة عن طريق الأم رباطاً أوثق من الزواج، وكان يعاقب فيه قتل القريب وفوراً وبصورة قاطعة بحرمان القاتل من الحماية القانونية (…...) ومن جهة أخرى، فإن أبولو الذي كان الاثينيون يعبدونه بوصفه ((أبويا)) ((باترويوس)) يعلن قدسية الزواج وأولوية الذكور، وتدور المسألة حول مصير ((أوريستيس)) والمحنة التي ألقي فيها تعكس صراع الولاءات المنقسمة المميزة للفترة التي كان يجري فيها تغيير النسب لغرض الخلف والإرث المصاحبين له من جهة الأم إلى جهة الأب وسيسجل تبرئته ابتداء النظام الجديد الذي سيبلغ أوجه في الديمقراطية))10-.
لهذا فإن أثينا ومحكمتها تبرئ ساحة ((أوريستيس)) لأنها كانت تعطي صوتها إلى أولوية الذكور على الإناث: ((مامن أم ولدتني وفي جميع الأمور
*عدا الزواج فأنا وليد أبي في الحقيقة.
*أثني على الذكور من كل قلبي. ص381)).
إذن فالأسطورة هي تمجيد لذكورية المجتمع وإعادة المرأة إلى البيت لتبقى تحت سيطرة الرجل //الزوج.
4-لماذا قتل ((أوريستيس)) أمه؟
من خلال قراءة متأنية للأسطورة يمكننا الوقوف على الدوافع التي تقف وراء قتل (أوريستيس) لأمه.. وهذه الدوافع هي:
4-أ/ قيام الأم بإبعاده (نفيه) وهذا يعني افتقاده لعاطفة الأمومة.
4-ب/ قيامها بقتل أبيه.. ويشكل هذا العمل جريمة (لا مثيل لها في تاريخ الخبث النسوي) ص358 ولهذا فإن (أبولو) يدعي (بأنه لما كان قتل أغا ممنون جريمة، فإن إعدام القاتل لم يكن جريمة) ص380.
4-ج/ لما كان (أوريستيس) وحيد أبيه فإن ذلك يعني أنه سيرث العرش بعد موت والده، لكن الأم بعد قتلها لأبيه (زوجها) سلبت منه هذا الحق.
4-د/ إنها قد قتلت أبيه بالاشتراك مع عشيقها. من خلال هذه الدوافع نصل إلى نتيجة مفادها أن قتل (أوريستيس) لأمه كان قتلاً مبرراً قانونياً ودينياً وأخلاقياً واجتماعياً وقتذاك لأن قتلها جاء:-
أولاً: تلبية لنصوص القانون السائد وقتذاك، كما كان قتلها لزوجها حسب اعتقادها تلبية للقانون أيضاً.
• (إن القانون لا يزال باقياً، مادام زيوس حاكماً).
• (الآثم يجب أن يعاقب –إنه أمر) ص349.
ثانياً: تلبية للأمر الصريح من (أبولو) بأن يثأر لأبيه.. وقد هدده بأقسى العقوبات إن لم يفعل ذلك. وليس له من خيار غير ذلك.
ثالثاً: إن قتلهما (الأم وعشيقها) هو تطهير للأسرة من الإثم، لهذا فأنصار (أوريستيس) يعتبرونه (مطهراً أو منقذاً عُيّن بصورة إلهية (….) وعليه، بتطهيره الأسرة، أن يتولى مسؤولية تلوثها بنفسه) ص352.
• (آه هل يرى بعد أوريستيس نور الحياة).
• (فلعله يعود بمؤاتاة الحظ إلى بيته).
• (ويبرهن على أنه الملك المنفذ حكم الإعدام بكليهما؟) ص350.
5-إن العودة إلى أسطورة (جودر) ترينا أن القتل لم يتم في الواقع، العالم العلوي، وإنما تم في العالم السفلي، العالم الآخر، عالم اللاشعور، وكذلك تم ضد شبح الأم، لا الأم كما هي، وما يؤكد ذلك:
5-أ/ أن القتل وقع على الشبح/ الوهم.
5-ب/ أن القتل قد تم في اللاواقع، في العالم السفلي، وهو عالم قريب من عالم الحلم، حيث كل شيء فيه عبارة عن شبح ووهم.
من كل هذا نصل إلى نتيجة مفادها، أن عقدة ((أوريستيس)) هي عقدة قاصرة في التحليل النفسي لإعطاء الأجوبة الشافية لمجمل الأسئلة النفسية –الاجتماعية التي تكونها حوادث قتل الأم، إن كان ذلك في الواقع أو في عالم الإبداع الأدبي.
لهذا تأتي أرجحية أسطورة ((جودر)) على أسطورة ((أوريستيس)) في حل جميع الإشكالات النفسية والاجتماعية التي تكونها حادثة قتل، أوالشروع بقتل الأم.. وإن مايؤكد هذه الأرجحية، هو إخفاق ((جودر)) في قتل شبح الأم في المرة الأولى، وماعقبه من إجراء عقابي، وإعادة المحاولة مرة أخرى.. كل ذلك في محاولة للخروج من سيطرة الأم نهائياً، ومن ثم إكمالاًٍ لحدود رجولته، دون أن يفقد الأم نهائياً، كما فقدها ((أوريستيس)) بالقتل.
إن قتل الأم، حقيقة، يعاقب عليها العرف والقانون والدين أيضاً، مهما كانت الدوافع والأسباب، خاصة وإن الإسلام، كفكر وفلسفة، والذي يقف وراء منتج هذه الأسطورة، ينص دستوره القرآن الكريم، وهو مصدر من مصادر ثقافة التفكير الشعبي على النهي عن التأفف أمام الوالدين ((ولا تقل لهما أف))، فكيف بالقتل الحقيقي؟
***
(التطبيق)
1- بعد أن تعرفنا على عقدة قتل الأم كما طرحها التفكير الشعبي العربي (الأسطوري) في الليالي وقد أطلقنا عليها تسمية. (عقدة جو در) كان على البحث أن يختار نموذجاً من الأدب العربي الحديث ليقرأه قراءة تحليلية اعتماداً على ماتقدمه (عقدة جو در) من كشوفات نفسية –اجتماعية لشخصيات العمل الأدبي، فلم يجد –كبداية أولية- سوى رواية الكاتب العربي نجيب محفوظ (السراب) رغم ماقدم عنها من دراسات تحليلية11- وفق منهج التحليل النفسي الفرويدي اعتماداً على عقدتي (أوديب) و (أوريست) فإنها –أي الرواية- تطرح مجموعة من الأسئلة التي في مقدور التحليل المعتمد على (عقدة جو در) وضع الأجوبة المقنعة لتلك التساؤلات ومن ثم مد يد العون لمعرفة سلوك بطلها (كامل رؤبة لاظ).
والجدير بالتنويه ونحن نتحدث عن هذه الرواية، أن نتذكر أن الدكتور عز الدين اسماعيل، قد قدم دراسة تحليلية نفسية لها اعتماداً على عقدة ((أوريست))، لكنه –في الوقت نفسه- قد شكك في دراسته تلك بإمكانية هذه العقدة من إعطاء الأجوبة الشافية لمجموعة التساؤلات المثارة حول سلوك بطلها ((كامل)) فيقول: ((وحين نستعرض أحداث هذه القصة يبدو لنا أنها لا تتفق في ظاهرها مع قصة بطلنا كامل، فكامل كان يحب أمه، وقد عاش معها طوال حياتها، لكن القصتين تنتهيان نفس النهاية، فكما أن ((أورست)) قتل أمه فكذلك كان كامل السبب في وفاة أمه، إنه لم يقتلها بيده كما صنع ((أورست)) لكنه يعرف ويقرر أنه كان السبب المباشر في وفاتها))12-. إن إدراك هذه الحقيقة من قبل الدكتور الفاضل، جعله يقرر في مكان آخر ((ص269)) أن شخصية كامل كانت تحمل في دواخلها تناقضات بين (الأوديبية والأورستية)) فيما يقول في مكان آخر ((ص259)): ((إن شخصية كامل بطل هذه القصة مزيج من ((ديمتري)) و ((هملت)) ومن نفسه))، ليبري نفسه أخيراً مما يقع فيه من سوء فهم أو تقدير في التحليل. ولو تنبه الدكتور الفاضل، وغيره من دارسي الأدب، إلى أن أدبنا الشعبي –لو تخلصنا من عقدة الخواجة- يزخر بين ثناياه بما يعيننا على تفهم أكثر المشكلات النفسية والاجتماعية تعقيداً، لما وقع بمثل هذا الشك. إن عقدة ((جو در)) ستعيننا –حقاً- على الوصول إلى تفسير مقنع لسلوك بطل ((السراب))، دون الاعتماد على عقدتي ((أوديب و أورست)).
*** ***
2-ملخص الرواية: تبدأ رواية السراب. بالسطور التالية: (إني أعجب لما يدعوني للقلم، فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة.. الخ)13- نفهم من هذه البداية، أن بطل السراب هو الذي يتحدث إلينا من خلال تسجيله لما مر من حياته، بضمير المتكلم، حيث يعود بنا إلى الوراء، إلى أيام الطفولة، أيام كان يعيش في بيت جده مع والدته.. وكانت أمه قد تزوجت من أبيه الرجل الذي كان يعيش ((عالة)) على والده الثري، وما ورثه من إرث عن عمه.. وقد أنجبت منه ولداً وبنت.. وكان الأب ذاك سكيراً شريراً مما نتج عن سلوكه هذا الكثير من المشاكل بينه وبين أم كامل، فكانت أمه بين الحين والآخر، تترك بيت زوجها لتعود إلى بيت والدها.. وفي مرة أعادها والدها إلى بيت زوجها وطفليها، فكان أن حملت به، وولدته.. لكن المشاكل عادت مرة أخرى، فتم الانفصال النهائي بين الزوجين، فعاش ((كامل)) مع أمه في بيت جده مدللاً، وقد زاد اهتمام أمه به للتعويض عن الزوج والأطفال.. حيث نشأ نشأة غير صحيحة، إذ كان ينام مع أمه في سرير واحد حتى سن متأخرة، وكان يدخل الحمام معها.. فنشأ خجولاً، خائفاً، غير قادر على عمل شيء بنفسه.. وكان لسلوك أمه هذا، وتربيتها السيئة الأثر الكبير في زرع الخوف والعجز داخل نفسه، كما فشل في حياته الزوجية. عندما كان طالباً في الثانوي أحب –من طرف واحد- فتاة كان قد رآها وهي ذاهبة إلى المدرسة. بعد أن توظف أخبر أمه عن عزمه في الزواج فانتبهت الأم لما حصل له من تغير وخوفاً منها من انفصاله عنها بالزواج راحت تذكره بزواجها الفاشل (ص112) وما آل إليه من وضع سيئ يعيشانه سوية. لكن رياح الابن تجري بما لا تشتهي سفن الأم إذ يخطب بنفسه الفتاة التي يحبها (رباب) من أبيها ويتزوج منها والأم كارهة لذلك. وفي ليلة العرس الأولى لم يستطع (كامل) من عمل شيء مع زوجته وتمضي الأيام بهما دونما تقدم. وبمشورة من أم (رباب) يوافق (كامل) على قيام (صباح) الخادمة بفض بكارة (رباب) عندها يقول في نفسه: ((ولست أخفي أني شعرت بارتياح إلى اقتراح الأم. فهو يزيل عقبة من سبيلي ويخليني من بعض المسؤولية ويعفيني من مراقبة الأم) (ص234).
حتى هذا العمل الذي قامت به ((صباح)) لم يساعده على ممارسة حقوقه الزوجية والقيام بواجباته تجاه زوجته. وتمر الأيام وفي يوم ما يرتاب (كامل) في سلوك زوجته بسبب خطاب رآها تقرأ فيه (ص267).. ويأخذ بمراقبتها أثناء ذهابها إلى دائرتها وأثناء ذلك يتعرف على امرأة بدينة تكبره بالسن تدعى (عنايات): (كانت فوق الأربعين إن صدق نظري –وقل أن يصدق في تقدير الأعمار- وكانت على رغم تألقها وتزينها أقرب للدمامة منها للحسن، ذات وجه مستدير غليظ، وعينين بارزتين ثقيلتين الجفنين، وأنف قصير أفطس، وشفتين ممتلئتين، ووجنتين متكورتين منتفختين.. الخ)) ص284.
وتتوطد العلاقة بينهما.. حيث تستطيع هذه المرأة من ((حل)) عقدته، فيمارس الجنس معها بكل حرية.. وفي يوم ما، تذهب ((رباب)) إلى بيت والدها، ولم تعد.. فيذهب للسؤال عنها فيجدها طريحة الفراش.. وذات يوم يزورها، فيفاجأ بموتها، ويعلم من أهلها أن الدكتور (أمين) قريبها قد أجرى لها عملية جراحية، فيرتاب في أمر العملية، فيقدم بلاغاً للنيابة حول ذلك.. حيث يكشف التحقيق أن العملية قد أجريت لإجهاض ((رباب)) لجنين ((سفاح)).. ولكي يبعد الدكتور عن نفسه فشل العملية، يحدث ثقباً بغشاء ((البريتون)) يؤدي إلى وفاتها.
يعود ((كامل)) إلى أمه فيجدها مريضة لكنه يخبرها بوفاة زوجته، ويجري بينهما حوار يتهمها فيه بالتشفي من موت ((رباب)) ويغلظ معها الحديث، ويخرج من البيت مهموماً بعد أن يقول لها: ((اشمتي ما شاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً، انتهى الماضي بخيره وبشره ولن أعود إليه ماحييت، سأنفرد بنفسي انفراداً أبدياً، لن أعيش معك تحت سقف واحد)) ((ص354)).
يفاجأ في اليوم التالي بموتها، حيث يقع طريح فراش المرض، وإذ يبقى وحيداً، تزوره ((عنايات)). مثل هذا الملخص البسيط لأحداث الرواية، رغم قربه من الخطوط العامة للأحداث سوف لن يساعدنا على تلمس ما في الرواية من دلالات نفسية واجتماعية حاول الكاتب الوصول إليها، مالم نتعرف على الشخصية الرئيسية فيها، وهي شخصية ((كامل رؤبة لاظ)) وسلوكه مع شخصيات الرواية الأخرى التي كانت السبب في مأساته..
*** ***
3-العلاقات: إن القراءة الفاحصة للرواية وأحداثها، ستقدم لنا مجملاً للعلاقات التي تربط ((كامل)) بالشخصيات النسائية الثلاث، وتأكيداً لهذه العلاقات، يرى الكاتب- أو كامل نفسه وهو يكتب مامضى من حياته- لم ينضج لنا أية علاقة مابين نسائه ورجاله، حيث جاءت مثل تلك العلاقات رغم محدوديتها باهتة.
3-أ/ علاقة كامل مع أمه: تبدأ هذه العلاقة من السطور الأولى، وتنتهي بانتهاء الرواية.. وتتسم بالسيطرة من قبل الأم على الابن، فيما يكون هو شخصاً منقاداً.
كان ((كامل)) يحب أمه ويحترمها، وهي تبادله الشعور نفسه، يعيش معها في بيت واحد، وغرفة واحدة، وينامان في سرير واحد، حتى بلوغه سن السادسة والعشرين من عمره، عندما أنبه جده على ذلك التصرف السيء.. وكان يدخل معها الحمام، وعلاوة على ذلك، فقد كان يشبهها بملامح الوجه.. وكانت هي لا تسمح له باللعب مع أقرانه، ولا الخروج من دونها.. وقد أثرت تلك السيطرة من قبل الأم، وكذلك التربية السيئة على نفسية ((الطفل// الشاب)) فجعلته:
أولاً: خجولاً (ص45) وعذرياً (ص68).
ثانياً: لا يجرؤ على اللعب مع أقرانه (ص22).
ثالثاً: لا يجرؤ على الحديث مع الآخرين (ص68).
رابعاً: غير قادر على عمل شيء اعتماداً على نفسه (ص60).
خامساً: ليست لـه القدرة على التكيف مع زملائه في المدرسة والدائرة (ص30).
سادساً: هدفاً لعبث زملائه الطلاب، وإهانة مدرسيه (ص32-38-77).
كل ذلك جلب التعاسة له، والانكفاء داخل البيت، ومن ثم أحضان أمه، فنفسه.. لكنه كثيراً ما حاول الخروج عن تلك السيطرة، وذلك الانكفاء.. فها هو يقول: ((إنني لا أستطيع أن أقول أنني استكنت إلى تلك الحياة بلا تململ، ولعلي ضقت فيها في أحايين كثيرة، وتطلعت إلى الحرية والانطلاق، ولعل ضيقي ذلك مضى يزداد بتدرجي في مدارج النمو، وأي ذلك أنها أقبلت تخوفني أشياء لا حصر لها لتردني عما أتطلع إليه من حرية وانطلاق، ولتحتفظ بي في حضنها على الدوام. ملأت أذني بقصص العفاريت والأشباح والأرواح والجان والقتلة واللصوص، حتى خلتني أسكن عالماً حافلاً بالشياطين والإرهاب، كل مابه من كائنات خليق بالحذر والخوف)) ((19)). أما أمه، فقد كانت تعيده إلى سيطرتها، بأساليبها الخاصة، لكن مثل تلك المحاولات –خروجه من البيت خلسة واللعب مع أقرانه، وكذلك حبه للفتاة أثناء دراسته في الثانوية وغيرها- كانت تقمع من قبلها، وبنفس الوقت لم يكن ينساها بسهولة، وإنما.. كان لا شعوره يحتفظ بها.. فها هو يقول: ((طالما رفت على خاطري الرغبة في هجرها في صورة أحلام غامضة، ولكن هل يسعني حقاً أن أهجرها؟)). إن رغبته في التحرر من سيطرة الأم أخذت تزداد عنده شيئاً فشيئاً حتى وصلت ذروتها عندما طلب يد محبوبته بنفسه ومن ثم الزواج منها ((بمشورة من مجلة استشارها)). رغم هذه السلبية البادية عليه أمام الأم، كان تفكيره ولا شعوره –في الوقت نفسه- يعمل ضد هذه السيطرة، محاولاً الانعتاق منها، أي كانت هناك قوتان تصطرعان في داخل لا شعوره، هما: قوة البقاء تحت تلك السيطرة، وقوة التحرر منها. إن هذا الصراع يبقى جياشاً في لا شعوره حتى لحظة المواجهة الحاسمة مع أمه، بعد وفاة زوجته، إذ عندها ينتهي ذلك الصراع إلى جانب قوة التحرر من تلك السيطرة، حيث بموت الزوجة تموت كل القيم الأخلاقية التي كانت تمثلها الأم وتجسدها الزوجة كصورة من صور الأم. هنا يتماهى ((كامل)) بـ ((جو در)) والأم بأم جودر، ولكن، بينما كان قتل ((جودر)) لشبح //وهم الأم نهاية لذلك الصراع، ومن ثم تحقيق لوجوده كإنسان حر، رجل كامل الرجولة. كان جوهر صراع ((كامل)) ومن ثم انتهاء ذلك الصراع بقتل الأم رغم كونه قد جاء بصورة غير مباشرة لكنه من جهة أخرى كان قتلاً مباشراً عند موت الزوجة، وسنتعرف على ذلك في السطور القادمة. وإذا كانت أم ((جودر)) قد أحكمت –هي الأخرى- سيطرتها على ابنها ((جودر)) بسبب ماعانته من فقد الزوج والسلوك المؤذي لأبنائها، فإن ((أم كامل)) قد لقيت هي الأخرى الكثير من العذاب بسبب سلوك زوجها ومن ثم هجره لها.. كل ذلك دفع بهما إلى تعويض مافقدتاه بالتسلط على الأبناء والاستحواذ عليهما، إن كان ذلك لا شعورياً، بسبب الخوف عليهما، أو من خلال ما كانا يقدمانه لهن من حب واحترام زائد.. وكانت قوة الجذب بين التسلط والرضوخ قد أخذت مداها الواسع بصورة طردية. لقد وجد ((جودر)) طريقه إلى التحرر والانطلاق بعد قتله لشبح // وهم الأم، وهو قتل معنوي حدث في العالم السفلي ((=اللاشعور)) وقد فعل ((كامل)) مثل فعله في قتل الأم معنوياً، من خلال:
* ممارسة الجنس مع الخادمة الدميمة.
* ممارسة الجنس مع (عنايات)، وما كانت تمثله من صورة التطابق للأم ((في السن خاصة)) وصورة التناقض ((القبح مقابل الجمال الروحي والجسدي)).
** ممارسة العادة السرية، وهذا مناقض للقيم والأخلاق الحميدة التي زرعتها الأم في داخل نفسه، خاصة إقامته للصلاة في أوقاتها.
* شربه للخمرة.
مثل هذه الأعمال السلوكية، وهي أعمال جنسية محرمة، عدا احتسائه للخمرة، هي النقيض لما كانت تمثله الأم من قيم وأخلاق حميدة، وهذا يعني قتل لتلك القيم والأخلاق في نفسية ((كامل)).. أي أنها قتل الأم في الوقت نفسه في لا شعوره، على أقل تقدير. وهكذا تأتي الأسطورة التي أنشئت في زمن غير زماننا، وفي واقع حضاري غير واقعنا الحضاري في القرن العشرين، لتحل لنا قضية حضارية –نفسية- اجتماعية، إنها قضية التحرر من هيمنة الإرادة الخارجية والتي تجسدت في هيمنة إرادة الأم.
***
3-ب/علاقة ((كامل)) بزوجته:
إن اختيار كامل لـ ((رباب)) زوجة له، جاء اعتماداً على اعتبارين أساسيين هما:
* أنها تشبه أمه ((خلقاً وجمالاً)).
* لأن علاقته بها، كانت الأولى من نوعها.
ولم تكن علاقته بها، بالعلاقة السوية بعد ليلة الزفاف الأولى، فقد بدأت حالة القطيعة بينهما –رغم ما يكنه أحدهما للآخر من حب- عندما فشل في أن يكون رجلاً في فراش الزوجية. ولو بحثنا عن أسباب ذلك، لوجدنا أكثر من سبب جعل من هذه العلاقة غير مثمرة، لتصل إلى حد الانقطاع.. ومن هذه الأسباب ماهو موضوعي، ومنها ماهو ذاتي.
أولاً: العوامل والأسباب الذاتية: مثل قدرته على ممارسة الجنس مع النساء القبيحات (الخادمة الدميمة وعنايات) وكذلك ممارسته للعادة السرية، وانكفائه داخل حدود عالمه المتخيل.
ثانياً: العوامل والأسباب الموضوعية: وقد جاءت كلها من تأثير أمه عليه، مثل:
1-تأثير علاقته بأمه في جعله رجلاً ناقص الرجولة أمام زوجته.
2-الاختيار السريع لـ (رباب) زوجة له. حيث جاء هذا الاختيار بدافع لا شعوري كونها تشبه أمه مع بعض الاختلافات الطفيفة.
فوالدته كما بدت له، في الصورة القديمة (بقامة طويلة وجسم نحيل ووجه مستطيل وعينين واسعتين خضراوين وأنف دقيق مستقيم) ص8 فيما كانت(رباب) تتصف بـ (قامة طويلة وقد نحيف رشيق وبشرة قمحية((……)) ووجها مستديراً ((……)) وأنفاً صغيراً دقيقاً) ص85 أي إن رباب هي الصورة المطابقة لأمه من ناحية الجمال الجسدي بالنسبة له، مع فارق قليل سنتعرف عليه في وجه (عنايات). فالقامة طويلة، والجسم (القد) نحيل (نحيف)، والأنف دقيق مستقيم (صغير دقيق).. أي أن (كامل) قد اتجه (( لا شعورياً)) إلى هذه الفتاة عند محاولته التحرر من سيطرة الأم، فعاد إليها مرة أخرى.
3-إن شعوره بعاطفة الحب تجاه (رباب) من طرف واحد، هو تجربته الأولى والوحيدة مع النساء، خارج حدود علاقته بأمه.. وهذه المحاولة في التحرر من سيطرة الأم، قد دفعته مرة أخرى إلى نفس السيطرة، مما يعني أن اختياره لم يكن موفقاً.
4-كان في صغره، قد شغله سؤال لم يجد إجابة له عند والدته، عندما حاول معرفة سبب هروب شقيقته مع رجل غريب والزواج منه ومن ثم الإنجاب (ص48) إن الجواب عن هذا السؤال، قد وجده عند الخادمه (الدميمة) فهاهو يقول: ((فصارحتني مرة بأنها تعلم أمور خليقة بأن تعرف، وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة، على أن العهد بها لم يطل، فما أسرع أن ظبطتنا أمي متلبسين، ورأيت في عيني أمي نظرة باردة قاسية فأدركت أني أخطأت خطأ فاحشاً. وقبضت على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك، وانتظرت على خوف وخجل، ثم عادت متجهمة قاسية، ورمت صنيعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أجهشت باكياً. ولبثت أياماً أتحاشى أن تلتقي عينانا خزياً وخجلاً)) ص49 هذا المقطع –رغم طوله النسبي يكشف لنا الأسباب الخفية التي دفعت بـ (كامل) إلى عدم ممارسة الجنس مع زوجته منذ الليلة الأولى لزواجهما. بتضافر هذه العوامل، وأثرها في اللاشعور، أصبح (كامل) في وضع سلبي مع زوجته، حيث أصبح الجنس، في لاشعوره –عمل غير مقبول من قبل الآخرين بدلالة هروب أخته من بيت والدهما مع الرجل الذي سيشترك معها في جريمة مشابهة لجريمته مع الخادمة. ومثل هذا الفعل //الجرم يستلزم العقاب في الدنيا والآخرة خاصة إذا كانت هذه المرأة التي يمارس معها الجنس (رباب) تشبه إلى حد ما أمه. فهو-وطيلة أيام حياته- عاش مع أمه، في البيت، وفي الحمام، وفي الفراش، لكنه لم يفكر –ولو للحظة واحدة- أن يمارس –حتى لو كان ذلك في خياله- الجنس معها.
إن العلاقة التي تربط بينهما، هي علاقة الأمومة التي انتقلت بكل عناصرها إلى العلاقة التي كانت لـه مع زوجته، وهذا يعني أن أي اتصال جنسي مع الزوجة معناه الفسق بالمحارم. إذن فالزواج، كمشروع أراد منه أن يحرره من سيطرة الأم وهيمنتها عليه، قد فشل فشلاً ذريعاً، وأصبح مشروعاً لإعادته مرة أخرى إلى أحضان الأم دون وعي منه.
***
3-ج/علاقة كامل بـ (عنايات):
لم تكن (عنايات) سوى الصورة الثانية للخادمة الدميمة، والصورة المعكوسة للأم.. بالرغم من أنها مطابقة لها من ناحية السن إلى حد ما، حيث كانت تداعبه قائلة: -(يا كتكوتي) ص312 كما تداعب الأم طفلها، إن ممارسة الجنس مع الخادمة الدميمة في فترة الطفولة، لا يمكن عده إلا عملاً محرماً ومعاقباً عليه، خاصة من قبل الأم، ذلك الشخص المهيمن والمسيطر والموجه.. وأن إعادة مثل تلك الممارسة –حتى لو كان ذلك بعيد عن نظر الأم –مع (عنايات) يعني هو محاولة للخروج من تلك السيطرة. لذا نراه وقد نجح –ليس في التحرر من سيطرة الأم نهائياً- وإنما في إعادة الثقة بنفسه، وممارسته لحقوقه الرجولية مع الجنس الآخر، لهذا نراه يعلن عما شعر به من اطمئنان وثقة بالنفس.
*** ***
4-من كل ماسبق يمكن الوصول إلى: أن العقدة التي كانت تكبل (كامل) وتمنعه من أن يكون رجلاً على فراش الزوجية، هي خوفه من ممارسة الجنس مع المحارم، بسبب ماكانت تشكله الأم في لا شعوره، من قوة كبح كبيرة أمام حقوقه الرجولية.. فكان لا شعوره يصور له الزوجة وكأنها هي أمه، وأن أية ممارسة مع المرأة القبيحة هو محاولة لتحدي تلك القوة، وكذلك، محاولة للخروج من تلك السيطرة، ولكن كل ذلك لم يغنه شيئاً فما زالت الأم هي المسيطر والمهيمن القوي عليه. إنما ماوصل إليه من حالة الخوف والعجز وعدم قيامه بواجباته الزوجية، كان بفعل قوة هيمنة الأم، وأن هذا (العجز) قد دفع بزوجته إلى أحضان رجل آخر، ومن ثم الموت المخزي ليس للزوجة فحسب، بل للأم وما تمثله من قيم. أي أن موت الزوجة قد جاء ليمثل موت الأم، عندها تأتي خاتمة تلك الأم، أي خاتمة للقوة المسيطرة والمهيمنة.
وإذا كان في الأيام الماضية، قد فكر في خياله فقط، في أن يترك أمه، أي الخروج من سيطرتها، فإنه اليوم قد أصبح في حالة لا يحسد عليها بوجود هذه الأم، لهذا نراه يهرع إليها، ليسمعها كلاماً جارحاً وقاسياً، عندما تطلب منه أن يرحمها من هذا القول القاسي.. فيما كان هو يؤكد مع نفسه قائلاً: (ولكني لم أرحمها) ص353.. وقبل أن يتركها يخبرها بقراره الأخير: (اشمتي ماشاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً. انتهى الماضي بخيره وشره ولن أعود إليه ماحييت) ص354.
بهذه الكلمات دفن كامل أمه وهي حية أي أنه قتلها لأنه كان يشعر في قرارة نفسه أن أمه قد ماتت بموت زوجته، لأن في موت (رباب) والذي كان فيه (كامل) سبباً غير مباشراً، كان ذلك الموت موت للأم، وإن في ذلك الموت السبيل إلى الانطلاق والحرية.. وفي اليوم الثاني يسمع بموتها عندها يتهم نفسه بقتلها وكما قتل (جودر) شبح // وهم أمه فقد قتل (كامل) شبح // أمه، عندما كان هو السبب في ماوصلت إليه حالة الزوجة، ومن ثم موتها. هناك سؤال يلح في هذه السطور، هو هل عوقب ((كامل)) على جريمته هذه، أم لا؟ مثل هذا السؤال، نجد إجابته في القسم الأخير من الرواية، حيث يمرض ويدخل في غيبوبة تامة يقول ((كامل)): ((لا علم لي بالساعات الطوال التي قضيتها في غيبوبة تامة، ولكن ثمة أوقات أخريات كنت أتخبط في ظلمات بين الغيبوبة واليقظة، إنها دنيا غريبة معتمة تتوزعها الأحلام، فكان يداخلني شعور أنني حي، ولكن حي كميت وهناً وعجزاً… الخ)) ((ص363)) هذه الحالة، يمكن تشبيهها بحالة النقاهة، النقاهة بين المرض ((الوقوع تحت سيطرة الأم)) والشفاء منه ((والتحرر من تلك السيطرة)) وعودة لما قلناه سابقاً، فإن بداية تململ ((كامل)) وانزعاجه من سيطرة الأم بعد ارتياده الحانات وزياراته الفاشلة لبيوت الدعارة، وهي أعمال لا يمكن عدها تحدياً جدياً لسيطرة الأم، نقول أن بداية ذلك التململ قد تجسد في علاقته بـ ((عنايات)) الصورة المضادة لصورة الأم، أي أنها تجسيد للأم// الوهم، الأم// الشبح، وإن ممارسة الجنس معها، هو عمل يشبه تعرية ((جودر)) لأمه.
إن الأم في ((السراب)) قد انقسمت في لا شعور ((كامل)) إلى قسمين، أحدهما: روحي وقد تجسد في ((رباب))، والثاني: جسدي// مادي وقد تجسد في ((عنايات)) فهاهو يقول: ((وزاد من حيرتي أنني شعرت شعوراً عميقاً بأنني لا غنى لي عنهما معاً بل لم أجد سبيلاً إلى المفاضلة بينهما فهذه روحي وتلك جسدي وما عذابي إلا عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسده. وماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه الجميل المتسم بالطهر والكمال؟ ولكن ماذا يبقى لي من لذة ورجولة إذا فقدت المرأة الأخرى)) ((ص309-310)).
إن مأساة ((كامل)) قد تمثلت في كيفية الجمع بين الروح والجسد وكلاهما عند أمه ومايؤكد ذلك مايذكره في أن خياله الذي تراءت فيه كلٌّ من ((رباب)) ((وعنايات)) قد ((ينحرف)): ((بغتة إلى أمي بلا داع فاتخذت مكانتها في شريط هذه الصورة المتلاصقة)) ((ص310)).
ولكن الكاتب –لا شعور البطل- قد جسدهما في شخصيتين من لحم ودم وأحاسيس وكان عليه وهو يحاول الخروج من سيطرة الأم أن يقضي على هاتين الشخصيتين فكان عجزه الجنسي سبباً في موت ((الروح)) =الزوجة وكانت ممارسته للجنس مع ((عنايات)) موتاً ((للجسد)) الذي كثيراً ما رآه في البيت والحمام وسرير النوم والذي كان يخاف منه عندما كانت زوجته تتعرى أمامه إذ يقول: ((لقد بت أخاف جسمها بقدر ما أحبها)).
***
الخلاصة:
مما تقدم يمكن الوصول إلى:
1-إن تراثنا الأدبي القديم لو قرئ قراءة متأنية لتوصلنا إلى ما فيه من كنز ثمين للأفكار والطروحات التي يمكنها الإجابة عن عشرات الأسئلة التي يمكن أن تطرح في زماننا هذا.
2-إن هذا التراث يزخر، كما التراث العالمي، بالكثير من النظريات والأفكار التي يمكن تشكيلها بصورة متكاملة تجعل منها ليس نظيراً إلى ماطرح في التراث العالمي وإنما أكثر عمقاً واستجابة إلى ما تريد أن تقولـه تلك الأفكار والطروحات العالمية –الإغريقية واليونانية- القديمة. خاصة فيما يتعلق بالطروحات النفسية والاجتماعية المعروفة كعقدة ((أوديب)) و ((أورست)).
3-إن عقدة ((جودر)) يمكن عدها من العقد المهمة في التحليل النفسي والتي يمكن من خلالها الوصول إلى نتائج مهمة في تفسير سلوك بعض شخصيات الأعمال الأدبية.
4-إن عقدة ((جودر)) استطاعت –في السطور السابقة- أن تقدم تحليلاً نفسياً لسلوك بطل ((السراب)) الذي شككت، بعض الدراسات التحليلية له، في أن يكون بمقدور التحليل المعتمد على عقدتي ((أوديب)) و ((أو رست)) من تفسير ذلك السلوك.